تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 404 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 404

403

ثم أشار سبحانه إلى تحقير الدنيا وأنها من جنس اللعب واللهو: وأن الدار على الحقيقة هي دار الآخرة فقال: 64- "وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب" من جنس ما يلهو به الصبيان ويلعبون به "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان". قال ابن قتيبة وأبو عبيدة: إن الحيوان الحياة. قال الواحدي: وهو قول جميع المفسرين ذهبوا إلى أن معنى الحيوان ههنا الحياة، وأنه مصدر بمنزلة الحياة فيكون كالنزوان والغليان ويكون التقدير: وإن الدار الآخرة لهي دار الحيوان، أو ذات الحيوان: أي دار الحياة الباقية التي لا تزول ولا ينغضها موت ولا مرض، ولا هم ولا غم "لو كانوا يعلمون" شيئاً من العلم لما آثروا عليها الدار الفانية المنغصة.
ثم بين سبحانه أنه ليس المانع لهم من الإيمان إلا مجرد تأثير الحياة فقال: 65- "فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين" أي إذا انقطع رجاؤهم من الحياة وخافوا الغرق رجعوا إلى الفطرة، فدعوا الله وحده كائنين على صورة المخلصين له الدين بصدق نياتهم، وتركهم عند ذلك لدعاء الأصنام لعلمهم أنه لا يكشف هذه الشدة العظيمة النازلة بهم غير الله سبحانه "فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون" أي فاجئوا المعاودة إلى الشرك، ودعوا غير الله سبحانه. والركوب هو الاستعلاء، وهو متعد بنفسه، وإنما عدي بكلمة في للإشعار بأن المركوب في نفسه من قبيل الأمكنة.
واللام في 66- "ليكفروا بما آتيناهم" وفي قوله: "وليتمتعوا" للتعليل: أي فاجئوا الشرك بالله ليكفروا بنعمة الله وليتمتعوا بهما فهما في الفعلين لام كي، وقيل هما لاما الأمر تهديداً ووعيداً: أي اكفروا بما أعطيناكم من النعمة وتمتعوا، ويدل على هذه القراءة قراءة أبي وتمتعوا وهذا الاحتمال للأمرين إنما هو على قراءة أبي عمرو وابن عامر وعاصم وورش بكسر اللام، وأما على قراءة الجمهور بسكونها فلا خلاف أنها لام الأمر، وفي قوله: "فسوف يعلمون" تهديد عظيم لهم: أي فسيعلمون عاقبة ذلك وما فيه من الوبال عليهم.
67- " أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا " أي ألم ينظروا: يعني كفار قريش أنا جعلنا حرمهم هذا حرماً آمنا يأمن فيه ساكنه من الغارة والقتل والسبي والنهب فصاروا في سلامة وعافية مما صار فيه غيرهم من العرب فإنهم في كل حين تطرقهم الغارات، وتجتاح أموالهم الغزاة، وتسفك دماءهم الجنود، وتستبيح حرمهم وأموالهم شطار العرب وشيطانها، وجملة "ويتخطف الناس من حولهم" في محل نصب على الحال: أي يختلسون من حولهم بالقتل والسبي والنهب، والخطف: الأخذ بسرعة، وقد مضى تحقيق معناه في سورة القصص "أفبالباطل يؤمنون" وهو الشرك بعد ظهور حجة الله عليهم وإقرارهم بما يوجب التوحيد "وبنعمة الله يكفرون" يجعلون كفرها مكان شكرها، وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ ما لا يقادر قدره.
68- "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً" أي لا أحد أظلم منه، وهو من زعم أن لله شريكاً "أو كذب بالحق لما جاءه" أي كذب بالرسول الذي أرسل إليه والكتاب الذي أنزله على رسوله. وقال السدي: كذب بالتوحيد، والظاهر شموله لما يصدق عليه أنه حق. ثم هدد المكذبين وتوعدهم فقال: "أليس في جهنم مثوى للكافرين" أي مكان يستقرون فيه، والاستفهام للتقرير، والمعنى: أليس يستحقون الاستقرار فيها وقد فعلوا ما فعلوا.
ثم لما ذكر حال المشركين الجاحدين للتوحيد الكافرين بنعم الله أردفه بحال عباده الصالحين، فقال: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" أي جاهدوا في شأن الله لطلب مرضاته ورجاء ما عنده من الخير لنهدينهم سبلنا: أي الطريق الموصل إلينا. قال ابن عطية: هي مكية نزلت قبل فرض الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته، وقيل: الآية هذه نزلت في العباد. وقال إبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما يعلمون "وإن الله لمع المحسنين" بالنصر والعون، ومن كان معه لم يخذل، ودخلت لام التوكيد على مع بتأويل كونها اسماً، أو على أنها حرف ودخلت عليها لإفادة معنى الاستقرار كما تقول: إن زيداً لفي الدار، والبحث مقرر في علم النحو. وقد أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما نزلت هذه الآية "إنك ميت وإنهم ميتون"، قلت يا رب أيموت الخلائق كلهم ويبقى الأنبياء؟ فنزلت "كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون"". وينظر كيف صحة هذا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يسمع قول الله سبحانه "إنك ميت وإنهم ميتون" يعلم أنه ميت، وقد علم أن من قبله من الأنبياء قد ماتوا، وأنه خاتم الأنبياء فكيف ينشأ عن هذه الآية ما سأل عنه علي رضي الله عنه من قوله أيموت الخلائق ويبقى الأنبياء فلعل هذه الرواية لا تصح مرفوعة ولا موقوفة. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر، قال السيوطي بسند ضعيف عن ابن عمر قال " خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان المدينة، فجعل يلتقط التمر ويأكل، فقال لي مالك لا تأكل؟ قلت: لا أشتهيه يا رسول الله، قال: لكني أشتهيه وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاماً ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر، فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يحبون رزق سنتهم ويضعف اليقين. قال: فوالله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت "وكأين من دابة لا تحمل رزقها" الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يأمرني بكنز الدنيا ولا باتباع الشهوات، ألا وإني لا أكنز ديناراً ولا درهماً، ولا أخبأ رزقاً لغد". وهذا الحديث فيه نكارة شديدة لمخالفته لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يعطي نساءه قوت العام كما ثبت ذلك في كتب الحديث المعتبرة. وفي إسناده أبو العطوف الجوزي وهو ضعيف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان " قال: باقية. وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب عن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عجباً كل العجب للمصدق بدار الحيوان وهو يسعى لدار الغرور" وهو مرسل.سورة الرومهي ستون آية، قال القرطبي كلها مكية بلا خلاف وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال: نزلت سورة الروم بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج عبد الرزاق وأحمد. قال السيوطي بسند حسن عن رجل من الصحابة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح، فقرأ فيها سورة الروم. وأخرج البزار عن الإغر المدني مثله. وأخرج عبد الرزاق عن معمر بن عبد الملك بن عمير أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر يوم الجمعة بسورة الروم. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وأحمد وابن قانع من طريق عبد الملك بن عمير مثل حديث الرجل الذي من الصحابة، وزاد: يتردد فيها، فلما انصرف قال: إنما يلبس علينا في صلاتنا قوم يحضرون الصلاة بغير طهور، من شهد الصلاة فليحسن الطهور. 1- "الم" قد تقدم الكلام على فاتحة السورة في فاتحة سورة البقرة وتقدم الكلام على محلها من الإعراب ومحل أمثالها في غير موضع من موضع من فواتح السور.
قرأ الجمهور. 2- "غلبت الروم" بضم الغين المعجمة وكسر اللام مبيناً للمفعول، وقرأ علي بن أبي طالب وأبو سعيد الخدري ومعاوية بن قرة وابن عمر وأهل الشام بفتح الغين واللام مبنياً للفاعل. قال النحاس: قراءة أكثر الناس "غلبت" بضم الغين وكسر اللام. قال أهل التفسير: غلبت فارس الروم ففرح بذلك كفار مكة وقالوا: الذين ليس لهم كتاب غلبوا الذين لهم كتاب، وافتخروا على المسلمين وقالوا: نحن أيضاً نغلبكم كما غلبت فارس الروم، وكان المسملون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب.
ومعنى 4- "في أدنى الأرض" في أقرب أرضهم من أرض أرضهم من أرض العرب، أو في أقرب أرض العرب منهم، قيل هي أرض الجزيرة، وقيل أذرعات، وقيل كسكر، وقيل الأردن، وقيل فلسطين، وهذه المواضع هي أقرب إلى بلاد العرب من غيرها وإنما حملت الأرض على أرض العرب لأنها المعهود في ألسنتهم إذا أطلقوا الأرض أرادوا بها جزيرة العرب وقيل إن الألف واللام عوض عن المضاف إليه، والتقدير: في أدنى أرضهم فيعود الضمير إلى الروم، ويكون المعنى: في أقرب أرض الروم من العرب. قال ابن عطية: إن كانت الوقعة بأذرعات فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة، وإن كانت الوقعة بالجزيرة فهي أدنى بالقياس إلى أرض كسرى، وإن كانت بالأردن فهي أدنى إلى أرض الروم "وهم من بعد غلبهم سيغلبون" أي والروم من بعد غلب فارس سيغلبون أهل الفرس، والغلب والغلبة لغتان، والمصدر مضاف إلى المفعول على قراءة الجمهور، وإلى الفاعل على قراءة غيرهم. قرأ الجمهور، وإلى الفاعل على قراءة غيرهم. قرأ الجمهور "سيغلبون" مبنياً للفاعل وقرأ علي وأبو سعيد ومعاوية بن قرة وابن عمر وأهل الشام على البناء للمفعول، وابن السميفع من بعد غلبهم بسكون اللام.
4- "في بضع سنين" متعلق بما قبله، وقد تقدم تفسير البضع واشتقاقه في سورة يوسف، والمراد به هنا ما بين الثلاثة إلى العشرة "لله الأمر من قبل ومن بعد" أي هو المنفرد بالقدرة وإنقاذ الأحكام وقت مغلوبيتهم ووقت غالبيتهم، فكل ذلك بأمر الله سبحانه وقضائه، قرأ الجمهور من قبل ومن بعد بضمهما لكونهما مقطوعين عن الإضافة، والتقدير: من قبل الغلب ومن بعده، أو من قبل كل أمر ومن بعده. وحكى الكسائي من قبل ومن بعد بكسر الأول منوناً وضم الثاني بلا تنوين. وحكى الفراء من قبل ومن بعد بكسرهما من غير تنوين، وغلطه النحاس. قال شهاب الدين: قد قرئ بكسرهما منونين. قال الزجاج: ومعنى الآية: من متقدم ومن متأخر " ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله " أي يوم أن تغلب الروم على فارس في بضع سنين يفرح المؤمنون بنصر الله للروم لكونهم أهل كتاب كما أن المسلمين أهل كتاب، بخلاف فارس فإنه لا كتاب لهم، ولهذا سر المشركون بنصرهم على الروم، وقيل نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم على فارس، والأول أولى. قال الزجاج: هذه الآية من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند الله لأنه إنباء بما سيكون، وهذا لا يعلمه إلا الله سبحانه.
5- "ينصر من يشاء" أن ينصره "وهو العزيز" الغالب القاهر "الرحيم" الكثير الرحمة لعباده المؤمنين، وقيل المراد بالرحمة هنا: الدنيوية، وهي شاملة للمسلم والكافر.