تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 598 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 598

597

هي خمس آيات وهي مكية عند أكثر المفسرين. كذا قال الماوردي. وقال الثعلبي: هي مدنية في قول أكثر المفسرين، وذكر الواقدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنها نزلت بمكة. الضمير في أنزلناه للقرآن، وإن لم يتقدم له ذكر، أنزل جملة واحدة في ليلة القدر إلى سماء الدنيا من اللوح المحفوظ، وكان نزول على النبي صلى الله عليه وسلم نجوماً على حسب الحاجة، وكان بين نزل أوله وآخره على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث وعشرون سنة، وفي آية أخرى 1- "إنا أنزلناه في ليلة مباركة" وهي ليلة القدر، وفي آية أخرى "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن" وليلة القدر في شهر رمضان. قال مجاهد: في ليلة القدر ليلة الحكم.
2- "وما أدراك ما ليلة القدر" ليلة الحكم، قيل سميت ليلة القدر لأن الله سبحانه يقدر فيها ما شاء من أمره إلى السنة القابلة. وقيل إنها سميت بذلك لعظيم قدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر: أي شرف ومنزلة، كذا قال الزهري. وقيل سميت بذلك لأن للطاعات فيها قدراً عظيماً وثواباً جزيلاً. وقال الخليل: سميت ليلة القدر، لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة، كقوله: "ومن قدر عليه رزقه" أي ضيق. وقد اختلف في تعيين ليلة القدر على أكثر من أربعين قولاً، قد ذكرناها بأدلتها وبينا الراجح منها في شرحنا للمنتقى " وما أدراك ما ليلة القدر " هذا الاستفهام فيه تفخيم لشأنها حتى كأنها خارجة عن دراية الخلق لا يدريها إلا الله سبحانه. قال سفيان: كل ما في القرآن من قوله: وما أدراك فقد أدراه، وكل ما فيه وما يدريك فلم يدره، وكذا قال الفراء. والمعنى: أي شيء تجعله دارياً بها؟ وقد قدمنا الكلام في إعراب هذه الجملة في قوله: "وما أدراك ما الحاقة".
ثم قال: 3- "ليلة القدر خير من ألف شهر" قال كثير من المفسرين: أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، واختار هذا الفراء والزجاج، ولك أن الأوقات إنما يفضل بعضها على بعض بما يكون فيها من الخير والنفع، فلما جعل الله الخير الكثير في ليلة كانت خيراً من ألف شهر لا يكون فيها من الخير والبركة ما في هذه الليلة. وقيل أراد بقوله ألف شهر جميع الدهر، لأن العرب تذكر الألف في كثير من الأشياء على طريق المبالغة. وقيل وجه ذكر الألف الشهر أن العايد كان فيما مضى لا يسمى عابداً حتى يعبد الله ألف شهر، وذلك ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، فجعل الله سبحانه لأمة محمد عبادة ليلة خيراً من عبادة ألف شهر كانوا يعبدونها. وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أعمار أمته قصيرة، فخاف أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، لأعطاه الله ليلة القدر وجعلها خيراً من ألف شهر لسائر الأمم، وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته.
وجملة 4- "تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم" مستأنفة مبينة لوجه فضلها موضحة للعلة التي صارت بها خيراً من ألف شهر، وقوله: "بإذن ربهم" يتعلق بتنزل أو بمحذوف هو حال: أي ملتبسين بإذن ربهم، والإذن الأمر، ومعنى تنزل: تهبط من السموات إلى الأرض. والروح هو جبريل عند جمهور المفسرين: أي تنزل الملائكة ومعهم جبريل. ووجه ذكره بعد دخوله في الملائكة التعظيم له والتشريف لشأنه. وقيل الروح صنف من الملائكة هم أشرافهم، وقيل هم جند من جنود الله من غير الملائكة، وقيل الروح الرحمة، وقد تقدم الخلاف في الروح عند قوله: "يوم يقوم الروح والملائكة صفاً" قرأ الجمهور "تنزل" بفتح التاء، وقرأ طلحة بن مصرف وابن السميفع بضمها على البناء للمفعول، وقوله: "من كل أمر" أي من أجل كل أمر من الأمور التي قضى الله بها في تلك السنة، وقيل إن من بمعنى اللام: أي لكل أمر، وقيل هي بمعنى الباء: أي بكل أمر، قرأ الجمهور "أمر" وهو واحد الأمور، وقرأ علي وابن عباس وعكرمة والكلبي امرئ مذكر امرأة: أي من أجل كل إنسان، وتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل مع الملائكة فيسلمون على كل إنسان، فمن على هذا بمعنى على، والأول أولى. وقد تم الكلام عند قوله من كل أمر.
ثم ابتدأ فقال: 5- "سلام هي" أي ما هي إلا سلامة وخير كلها لا شر فيها، وقيل هي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن أو مؤمنة. قال مجاهد: هي ليلة سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً ولا أذى. وقال الشعبي: هو تسليم الملائكة على أهل المساجد من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر يمرون على كل مؤمن ويقولون السلام عليك أيها المؤمن، وقيل يعني سلام الملائكة بعضهم على بعض. قال عطاء: يريد سلام على أولياء الله وأهل طاعته "حتى مطلع الفجر" أي حتى وقت طلوعه. قرأ الجمهور "مطلع" بفتح اللام. وقرأ الكسائي وابن محيصن بكسرها، فقيل هما لغتان في المصدر، والفتح أكثر نحو المخرج والمقتل،وقيل بالفتح اسم مكان، وبالكسر المصدر، وقيل العكس، وحتى متعلقة يتنزل على أنها غاية لحكم التنزل أي لمكثهم في محل تنزلهم بأن لا ينقطع تنزلهم فوجاً بعد فوج إلى طلوع الفجر، وقيل متعلقة بسلام بناءً على أن الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ مغتفر. وقد أخرج ابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "إنا أنزلناه في ليلة القدر" قال: أنزل القرآن في ليلة القدر حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا، ثم جعل جبريل ينزل على محمد بجواب كلام العباد وأعمالهم. وأخرج عبد بن حميد عن أنس قال: العمل في ليلة القدر والصدقة والصلاة والزكاة أفضل من ألف شهر. وأخرج الترمذي وضعفه وابن جرير والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن الحسن بن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم أري بني أمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت "إنا أعطيناك الكوثر" يا محمد يعني نهراً في الجنة، ونزلت " إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر " يملكها بعدك بنو أمية. قال القاسم. فعددنا فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً، والمراد بالقاسم هو القاسم بن الفضل المذكور في إسناده. قال الترمذي: إن يوسف هذا مجهول، يعني يوسف ين سعد الذي رواه عن الحسن بن علي. قال ابن كثير: فيه نظر، فإنه قد روى عنه جماعة: منهم حماد بن سلمة وخالد الحذاء ويونس بن عبيد. وقال فيه يحيى بن معين: هو مشهور. وفي رواية عن ابن معين قال: هو ثقة، ورواه ابن جرير من طريق القاسم بن الفضل عن عيسى بن مازن. قال ابن كثير: ثم هذا الحديث على كل تقدير منكر جداً. قال المزي: هو حديث منكر، وقول القاسم بن الفضل إنه حسب مدة بني أمية فوجدها ألف شهر لا تزيد ولا تنقص ليس بصحيح، فإن جملة مدتهم من عند أن استقل بالملك معاوية وهي سنة أربعين إلى أن سلبهم الملك بنو العباس، وهي سنة اثنين وثلاثين ومائة مجموعها اثنتان وتسعون سنة. وأخرج الخطيب في تاريخه عن ابن عباس نحو ما روي عن الحسن بن علي. وأخرج الخطيب عن سعيد بن المسيب مرفوعاً مرسلاً نحوه. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "سلام" قال: في تلك الليلة تصفد مردة الشياطين وتغل عفاريت الجن وتفتح فيها أبواب السماء كلها ويقبل الله فيها التوبة لكل تائب، فلذا قال: "سلام هي حتى مطلع الفجر" قال: وذلك من غروب الشمس إلى أن يطلع الفجر، والأحاديث في فضل ليلة القدر كثيرة، وليس هذا موضع بسطها، وكذلك الأحاديث في تعيينها والاختلاف في ذلك. سورة البينة هي ثمان آيات وهي مدنية في قول الجمهور، وقيل مكية. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة "لم يكن" بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: نزلت سورة لم يكن بمكة. وأخرج أبو نعيم في المعرفة عن إسماعيل بن أبي حكيم المزني، حدثني فضل، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يستمع قراءة "لم يكن الذين كفروا" فيقول: أبشر عبدي وعزتي وجلالي لأمكنن لك في الجنة حتى ترضى" قال ابن كثير: حديث غريب جداً. وأخرجه أبو موسى المديني عن مطر المزني، أو المدني بنحوه. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك "لم يكن الذين كفروا" قال: وسماني لك؟ قال: نعم فبكى". وأخرج أحمد وابن قانع في معجم الصحابة والطبراني وابن مردويه عن أبي حية البدري قال: "لما نزلت "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب" إلى آخرها قال جبريل: يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبياً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة، فقال أبي: وقد ذكرت ثم يا رسول الله؟ قال: نعم، فبكى". المراد بـ"الذين كفروا من أهل الكتاب" اليهود والنصارى، "و" المراد بـ"المشركين" مشركو العرب، وهم عبدة الأوثان، "منفكين" خبر كان، يقال فككت الشيء فانفك: أي انفصل، والمعنى: أنهم لم يكونوا مفارقين لكفرهم ولا منتهين عنه "حتى تأتيهم البينة" وقيل الانفكاك بمعنى الانتهاء وبلوغ الغاية: أي لم يكونوا يبلغون نهاية أعمارهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة، وقيل منفكين زائلين: أي لم تكن مدتهم لتزول حتى تأتيهم البينة، يقال ما انفك فلان قائماً: أي ما زال قائماً، وأصل الفك الفتح، ومنه فك الخلخال. وقيل منفكين بارحين: أي لم يكونوا ليبرحوا أو يفارقوا الدنيا حتى تأتيهم البينة. وقال ابن كيسان: المعنى لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى الله عليه وسلم حتى يبعث، فلما بعث حسدوه وجحدوه، وهو كقوله: "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" وعلى هذا فيكون قوله: "والمشركين" أنهم ما كانوا يسيئون القول في محمد صلى الله عليه وسلم حتى بعث، فإنهم كانوا يسمونه الأمين، فلما بعث عادوه وأساءوا القول فيه. وقيل: "منفكين" هالكين، من قولهم: انفك صلبه: أي انفصل فلم يلتئم فيهلك، والمعنى: لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم. وقيل إن المشركين هم أهل الكتاب، فيكون وصفاً لهم لأنهم قالوا المسيح ابن الله وعزيز ابن الله. قال الواحدي: ومعنى الآية إخبار الله تعالى عن الكفار أنهم لن ينتهوا عن كفرهم وشركهم بالله حتى أتاهم محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن، فبين لهم ضلالتهم وجهالتهم ودعاهم إلى الإيمان، وهذا بيان عن النعمة والإنقاذ به من الجهل والضلالة والآية والآية فيمن آمن من الفريقين. قال: وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً وتفسيراً، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء، وسلكوا في تفسيرها طرقاً لا تفضي بهم إلى الصوابج. والوجه ما أخبرتك فاحمد الله إذ أتاك بيانها من غير لبس ولا إشكال. قال: ويدل على أن البينة محمد صلى الله عليه وسلم أنه فسرها وأبدل منها فقال: "رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة" يعني ما تتضمنه الصحف من المكتوب فيها، وهو القرآن، ويدل على ذلك أنه كان يتلو عن ظهر قلبه، لا عن كتاب انتهى كلامه. وقيل إن الآية حكاية لما كان يقوله أهل الكتاب والمشركون إنهم لا يفارقون دينهم حتى يبعث النبي الموعود به، فلما بعث تفرقوا كما حكاه الله عنهم في هذه السورة. والبينة على ما قاله الجمهور هو محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه في نفسه بينة وحجة ولذلك سماه سراجاً منيراً.
وقد فسر الله سبحانه هذه البينة المجملة بقوله: 2- "رسول من الله" فاتضح الأمر وتبين أنه المراد بالبينة. وقال قتادة وابن زيد: البينة هي القرآن كقوله: " أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى " وقال أبو مسلم: المراد بالبينة مطلق الرسل، والمعنى: حتى تأتيهم رسل من الله، وهم الملائكة يتلون عليهم صحفاً مطهرة، والأول أولى قرأ الجمهور "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين" وقرأ ابن مسعود لم يكن المشركون وأهل الكتاب قال ابن العربي: وهي قراءة في معرض البيان، لا في معرض التلاوة. وقرأ الأعمش والنخعي: والمشركون بالرفع عطفاً على الموصول. وقرأ أبيفما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون قرأ الجمهور "رسول من الله" برفع رسول على أنه بدل كل من كل مبالغة، أو بدل اشتمال. قال الزجاج: رسول رفع على البدل من البينة. وقال الفراء: رفع على أنه خبر مبتدأ مضمر: أي هي رسول أو هو رسول. وقرأ أبي وابن مسعود رسولاً بالنصب على القطع، وقوله: "من الله" متعلق بمحذوف هو صفة لرسول: أي كائن من الله، ويجوز تعلقه بنفس رسول، وجوز أبو البقاء أن يكون حالاً من صحف، والتقدير: يتلو صحفاً مطهرة منزلة من الله، وقوله: "يتلو صحفاً مطهرة" يجوز أن تكون صفة أخرى لرسول، أو حالاً من متعلق الجار والمجرور قبله. ومعنى يتلو: يقرأ، يقال تلا يتلو تلاوة، والصحف جمع صحيفة، وهي ظرف المكتوب، ومعنى مطهرة: أنها منزهة من الزور والضلال. قال قتادة: مطهرة من الباطل، وقيل مطهرة من الكذب والشبهات والكفر، والمعنى واحد، والمعنى: أنه يقرأ ما تتضمنه الصحف من المكتوب فيها لأنه كان صلى الله عليه وسلم يتلو عن ظهر قلبه، لا عن كتاب كما تقدم.
وقوله: 3-"فيها كتب قيمة" صفة لصحفاً، ضميرها، والمراد الآيات والأحكام المكتوبة فيها، والقيمة المستقيمة المستوية المحكمة، من قول العرب: قام الشيء: إذا استوى وصح. وقال صاحب النظم: الكتب بمعنى الحكم كقوله: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي" أي حكم، وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة العسيف: لأقضين بينكما بكتاب الله ثم قضى بالرجم، وليس الرجم في كتاب الله، فالمعنى: لأقضين بينكما بحكم الله، وبهذا يندفع ما قيل إن الصحف هي الكتب، فكيف قال " صحفا مطهرة * فيها كتب قيمة " وقال الحسن: يعني بالصحف المطهرة التي في السماء، يعني في اللوح المحفوظ كما في قوله: " بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ " "وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة" هذه الجملة مستأنفة لتوبيخ أهل الكتاب وتقريعهم، وبيان أن ما نسب إليهم من عدم الانفكاك لم يكن لاشتباه الأمر، بل كان بعد وضوح الحق وظهور الصواب. قال المفسرون: لم يزل أهل الكتاب مجتمعين حتى بعث الله محمداً، فلما بعث تفرقوا في أمره واختلفوا، فآمن به بعضهم وكفر آخرون. وخص أهل الكتاب، وإن كان غيرهم مثلهم في التفرق بعد مجيء البينة لأنهم كانوا أهل علم، فإذا تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف، والاستثناء في قوله: "إلا من بعد ما جاءتهم البينة" مفرغ من أعم الأوقات: أي وما تفرقوا في وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءتهم الحجة الواضحة، وهي بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشريعة الغراء والمحجة البيضاء. وقيل البينة: البيان الذي في كتبهم أنه نبي مرسل كقوله: "وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم" قال القرطبي: قال العلماء: من أو السورة إلى قوله: "كتب قيمة" حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين.
وقوله: 4- "وما تفرق" الخ فيمن لم يؤمنوا من أهل الكتاب والمشركين بعد قيام الحجج.
وجملة 5- " وما أمروا إلا ليعبدوا الله " في محل نصب على الحال مفيدة لتعريعهم وتوبيخهم بما فعلوا من التفرق بعد مجيء البينة: أي والحال أنهم ما أمروا في كتبهم إلا لأجل أن يعبدوا الله ويوحدوه حال كونهم "مخلصين له الدين" أي جاعلين دينهم خالصاً له سبحانه أو جاعلين أنفسهم خالصة له في الدين، وقيل إن اللام في ليعبدوا بمعنى أن: أي ما أمروا إلا بأن يعبدوا كقوله: "يريد الله ليبين لكم" أي أن يبين، و "يريدون ليطفئوا نور الله" أي أن يطفئوا قرأ الجمهور "مخلصين" بكسر اللام. وقرأ الحسن بفتحها. وهذه الآية من الأدلة الدالة على وجوب النية في العبادات لأن الإخلاص من عمل القلب، وانتصاب "حنفاء" على الحال من ضمير مخلصين، فتكون من باب التداخل، ويجوز أن تكون من فاعل يعبدوا، والمعنى: مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام. قال أهل اللغة: أصله أن يحنف إلى دين الإسلام: أي يميل إليه "ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" أي يفعلوا الصلوات في أوقاتها، ويعطوا الزكاة عند محلها، وخص الصلاة والزكاة لأنهما من أعظم أركان الدين. قيل إن أريد بالصلاة والزكاة ما في شريعة أهل الكتاب من الصلاة والزكاة فالأمر ظاهر، وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أمرهم باتباع شريعتنا، وهما من جملة ما وقع الأمر به فيها " وذلك دين القيمة " أي وذلك المذكور من بعادة الله وإخلاصها وإقامة الصلاة والزكاة "دين القيمة" أي دين الملة المستقيمة. قال الزجاج: أي ذلك دين الملة المستقيمة، فالقيمة صفة لموصوف محذوف. قال الخليل: القيمة جمع القيم، والقيم: القائم. قال الفراء: أضاف الدين إلى القيمة، وهو نعته لاختلاف اللفظين. وقال أيضاً: هو من إضافة الشيء إلى نفسه، ودخلت الهاء للمدح والمبالغة.
ثم بين سبحانه حال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا فقال: 6- "إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم" الموصول اسم إن، والمشركين معطوف عليه، وخبرها في نار جهنم، و"خالدين فيها" حال من المستكن في الخبر، ويجوز أن يكون قوله والمشركين مجروراً عطفاً على أهل الكتاب ومعنى كونهم في نار جهنم أنهم يصيرون إليها يوم القيامة، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى من تقدم ذكرهم من أهل الكتاب والمشركين المتصفين بالكون في نار جهنم والخلود فيها "هم شر البرية" أي الخليقة، يقال برأ: أي خلق، والبارئ الخالق، والبرية الخليقة. قرأ الجمهور "البرية" بغير همز في الموضعين وقرأ نافع وابن ذكوان فيهما بالهمز. قال الفراء: إن أخذت البرية من البراء وهو التراب لم تدخل الملائكة تحت هذا اللفظ، وإن أخذتها من بريت القلم: أي قدرته دخلت. وقيل إن الهمز هو الأصل لأنه يقال برأ الله الخلق بالهمز: أي ابتدعه واخترعه ومنه قوله: "من قبل أن نبرأها" ولكنها خففت الهمزة، والتزم تخفيفها عند عامة العرب.
ثم بين حال الفريق الآخر فقال: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات" أي جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح "أولئك" المنعوتون بهذا "هم خير البرية" قال: والمراد أن أولئك شر البرية في عصره صلى الله عليه وسلم، ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم من هو شر منهم، وهؤلاء خير البرية في عصره صلى الله عليه وسلم، ولا يبعد أن يكون في مؤمني الأمم السابقة من هو خير منهم.
8- "جزاؤهم عند ربهم" أي ثوابهم عند خالقهم بمقابلة ما وقع منهم من الإيمان والعمل الصالح "جنات عدن تجري من تحتها الأنهار" والمراد بجنات عدن هي أوسط الجنات وأفضلها، يقال عدن بالمكان يعدن عدناً: أي أقام، ومعدن الشيء: مركزه ومستقره، ومنه قول الأعشى: وإن يتضافوا إلى علمه يضافوا إلى راجح قد عدن وقد قدمنا في غير موضع أنه إن أريد بالجنات الأشجار الملتفة، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد مجموع قرار الأرض والشجر، فجري الأنهار من تحتها باعتبار جزئها الظاهر، وهو الشجر "خالدين فيها أبداً" لا يخرجون منها ولا يظعنون عنها، بل هم دائمون في نعيمها مستمرون في لذاتها "رضي الله عنهم ورضوا عنه" الجملة مستأنفة لبيان ما تفضل الله به عليهم من الزيادة على مجر الجزاء، وهو رضوانه عنهم حيث أطاعوا أمره وقبلوا شرائعه، ورضاهم عنه حيث بلغوا من المطالب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ويجوز أن تكون الجملة خبراً ثانياً، وأن تكون في محل نصب على الحال بإضمار قد "ذلك لمن خشي ربه" أي ذلك الجزاء والرضوان لمن وقعت منه الخشية لله سبحانه في الدنيا وانتهى عن معاصيه بسبب تلك الخشية التي وقعت التي وقعت له لا مجرد الخشية مع الأنهماك في معاصي الله سبحانه فإنها ليست بخشية على الحقيقة. وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "منفكين" قال: برحين. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: أتعجبون من منزلة الملائكة من الله، والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من منزلة ملك، وقرأوا إن شئتم "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية". وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: "قلت يا رسول الله من أكرم الخلق على الله؟ قال: يا عائشة أما تقرئين "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية"". وأخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، ونزلت "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية" فكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا أقبل قالوا: قد جاء خير البرية". وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاً "على خير البرية". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: "لما نزلت هذه الآية "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين". وأخرج ابن مردويه عن علي مرفوعاً نحوه. وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بخير البرية؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما كانت هيعة استوى عليه، ألا أخبركم بشر البرية؟ قالوا بلى، قال: الذي يسأل بالله ولا يعطي به". قال أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا أبو معشر عن أبي وهب مولى أبو هريرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره.