تفسير الطبري تفسير الصفحة 196 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 196
197
195
 الآية : 55
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ }.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: معناه: فلا تعجبك يا محمد أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم في الحياة الدنيا, إنما يريد الله ليعذبهم بها في الاَخرة. وقال: معنى ذلك: التقديم وهو مؤخر. ذكر من قال ذلك:
13134ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَلا تُعْجِبْكَ أمْوَالُهُمْ وَلا أوْلادُهُمْ قال: هذه من تقاديم الكلام, يقول: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا, إنما يريد الله ليعذبهم بها في الاَخرة.
13135ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِها فِي الاَخِرَةِ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا, بما ألزمهم فيها من فرائضه. ذكر من قال ذلك:
13136ـ حُدثت عن المسيب بن شريك, عن سلمان الأقصري, عن الحسن: إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِها فِي الحَياةِ الدّنْيا قال: بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله تعالى.
13137ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِها فِي الحَياةِ الدّنْيا بالمصائب فيها, هي لهم عذاب وهي للمؤمنين أجر.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا, التأويل الذي ذكرنا عن الحسن, لأن ذلك هو الظاهر من التنزيل, فصرف تأويله إلى ما دلّ عليه ظاهره أولى من صرفه إلى باطن لا دلالة على صحته, وإنما وجه من وجه ذلك إلى التقديم وهو مؤخر, لأنه لم يعرف لتعذيب الله المنافقين بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا وجها يوجهه إليه, وقال: كيف يعذّبهم بذلك في الدنيا, وهي لهم فيها سرور, وذهب عنه توجيهه إلى أنه من عظيم العذاب عليه إلزامه ما أوجب الله عليه فيها من حقوقه وفرائضه, إذ كان يلزمه ويؤخذ منه وهو غير طيب النفس. ولا راج من الله جزاء ولا من الاَخذ منه حمدا ولا شكرا على ضجر منه وكره.
وأما قوله: وَتَزْهَقَ أنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ فإنه يعني: وتخرج أنفسهم, فيموتوا على كفرهم بالله وجحودهم نبوّة نبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم, يقال منه: زَهَقَتْ نفس فلان, وزَهِقَتْ, فمن قال: زَهَقَت, قال: تَزْهَقُ, ومن قال: زَهِقَتْ, قال: تَزْهِقُ زُهُوقا ومنه قيل: زَهَق فلان بين أيدي القوم يَزْهَقُ زُهُوقا: إذا سبقهم فتقدمهم, ويقال: زَهَقَ الباطل: إذا ذهب ودرس.
الآية : 56
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ وَلَـَكِنّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ويحلف بالله لكم أيها المؤمنون هؤلاء المنافقون كذبا وباطلاً خوفا منكم, إنهم لمنكم في الدين والملة. يقول الله تعالى مكذّبا لهم: وَما هُمْ مِنْكُمْ أي ليسوا من أهل دينكم وملتكم, بل هم أهل شكّ ونفاق. وَلَكِنّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ يقول: ولكنهم قوم يخافونكم, فهم خوفا منكم يقولون بألسنتهم: إنا منكم, ليأمنوا فيكم فلا يقتلوا.
الآية : 57
القول في تأويل قوله تعالى: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدّخَلاً لّوَلّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ }.
يقول تعالى ذكره: لو يجد هؤلاء المنافقون ملجأ, يقول: عَصَرا يعتصرون به من حصن, ومعقلاً يعتقلون فيه منكم, أو مَغَارَاتٍ وهي الغيران في الجبال, واحدتها: مغارة, وهي مفعلة من غار الرجل في الشيء يغور فيه إذا دخل, ومنه قيل: غارت العين: إذا دخلت في الحدقة. أو مُدّخَلاً يقول: سَرَبا في الأرض يدخلون فيه, وقال: «أو مُدّخلاً»... الآية, لأنه من ادّخل يدخل. وقوله: لَوَلّوْا إلَيْهِ يقول: لأدبروا إليه هربا منكم. وَهُمْ يَجْمَحُونَ يقول: وهم يسرعون في مشيهم. وقيل: إن الجماح مشى بين المشيين ومنه قول مهلهل:
لَقَدْ جَمَحْتُ جِماحا فِي دِمائهِمُحتى رأيْتُ ذَوِي أحْسابِهِمْ خَمَدوا
وإنما وصفهم الله بما وصفهم به من هذه الصفة, لأنهم إنما أقاموا بين أظهر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كفرهم ونفاقهم وعداوتهم لهم, ولما هم عليه من الإيمان بالله وبرسوله لأنهم كانوا في قومهم وعشيرتهم وفي دورهم وأموالهم, فلم يقدروا على ترك ذلك وفراقه, فصانعوا القوم بالنفاق ودافعوا عن أنفسهم وأموالهم وأولادهم بالكفر ودعوى الإيمان, وفي أنفسهم ما فيها من البغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به والعداوة لهم, فقال الله واصفهم بما في ضمائرهم: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجأً أوْ مَغارَاتٍ... الآية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13138ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: لَوْ يَجدُونَ مَلْجأً الملجأ: الحرز في الجبال, والمغارات: الغيران في الجبال. وقوله: أوْ مُدّخَلاً والمدّخل: السرب.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: لَوْ يَجدُونَ مَلْجأً أوْ مَغارَاتٍ أوْ مُدّخَلاً لَوَلّوْا إلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ملجأ, يقول: حرزا, أو مَغَارَاتٍ يعني الغيران. أو مُدّخلاً يقول: ذهابا في الأرض, وهو النفق في الأرض, وهو السرب.
13139ـ وحدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: لَوْ يَجدُونَ مَلْجأً أوْ مَغارَاتٍ أوْ مُدّخَلاً قال: حرزا لهم يفرّون إليه منكم.
13140ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: لَوْ يَجدُونَ مَلْجأً أوْ مَغارَاتٍ أوْ مُدّخَلاً قال: محرزا لهم, لفرّوا إليه منكم. وقال ابن عباس قوله: لَوْ يَجدُونَ مَلْجأً حرزا أو مغارات, قال: الغيران. أوْ مُدّخَلاً قال: ففقا في الأرض.
13141ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: لَوْ يَجدُونَ مَلْجأً أوْ مَغارَاتٍ أوْ مُدّخَلاً يقول: لو يجدون ملجأ: حصونا, أو مَغَارَاتٍ غيرانا. أو مدّخلاً أسرابا. لَوَلّوْا إلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ.
الآية : 58
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مّن يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ومن المنافقين الذين وصفت لك يا محمد صفتهم في هذه الاَيات مَنْ يَلْمِزُك فِي الصّدَقاتِ يقول: يعيبك في أمرها ويطعن عليك فيها, يقال منه: لمز فلانا يَلْمِزُه, ويَلْمُزُه: إذا عابه وقرصه, وكذلك همزه. ومنه قيل: فلان هُمَزةُ لمَزة, ومنه قول رؤبة:
قارَبْتُ بينَ عَنَقِي وَجمْزِيفِي ظِلّ عَصْرَيْ باطِليِ ولَمْزِي
ومنه قول الاَخر:
()إذَا لَقِيتُكَ تُبْدِي لي مُكاشَرَةً
وأنْ أغِيبَ فأنْتَ العائِبُ اللّمَزَهْ()
فإنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا يقول: ليس بهم في عيبهم إياك فيها وطعنهم عليك بسببها الدين, ولكن الغضب لأنفسهم, فإن أنت أعطيتهم منها ما يرضيهم رضوا عنك, وإن أنت لم تعطهم منهم سخطوا عليك وعابوك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13142ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقاتِ قال: يَرُوزُك.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقاتِ يروزك ويسألك.
13143ـ قال ابن جريج: وأخبرني داود بن أبي عاصم, قال: قال أُتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بصدقة, فقسمها ههنا وههنا حتى ذهبت, قال: ورآه رجل من الأنصار, فقال: ما هذا بالعدل فنزلت هذه الآية.
13144ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقاتِ يقول: ومنهم من يطعن عليك في الصدقات. وذُكر لنا أن رجلاً من أهل البادية حديث عهد بأعرابية, أتى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهبا وفضة, فقال: يا محمد, والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: «وَيْلَكَ فَمَنْ ذَا يَعْدِلُ عَلَيْكَ بَعْدِي؟» ثم قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: «احْذَرُوا هَذَا وأشْباهَهُ, فإنّ فِي أُمّتِي أشْباهَ هَذَا يَقْرَءُونَ القُرآنَ لا يُجاوزُ تَرَاقِيَهُمْ, فإذَا خَرَجُوا فاقْتُلُوهُمْ, ثُمّ إذَا خَرَجُوا فاقْتُلُوهُمْ, ثُمّ إذَا خَرَجُوا فاقْتُلُوهُمْ». وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما أُعْطِيكُمْ شَيْئا وَلا أمْنَعْكُمُوهُ إنّمَا أنا خازِنٌ».
13145ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقاتِ قال: يطعن.
13146ـ قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهريّ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, عن أبي سعيد, قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسما, إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التميمي, فقال: اعدل يا رسول الله فقال: «وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إنْ لَمْ أعْدِلْ؟» فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه قال: «دعه, فإنّ لَهُ أصَحابا يَحْقِرُ أحَدُكُمْ صَلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِمْ وَصِيامَهُ مَعَ صِيامِهِمْ, يَمْرُقُونَ مِنَ الدّينِ كما يَمْرُقُ السّهُمْ مِنَ الرّمِيّةِ, فَيَنْظُرُ فِي قُذَذهِ فَلا يَنْظُرُ شَيْئا, ثُمّ يَنْظُرُ فِي نَصْلِهِ فَلا يَجِدُ شَيْئا, ثُمّ يَنْظُرُ فِي رَصَافِهِ فَلا يَجِدُ شَيْئا, قَد سَبَقَ الفَرْثَ وَالدّمَ, آيَتُهُمْ رَجُلٌ أسْوَدُ إحْدَى يَدَيْهِ أوْ قالَ: يَدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ المَرأة أوْ مِثْلُ البَضْعَةِ تَدَرْدَرُ, يَخْرُجُونَ على حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ النّاسِ». قال: فنزلت: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقاتِ. قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأشهد أن عليّا رحمة الله عليه حين قتلهم جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
13147ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقاتِ فإنْ أُعُطُوا مِنْها رَضوا وَإنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ قال: هؤلاء المنافقون, قالوا: والله ما يعطيها محمد إلا من أحبّ, ولا يؤثر بها إلا هواه فأخبر الله نبيه, وأخبرهم أنه إنما جاءت من الله, وأن هذا أمر من الله ليس من محمد: إنّمَا الصّدقاتُ للفُقَرَاءِ... الآية.
الآية : 59
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنّآ إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ولو أن هؤلاء الذين يلمزونك يا محمد في الصدقات رضوا ما أعطاهم الله ورسوله من عطاء وقسم لهم من قسم, وَقالُوا حَسْبُنا اللّهُ يقول: وقالوا: كافينا الله, سَيُؤْتِينا اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ يقول: سيعطينا الله من فضل خزائنه ورسوله من الصدقة وغيرها, إنّا إلى اللّهِ رَاغِبُونَ يقول: وقالوا: إنا إلى الله نرغب في أن يوسع علينا من فضله, فيغنينا عن الصدقة وغيرها من صلات الناس والحاجة إليهم.
الآية : 60
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّمَا الصّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: لا تنال الصدقات إلا للفقراء والمساكين ومن سماهم الله جلّ ثناؤه.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة الفقير والمسكين, فقال بعضهم: الفقير: المحتاج المتعفف عن المسألة, والمسكين: المحتاج السائل. ذكر من قال ذلك:
13148ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن أشعث, عن الحسن: إنّمَا الصّدَقاتُ للفُقَرَاءِ والمَساكِينِ قال: الفقير: الجالس في بيته, والمسكين: الذي يسعى.
13149ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: حدثنا معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ والمَساكِينِ قال: المساكين: الطّوافون, والفقراء فقراء المسلمين.
13150ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن جرير بن حازم, قال: ثني رجل, عن جابر بن زيد, أنه سئل عن الفقراء, قال: الفقراء: المتعففون, والمساكين: الذين يسألون.
13151ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا معقل بن عبيد الله الحراني, قال: سألت الزهري عن قوله: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ قال: الذين في بيوتهم لا يسألون, والمساكين: الذين يخرجون فيسألون.
13152ـ حدثنا الحرث, قال: حدثنا القاسم, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, عن عبد الوارث بن سعيد, عن ابن نجيح, عن مجاهد, قال: الفقير الذي لا يسأل, والمسكين: الذي يسأل.
13153ـ قال: حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ والمَساكِينِ قال: الفقراء الذين لا يسألون الناس وهم أهل حاجة, والمساكين: الذين يسألون الناس.
حدثنا الحرث, قال: ثني عبد العزيز, قال: حدثنا عبد الوارث, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: الفقراء الذين لا يسألون, والمساكين: الذين يسألون.
وقال آخرون: الفقير هو ذو الزمانة من أهل الحاجة, والمسكين: هو الصحيح الجسم. ذكر من قال ذلك:
13154ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ والمَساكِينِ قال: الفقير من به زمانة, والمسكين: الصحيح المحتاج.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ والمَساكِينِ أما الفقير: فالزمن الذي به زمانة, وأما المسكين: فهو الذي ليست به زمانة.
وقال آخرون: الفقراء فقراء المهاجرين, والمساكين: من لم يهاجر من المسلمين وهو محتاج. ذكر من قال ذلك:
13155ـ حدثنا الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا جرير بن حازم, عن عليّ بن الحكم, عن الضحاك بن مزاحم: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ قال: فقراء المهاجرين, والمساكين: الذين لم يهاجروا.
13083قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفيان, عن منصور, عن إبراهيم: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ المهاجرين, قال: سفيان: يعني: ولا يعطي الأعراب منها شيئا.
حدثنا ابن وكيع, قال: ثني أبي, عن سفيان, عن منصور, عن إبراهيم, قال: كان يقال: إنما الصدقة لفقراء المهاجرين.
قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيم, قال: كانت تجعل الصدقة في فقراء المهاجرين, وفي سبيل الله تعالى.
13156ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد بن جبير وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزي, قالا: كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة يحجّ عليها ويغزو, فنسبهم الله إلى أنهم فقراء, وجعل لهم سهما في الزكاة.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفيان, عن منصور, عن إبراهيم, قال: كان يقال: إنما الصدقات في فقراء المهاجرين, وفي سبيل الله.
وقال آخرون: المسكين: الضعيف الكَسْب. ذكر من قال ذلك:
13157ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن علية, قال: أخبرنا ابن عون, عن محمد, قال: قال عمر: ليس الفقير بالذي لا مال له, ولكن الفقير: الأخْلق الكَسْب. قال يعقوب, قال ابن علية: الأخلق: المُحَارَفُ عندنا.
13158ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أيوب عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب رحمة الله تعالى قال ليس المسكين بالذي لا ماله له ولكن المسكين الإخلاق الكسب وقال بعضهم الفقير من المسلمين والمسكين أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك:
13159ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا عمر بن نافع, قال: سمعت عكرمة في قوله: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ والمَساكِينِ قال: لا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين, إنما المساكين مساكين أهل الكتاب.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب, قول من قال: الفقير: هو ذو الفقر أو الحاجة ومع حاجته يتعفف عن مسألة الناس والتذلل لهم في هذا الموضع, والمسكين: هو المحتاج المتذلل للناس بمسألتهم. وإنما قلنا إن ذلك كذلك وإن كان الفريقان لم يعطيا إلا بالفقر والحاجة دون الذلة والمسكنة, لإجماع الجميع من أهل العلم أن المسكين إنما يعطى من الصدقة المفروضة بالفقر, وأن معنى المسكنة عند العرب: الذلة, كما قال الله جلّ ثناؤه: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالمَسْكَنَةُ يعني بذلك الهون, والذلة لا الفقر. فإذا كان الله جلّ ثناؤه قد صنف من قسم له من الصدقة المفروضة قسما بالفقر فجعلهم صنفين, كان معلوما أن كل صنف منهم غير الاَخر. وإذ كان ذلك كذلك كان لا شكّ أن المقسوم له باسم الفقير غير المقسوم له باسم الفقر والمسكنة, والفقير المعطى ذلك باسم الفقير المطلق هو الذي لا مسكنة فيه, والمعطى باسم المسكنة والفقر هو الجامع إلى فقره المسكنة, وهي الذلّ بالطلب والمسألة.
فتأويل الكلام إذ كان ذلك معناه: إنما الصدقات للفقراء المتعفف منهم الذي لا يسأل, والمتذلل منهم الذي يسأل, وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا في ذلك خبر.
13160ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر, عن شريك بن أبي نمر, عن عطاء بن يسار, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ المِسْكِينُ بالّذِي تَرُدّهُ اللّقْمَةُ وَاللّقْمَتانِ والتّمْرَةُ والتّمْرَتانِ, إنّمَا المسْكِينُ المُتَعَفّفُ اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ لا يَسْألونُ النّاسَ إلْحافا».
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّمَا المِسْكِينُ المُتَعَفّفُ» على نحو ما قد جرى به استعمال الناس من تسميتهم أهل الفقر مساكين, لا على تفصيل المسكين من الفقير. ومما ينبىء عن أن ذلك كذلك, انتزاعه صلى الله عليه وسلم لقول الله: «اقرءوا إن شِئتم لا يَسأَلُونَ النّاسَ إلْحافا» وذلك في صفة من ابتدأ الله ذكره ووصفه بالفقر, فقال للْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التّعَفّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسأَلُونَ النّاسَ إلْحافا.
وقوله: وَالعامِلِينَ عَلَيْها وهم السعاة في قبضها من أهلها, ووضعها في مستحقيها يعطون ذلك بالسعاية, أغنياء كانوا أو فقراء.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13161ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا معقل بن عبيد الله, قال: سألت الزهري عن العاملين عليها, فقال: السعاة.
13162ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَالعامِلِينَ عَلَيْها قال: جباتها الذين يجمعونها, ويسعون فيها.
13163ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وَالعامِلِينَ عَلَيْها: الذي يعمل عليها.
ثم اختلف أهل التأويل في قدر ما يُعْطَى العامل من ذلك, فقال بعضهم: يُعْطَى منه الثمن. ذكر من قال ذلك:
13164ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن حسن بن صالح, عن جويبر, عن الضحاك, قال: للعاملين عليها الثمن من الصدقة.
13165ـ حُدثت عن مسلم بن خالد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: وَالعامِلِينَ عَلَيْها قال: يأكل العمال من السهم الثامن.
وقال آخرون: بل يعطى على قدر عمالته.
13166ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء, عن الأخضر بن عجلان, قال: حدثنا عطاء بن زهير العامريّ, عن أبيه, أنه لقي عبد الله بن عمرو بن العاص, فسأله عن الصدقة: أيّ مال هي؟ فقال: مال العرجان والعوران والعميان وكلّ منقطع به. فقال له: إن للعاملين حقّا والمجاهدين. قال: إن المجاهدين قوم أحلّ لهم وللعاملين عليها على قدر عمالتهم. ثم قال: لا تحلّ الصدقة لغنيّ, ولا لذي مِرّة سويّ.
13167ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: يكون للعامل عليها إن عمل بالحقّ. ولم يكن عمر رحمه الله تعالى ولا أولئك يعطون العامل الثمن, إنما يفرضون له بقدر عمالته.
13168ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن أشعث, عن الحسن: وَالعامِلِينَ عَلَيْها قال: كان يعطى العاملون.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: يعطى العامل عليها على قدر عمالته أجر مثله.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب, لأن الله جلّ ثناؤه لم يقسم صدقة الأموال بين الأصناف الثمانية على ثمانية أسهم وإنما عرّف خلقه أنّ الصدقات لن تجاوز هؤلاء الأصناف الثمانية إلى غيرهم. وإذ كان كذلك بما سنوضح بعد وبما قد أوضحناه في موضع آخر, كان معلوما أن من أُعطي منها حقا, فإنما يعطى على قدر اجتهاد المعطي فيه. وإذا كان ذلك كذلك, وكان العامل عليها إنما يعطى على عمله لا على الحاجة التي تزول بالعطية, كان معلوما أن الذي أعطاه من ذلك إنما هو عوض من سعيه وعمله, وأن ذلك إنما هو قدر يستحقه عوضا من عمله الذي لا يزول بالعطية وإنما يزول بالعزل.
وأما المؤلّفة قلوبهم, فإنهم قوم كانوا يُتألّفون على الإسلام ممن لم تصحّ نصرته استصلاحا به نفسه وعشيرته, كأبي سفيان بن حرب وعيينة بن بدر والأقرع بن حابس, ونظرائهم من رؤساء القبائل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13169ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمر, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: والمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ, وهم قوم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم, قد أسلموا, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضخ لهم من الصدقات, فإذا أعطاهم من الصدقات فأصابوا منها خيرا قالوا: هذا دين صالح وإن كان غير ذلك, عابوه وتركوه.
13170ـ حدثنا عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن يحيى بن أبي كثير: أن المؤلفة قلوبهم من بني أمية: أبو سفيان بن حرب, ومن بني مخزوم: الحرث بن هشام, وعبد الرحمن بن يربوع, ومن بني جمح: صفوان بن أمية, ومن بني عامر بن لؤيّ: سهيل بن عمرو, وحويطب بن عبد العُزّى, ومن بني أسد بن عبد العُزّى: حكيم بن حزام, ومن بني هاشم: سفيان بن الحرث بن عبد المطلب, ومن بني فزارة: عيينة بن حصن بن بدر, ومن بني تميم: الأقرع بن حابس, ومن بني نصر: مالك بن عوف, ومن بني سليم: العباس بن مرداس, ومن ثقيف: العلاء بن حارثة. أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم كلّ رجل منهم مئة ناقة, إلا عبد الرحمن بن يربوع وحويطب بن عبد العُزّى, فإنه أعطى كلّ رجل منهم خمسين.
13171ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهريّ, قال: قال صفوان بن أمية: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لأبغض الناس إليّ, فما برح يعطيني حتى إنه لأحبّ الناس إليّ.
13172ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: ناس كان يتألفهم بالعطية, عيينة بن بدر ومن كان معه.
13173ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث, عن حماد بن سلمة, عن يونس, عن الحسن: والمُؤَلّفَةُ قُلُوبُهُمْ: الذين يؤلفون على الإسلام.
13174ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وأما المؤلّفة قلوبهم, فأناس من الأعراب ومن غيرهم, كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطية كيما يؤمنوا.
13175ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا معقل بن عبيد الله, قال: سألت الزهريّ عن قوله: والمُؤَلّفَةُ قُلُوبُهُمْ فقال: من أسلم من يهودي أو نصراني. قلت: وإن كان غنيا؟ قال: وإن كان غنيا.
13176ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا معقل بن عبيد الله الحراني, عن الزهريّ: والمُؤَلّفَةُ قُلُوبُهُمْ قال: من هو يهودي أو نصراني.
ثم اختلف أهل العلم في وجود المؤلفة اليوم وعدمها, وهل يعطى اليوم أحد على التألف على الإسلام من الصدقة؟ فقال بعضهم: قد بطلت المؤلّفة قلوبهم اليوم, ولا سهم لأحد في الصدقة المفروضة إلا لذي حاجة إليها وفي سبيل الله أو لعامل عليها. ذكر من قال ذلك:
13177ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن أشعث, عن الحسن: والمُؤَلّفَةُ قُلُوبُهُمْ قال: أما المؤلفة قلوبهم فليس اليوم.
13178ـ حدثنا أحمد, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيل, عن جابر, عن عامر, قال: لم يبق في الناس اليوم من المؤلفة قلوبهم, إنما كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا مبارك, عن الحسن, قال: ليس اليوم مؤلفة.
13179ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن عامر, قال: إنما كانت المؤلفة قلوبهم على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم, فلما وُلي أبو بكر رحمة الله تعالى عليه انقطعت الرشا.
وقال آخرون: المؤلفة قلوبهم في كلّ زمان, وحقهم في الصدقات. ذكر من قال ذلك:
13180ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيل, عن جابر, عن أبي جعفر, قال: في الناس اليوم المؤلفة قلوبهم.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن أبي جعفر, مثله.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي: أن الله جعل الصدقة في معنيين: أحدهما سدّ خلة المسلمين, والاَخر معونة الإسلام وتقويته فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه فإنه يعطاه الغنيّ والفقير, لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه وإنما يعطاه معونة للدين, وذلك كما يعطي الذي يعطاه بالجهاد في سبيل الله, فإنه يعطي ذلك غنيا كان أو فقيرا للغزو لا لسدّ خلته. وكذلك المؤلفة قلوبهم يعطون ذلك وإن كانوا أغنياء, استصلاحا بإعطائهموه أمر الإسلام وطلب تقويته وتأييده. وقد أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم من أعطى من المؤلفة قلوبهم, بعد أن فتح الله عليه الفتوح وفشا الإسلام وعزّ أهله, فلا حجة لمحتجّ بأن يقول: لا يتألف اليوم على الإسلام أحد لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم وقد أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم من أعطى منهم في الحال التي وصفت.
وأما قوله: وفِي الرّقابِ فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه, فقال بعضهم, وهم الجمهور الأعظم: هم المكاتبون, يعطون منها في فكّ رقابهم. ذكر من قال ذلك:
13181ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن الحسن بن دينار, عن الحسين: أن مكاتبا قام إلى أبي موسى الأشعري رحمه الله تعالى وهو يخطب الناس يوم الجمعة, فقال له: أيها الأمير حثّ الناس عليّ فحثّ عليه أبو موسى, فألقي الناس عليه عمامة وملاءة وخاتما, حتى ألقوا سوادا كثيرا. فلما رأى أبو موسى ما ألقى عليه, قال: اجمعوه فجمع ثم أمر به فبيع, فأعطى المكاتب مكاتبته, ثم أعطى الفضل في الرقاب ولم يردّه على الناس, وقال: إنما أعطيَ الناسُ في الرقاب.
13182ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا معقل بن عبيد الله, قال: سألت الزهري عن قوله: وفِي الرّقابِ قال: المكاتبون.
13183ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: وفِي الرّقابِ قال: المكاتَبُ.
13184ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا سهل بن يوسف, عن عمرو, عن الحسن: وَفِي الرّقابِ قال: هم المكاتبون.
ورُوي عن ابن عباس أنه قال: لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي قول من قال: عنى بالرقاب في هذا الموضع المكاتبون, لإجماع الحجة على ذلك فإن الله جعل الزكاة حقا واجبا على من أوجبها عليه في ماله يخرجها منه, لا يرجع إليه منها نفع من عرض الدنيا ولا عوض, والمعتق رقبة منها راجع إليه ولاء من أعتقه, وذلك نفع يعود إليه منها.
وأما الغارمون: فالذين استدانوا في غير معصية الله, ثم لم يجدوا قضاء في عين ولا عرض.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13185ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفيان, عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد, قال: الغارمون: من احترق بيته, أو يصيبه السيل فيذهب متاعه, ويدّان على عياله فهذا من الغارمين.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوريّ, عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد, في قوله: وَالغارِمينَقال: من احترق بيته, وذهب السيل بماله, وادّان على عياله.
13186ـ حدثنا أحمد, قال: حدثنا إسرائيل, عن جابر, عن أبي جعفر, قال: الغارمين: المستدين في غير سرف, ينبغي للإمام أن يقضي عنهم من بيت المال.
13187ـ قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا معقل بن عبيد الله, قال: سألنا الزهري, عن الغارمين, قال: أصحاب الدين.
13188ـ قال: حدثنا معقل, عن عبد الكريم, قال: ثني خادم لعمر بن عبد العزيز خدمه عشرين سنة, قال: كتب عمر بن عبد العزيز أن يعطى الغارمون. قال أحمد: أكثر ظني من الصدقات.
قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفيان, عن جابر, عن أبي جعفر, قال: الغارمون: المستدين في غير سرف.
13189ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: أما الغارمون: فقوم غرّقتهم الديون, في غير إملاق ولا تبذير ولا فساد.
13190ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: الغارم: الذي يدخل عليه الغرم.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن يمان, عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد: والغارِمِينَ قال: هو الذي يذهب السيل والحريق بماله, ويدّان على عياله.
قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن جابر, عن أبي جعفر, قال: المستدين في غير فساد.
قال: ثني أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن أبي جعفر, قال: الغارمون: الذين يستدينون في غير فساد, ينبغي للإمام أن يقضي عنهم.
13191ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد: هم قوم ركبتهم الديون في غير فساد ولا تبذير, فجعل الله لهم في هذه الآية سهما.
وأما قوله: وفِي سَبِيلِ اللّهِ فإنه يعني: وفي النفقة في نصرة دين الله وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده بقتال أعدائه, وذلك هو غزو الكفار.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13192ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وفِي سَبِيلِ اللّهِ قال: الغازي في سبيل الله.
13193ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن زيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار, قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تَحِلّ الصّدَقَةُ لِغَنِيّ إلاّ لِخَمْسَةٍ: رَجُلٍ عَمِلَ عَلَيْها, أوْ رَجُلٍ اشْتَرَاها بِمالهِ, أو فِي سَبِيلِ اللّهِ, أوِ ابْنِ السّبِيلِ, أوْ رَجُلٍ كانَ لَهُ جارٌ تُصُدّقَ عَلَيْهِ فَأهْدَاها لَهُ».
13194ـ قال: حدثنا أبي, عن ابن أبي ليلى, عن عطية, عن أبي سعيد الخدريّ, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَحِلّ الصّدَقَةُ لِغَنِيّ إلاّ لِثَلاثَةٍ: فِي سَبِيلِ اللّهِ, أوِ ابْنِ السّبِيلِ, أوْ رَجُلٍ كانَ لَهُ جارٌ فَتُصُدّقَ عَلَيْهِ فَأهْدَاها لَهُ».
وأما قوله: وَابْنِ السّبِيلِ فالمسافر الذي يجتاز من بلد إلى بلد, والسبيل: الطريق, وقيل للضارب فيه ابن السبيل للزومه إياه, كما قال الشاعر:
أنا ابْنُ الحَرْبِ رَبّتْني وَليداإلى أنْ شِبْتُ وَاكْتَهَلَتْ لِداتِي
وكذلك تفعل العرب, تسمي اللازم للشيء يعرف بابنه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13195ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفيان, عن جابر, عن أبي جعفر, قال: ابن السبيل: المجتاز من أرض إلى أرض.
13196ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا مندل, عن ليث, عن مجاهد: وَابْنِ السّبيلِ قال: لابن السبيل حقّ من الزكاة وإن كان غنيا إذا كان منقطعا به.
13197ـ حدثنا أحمد, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا معقل بن عبيد الله, قال: سألت الزهري, عن ابن السبيل قال: يأتي عليّ ابن السبيل, وهو محتاج, قلت: فإن كان غنيا؟ قال: وإن كان غنيا.
13198ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَابْنِ السّبِيلِ الضيف جعل له فيها حقّ.
13199ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن السبيل: المسافر من كان غنيا أو فقيرا إذا أصيبت نفقته, أو فقدت, أو أصابها شيء, أو لم يكن معه شيء, فحقّه واجب.
13200ـ حدثنا أحمد, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك, أنه قال في الغنيّ إذا سافر فاحتاج في سفره, قال: يأخذ من الزكاة.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن جابر, عن أبي جعفر, قال: ابن السبيل: المجتاز من الأرض إلى الأرض.
وقوله: فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ يقول جلّ ثناؤه: قسم قسمه الله لهم, فأوجبه في أموال أهل الأموال لهم, والله عليم بمصالح خلقه فيما فرض لهم وفي غير ذلك لا يخفى عليه شيء. فعلى علم منه فرض ما فرض من الصدقة وبما فيها من المصلحة, حكيم في تدبيره خلقه, لا يدخل في تدبيره خلل.
واختلف أهل العلم في كيفية قسم الصدقات التي ذكرها الله في هذه الآية, وهل يجب لكل صنف من الأصناف الثمانية فيها حقّ أو ذلك إلى ربّ المال, ومن يتولى قسمها في أن له أن يعطي جميع ذلك من شاء من الأصناف الثمانية؟ فقال عامة أهل العلم: للمتولي قسمها ووضعها في أيّ الأصناف الثمانية شاء, وإنما سمى الله الأصناف الثمانية في الآية إعلاما منه خلقه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف الثمانية إلى غيرها, لا إيجابا لقسمها بين الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله تعالى. ذكر من قال ذلك:
13201ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا هارون, عن الحجاج بن أرطاة, عن المنهال بن عمرو, عن زرّ بن حبيش, عن حذيفة, في قوله: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ والعامِلِينَ عَلَيْها قال: إن شئت جعلته في صنف واحد, أو صنفين, أو لثلاثة.
13202ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو معاوية, عن الحجاج, عن المنهال, عن زرّ, عن حذيفة, قال: إذا وضعتها في صنف واحد أجزأ عنك.
13203ـ قال: حدثنا جرير, عن ليث, عن عطاء, عن عمر: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ قال: أيما صنف أعطيته من هذا أجزأك.
13204ـ قال: حدثنا ابن نمير, عن عبد المطلب, عن عطاء: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ... الآية, قال: لو وضعتها في صنف واحد من هذه الأصناف أجزأك, ولو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فجبرتهم بها كان أحبّ إليّ.
13205ـ قال: أخبرنا جرير, عن عطاء, عن سعيد بن جبير: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ... وَابْنِ السّبِيلِ فأيّ صنف أعطيته من هذه الأصناف أجزأك.
13206ـ قال: حدثنا عمران بن عيينة, عن عطاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, مثله.
13207ـ قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ والعامِلِينَ عَلَيْها قال: إنما هذا شيء أعلمه, فأيّ صنف من هذه الأصناف أعطيته أجزأ عنك.
قال: حدثنا أبي عن شعبة, عن الحكم, عن إبراهيم: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ قال: في أيّ هذه الأصناف وضعتها أجزأك.
قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, قال: إذا وضعتها في صنف واحد مما سمى الله أجزأك.
13208ـ قال: حدثنا أبي, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية, قال: إذا وضعتها في صنف واحد مما سمى الله أجزأك.
13209ـ قال: حدثنا خالد بن حيان أبو يزيد, عن جعفر بن برقان, عن ميمون بن مهران: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ قال: إذا جعلتها في صنف واحد من هؤلاء أجزأ عنك.
13210ـ قال: حدثنا محمد بن بشر, عن مسعود, عن عطاء, عن سعيد بن جبير: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ.... الآية, قال: أعلم أهلها من هم.
13211ـ قال: حدثنا حفص, عن ليث, عن عطاء, عن عمر: أنه كان يأخذ الفرض في الصدقة, ويجعلها في صنف واحد.
وكان بعض المتأخرين يقول: إذا تولى ربّ المال قسمها كان عليه وضعها في ستة أصناف وذلك أن المؤلفة قلوبهم عنده قد ذهبوا, وأن سهم العاملين يبطل بقسمه إياها, ويزعم أنه لا يجزيه أن يعطى من كلّ صنف أقلّ من ثلاثة أنفس. وكان يقول: إن تولى قسمها الإمام كان عليه أن يقسمها على سبعة أصناف, لا يجزي عنده غير ذلك.
الآية : 61
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤْذُونَ النّبِيّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لّلّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المنافقين جماعة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيبونه, ويقولون: هو أذن سامعة, يسمع من كلّ أحد ما يقول فيقبله ويصدّقه. وهو من قولهم: رجل أذنة مثل فعلة: إذا كان يسرع الاستماع والقبول, كما يقال: هو يَقَنٌ ويَقِنٌ: إذا كان ذا يقين بكلّ ما حدّث. وأصله من أذِنَ له يأْذَنُ: إذا استمع له, ومنه الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما أذِنَ اللّهُ لِشَيْءٍ كأَذَنِهِ لِنَبيّ يَتَغَنّى بالقُرآنِ» ومنه قول عديّ بن زيد:
أيّها القَلْبُ تَعَلّلْ بِدَدَنْإنّ هَمّي فِي سَماعٍ وأَذَنْ
وذكر أن هذه الآية نزلت في نبتل بن الحرث.
13212ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: ذكر الله عيبهم, يعني المنافقين, وأذاهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤذُونَ النّبِيّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ... الآية, وكان الذي يقول تلك المقالة فيما بلغني نبتل بن الحرث أخو بني عمرو بن عوف, وفيه نزلت هذه الآية, وذلك أنه قال: إنما محمد أذُن, من حدّثه شيئا صدّقه يقول الله: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ: أي يستمع الخير ويصدّق به.
واختلف القرّاء في قراءة قوله: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ بإضافة الأذن إلى الخير, يعني: قل لهم يا محمد: هو أذن خير لا أذن شرّ. وذُكر عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك: «قُلْ أُذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ» بتنوين «أذن», ويصير «خير» خبرا له, بمعنى: قل من يسمع منكم أيها المنافقون ما تقولون ويصدّقكم إن كان محمد كما وصفتموه من أنكر إذا آذيتموه فأنكرتم ما ذكر له عنكم من أذاكم إياه وعيبكم له سمع منكم وصدّقكم, خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل منكم ما تقولون. ثم كذّبهم فقال: بل لا يقبل إلا من المؤمنين, يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلمُؤْمِنِينَ.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندي في ذلك, قراءة من قرأ: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ بإضافة «الأذن» إلى «الخير», وخفض «الخير», يعني: قل هو أذن خير لكم, لا أذن شرّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13213ـ حدثني المثنى, قال: ثني عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤذُونَ النّبِيّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ يسمع من كل أحد.
13214ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤذُونَ النّبِيّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قال: كانوا يقولون: إنما محمد أذن لا يحدّث عنا شيئا إلا هو أذن يسمع ما يقال له.
13215ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن نجيح, عن مجاهد: وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ نقول ما شئنا, ونحلف فيصدّقنا.
حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: هُوَ أُذُنٌ قال: يقولون: نقول ما شئنا, ثم نحلف له فيصدّقنا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, نحوه.
وأما قوله: يُؤْمِنُ باللّهِ فإنه يقول: يصدّق بالله وحده لا شريك له. وقوله: وَيُؤْمِنُ لِلمُؤْمِنِينَ يقول: ويصدّق المؤمنين لا الكافرين ولا المنافقين. وهذا تكذيب من الله للمنافقين الذين قالوا: محمد أذن, يقول جلّ ثناؤه: إنما محمد صلى الله عليه وسلم مستمع خير, يصدّق بالله وبما جاءه من عنده, ويصدّق المؤمنين لا أهل النفاق والكفر بالله. وقيل: ويُؤْمِنُ للمُؤْمِنِينَ معناه: ويؤمن المؤمنين, لأن العرب تقول فيما ذكر لنا عنها: آمنت له وآمنته, بمعنى: صدّقته, كما قيل: رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ومعناه: ردفكم, وكما قال: للّذِينَ هُمْ لِربّهِمْ يَرْهَبُونَ ومعناه: للذين هم ربهم يرهبون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13216ـ حدثني المثنى, قال: ثني عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس: يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلمُؤْمِنِينَ يعني: يؤمن بالله ويصدّق المؤمنين.
وأما قوله: وَرَحْمَةٌ للّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ فإنّ القرّاء اختلفت في قراءته, فقرأ ذلك عامة الأمصار: وَرَحْمَةٌ للّذِينَ آمَنُوا بمعنى: قل هو أذن خير لكم, وهو رحمة للذين آمنوا منكم. فرفع «الرحمة» عطفا بها على «الأذن». وقرأه بعض الكوفيين: «وَرَحْمَةٍ» عطفا بها على «الخير», بتأويل: قل أذن خير لكم, وأذن رحمة.
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ وَرَحْمَةٌ بالرفع عطفا بها على «الأذن», بمعنى: وهو رحمة للذين آمنوا منكم, وجعله الله رحمة لمن اتبعه واهتدى بهداه وصدّق بما جاء به من عند ربه, لأن الله استنقذهم به من الضلالة وأورثهم باتباعه جناته.
القول في تأويل قوله تعالى: والّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ ألِيم.
يقول تعالى ذكره: لهؤلاء المنافقين الذين يعيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويقولون: هو أذن وأمثالهم من مكذّبيه, والقائلين فيه الهجر والباطل, عذاب من الله موجع لهم في نار جهنم