تفسير الآية - القول في معنى قوله تعالى : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو ..

  1. تفسير السعدي
  2. تفسير البغوي
  3. التفسير الوسيط
  4. تفسير ابن كثير
  5. تفسير الطبري
الفسير الوسيط | التفسير الوسيط للقرآن الكريم للطنطاوي | تأليف شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي (المتوفى: 1431هـ) : ويعتبر هذا التفسير من التفاسير الحديثة و القيمة لطلاب العلم و الباحثين في تفسير القرآن العظيم بأسلوب منهجي سهل و عبارة مفهومة, تفسير الآية 159 من سورة آل عمران - التفسير الوسيط .
  
   

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾
[ سورة آل عمران: 159]

معنى و تفسير الآية 159 من سورة آل عمران : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو .


تفسير الجلالين التفسير الميسر تفسير السعدي
تفسير البغوي التفسير الوسيط تفسير ابن كثير
تفسير الطبري تفسير القرطبي إعراب الآية

تفسير السعدي : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو


أي: برحمة الله لك ولأصحابك، منَّ الله عليك أن ألنت لهم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترققت عليهم، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك وأحبوك، وامتثلوا أمرك.
{ ولو كنت فظا }- أي: سيئ الخلق { غليظ القلب }- أي: قاسيه، { لانفضوا من حولك } لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ.
فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين، تجذب الناس إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين، وتبغضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول، فكيف بغيره؟! أليس من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما يعاملهم به صلى الله عليه وسلم، من اللين وحسن الخلق والتأليف، امتثالا لأمر الله، وجذبا لعباد الله لدين الله.
ثم أمره الله تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه صلى الله عليه وسلم، ويستغفر لهم في التقصير في حق الله، فيجمع بين العفو والإحسان.
{ وشاورهم في الأمر }- أي: الأمور التي تحتاج إلى استشارة ونظر وفكر، فإن في الاستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره: منها: أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى الله.
ومنها: أن فيها تسميحا لخواطرهم، وإزالة لما يصير في القلوب عند الحوادث، فإن من له الأمر على الناس -إذا جمع أهل الرأي: والفضل وشاورهم في حادثة من الحوادث- اطمأنت نفوسهم وأحبوه، وعلموا أنه ليس بمستبد عليهم، وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته، لعلمهم بسعيه في مصالح العموم، بخلاف من ليس كذلك، فإنهم لا يكادون يحبونه محبة صادقة، ولا يطيعونه وإن أطاعوه فطاعة غير تامة.
ومنها: أن في الاستشارة تنور الأفكار، بسبب إعمالها فيما وضعت له، فصار في ذلك زيادة للعقول.
ومنها: ما تنتجه الاستشارة من الرأي: المصيب، فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب، فليس بملوم، فإذا كان الله يقول لرسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو أكمل الناس عقلا، وأغزرهم علما، وأفضلهم رأيا-: { وشاورهم في الأمر } فكيف بغيره؟! ثم قال تعالى: { فإذا عزمت }- أي: على أمر من الأمور بعد الاستشارة فيه، إن كان يحتاج إلى استشارة { فتوكل على الله }- أي: اعتمد على حول الله وقوته، متبرئا من حولك وقوتك، { إن الله يحب المتوكلين } عليه، اللاجئين إليه.

تفسير البغوي : مضمون الآية 159 من سورة آل عمران


قوله تعالى : ( فبما رحمة من الله ) أي : فبرحمة من الله و " ما " ) صلة كقوله ( فبما نقضهم ) ( لنت لهم ) أي : سهلت لهم أخلاقك وكثرة احتمالك ولم تسرع إليهم فيما كان منهم يوم أحد ، ( ولو كنت فظا ) يعني : جافيا سيئ الخلق قليل الاحتمال ، ( غليظ القلب ) قال الكلبي : فظا في القول غليظ القلب في الفعل ، ( لانفضوا من حولك ) أي : لنفروا وتفرقوا عنك ، يقال : فضضتهم فانفضوا أي فرقتهم فتفرقوا ( فاعف عنهم ) تجاوز عنهم ما أتوا يوم أحد ، ( واستغفر لهم ) حتى أشفعك فيهم ، ( وشاورهم في الأمر ) أي : استخرج آراءهم واعلم ما عندهم من قول العرب : شرت الدابة وشورتها إذا استخرجت جريها ، وشرت العسل وأشرته إذا أخذته من موضعه واستخرجته .
واختلفوا في المعنى الذي لأجله أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة مع كمال عقله وجزالة رأيه ونزول الوحي عليه ووجوب طاعته على الخلق فيما أحبوا وكرهوا .
فقال بعضهم : هو خاص في المعنى أي : وشاورهم فيما ليس عندك فيه من الله تعالى عهد ، قال الكلبي : يعني ناظرهم في لقاء العدو ومكايد الحرب عند الغزو .
وقال مقاتل وقتادة : أمر الله تعالى بمشاورتهم تطييبا لقلوبهم ، فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم ، فإن سادات العرب كانوا إذا لم يشاوروا في الأمر شق ذلك عليهم .
وقال الحسن : قد علم الله عز وجل أنه ما به إلى مشاورتهم حاجة ولكنه أراد أن يستن به من بعده .
أخبرنا أبو طاهر المطهر بن علي بن عبد الله الفارسي : أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم بن علي الصالحاني ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان ، أخبرنا علي بن العباس المقانعي أخبرنا أحمد بن ماهان ، أخبرني أبي ، أخبرنا طلحة بن زيد ، عن عقيل عن الزهري عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
قوله تعالى : ( فإذا عزمت فتوكل على الله ) لا على مشاورتهم أي : قم بأمر الله وثق به واستعنه ، ( إن الله يحب المتوكلين ) .

التفسير الوسيط : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو


فالخطاب في قوله-تبارك وتعالى- فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.. ألخ للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
والفاء لترتيب مضمون الكلام على ما ينبئ عنه السياق من استحقاق الفارين والمخالفين للملامة والتعنيف منه.
صلّى الله عليه وسلّم بمقتضى الجبلة البشرية.
والباء هنا للسببية، و «ما» مزيدة للتأكيد ولتقوية معنى الرحمة «لنت» من لان يلين لينا وليانا بمعنى الرفق وسعة الخلق و «الفظ» الغليظ الجافي في المعاشرة قولا وفعلا.
وأصل الفظ- كما يقول الراغب- ماء الكرش وهو مكروه شربه بمقتضى الطبع ولا يشرب إلا في أشد حالات الضرورة.
وغلظ القلب عبارة عن قسوته وقلة تأثره من الغلظة ضد الرقة، وتنشأ عن هذه الغلظة الفظاظة والجفاء.
والمعنى: فبسبب رحمة عظيمة فياضة منحك الله إياها يا محمد كنت لينا مع أتباعك في كل أحوالك، ولكن بدون إفراط أو تفريط، فقد وقفت من أخطائهم التي وقعوا فيها في غزوة أحد موقف القائد الحكيم الملهم فلم تعنفهم على ما وقع منهم وأنت تراهم قد استغرقهم الحزن والهم.. بل كنت لينا رفيقا معهم.
وهكذا القائد الحكيم لا يكثر من لوم جنده على أخطائهم الماضية، لأن كثرة اللوم والتعنيف قد تولد اليأس، وإنما يلتفت إلى الماضي ليأخذ منه العبرة والعظة لحاضره ومستقبله ويغرس في نفوس الذين معه ما يحفز همتهم ويشحذ عزيمتهم ويجعلهم ينظرون إلى حاضرهم ومستقبلهم بثقة وإطمئنان وبصيرة مستنيرة.
وإن الشدة في غير موضعها تفرق ولا تجمع وتضعف ولا تقوى، ولذا قال-تبارك وتعالى- وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.
أى ولو كنت- يا محمد- كريه الخلق، خشن الجانب، جافيا في أقوالك وأفعالك، قاسى القلب لا تتأثر لما يصيب أصحابك.. ولو كنت كذلك لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ أى لتفرقوا عنك ونفروا منك ولم يسكنوا إليك.
فالجملة الكريمة تنفى عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يكون فظا أو غليظا، لأن «لو» تدل على نفى الجواب لنفى الشرط.
أى أنك لست- يا محمد- فظا ولا غليظ القلب ولذلك التف أصحابك من حولك يفتدونك بأرواحهم وبكل مرتخص وغال، ويحبونك حبا يفوق حبهم لأنفسهم ولأولادهم ولآبائهم ولأحب الأشياء إليهم.
وقال- سبحانه - وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لينفى عنه صلّى الله عليه وسلّم القسوة والغلظة في الظاهر والباطن: إذ القسوة الظاهرية تبدو أكثر ما تبدو في الفظاظة التي هي خشونة الجانب، وجفاء الطبع، والقسوة الباطنية تكون بسبب يبوسة القلب، وغلظ النفس وعدم تأثرها بما يصيب غيرها.
والرسول صلّى الله عليه وسلّم كان مبرأ من كل ذلك، ويكفى أن الله-تبارك وتعالى- قد قال في وصفه:لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ .
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: إنى أرى صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الكتب المتقدمة.
إنه ليس بفظ، ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح،.
ولقد كان من أخلاقه صلّى الله عليه وسلّم مداراة الناس إلا أن يكون في المداراة حق مضيع فعن عائشة رضى الله عنها، قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله أمرنى بمداراة الناس كما أمرنى بإقامة الفرائض».
ثم أمر الله تعالى، نبيه صلّى الله عليه وسلّم، بما يترتب على الرفق والبشاشة فقال: فَاعْفُ عَنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ.
فالفاء هنا تفيد ترتيب ما بعدها على ما قبلها، أى أنه يترتب على لين جانبك مع أصحابك، ورحمتك بهم، أن تعفو عنهم فيما وقعوا فيه من أخطاء تتعلق بشخصك أو ما وقعوا فيه من مخالفات أدت إلى هزيمتهم في أحد، فقد كانت زلة منهم وقد أدبهم الله عليها.
وأن تلتمس من الله تعالى، أن يغفر لهم ما فرط منهم، إذ في إظهارك ذلك لهم تأكيد لعفوك عنهم.
وتشجيع لهم على الطاعة والاستجابة لأمرك.
وأن تشاورهم في الأمر أى في أمر الحرب ونحوه مما تجرى فيه المشاورة في العادة من الأمور التي تهم الأمة.
وقد جاءت هذه الأوامر للنبي صلّى الله عليه وسلّم، على أحسن نسق، وأحكم ترتيب، لأن الله تعالى أمره أولا بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه، فإذا ما انتهوا إلى هذا المقام، أمره بأن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى، لتنزاح عنهم التبعات، فإذا صاروا إلى هذه الدرجة، أمره بأن يشاورهم في الأمر لأنهم قد أصبحوا أهلا لهذه المشاورة.
ولقد تكلم العلماء كلاما طويلا عن حكم المشورة وعن معناها، وعن فوائدها، فقد قال القرطبي ما ملخصه: والاستشارة مأخوذة من قول العرب: شرت الدابة وشوّرتها، إذا علمت خبرها وحالها يجرى أو غيره.. وقد يكون من قولهم: شرت العسل واشترته، إذا أخذته من موضعه.
ثم قال: واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يشاور فيه أصحابه فقالت طائفة: ذلك في مكائد الحروب، وعند لقاء العدو، تطييبا لنفوسهم ورفعا لأقدارهم وإن كان الله-تبارك وتعالى- قد أغناه عن رأيهم بوحيه.
وقال آخرون: ذلك فيما لم يأته فيه وحى.
فقد قال الحسن: ما أمر الله-تبارك وتعالى- نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل وليقتدى به أمته من بعده.
ثم قال: والشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، والذي لا يستشير أهل العلم والدين- والخبرة- فعزله واجب وهذا لا خلاف فيه.
وقد استشار النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه في كثير من الأمور، وقال «المستشار مؤتمن» وقال «ما ندم من استشار ولا خاب من استخار» وقال: «ما شقي قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأى» .
وقال البخاري: «وكانت الأمة بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها» .
وقال الفخر الرازي ما ملخصه: «اتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحى من عند الله لم يجز للرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يشاور فيه الأمة، لأنه إذا جاء النص بطل الرأى والقياس، فأما مالا نص فيه فهل تجوز المشاورة فيه في جميع الأشياء أولا؟قال بعضهم: هذا الأمر مخصوص بالمشاورة في الحروب، لأن الألف واللام في لفظ «الأمر» تعود على المعهود السابق وهو ما يتعلق بالحروب- إذ الكلام في غزوة أحد-.
وقال آخرون: اللفظ عام خص منه ما نزل فيه وحي فتبقى حجته في الباقي وظاهر الأمر في قوله وَشاوِرْهُمْ للوجوب وحمله الشافعى على الندب.. .
والحق أن الشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام، وقد استشار النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه في غزوات بدر وأحد والأحزاب وفي غير ذلك من الأمور التي تتعلق بمصالح المسلمين، وسار على هذا المنهج السلف الصالح من هذه الأمة.
ولقد كان عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- يكتب لعماله يأمرهم بالتشاور ويتمثل لهم في كتبه بقول الشاعر:خليلي ليس الرأى في صدر واحد ...
أشيرا على بالذي تريانوقد تمدح الحكماء والشعراء بفضيلة الشورى وما يترتب عليها من خير ومنفعة ومن ذلك قول بشار بن برد:إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن ...
برأى نصيح أو نصيحة حازمولا تحسب الشورى عليك غضاضة ...
فإن الخوافي قوة للقوادموالحكام العقلاء المنصفون المتحرون للحق والعدل هم الذين يقيمون حكمهم على مبدأ الشورى ولا يعادى الشورى من الحكام إلا أحد اثنين:إما رجل قد أصيب بداء الغرور والتعالي، فهو يتوهم أن قوله هو الحق الذي لا يخالطه باطل، وأنه ليس محتاجا إلى مشورة غيره وإما رجل ظالم مستبد مجانب للحق، فهو ينفذ ما يريده بدون مشورة أحد لأنه يخشى إذا استشار غيره أن يطلع الناس على ظلمه وجوره وفجوره.
هذا ومتى تمت المشورة على أحسن الوجوه وأصلحها واستقرت الأمور على وجه معين، فعلى العاقل أن يمضى على ما استقر عليه الرأى بدون تردد أو تخاذل، ولذا قال- سبحانه - فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
أى فإذا عقدت نيتك على إتمام الأمر وإمضائه بعد المشاورة السليمة وبعد أن تبين لك وجه السداد فيما يجب أن تسلكه فبادر بتنفيذ ما عقدت العزم على تنفيذه، وفَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أى اعتمد عليه في الوصول إلى غايتك، فإن الله-تبارك وتعالى- يحب المعتمدين عليه، المفوضين أمورهم إليه مع مباشرة الأسباب التي شرعها لهم لكي يصلوا إلى مطلوبهم.
فالجملة الكريمة تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وتأمر كل من يتأتى له الخطاب بأن يبذل أقصى جهده لمعرفة ما هو صواب بأن يستشير أهل الخبرة كل في مجال تخصصه فإذا ما استقر رأيه على وجهة نظر معينة- بعد أن درسها دراسة فاحصة واستشار العقلاء الأمناء فيها- فعليه أن يبادر إلى تنفيذها بدون تردد فإن التردد يضيع الأوقات والتأخر كثيرا ما يحول الحسنات إلى سيئات وعليه مع حسن الاستعداد أن يكون معتمدا على الله، مظهرا العجز أمام قدرته- سبحانه - لأنه هو الخالق للأسباب والمسببات وهو القادر على تغييرها.
وكم من أناس اعتمدوا على قوتهم وحدها، أو على مباشرتهم للأسباب وحدها دون أن يجعلوا للاعتماد على الله مكانا في نفوسهم، فكانت نتيجتهم الفشل والخذلان وكانت الهزيمة المنكرة المرة التي اكتسبوها بسبب غرورهم وفجورهم وفسوقهم عن أمر الله.
ورحم الله القائلإذا لم يكن عون من الله للفتى ...
فأول ما يجنى عليه اجتهاده

تفسير ابن كثير : شرح الآية 159 من سورة آل عمران


يقول تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم ، ممتنا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته ، المتبعين لأمره ، التاركين لزجره ، وأطاب لهم لفظه : { فبما رحمة من الله لنت لهم } أي: أي شيء جعلك لهم لينا لولا رحمة الله بك وبهم .
قال قتادة : { فبما رحمة من الله لنت لهم } يقول : فبرحمة من الله لنت لهم . و " ما " صلة ، والعرب تصلها بالمعرفة كقوله : { فبما نقضهم ميثاقهم } [ النساء : 155 ، المائدة : 13 ] وبالنكرة كقوله : { عما قليل } [ المؤمنون : 40 ] وهكذا هاهنا قال : { فبما رحمة من الله لنت لهم } أي: برحمة من الله .
وقال الحسن البصري : هذا خلق محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به .
وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم } [ التوبة : 128 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حيوة ، حدثنا بقية ، حدثنا محمد بن زياد ، حدثني أبو راشد الحبراني قال : أخد بيدي أبو أمامة الباهلي وقال : أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا أبا أمامة ، إن من المؤمنين من يلين لي قلبه " . انفرد به أحمد .
ثم قال تعالى : { ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } الفظ : الغليظ ، [ و ] المراد به هاهنا غليظ الكلام ، لقوله بعد ذلك : { غليظ القلب } أي: لو كنت سيئ الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك ، ولكن الله جمعهم عليك ، وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم ، كما قال عبد الله بن عمرو : إنه رأى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة : أنه ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا سخاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح .
وروى أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي ، أنبأنا بشر بن عبيد الدارمي ، حدثنا عمار بن عبد الرحمن ، عن المسعودي ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض " حديث غريب .
ولهذا قال تعالى : { فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر } ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث ، تطييبا لقلوبهم ، ليكونوا فيما يفعلونه أنشط لهم [ كما ] شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير فقالوا : يا رسول الله ، لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك ، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن نقول : اذهب ، فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن [ شمالك ] مقاتلون .
وشاورهم - أيضا - أين يكون المنزل ؟ حتى أشار المنذر بن عمرو المعنق ليموت ، بالتقدم إلى أمام القوم ، وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو ، فأشار جمهورهم بالخروج إليهم ، فخرج إليهم .
وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ ، فأبى عليه ذلك السعدان : سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، فترك ذلك .
وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين ، فقال له الصديق : إنا لم نجئ لقتال أحد ، وإنما جئنا معتمرين ، فأجابه إلى ما قال .
وقال عليه السلام في قصة الإفك : " أشيروا علي معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم ، وايم الله ما علمت على أهلي من سوء ، وأبنوهم بمن - والله - ما علمت عليه إلا خيرا " . واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة ، رضي الله عنها .
فكان [ صلى الله عليه وسلم ] يشاورهم في الحروب ونحوها . وقد اختلف الفقهاء : هل كان ذلك واجبا عليه أو من باب الندب تطييبا لقلوبهم ؟ على قولين .
وقد قال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو جعفر محمد بن محمد البغدادي ، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف بمصر ، حدثنا سعيد بن [ أبي ] مريم ، أنبأنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس في قوله : { وشاورهم في الأمر } قال : أبو بكر وعمر ، رضي الله عنهما . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
وهكذا رواه الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : نزلت في أبي بكر وعمر ، وكانا حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وأبوي المسلمين .
وقد روى الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا عبد الحميد ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر : " لو اجتمعنا في مشورة ما خالفتكما " .
وروى ابن مردويه ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزم ؟ قال " مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم " .
وقد قال ابن ماجه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يحيى بن أبي بكير عن شيبان عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المستشار مؤتمن " .
ورواه أبو داود والترمذي ، وحسنه [ و ] النسائي ، من حديث عبد الملك بن عمير بأبسط منه .
ثم قال ابن ماجه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أسود بن عامر ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي عمرو الشيباني ، عن أبي مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المستشار مؤتمن " . تفرد به .
[ وقال أيضا ] وحدثنا أبو بكر ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعلي بن هاشم ، عن ابن أبي ليلى ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه . تفرد به أيضا .
وقوله : { فإذا عزمت فتوكل على الله } أي: إذا شاورتهم في الأمر وعزمت عليه فتوكل على الله فيه { إن الله يحب المتوكلين }

تفسير الطبري : معنى الآية 159 من سورة آل عمران


القول في تأويل قوله : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَقال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " فبما رحمة من الله "، فبرحمة من الله، و " ما " صلة.
( 3 ) وقد بينت وجه دخولها في الكلام في قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [ سورة البقرة: 26 ].
( 4 ) والعرب تجعل " ما " صلة في المعرفة والنكرة، كما قال: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ [ سورة النساء: 155 سورة المائدة: 13 ]، والمعنى: فبنقضهم ميثاقهم.
وهذا في المعرفة.
وقال في النكرة: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ [ سورة المؤمنون: 40 ]، والمعنى: عن قليل.
وربما جعلت اسما وهي في مذهب صلة، فيرفع ما بعدها أحيانًا على وجه الصلة، ويخفض على إتباع الصلة ما قبلها، كما قال الشاعر: ( 5 )فَكَفَى بِنَا فَضْلا عَلَى مَنْ غَيْرِنَاحُبُّ النَّبيِّ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا ( 6 )إذا جعلت غير صلة رفعتَ بإضمار " هو "، وإن خفضت أتبعت " من "، ( 7 ) فأعربته.
فذلك حكمه على ما وصفنا مع النكرات.
فأما إذا كانت الصلة معرفة، كان الفصيح من الكلام الإتباع، كما قيل: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ ، والرفع جائز في العربية.
( 8 )* * *وبنحو ما قلنا في قوله: " فبما رحمة من الله لنت لهم "، قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:8119- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: " فبما رحمة من الله لنت لهم "، يقول: فبرحمة من الله لنت لهم.
* * *وأما قوله: " ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك "، فإنه يعني ب" الفظ " الجافي، وب" الغليظ القلب "، القاسي القلب، غير ذي رحمة ولا رأفة.
وكذلك كانت صفته صلى الله عليه وسلم، كما وصفه الله به: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [ سورة التوبة: 128 ].
* * *فتأويل الكلام: فبرحمة الله، يا محمد، ورأفته بك وبمن آمن بك من أصحابك =" لنت لهم "، لتبَّاعك وأصحابك، فسُهلت لهم خلائقك، وحسنت لهم أخلاقك، حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمَه، وأغضيت عن كثير ممن لو جفوت به وأغلظت عليه لتركك ففارقك ولم يتَّبعك ولا ما بُعثت به من الرحمة، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم، فبرحمة من الله لنت لهم.
كما:-8120- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك "، إي والله، لطهَّره الله من الفظاظة والغلظة، وجعله قريبًا رحيما بالمؤمنين رءوفًا = وذكر لنا أن نعت محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة: " ليس بفظ ولا غليظ ولا صخوب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح ".
8121- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بنحوه.
8122- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله: " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك "، قال: ذكر لينه لهم وصبره عليهم = لضعفهم، وقلة صبرهم على الغلظة لو كانت منه = في كل ما خالفوا فيه مما افترض عليهم من طاعة نبيِّهم.
( 9 )* * *وأما قوله: " لانفضوا من حولك "، فإنه يعني: لتفرقوا عنك.
كما:-8123- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريح قال، قال ابن عباس: قوله: " لانفضوا من حولك "، قال: انصرفوا عنك.
8124- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: " لانفضوا من حولك "، أي: لتركوك.
( 10 )* * *القول في تأويل قوله : فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ( 159 )قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " فاعف عنهم "، فتجاوز، يا محمد، عن تُبَّاعك وأصحابك من المؤمنين بك وبما جئت به من عندي، ما نالك من أذاهم ومكروهٍ في نفسك =" واستغفر لهم "، وادع ربك لهم بالمغفرة لما أتوا من جُرْم، واستحقوا عليه عقوبة منه.
كما:-8125- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: " فاعف عنهم "، أي: فتجاوز عنهم =" واستغفر لهم "، ذنوبَ من قارف من أهل الإيمان منهم.
( 11 )* * *ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله أمر تعالى ذكره نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم، وما المعنى الذي أمره أن يشاورهم فيه؟فقال بعضهم: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: " وشاورهم في الأمر "، بمشاورة أصحابه في مكايد الحرب وعند لقاء العدو، تطييبًا منه بذلك أنفسَهم، وتألّفًا لهم على دينهم، وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم، وإن كان الله عز وجل قد أغناه = بتدبيره له أمورَه، وسياسته إيّاه وتقويمه أسبابه = عنهم.
*ذكر من قال ذلك:8126- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: " وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين "، أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء، لأنه أطيب لأنفس القوم = وأنّ القوم إذا شاور بعضهم بعضًا وأرادوا بذلك وجه الله، عزم لهم على أرشدِه.
8127- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: " وشاورهم في الأمر "، قال: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه الوحي من السماء، لأنه أطيب لأنفسهم.
8128- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: " وشاورهم في الأمر "، أي: لتريهم أنك تسمع منهم وتستعين بهم، و إن كنت عنهم غنيًّا، تؤلفهم بذلك على دينهم.
( 12 )* * *وقال آخرون: بل أمره بذلك في ذلك.
ليبين له الرأي وأصوبَ الأمور في التدبير، ( 13 ) لما علم في المشورة تعالى ذكره من الفضْل.
*ذكر من قال ذلك:8129- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم قوله: " وشاورهم في الأمر "، قال: ما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشورة، إلا لما علم فيها من الفضل.
8130- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر بن سليمان، عن إياس بن دغفل، عن الحسن: ما شاور قوم قط إلا هُدُوا لأرشد أمورهم.
( 14 )* * *وقال آخرون: إنما أمره الله بمشاورة أصحابه فيما أمرَه بمشاورتهم فيه، مع إغنائه بتقويمه إياه وتدبيره أسبابه عن آرائهم، ليتبعه المؤمنون من بعده فيما حزبهم من أمر دينهم، ويستنُّوا بسنَّته في ذلك، ويحتذوا المثالَ الذي رأوه يفعله في حياته من مشاورتَه في أموره = مع المنزلة التي هو بها من الله = أصحابَهُ وتبَّاعَهُ في الأمر ينزل بهم من أمر دينهم ودنياهم، ( 15 ) فيتشاوروا بينهم ثم يصدروا عما اجتمع عليه ملؤهم.
لأن المؤمنين إذا تشاوروا في أمور دينهم متبعين الحق في ذلك، لم يُخْلهم الله عز وجل من لطفه وتوفيقه للصواب من الرأي والقول فيه.
قالوا: وذلك نظير قوله عز وجل الذي مدح به أهل الإيمان: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [ سورة الشورى: 38 ].
*ذكر من قال ذلك:8131- حدثنا سوَّار بن عبد الله العنبري قال، قال سفيان بن عيينة في قوله: " وشاورهم في الأمر "، قال: هي للمؤمنين، أن يتشاوروا فيما لم يأتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أثر.
* * *قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أمرَ نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه ومكايد حربه، تألُّفًا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرةَ التي يُؤْمَنُ عليه معها فتنة الشيطان = وتعريفًا منه أمته مأتى الأمور التي تحزُبهم من بعده ومطلبها، ( 16 ) ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم، فيتشاوروا فيما بينهم، كما كانوا يرونه في حياته صلى الله عليه وسلم يفعله.
فأما النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله كان يعرِّفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صوابَ ذلك.
وأما أمته، فإنهم إذا تشاوروا مستنِّين بفعله في ذلك، على تصادُقٍ وتأخٍّ للحق، ( 17 ) وإرادةِ جميعهم للصواب، من غير ميل إلى هوى، ولا حَيْد عن هدى، فالله مسدِّدهم وموفِّقهم.
* * *وأما قوله: " فإذا عزمت فتوكل على الله "، فإنه يعني: فإذا صحِّ عزمك بتثبيتنا إياك، وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك، فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك، أو خالفها =" وتوكل "، فيما تأتي من أمورك وتدع، وتحاول أو تزاول، على ربك، فثق به في كل ذلك، وارض بقضائه في جميعه، دون آراء سائر خلقه ومعونتهم =" فإن الله يحب المتوكلين "، وهم الراضون بقضائه، والمستسلمون لحكمه فيهم، وافق ذلك منهم هوى أو خالفه.
كما:-8132- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: " فإذا عزمت فتوكل على الله إنّ الله يحب المتوكلين " =" فإذا عزمت "، أي: على أمر جاءك مني، أو أمر من دينك في جهاد عدوك لا يصلحك ولا يصلحهم إلا ذلك، فامض على ما أمرتَ به، على خلاف من خالفك وموافقة من وافقك = و " توكل على الله "، ( 18 ) أي: ارضَ به من العباد =" إن الله يحب المتوكلين ".
( 19 )8133- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: " فإذا عزمت فتوكل على الله "، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم إذا عزم على أمر أن يمضي فيه، ويستقيمَ على أمر الله، ويتوكل على الله.
8134- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: " فإذا عزمت فتوكل على الله "، الآية، أمره الله إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل عليه.
-
الهوامش :( 3 ) " الصلة " ، الزيادة ، انظر ما سلف 1: 190 / 405 ، تعليق: 4 / 406 / 548 ، ثم فهرس المصطلحات في سائر الأجزاء.
( 4 ) انظر ما سلف 1: 404 ، 405.
( 5 ) هو حسان بن ثابت ، أو كعب بن مالك ، أو غيرهما ، انظر ما سلف 1: 404 تعليق: 5.
( 6 ) سلف تخريج البيت في 1: 404 ، تعليق: 5.
( 7 ) وذلك أن" من " و" ما " حكمهما في هذا واحد ، كما سلف في 1: 404.
( 8 ) انظر مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 244 ، 245.
( 9 ) الأثر: 8122- سيرة ابن هشام 3: 123 ، وهو من تتمة الآثار التي آخرها: 8118 ، وهو في السيرة تال للأثر الآتي رقم: 24 : 8.
( 10 ) الأثر: 8124- سيرة ابن هشام 3: 123 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8122 ، ولكنه سابق له في سيرة ابن هشام.
( 11 ) الأثر: 8125- سيرة ابن هشام 3: 123 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8124 ، ولكنه تال للأثر رقم: 8122 في سياق السيرة.
وفي سيرة ابن هشام: " ذنوبهم من قارف " ، ولكن طابع السيرة جعل" ذنوبهم " من الآية ، فحصرها بين أقواس مع لفظ الآية!! وهو عجب!( 12 ) الأثر: 8128- سيرة ابن هشام 3: 123 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8125.
( 13 ) في المطبوعة: " بل أمره بذلك في ذلك وإن كان له الرأي وأصوب الأمور. . .
"
، لم يستطع الناشر أن يحسن قراءة المخطوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت.
( 14 ) الأثر: 8130-" إياس بن دغفل الحارثي ، أبو دغفل " ، روي عن الحسن ، وأبي نضرة وعطاء وغيرهم ، وروى عنه معتمر بن سليمان ، وأبو داود الطيالسي ، وأبو عامر العقدي.
وهو ثقة.
مترجم في التهذيب.
( 15 ) قوله: " أصحابه وتباعه " منصوب مفعول لقوله: " من مشاورته في أموره. . .
"
( 16 ) في المطبوعة: " ما في الأمور " ، والصواب ما في المخطوطة ، ولكن الناشر الأول لم يحسن قراءتها.
يريد: الوجه الذي تؤتى منه الأمور وتطلب.
( 17 ) " توخى الأمر ": تحراه وقصده ويممه ، ثم تقلب واوه ألفًا فيقال" تأخيت الأمر " ، والشافعي رضي الله عنه يكثر من استعمالها في كتبه كذلك.
ثم انظر تعليق أخي السيد أحمد ، على رسالة الشافعي ص: 504 ، تعليق: 2.
( 18 ) هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة وسيرة ابن هشام: " وتوكل " بالواو ، وهو جائز ، لأنه في سياق التفسير ، وأما الآية فهي" فتوكل " بالفاء ، فلذلك جعلت الواو خارج القوس.
( 19 ) الأثر: 8132- سيرة ابن هشام 3: 123 ، 124 ، وهو من تمام الآثار التي آخرها: 8128.

فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين

سورة : آل عمران - الأية : ( 159 )  - الجزء : ( 4 )  -  الصفحة: ( 71 ) - عدد الأيات : ( 200 )

تفسير آيات من القرآن الكريم

  1. تفسير: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنـزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو
  2. تفسير: وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت
  3. تفسير: ما لكم لا ترجون لله وقارا
  4. تفسير: فيقولوا هل نحن منظرون
  5. تفسير: وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنـزلنا من السماء ماء طهورا
  6. تفسير: لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم
  7. تفسير: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح
  8. تفسير: والذين هم لفروجهم حافظون
  9. تفسير: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم
  10. تفسير: ويل يومئذ للمكذبين

تحميل سورة آل عمران mp3 :

سورة آل عمران mp3 : قم باختيار القارئ للاستماع و تحميل سورة آل عمران

سورة آل عمران بصوت ماهر المعيقلي
ماهر المعيقلي
سورة آل عمران بصوت سعد الغامدي
سعد الغامدي
سورة آل عمران بصوت عبد  الباسط عبد الصمد
عبد الباسط
سورة آل عمران بصوت أحمد العجمي
أحمد العجمي
سورة آل عمران بصوت محمد صديق المنشاوي
المنشاوي
سورة آل عمران بصوت محمود خليل الحصري
الحصري
سورة آل عمران بصوت مشاري راشد العفاسي
مشاري العفاسي
سورة آل عمران بصوت ناصر القطامي
ناصر القطامي
سورة آل عمران بصوت فارس عباد
فارس عباد
سورة آل عمران بصوت ياسر لدوسري
ياسر الدوسري

رحمة , الله ,

لا تنسنا من دعوة صالحة بظهر الغيب