تفسير الآية - القول في معنى قوله تعالى : الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما ..

  1. تفسير السعدي
  2. تفسير البغوي
  3. التفسير الوسيط
  4. تفسير ابن كثير
  5. تفسير الطبري
الفسير الوسيط | التفسير الوسيط للقرآن الكريم للطنطاوي | تأليف شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي (المتوفى: 1431هـ) : ويعتبر هذا التفسير من التفاسير الحديثة و القيمة لطلاب العلم و الباحثين في تفسير القرآن العظيم بأسلوب منهجي سهل و عبارة مفهومة, تفسير الآية 275 من سورة البقرة - التفسير الوسيط .
  
   

﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
[ سورة البقرة: 275]

معنى و تفسير الآية 275 من سورة البقرة : الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما .


تفسير الجلالين التفسير الميسر تفسير السعدي
تفسير البغوي التفسير الوسيط تفسير ابن كثير
تفسير الطبري تفسير القرطبي إعراب الآية

تفسير السعدي : الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما


يخبر تعالى عن أكلة الربا وسوء مآلهم وشدة منقلبهم، أنهم لا يقومون من قبورهم ليوم نشورهم { إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس }- أي: يصرعه الشيطان بالجنون، فيقومون من قبورهم حيارى سكارى مضطربين، متوقعين لعظيم النكال وعسر الوبال، فكما تقلبت عقولهم و { قالوا إنما البيع مثل الربا } وهذا لا يكون إلا من جاهل عظيم جهله، أو متجاهل عظيم عناده، جازاهم الله من جنس أحوالهم فصارت أحوالهم أحوال المجانين، ويحتمل أن يكون قوله: { لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أنه لما انسلبت عقولهم في طلب المكاسب الربوية خفت أحلامهم وضعفت آراؤهم، وصاروا في هيئتهم وحركاتهم يشبهون المجانين في عدم انتظامها وانسلاخ العقل الأدبي عنهم، قال الله تعالى رادا عليهم ومبينا حكمته العظيمة { وأحل الله البيع }- أي: لما فيه من عموم المصلحة وشدة الحاجة وحصول الضرر بتحريمه، وهذا أصل في حل جميع أنواع التصرفات الكسبية حتى يرد ما يدل على المنع { وحرم الربا } لما فيه من الظلم وسوء العاقبة، والربا نوعان: ربا نسيئة كبيع الربا بما يشاركه في العلة نسيئة، ومنه جعل ما في الذمة رأس مال، سلم، وربا فضل، وهو بيع ما يجري فيه الربا بجنسه متفاضلا، وكلاهما محرم بالكتاب والسنة، والإجماع على ربا النسيئة، وشذ من أباح ربا الفضل وخالف النصوص المستفيضة، بل الربا من كبائر الذنوب وموبقاتها { فمن جاءه موعظة من ربه }- أي: وعظ وتذكير وترهيب عن تعاطي الربا على يد من قيضه الله لموعظته رحمة من الله بالموعوظ، وإقامة للحجة عليه { فانتهى } عن فعله وانزجر عن تعاطيه { فله ما سلف }- أي: ما تقدم من المعاملات التي فعلها قبل أن تبلغه الموعظة جزاء لقبوله للنصيحة، دل مفهوم الآية أن من لم ينته جوزي بالأول والآخر { وأمره إلى الله } في مجازاته وفيما يستقبل من أموره { ومن عاد } إلى تعاطي الربا ولم تنفعه الموعظة، بل أصر على ذلك { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } اختلف العلماء رحمهم الله في نصوص الوعيد التي ظاهرها تخليد أهل الكبائر من الذنوب التي دون الشرك بالله، والأحسن فيها أن يقال هذه الأمور التي رتب الله عليها الخلود في النار موجبات ومقتضيات لذلك، ولكن الموجب إن لم يوجد ما يمنعه ترتب عليه مقتضاه، وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن التوحيد والإيمان مانع من الخلود في النار، فلولا ما مع الإنسان من التوحيد لصار عمله صالحا للخلود فيها بقطع النظر عن كفره.

تفسير البغوي : مضمون الآية 275 من سورة البقرة


قوله تعالى : ( الذين يأكلون الربا ) أي يعاملون به وإنما خص الأكل لأنه معظم المقصود من المال ( لا يقومون ) يعني يوم القيامة من قبورهم ( إلا كما يقوم الذي يتخبطه ) أي يصرعه ( الشيطان ) أصل الخبط الضرب والوطء وهو ضرب على غير استواء يقال : ناقة خبوط للتي تطأ الناس وتضرب الأرض بقوائمها ( من المس ) أي الجنون يقال : مس الرجل فهو ممسوس إذا كان مجنونا ومعناه : أن آكل الربا يبعث يوم القيامة وهو كمثل المصروع .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم السرخسي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف ، أخبرنا عبد الله بن يحيى ، أخبرنا يعقوب بن سفيان أخبرنا إسماعيل بن سالم ، أخبرنا عباد بن عباد عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الإسراء قال : " فانطلق بي جبريل عليه السلام إلى رجال كثير كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم منضدين على سابلة آل فرعون - وآل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا - قال : فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة والشجر لا يسمعون ولا يعقلون فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون ثم يقوم أحدهم فيميل به بطنه فيصرع فلا يستطيعون أن يبرحوا حتى يغشاهم آل فرعون فيردوهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة ( قال ) وآل فرعون يقولون : اللهم لا تقم الساعة أبدا ( قال ) ويوم القيامة يقال : " أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " ( 46 - غافر ) قلت : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " .
قوله تعالى : ( ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ) أي ذلك الذي نزل بهم لقولهم هذا واستحلالهم إياه وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حل ماله على غريمه فطالبه به فيقول الغريم لصاحب الحق : زدني في الأجل حتى أزيدك في المال فيفعلان ذلك ويقولون سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح أو عند المحل لأجل التأخير فكذبهم الله تعالى وقال : ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) واعلم أن الربا في اللغة الزيادة قال الله تعالى : " وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس " أي ليكثر " فلا يربو عند الله " ( 39 - الروم ) وطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام في الجملة إنما المحرم زيادة على صفة مخصوصة في مال مخصوص بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد الوهاب عن أيوب بن أبي تميمة عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار ورجل آخر عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق ولا البر بالبر ولا الشعير بالشعير ولا التمر بالتمر ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين يدا بيد ولكن بيعوا الذهب بالورق والورق بالذهب والبر بالشعير والشعير بالبر والتمر بالملح والملح بالتمر يدا بيد كيف شئتم - ونقص أحدهما الملح أو التمر وزاد أحدهما من زاد وازداد فقد أربى " .
وروى هذا الحديث مطرف عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار وعبد الله بن عتيك عن عبادة فالنبي صلى الله عليه وسلم نص على ستة أشياء .
وذهب عامة أهل العلم إلى أن حكم الربا يثبت في هذه الأشياء الست بالأوصاف فيها فيتعدى إلى كل مال توجد فيه تلك الأوصاف ثم اختلفوا في تلك الأوصاف فذهب قوم إلى أن المعنى في جميعها واحد وهو النفع وأثبتوا الربا في جميع الأموال وذهب الأكثرون إلى أن الربا يثبت في الدراهم والدنانير بوصف وفي الأشياء المطعومة بوصف آخر واختلفوا في ذلك الوصف فقال قوم : ثبت في الدراهم والدنانير بوصف النقدية وهو قول مالك والشافعي وقال قوم : ثبت بعلة الوزن وهو قول أصحاب الرأي وأثبتوا الربا في جميع الموزونات مثل الحديد والنحاس والقطن ونحوها .
وأما الأشياء الأربعة فذهب قوم إلى أن الربا ثبت فيها بعلة الكيل وهو قول أصحاب الرأي وأثبتوا الربا في جميع المكيلات مطعوما كان أو غير مطعوم كالجص والنورة ونحوها وذهب جماعة إلى أن العلة فيها الطعم مع الكيل والوزن فكل مطعوم وهو مكيل أو موزون يثبت فيه الربا ولا يثبت فيما ليس بمكيل ولا موزون وهو قول سعيد بن المسيب وقاله الشافعي رحمه الله في القديم وقال في الجديد : يثبت فيها الربا بوصف الطعم وأثبت الربا في جميع الأشياء المطعومة من الثمار والفواكه والبقول والأدوية مكيلة كانت أو موزونة لما روي عن معمر بن عبد الله قال : كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الطعام بالطعام مثلا بمثل " .
فجملة مال الربا عند الشافعي ما كان ثمنا أو مطعوما والربا نوعان : ربا الفضل وربا النساء فإذا باع مال الربا بجنسه مثلا بمثل بأن باع أحد النقدين بجنسه أو باع مطعوما بجنسه كالحنطة بالحنطة ونحوها يثبت فيه كلا نوعي الربا حتى لا يجوز إلا متساويين في معيار الشرع فإن كان موزونا كالدراهم والدنانير فيشترط المساواة في الوزن وإن كان مكيلا كالحنطة والشعير بيع بجنسه فيشترط المساواة في الكيل ويشترط التقابض في مجلس العقد وإذا باع مال الربا بغير جنسه نظر : إن باع بما لا يوافقه في وصف الربا مثل أن باع مطعوما بأحد النقدين فلا ربا فيه كما لو باعه بغير مال الربا أو إن باعه بما يوافقه مع الوصف مثل أن باع الدراهم بالدنانير أو باع الحنطة بالشعير أو باع مطعوما بمطعوم آخر من غير جنسه فلا يثبت فيه ربا الفضل حتى يجوز متفاضلا أو جزافا ويثبت فيه ربا النساء حتى يشترط التقابض في المجلس وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تبيعوا الذهب بالذهب - إلى أن قال - إلا سواء بسواء " فيه إيجاب المماثلة وتحريم الفضل عند اتفاق الجنس وقوله " عينا بعين " فيه تحريم النساء وقوله " يدا بيد كيف شئتم " فيه إطلاق التفاضل عند اختلاف الجنس مع إيجاب التقابض في المجلس هذا في ربا المبايعة .
ومن أقرض شيئا بشرط أن يرد عليه أفضل فهو قرض جر منفعة وكل قرض جر منفعة فهو ربا .
قوله تعالى : ( فمن جاءه موعظة من ربه ) تذكير وتخويف وإنما ذكر الفعل ردا إلى الوعظ ( فانتهى ) عن أكل الربا ( فله ما سلف ) أي ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له ( وأمره إلى الله ) بعد النهي إن شاء عصمه حيث يثبت على الانتهاء وإن شاء خذله حتى يعود وقيل: ( ما سلف وأمره إلى الله ) فيما يأمره وينهاه ويحل له ويحرم عليه وليس إليه من أمر نفسه شيء ( ومن عاد ) بعد التحريم إلى أكل الربا مستحلا له ( فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن المثنى حدثني غندر أخبرنا شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه أنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن الحجاج ، أخبرنا زهير بن حرب ، أخبرنا هشيم أخبرنا أبو الزبير ، عن جابر رضي الله عنه قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال : " هم سواء " .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو محمد المخلدي ، أنا أبو حامد بن الشرقي أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي ، أخبرنا النضر بن محمد ، أخبرنا عكرمة بن عمار ، أخبرنا يحيى هو ابن أبي كثير قال : حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الربا سبعون بابا أهونها عند الله عز وجل كالذي ينكح أمه " .

التفسير الوسيط : الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما


ولقد نفر القرآن الناس من تعاطى الربا تنفيرا شديدا وحذرهم من سوء عاقبته تحذيرا مؤكدا فقال-تبارك وتعالى-:وقوله-تبارك وتعالى-: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ...
استئناف قصد به الترهيب من تعاطى الربا، بعد الترغيب في بذل الصدقة لمستحقيها.
ولم يعطف على ما قبله لما بينهما من تضاد، لأن الصدقة- كما يقول الفخر الرازي- عبارة عن تنقيص المال- في الظاهر- بسبب أمر الله بذلك، والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهى الله عنه فكانا متضادين.
والأكل في الحقيقة.
ابتلاع الطعام، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص وهو المراد هنا.
وعبر عن التعامل بالربا بالأكل، لأن معظم مكاسب الناس تنفق في الأكل.
والربا في اللغة: الزيادة مطلقا، يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد ونما، ومنه قوله-تبارك وتعالى-:وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ...
أى: زادت.
وهو في الشرع: - كما قال الآلوسى- عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال.
وقوله: يَتَخَبَّطُهُ: من التخبط بمعنى الخبط وهو الضرب على غير استواء واتساق.
يقال:خبطته أخبطه خبطا أى ضربته ضربا متواليا على أنحاء مختلفة.
ويقال: تخبط البعير الأرض إذا ضربها بقوائمه ويقال للذي يتصرف في أمر ولا يهتدى فيه يخبط خبط عشواء.
قال زهير بن أبى سلمى في معلقته:رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ...
تمته ومن تخطى يعمر فيهرموالمس: الخبل والجنون يقال: مس الرجل فهو ممسوس إذا أصابه الجنون.
وأصل المس اللمس باليد، ثم استعير للجنون، لأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه.
والمعنى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا أى يتعاملون به أخذا وإعطاء لا يَقُومُونَ يوم القيامة للقاء الله إلا قياما كقيام المتخبط المصروع المجنون حال صرعه وجنونه، وتخبط الشيطان له، وذلك لأنه يقوم قياما منكرا مفزعا بسبب أخذه الربا الذي حرم الله أخذه.
فالآية الكريمة تصور المرابى بتلك الصورة المرعبة المفزعة، التي تحمل كل عاقل على الابتعاد عن كل معاملة يشم منها رائحة الربا.
وهنا نحب أن نوضح أمرين:أما الأمر الأول: فهو أن جمهور المفسرين يرون أن هذا القيام المفزع للمرابين يكون يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم كما أشرنا إلى ذلك.
قال الآلوسى: وقيام المرابى يوم القيامة كذلك مما نطقت به الآثار، فقد أخرج الطبراني عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إياك والذنوب التي لا تغفر.
الغلول فمن غل شيئا أتى به يوم القيامة، وأكل الربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط
» ثم قرأ الآية، وهو مما لا يحيله العقل ولا يمنعه، ولعل الله-تبارك وتعالى- جعل ذلك علامة له يعرف بها يوم الجمع الأعظم عقوبة له ...
ثم قال.
وقال ابن عطية: المراد تشبيه المرابى في حرصه وتحركه في اكتسابه في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يسرع بحركات مختلفة: قد جن، ولا يخفى أنه مصادمة لما عليه سلف الأمة ولما روى عن رسول صلّى الله عليه وسلّم من غير داع سوى الاستبعاد الذي لا يعتبر في مثل هذه المقامات» .
والذي نراه أنه لا مانع من أن تكون الآية تصور حال المرابين في الدنيا والآخرة، فهم في الدنيا في قلق مستمر، وانزعاج دائم، واضطراب ظاهر بسبب جشعهم وشرههم في جمع المال، ووساوسهم التي لا تكاد تفارقهم وهم يكفرون في مصير أموالهم.... ومن يتتبع أحوال بعض المتعاملين بالربا يراهم أشبه بالمجانين في أقوالهم وحركاتهم.
أما في الآخرة فقد توعدهم الله-تبارك وتعالى- بالعقاب الشديد، والعذاب الأليم.
وقد رجح الإمام الرازي أن الآية الكريمة تصور حال المرابى في الدنيا والآخرة فقال ما ملخصه: «إن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطا ...
وآكل الربا بلا شك أنه يكون مفرطا في حب الدنيا متهالكا فيها، فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك حجابا بينه وبين الله-تبارك وتعالى-، فالخبط الذي كان حاصلا له في الدنيا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة وأوقعه في ذل الحجاب، وهذا التأويل أقرب عندي من غيره
» .
وأما الأمر الثاني: فهو أن جمهور المفسرين يرون أيضا أن التشبيه في الآية الكريمة على الحقيقة، بمعنى أن الآية تشبه حال المرابين بحال المجنون الذي مسه الشيطان، لأن الشيطان قد يمس الإنسان فيصيبه بالصرع والجنون.
ولكن الزمخشري ومن تابعه ينكرون ذلك، ويرون أن كون الصرع أو الجنون من الشيطان باطل لأنه لا يقدر على ذلك، فقد قال الزمخشري في تفسيره: وتخبط الشيطان من زعمات العرب، يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع.
والمس الجنون، ورجل ممسوس- أى مجنون-.
وهذا أيضا من زعماتهم، وأن الجنى يمسسه فيختلط عقله، وكذلك جن الرجل معناه ضربته الجن، ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات» .
ومن العلماء الذين تصدوا للرد على الزمخشري ومن تابعه الإمام القرطبي فقد قال: «وفي هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس.
وقد روى النسائي عن أبى اليسر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو فيقول: اللهم إنى أعوذ بك من التردي والغرق والهدم والحريق، وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن أموت لديغا
» .
وقال الشيخ أحمد بن المنير: ومعنى قول الزمخشري أن تخبط الشيطان من زعمات العرب، أى من كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها، كما يقال في الغول والعنقاء ونحو ذلك.
وهذا القول من تخبط- الشيطان بالقدرية- أى المعتزلة- في زعماتهم المردودة بقواطع الشرع، ثم قال: واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه أمور على حقائقها واقعة كما أخبر الشارع عنها، والقدرية ينكرون كثيرا مما يزعمونه مخالفا لقواعدهم.. من ذلك السحر، وخبطة الشيطان، ومعظم أحوال الجن.
وإن اعترفوا بشيء من ذلك فعلى غير الوجه الذي يعترف به أهل السنة وينبئ عنه ظاهر الشرع في خيط طويل لهم، والذي نراه أن ما عليه جمهور العلماء من أن التشبيه على الحقيقة هو الحق، لأن الشيطان قد يمس الإنسان فيصيبه بالجنون، ولأنه لا يسوغ لنا أن تؤول القرآن بغير ظاهره بسبب اتجاه دليل عليه.
وقوله: مِنَ الْمَسِّ متعلق بيقومون أى لا يقومون من المس الذي حل بهم بسبب أكلهم الربا إلا كما يقوم المصروع من جنونه.
وقوله-تبارك وتعالى-: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا بيان لزعمهم الباطل الذي سوغ لهم التعامل بالربا، ورد عليه بما يهدمه.
واسم الإشارة «ذلك» يعود إلى الأكل أو إلى العقاب الذي نزل بهم.
والمعنى: ذلك الأكل الذي استحلوه عن طريق الربا، أو ذلك العذاب الذي حل بهم والذي من مظاهره قيامهم المتخبط، سببه قولهم إن البيع الذي أحله الله يشابه الريا الذي نتعامل به في أن كلا منهما معاوضة.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: هلا قيل إنما الربا مثل البيع لأن الكلام في الربا لا في البيع، فوجب أن يقال إنهم شبهوا الربا بالبيع فاستحلوه وكانت شبهتهم أنهم قالوا: لو اشترى الرجل الشيء الذي لا يساوى إلا درهما بدرهمين جاز، فكذلك إذا باع درهما بدرهمين؟ قلت:جيء به على طريق المبالغة.
وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانونا في الحل حتى شبهوا به البيع» .
وقوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا جملة مستأنفة، وهي رد من الله-تبارك وتعالى- عليهم، وإنكار لتسويتهم الربا بالبيع.
قال الآلوسى: وحاصل هذا الرد من الله-تبارك وتعالى- عليهم: أن ما ذكرتم- من أن الربا مثل البيع- قياس فاسد الوضع لأنه معارض للنص فهو من عمل الشيطان، على أن بين البابين فرقا، وهو أن من باع ثوبا يساوى درهما بدرهمين فقد جعل الثوب مقابلا لدرهمين فلا شيء منهما إلا وهو في مقابلة شيء من الثواب.
وأما إذا باع درهما بدرهمين فقد أخذ الدرهم الزائد بدون عوض، ولا يمكن جعل الإمهال عوضا إذ الإمهال ليس بمال في مقابلة المال» .
وقوله: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ.
تفريع على الوعيد السابق في قوله: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا.. إلخ» .
والمجيء بمعنى العلم والبلاغ، والموعظة: ما يعظ الله-تبارك وتعالى- به عباده عن طريق زجرهم وتخويفهم وتذكيرهم بسوء عاقبة المخالفين لأوامره.
أى: فمن بلغه نهى الله-تبارك وتعالى- عن الربا، فامتثل وأطاع وابتعد عما نهاه الله عنه، فَلَهُ ما سَلَفَ أى فله ما تقدم قبضه من مال الربا قبل التحريم وليس له ما تقدم الاتفاق عليه ولم بقبضه.. لأن الله-تبارك وتعالى- يقول بعد ذلك وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ ...
وقوله: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ أى أمر هذا المرابى الذي تعامل بالربا قبل التحريم واجتنبه بعده، أمره مفوض إلى الله-تبارك وتعالى- فهو الذي يعامله بما يقتضيه فضله وعفوه وكرمه.
قال ابن كثير: قوله فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ.. إلخ أى من بلغه نهى الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من المعاملة لقوله: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وكما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة: «وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين وأول ربا أضع ربا عمى العباس، ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف كما قال-تبارك وتعالى-: فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ أى فله ما كان قد أكل من الربا قبل التحريم».
و «من» في قوله: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ شرطية وهو الظاهر، ويحتمل أن تكون موصولة.
وعلى التقديرين فهي في محل رفع بالابتداء، وقوله: فَلَهُ ما سَلَفَ هو الجزاء أو الخبر، ومَوْعِظَةٌ فاعل جاء، وسقطت التاء من الفعل للفصل بينه وبين الفاعل أو تكون الموعظة هنا بمعنى الوعظ فهي في معنى المذكر وقوله: مِنْ رَبِّهِ جار ومجرور متعلق بجاءه، أو بمحذوف وقع صفة لموعظة وفي قوله: مِنْ رَبِّهِ تفخيم لشأن الموعظة، وإغراء بالامتثال والطاعة لأنها صادرة من الله-تبارك وتعالى- المربى لعباده.
وفي هذه الجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر السماحة فيما شرعه الله لعباده، لأنه- سبحانه - لم يعاقب المرابين على ما مضى من أمرهم قبل وجود الأمر والنهى، ولم يجعل تشريعه بأثر رجعي بل جعله للمستقبل، إذ الإسلام يجب ما قبله.
فما أكله المرابى قبل تحريم الربا فلا عقاب عليه فيه وهو ملك له، إلا أنه ليس له أن يتعامل به بعد التحريم، وإذا تعامل به فلن تقبل توبته حتى يتخلص من هذا المال الناتج عنه الربا.
ولقد توعد الله-تبارك وتعالى- من يعود إلى التعامل بالربا بعد أن حرمه الله-تبارك وتعالى- فقال وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
أى ومن عاد إلى التعامل بالربا بعد أن نهى الله عنه فأولئك العائدون هم أصحاب النار الملازمون لها، والماكثون فيها بسبب تعديهم لما نهى الله عنه.
وفي هذه الجملة الكريمة تأكيد للعقاب النازل بأولئك العائدين بوجوه من المؤكدات منها:التعبير فيها بأولئك التي تدل على البعيد فهم بعيدون عن رحمة الله، والتعبير بالجملة الاسمية التي تفيد الدوام والاستمرار والتعبير، بكلمة أصحاب الدالة على الملازمة والمصاحبة، وبكلمة خالِدُونَ التي تدل على طول المكث.

تفسير ابن كثير : شرح الآية 275 من سورة البقرة


لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات ، المخرجين الزكوات ، المتفضلين بالبر والصلات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والآنات شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات ، فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم ، فقال : { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له ; وذلك أنه يقوم قياما منكرا . وقال ابن عباس : آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق . رواه ابن أبي حاتم ، قال : وروي عن عوف بن مالك ، وسعيد بن جبير ، والسدي ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، نحو ذلك .
وحكي عن عبد الله بن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان أنهم قالوا في قوله : { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } يعني : لا يقومون يوم القيامة . وكذا قال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، والضحاك ، وابن زيد .
وروى ابن أبي حاتم ، من حديث أبي بكر بن أبي مريم ، عن ضمرة بن حبيب ، عن ابن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه أنه كان يقرأ : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يوم القيامة "
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا ربيعة بن كلثوم ، حدثنا أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب . وقرأ : { لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } قال : وذلك حين يقوم من قبره .
وفي حديث أبي سعيد في الإسراء ، كما هو مذكور في سورة سبحان : أنه ، عليه السلام مر ليلتئذ بقوم لهم أجواف مثل البيوت ، فسأل عنهم ، فقيل : هؤلاء أكلة الربا . رواه البيهقي مطولا .
وقال ابن ماجه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي الصلت ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت ، فيها الحيات ترى من خارج بطونهم . فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء أكلة الربا " .
ورواه الإمام أحمد ، عن حسن وعفان ، كلاهما عن حماد بن سلمة ، به . وفي إسناده ضعف .
وقد روى البخاري ، عن سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل : " فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول : أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح يسبح ، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة ، وإذا ذلك السابح يسبح ، [ ما يسبح ] ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه حجرا " وذكر في تفسيره : أنه آكل الربا .
وقوله : { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا } أي: إنما جوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه ، وليس هذا قياسا منهم للربا على البيع ; لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن ، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا : إنما الربا مثل البيع ، وإنما قالوا : { إنما البيع مثل الربا } أي: هو نظيره ، فلم حرم هذا وأبيح هذا ؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع ، أي: هذا مثل هذا ، وقد أحل هذا وحرم هذا !
وقوله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا } يحتمل أن يكون من تمام الكلام ردا عليهم ، أي: قالوا : ما قالوه من الاعتراض ، مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكما ، وهو الحكيم العليم الذي لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها ، وما ينفع عباده فيبيحه لهم ، وما يضرهم فينهاهم عنه ، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل ; ولهذا قال : { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله } أي: من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه . فله ما سلف من المعاملة ، لقوله : { عفا الله عما سلف } [ المائدة : 95 ] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين ، وأول ربا أضع ربا العباس " ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية ، بل عفا عما سلف ، كما قال
تعالى : { فله ما سلف وأمره إلى الله }
قال سعيد بن جبير والسدي : { فله ما سلف } فإنه ما كان أكل من الربا قبل التحريم .
وقال ابن أبي حاتم : قرئ على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني جرير بن حازم ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن أم يونس يعني امرأته العالية بنت أيفع أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لها أم محبة أم ولد لزيد بن أرقم : يا أم المؤمنين ، أتعرفين زيد بن أرقم ؟ قالت : نعم . قالت : فإني بعته عبدا إلى العطاء بثمانمائة ، فاحتاج إلى ثمنه ، فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة . فقالت : بئس ما شريت ! وبئس ما اشتريت ! أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب . قالت : فقلت : أرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة ؟ قالت : نعم ، { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف } .
وهذا الأثر مشهور ، وهو دليل لمن حرم مسألة العينة ، مع ما جاء فيها من الأحاديث المقررة في كتاب الأحكام ، ولله الحمد والمنة .
ثم قال تعالى : { ومن عاد } أي: إلى الربا ففعله بعد بلوغ نهي الله له عنه ، فقد استوجب العقوبة ، وقامت عليه الحجة ; ولهذا قال : { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }
وقد قال أبو داود : حدثنا يحيى بن معين ، أخبرنا عبد الله بن رجاء المكي ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : لما نزلت : { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يذر المخابرة ، فليأذن بحرب من الله ورسوله " .
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث ابن خثيم ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجه .
وإنما حرمت المخابرة وهي : المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض ، والمزابنة وهي : اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض ، والمحاقلة وهي : اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها ، حسما لمادة الربا ; لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف . ولهذا قال الفقهاء : الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة . ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا ، والوسائل الموصلة إليه ، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم ، وقد قال تعالى : { وفوق كل ذي علم عليم } [ يوسف : 76 ] .
وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم ، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه : الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا ، يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا . والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله ; لأن ما أفضى إلى الحرام حرام ، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . وقد ثبت في الصحيحين ، عن النعمان بن بشير ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الحلال بين وإن الحرام بين ، وبين ذلك أمور مشتبهات ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه " .
وفي السنن عن الحسن بن علي ، رضي الله عنهما ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " . وفي الحديث الآخر : " الإثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس ، وكرهت أن يطلع عليه الناس " . وفي رواية : " استفت قلبك ، وإن أفتاك الناس وأفتوك " .
وقال الثوري : عن عاصم ، عن الشعبي ، عن ابن عباس قال : آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا . رواه [ البخاري ] عن قبيصة ، عنه .
وقال أحمد ، عن يحيى ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب أن عمر قال : من آخر ما نزل آية الربا ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا ، فدعوا الربا والريبة .
رواه ابن ماجه وابن مردويه .
وروى ابن مردويه من طريق هياج بن بسطام ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقال : إني لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم وآمركم بأشياء لا تصلح لكم ، وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا ، وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم .
وقد قال ابن ماجه : حدثنا عمرو بن علي الصيرفي ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن زبيد ، عن إبراهيم ، عن مسروق ، عن عبد الله هو ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الربا ثلاثة وسبعون بابا " .
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث عمرو بن علي الفلاس ، بإسناد مثله ، وزاد : " أيسرها أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم " . وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .
وقال ابن ماجه : حدثنا عبد الله بن سعيد ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن أبي معشر ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الربا سبعون حوبا ، أيسرها أن ينكح الرجل أمه " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، عن عباد بن راشد ، عن سعيد بن أبي خيرة حدثنا الحسن منذ نحو من أربعين أو خمسين سنة عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا " قال : قيل له : الناس كلهم ؟ قال : " من لم يأكله منهم ناله من غباره "وكذا رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه من غير وجه ، عن سعيد بن أبي خيرة عن الحسن ، به .
ومن هذا القبيل ، وهو تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن مسلم بن صبيح ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ، فقرأهن ، فحرم التجارة في الخمر .
وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي ، من طرق ، عن الأعمش به وهكذا لفظ رواية البخاري ، عند تفسير الآية : فحرم التجارة ، وفي لفظ له ، عن عائشة قالت : لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس ، ثم حرم التجارة في الخمر . قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة : لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك ، كما قال ، عليه السلام في الحديث المتفق عليه : " لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها " .
وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما ، عند لعن المحلل في تفسير قوله : { حتى تنكح زوجا غيره } [ البقرة : 230 ] قوله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله آكل الربا وموكله ، وشاهديه وكاتبه " . قالوا : وما يشهد عليه ويكتب إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسدا ، فالاعتبار بمعناه لا بصورته ; لأن الأعمال بالنيات ، وفي الصحيح : " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " .
وقد صنف الإمام ، العلامة أبو العباس ابن تيمية كتابا في " إبطال التحليل " تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل ، وقد كفى في ذلك وشفى ، فرحمه الله ورضي عنه .

تفسير الطبري : معنى الآية 275 من سورة البقرة


القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّقال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الذين يُرْبون.
* * *و " الإرباء " الزيادة على الشيء، يقال منه: " أرْبى فلان على فلان "، إذا زاد عليه،" يربي إرباءً "، والزيادة هي" الربا "،" وربا الشيء "، إذا زاد على ما كان عليه فعظم،" فهو يَرْبو رَبْوًا ".
وإنما قيل للرابية [ رابية ( 1 ) لزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها، من قولهم: " ربا يربو ".
ومن ذلك قيل: " فلان في رَباوَة قومه "، ( 2 ) يراد أنه في رفعة وشرف منهم، فأصل " الربا "، الإنافة والزيادة، ثم يقال: " أربى فلان " أي أناف [ ماله، حين ] صيَّره زائدًا.
( 3 ) وإنما قيل للمربي: " مُرْبٍ "، لتضعيفه المال، الذي كان له على غريمه حالا أو لزيادته عليه فيه لسبب الأجل الذي يؤخره إليه فيزيده إلى أجله الذي كان له قبلَ حَلّ دينه عليه.
ولذلك قال جل ثناؤه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً .
[ آل عمران: 130 ].
* * *وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:ذكر من قال ذلك:6235 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، في الربا الذي نهى الله عنه: كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدّينُ فيقول: لك كذا وكذا وتؤخِّر عني! فيؤخَّر عنه.
* - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
6237 - حدثني بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: أن ربا أهل الجاهلية: يبيعُ الرجل البيع إلى أجل مسمًّى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاده وأخَّر عنه.
* * *قال أبو جعفر: فقال جل ثناؤه: الذين يُرْبون الربا الذي وصفنا صفته في الدنيا=" لا يقومون " في الآخرة من قبورهم =" إلا كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطانُ من المس "، يعني بذلك: يتخبَّله الشيطان في الدنيا، ( 4 ) وهو الذي يخنقه فيصرعه ( 5 ) =" من المس "، يعني: من الجنون.
وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:6238 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: " الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ "، يوم القيامة، في أكل الرِّبا في الدنيا.
6239 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
6240 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس "، قال: ذلك حين يُبعث من قبره.
( 6 )6241 - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يُقال يوم القيامة لآكل الرّبا: " خذْ سلاحك للحرب "، وقرأ: " لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ "، قال: ذلك حين يبعث من قبره.
6242 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ ".
الآية، قال: يبعث آكل الربا يوم القيامة مَجْنونًا يُخنق.
( 7 )6243 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " الذين يأكلون الربا لا يقومون "، الآية، وتلك علامةُ أهل الرّبا يوم القيامة، بُعثوا وبهم خَبَلٌ من الشيطان.
6244 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " لا يقومون إلا كما يقومُ الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال: هو التخبُّل الذي يتخبَّله الشيطان من الجنون.
6245 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ "، قال: يبعثون يوم القيامة وبهم خَبَل من الشيطان.
وهي في بعض القراءة: ( لا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) .
6246 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس "، قال: من مات وهو يأكل الربا، بعث يوم القيامة متخبِّطًا، كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ.
6247 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ "، يعني: من الجنون.
6248 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ ".
قال: هذا مثلهم يومَ القيامة، لا يقومون يوم القيامة مع الناس، إلا كما يقوم الذي يُخنق من الناس، كأنه خُنق، كأنه مجنون ( 8 ) .
* * *قال أبو جعفر: ومعنى قوله: " يتخبطه الشيطانُ من المسّ "، يتخبله من مَسِّه إياه.
يقال منه: " قد مُسّ الرجل وأُلقِ، فهو مَمسوس ومَألوق "، كل ذلك إذا ألمّ به اللَّمَمُ فجُنّ.
ومنه قول الله عز وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا [ الأعراف: 201 ]، ومنه قول الأعشى:وَتُصْبحُ عَنْ غِبِّ السُّرَى, وكأَنَّمَاأَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الجِنِّ أَوْلَقُ ( 9 )* * *فإن قال لنا قائل: أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الرِّبا في تجارته ولم يأكله، أيستحقّ هذا الوعيدَ من الله؟قيل: نعم، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكلُ، إلا أنّ الذين نزلت فيهم هذه الآيات يوم نزلت، كانت طُعمتهم ومأكلُهم من الربا، فذكرهم بصفتهم، معظّمًا بذلك عليهم أمرَ الرّبا، ومقبِّحًا إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم، وفي قوله جل ثناؤه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ سورة البقرة: 278-279 ] الآية، ما ينبئ عن صحة ما قلنا في ذلك، وأنّ التحريم من الله في ذلك كان لكل معاني الرّبا، وأنّ سواءً العملُ به وأكلُه وأخذُه وإعطاؤُه، ( 10 ) كالذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:6249-" لعن الله آكلَ الرّبا، وُمؤْكِلَه، وكاتبَه، وشاهدَيْه إذا علموا به ".
( 11 )* * *القول في تأويل قوله : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَاقال أبو جعفر: يعني ب" ذلك " جل ثناؤه: ذلك الذي وصفهم به من قيامهم يوم القيامة من قبورهم، كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المسّ من الجنون، فقال تعالى ذكره: هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قُبْح حالهم، ووَحشة قيامهم من قبورهم، وسوء ما حلّ بهم، من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون: " إنما البيع " الذي أحله الله لعباده =" مثلُ الرّبا ".
وذلك أن الذين كانوا يأكلون من الرّبا من أهل الجاهلية، كان إذا حلّ مالُ أحدهم على غريمه، يقول الغَريم لغريم الحق: " زدني في الأجل وأزيدك في مالك ".
فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك: " هذا ربًا لا يحل ".
فإذا قيل لهما ذلك قالا " سواء علينا زدنا في أول البيع، أو عند مَحِلّ المال "! فكذَّبهم الله في قيلهم فقال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ .
* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 275 )قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: وأحلّ الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع ( 12 ) =" وحرّم الربا "، يعني الزيادةَ التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل، وتأخيره دَيْنه عليه.
يقول عز وجل: فليست الزيادتان اللتان إحداهما من وَجه البيع، ( 13 ) والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل، سواء.
وذلك أنِّي حرّمت إحدى الزيادتين = وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل = وأحللتُ الأخرى منهما، وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها، فيستفضلُ فَضْلها.
فقال الله عز وجل: ليست الزيادة من وجه البيع نظيرَ الزيادة من وجه الربا، لأنّي أحللت البيع، وحرَّمت الرّبا، والأمر أمري والخلق خلقي، أقضي فيهم ما أشاء، وأستعبدهم بما أريد، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي، ولا أن يخالف أمري، وإنما عليهم طاعتي والتسليمُ لحكمي.
* * *ثم قال جل ثناؤه: " فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى "، يعني ب" الموعظة ": التذكير، والتخويفَ الذي ذكَّرهم وخوّفهم به في آي القرآن، ( 14 ) وأوعدهم على أكلهم الربا من العقاب، يقول جل ثناؤه: فمن جاءه ذلك،" فانتهى " عن أكل الربا وارتدع عن العمل به وانزجر عنه ( 15 ) =" فله ما سلف "، يعني: ما أكل، وأخذ فمَضَى، قبل مجيء الموعظة والتحريم من ربه في ذلك =" وأمرُه إلى الله "، يعني: وأمر آكله بعد مجيئه الموعظة من ربه والتحريم، وبعد انتهاء آكله عن أكله، إلى الله في عصمته وتوفيقه، إن شاء عصمه عن أكله وثبَّته في انتهائه عنه، وإن شاء خَذَله عن ذلك =" ومن عاد "، يقول: ومن عاد لأكل الربا بعد التحريم، وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من الله بالتحريم، من قوله: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا =" فأولئك أصْحاب النار هم فيها خالدون "، يعني: ففاعلو ذلك وقائلوه هم أهل النار، يعني نار جهنم، فيها خالدون.
( 16 )* * *وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:6250 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السديّ: " فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله "، أما " الموعظة " فالقرآن، وأما " ما سلف "، فله ما أكل من الربا.
--
الهوامش :( 1 ) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام .
( 2 ) في المطبوعة : " في ربا قومه " وفي المخطوطة : " في رباء قومه " ، ولا أظنهما صوابًا ، والصواب ما ذكر الزمخشري في الأساس : " وفلان في رباوة قومه : في أشرافهم .
وهو : في الروابي من قريش "
، فأثبت ما في الأساس .
( 3 ) في المخطوطة والمطبوعة : " أي أناف صيره زائدًا " ، وهو كلام غير مستقيم ولا تام .
والمخطوطة كما أسلفت مرارًا ، قد عجل عليها ناسخها حتى أسقط منها كثيرًا كما رأيت آنفًا .
فزدت ما بين القوسين استظهارًا من معنى كلام أبي جعفر ، حتى يستقيم الكلام على وجه يرتضى .
( 4 ) تخبله : أفسد عقله وأعضاءه .
( 5 ) في المطبوعة : " وهو الذي يتخبطه فيصرعه " ، وهو لا شيء ، إنما استبهمت عليه حروف المخطوطة ، فبدل اللفظ إلى لفظ الآية نفسها ، وهو لا يعد تفسيرًا عندئذ!! وفي المخطوطة : " +يحفه " غير منقوطة إلا نقطة على" الفاء " ، وآثرت قراءتها" يخنقه " ، لما سيأتي في الأثر رقم : 6242 عن ابن عباس : " يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنونًا يخنق " ، وما جاء في الأثر : 6247 .
وهذا هو الصواب إن شاء الله ، لذلك ، ولأن من صفة الجنون وأعراضه أنه خناق يأخذ من يصيبه ، أعاذنا الله وإياك .
( 6 ) الأثر : 6240-" ربيعة بن كلثوم بن جبر البصري " ، روى عن أبيه ، وبكر ابن عبد الله المزني ، والحسن البصري .
وروى عنه القطان ، وعبد الصمد بن عبد الوارث ، ومسلم ابن إبراهيم ، وحجاج بن منهال .
قال النسائي : " ليس به بأس " ، وقال في الضعفاء : " ليس بالقوي " ، وقال أحمد وابن معين : " ثقة " .
وأبوه : " كلثوم بن جبر " ، قال أحمد : " ثقة " ، وقال النسائي : " ليس بالقوي " .
مات سنة : 130 .
( 7 ) انظر ما سلف في ص : 8 ، تعليق : 2 .
( 8 ) في المطبوعة : " إلا كما يقوم الذي يخنق مع الناس يوم القيامة " ، وهو كلام فاسد .
وكذلك هو في المخطوطة أيضًا مع ضرب الناسخ على كلام كتبه ، فدل على خلطه وسهوه .
فحذفت من هذه الجملة" يوم القيامة " وجعلت" مع الناس " ، " من الناس " ، فصارت أقرب إلى المعنى والسياق ، وكأنه الصواب إن شاء الله .
( 9 ) ديوانه : 147 ، وروايته" من غب السرى " ، ورواية اللسان ( ألق ) ، " ولق " ، وهو من قصيدته البارعة في المحرق .
ويصف ناقته فيقول قبل البيت ، وفيها معنى جيد في صحبة الناقة :وَخَرْقٍ مَخُوفٍ قَدْ قَطَعْتُ بِجَسْرَةٍإذَا خَبَّ آلٌ فَوْقَهُ يَتَرَقْرقُهِيَ الصَّاحِبُ الأدْنَى, وَبَيْنى وَبَيْنَهامَجُوفٌ عِلاَفِيُّ وقِطْعٌ ونُمْرُقُوَتُصْبِحُ عَنْ غبّ السُّرَى . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
" الخرق " : المفازة الواسعة تتخرق فيها الرياح .
" وناقة جسرة " : طويلة شديدة جريئة على السير .
و" خب " : جرى .
و" الآل " : سراب أول النهار .
" يترقرق " : يذهب ويجيء .
وقوله : " هي الصاحب الأدنى " ، أي هي صاحبه الذي يألفه ولا يكاد يفارقه ، وينصره في الملمات .
و" المجوف " : الضخم الجوف .
و" العلافى " : هو أعظم الرجال أخرة ووسطًا ، منسوبة إلى رجل من الأزد يقال له" علاف " .
و" القطع " : طنفسة تكون تحت الرحل على كتفي البعير .
و" النمرق والنمرقة " : وسادة تكون فوق الرحل ، يفترشها الراكب ، مؤخرها أعظم من مقدمها ، ولها أربعة سيور تشد بآخرة الرحل وواسطته .
و" غب السرى " : أي بعد سير الليل الطويل .
و" الأولق " : الجنون .
ووصفها بالجنون عند ذلك ، من نشاطها واجتماع قوتها ، لم يضعفها طول السرى .
( 10 ) ولكن أهل الفتنة في زماننا ، يحاولون أن يهونوا على الناس أمر الربا ، وقد عظمه الله وقبحه ، وآذن العامل به بحرب من الله ورسوله ، في الدنيا والآخرة ، ومن أضل ممن يهون على الناس حرب ربه يوم يقوم الناس لرب العالمين .
فاللهم اهدنا ولا تفتنا كما فتنت رجالا قبلنا ، وثبتنا على دينك الحق ، وأعذنا من شر أنفسنا في هذه الأيام التي بقيت لنا ، وهي الفانية وإن طالت ، وصدق رسول الله بأبي هو وأمي إذ قال : " يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا .
قيل له : الناس كلهم؟! قال : من لم يأكله ناله من غباره "
.
( سنن البيهقي 5 : 275 ) ، فاللهم انفض عنا وعن قومنا غبار هذا العذاب الموبق .
( 11 ) الأثر : 6249- رواه الطبري بغير إسناد مختصرًا ، وقد استوفى تخريجه ابن كثير في تفسيره 1 : 550-551 وساق طرقه مطولا .
والسيوطي في الدر المنثور 1 : 367 ، من حديث عبد الله بن مسعود ونسبه لأحمد ، وأبي يعلى ، وابن خزيمة ، وابن حبان .
وانظر سنن البيهقي 5 : 275 .
( 12 ) انظر معنى : " البيع " فيما سلف 2 : 342 ، 343 .
( 13 ) في المطبوعة : " وليست الزيادتان " ، والصواب ما في المخطوطة .
( 14 ) انظر تفسير : " موعظة " فيما سلف 2 : 180 ، 181 .
( 15 ) انظر تفسير : " انتهى " فيما سلف 3 : 569 .
( 16 ) انظر تفسير : " أصحاب النار " و" خالدون " فيما سلف 2 : 286 ، 287/4 : 316 ، 317/5 : 429 .

الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

سورة : البقرة - الأية : ( 275 )  - الجزء : ( 3 )  -  الصفحة: ( 47 ) - عدد الأيات : ( 286 )

تفسير آيات من القرآن الكريم

  1. تفسير: وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم
  2. تفسير: قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين
  3. تفسير: وكذلك أنـزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا
  4. تفسير: يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير
  5. تفسير: فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين
  6. تفسير: أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون
  7. تفسير: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم
  8. تفسير: فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين
  9. تفسير: فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى
  10. تفسير: وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت

تحميل سورة البقرة mp3 :

سورة البقرة mp3 : قم باختيار القارئ للاستماع و تحميل سورة البقرة

سورة البقرة بصوت ماهر المعيقلي
ماهر المعيقلي
سورة البقرة بصوت سعد الغامدي
سعد الغامدي
سورة البقرة بصوت عبد  الباسط عبد الصمد
عبد الباسط
سورة البقرة بصوت أحمد العجمي
أحمد العجمي
سورة البقرة بصوت محمد صديق المنشاوي
المنشاوي
سورة البقرة بصوت محمود خليل الحصري
الحصري
سورة البقرة بصوت مشاري راشد العفاسي
مشاري العفاسي
سورة البقرة بصوت ناصر القطامي
ناصر القطامي
سورة البقرة بصوت فارس عباد
فارس عباد
سورة البقرة بصوت ياسر لدوسري
ياسر الدوسري

,

لا تنسنا من دعوة صالحة بظهر الغيب