شرح حديث
كتب الحديث | صحة حديث | الكتب الستة
وضَعَ الإسلامُ الحُدودَ الواضِحةَ بَينَ الحَلالِ والحَرامِ، وقد أوْضَحَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ سَبَبَ تَحريمِه لِبَعضِ الأشياءِ قد يَكونُ بسَبَبِ مآلاتِ الأُمورِ معها، ولا يَكونُ التَّحريمُ لِذاتِ الشَّيءِ، وإنْ كانَ حَلالًا في بَعضِ الحالاتِ الأُخرى.
وفي هذا الحَديثِ يَروي التَّابِعيُّ عَبدُ الرَّحمنِ بنُ جَوْشَنٍ، عن أبي بَكرةَ نُفَيعِ بنِ الحارِثِ الثَّقَفيِّ رَضيَ اللهُ عنه: "أنَّه كانَ يُنبَذُ له في جَرٍّ أخضَرَ"، والنبيذُ هو نَقْعُ التَّمْرِ والزَّبيبِ في الماءِ، والجَرُّ الأخضَرُ: نَوعٌ مِنَ الأواني المَصنوعةِ مِنَ الفَخَّارِ، وكانَ لَونُه أخضَرَ، ولَعَلَّه كانَ يُشتَهَرُ عِندَهم ويَشيعُ استِخدامُه، فيَشرَبُ منه قَبلَ أنْ يَشتَدَّ ويُصبِحَ مُسكِرًا، قال عَبدُ الرَّحمنِ: "فقَدِمَ أبو بَرزةَ مِن غَيبةٍ غابَها، فبَدَأَ بمَنزِلِ أبي بَكرةَ"، فذَهَبَ إليه بَعدَ عَودَتِه مِن غيابِه، "فلم يُصادِفْه" مَوجودًا "في المَنزِلِ، فوَقَفَ على امرَأتِه"، بمعنى أنَّه وَجَدَ زَوجةَ أبي بَكرةَ هي التي بالمَنزِلِ، "فسألَها عن أبي بَكرةَ، فأخبَرَتْه، ثم أبصَرَ الجَرَّ التي كانَ فيها النبيذُ"، أي: رَأى الإناءَ الذي فيه النبيذُ الخاصُّ بأبي بَكرةَ رَضيَ اللهُ عنه، "فقالَ: ما في هذه الجَرِّ؟ قالَتْ: نَبيذٌ لِأبي بَكرةَ.
قالَ: وَدِدتُ أنَّكِ جَعلتيه في سِقاءٍ"، والسِّقاءُ: إناءٌ مِن جِلدٍ؛ لِأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد نَهى عنِ النبيذِ إلَّا في سِقاءٍ، كما رَواهُ مُسلِمٌ، "فأمَرَتْ بذلك النبيذِ" فحُوِّلَ "فجُعِلَ في سِقاءٍ"، كما أمَرَ أبو بَرزةَ، "ثم جاءَ أبو بَكرةَ فأخبَرَتْه عن أبي بَرزةَ، فقالَ: ما في هذا السِّقاءِ؟ قالَتْ: أمَرَنا أبو بَرزةَ أنْ نَجعَلَ نَبيذَكَ فيه.
قالَ: ما أنا بشارِبٍ مِمَّا فيه"، لن أشرَبَ ما فيه مِنَ النبيذِ إذا أسكَرَ، ثم قالَ مُستَنكِرًا ومُتعَجِّبًا: "لَئِن جَعَلتُ الخَمرَ في سِقاءٍ لَيَحِلُّ لي، ولئن جَعَلتُ العَسَلَ في جَرٍّ لَيَحرُمُ علَيَّ"، والمعنى: أنَّه يُنكِرُ أنْ يَكونَ أمْرُ الحِلِّ والحُرمةِ مُرتَبِطًا بنَوعِ الوِعاءِ، فإنَّه لو جَعَلَ الخَمرَ المُحرَّمةَ في سِقاءٍ مِن جِلدٍ فإنَّه لا يَحِلُّ أيضًا، ولو جَعَلَ العَسَلَ الذي هو حَلالٌ في الوِعاءِ الفَخَّاريِّ فإنَّه لا يَحرُمُ.
ثم قالَ أبو بَكرةَ: "إنَّا قد عَرَفْنا الذي نُهينا عنه"، يعني: أنَّنا عَرَفْنا أنواعَ الأوعيةِ التي نُهينا عن الانتِباذِ والنَّقعِ فيها، وعَرَفْنا أسبابَ النَّهيِ؛ وتفسيرُ ذلك أنَّا "نُهينا عنِ الدُّبَّاءِ والحَنتَمِ والنَّقيرِ والمُزَفَّتِ، فأمَّا الدُّبَّاءُ، فإنَّا -مَعشَرَ ثَقيفٍ- كُنَّا نأخُذُ الدُّبَّاءَ" فقد اشتُهِرَ هذا النَّوعُ مِنَ الأواني عِندَ قَبيلةِ ثَقيفٍ، والمُرادُ بالدُّبَّاءِ: نَباتُ القَرْعِ إذا يَبِسَ اتُّخِذَ منه وِعاءٌ، وكانوا يَحفِرونَه ويَستَخدِمونَه كسِقاءٍ، ويَحتَفِظونَ فيه ببَعضِ الأشرِبةِ، وهو كما قال أبو بَكرةَ: "فنَخرُطُ فيها عناقيدَ العِنَبِ"، فنُقَطِّعُ فيها العِنَبَ ثم نُغَطِّيها، "ثم نَدفِنُها حتى تَهدِرَ" وتَغليَ "ثم تَموتَ" بالتَّبريدِ فتُصبِحَ خَمرًا.
"وأمَّا النَّقيرُ"، وهو ما يُنقَرُ ويُجوَّفُ مِن جُذوعِ النَّخلِ، وكان يُحفَرُ ثم يوضَعُ فيه التَّمرُ ونَحوُه، "فإنَّ أهلَ اليَمامةِ"، وهي بَلدةٌ مِن بِلادِ العَوالي، وهي بِلادُ بَني حَنيفةَ، قيلَ: مِن عُروضِ اليَمَنِ، وقيلَ: مِن باديةِ الحِجازِ، وتَتبَعُ مَدينةَ الرِّياضِ حاليًّا، "كانوا يُنَقِّرونَ أصلَ النَّخلةِ" يَحفِرونَ جِذعَ النَّخلةِ "ثم يَشدَخونَ" ، أي: يَخلِطونَ ويُقَطِّعونَ "فيها الرُّطَبَ والبُسرَ"، والبُسْرُ هو البَلَحُ غَيرُ النَّاضِجِ، والرُّطَبُ: ثَمَرُ النَّخلِ قَبلَ أنْ يُصبِحَ تَمْرًا، وهو أجوَدُ وأطعَمُ مِنَ التَّمْرِ، "ثم يَدَعونَه" يَترُكونَه "حتى يَهدِرَ، ثم يَموتَ" فتَتحَوَّلَ خَمرًا مُسكِرًا، والنَّهيُ عن خَلطِهما في الماءِ وتَركِهما حتى يَشتَدَّا ويَتخَمَّرا.
"وأمَّا الحَنتَمُ"، وهو إناءٌ مَصنوعٌ مِنَ الطِّينِ أو مِنَ الفَخَّارِ "فجِرارٌ حُمْرٌ"، آنيةٌ كَبيرةٌ حَمراءُ "كانَتْ تُحمَلُ إلينا فيها الخَمرُ".
"وأمَّا المُزَفَّتُ فهذه الأوعيةُ التي فيها المُزَفَّتُ"، وهو الإناءُ المَطلِيُّ بالقارِ أوِ الزِّفتِ مِنَ الدَّاخلِ أوِ الخارجِ، وهذه أوعيةٌ وأوانٍ وظُروفٌ نُهيَ عنها؛ لِمَا فيها مِن خاصِّيَّةِ الإسراعِ في تَحويلِ الأشرِبةِ إلى خَمرٍ، فنَهاهم عنها النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لذلك.
وكان النَّهيُ عن الانتِباذِ في هذه الظُّروفِ في صَدرِ الإسلامِ، ثم نُسِخَ، ولكنْ تَبقى العِلَّةُ؛ وهي الإسكارُ، فأيُّ شَرابٍ اشتَدَّ وأسكَرَ فهو حَرامٌ، دونَ النَّظرِ إلى الوِعاءِ الذي اشتَدَّ وتَخمَّرَ فيه.
وفي الحديثِ: النَّهيُ عن شُربِ كُلِّ مُسكِرٍ مهما تَعدَّدَتْ أسماؤُه أو صِفاتُه.
وفيه: أنَّ الحِيَلَ وتَغييرَ الأسماءِ لا تُغَيِّرُ الحُكمَ مِنَ الحِلِّ إلى الحُرمةِ، ولا مِنَ الحُرمةِ إلى الحِلِّ.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم