﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾
[ المائدة: 13]

سورة : المائدة - Al-Maidah  - الجزء : ( 6 )  -  الصفحة: ( 109 )

So because of their breach of their covenant, We cursed them, and made their hearts grow hard. They change the words from their (right) places and have abandoned a good part of the Message that was sent to them. And you will not cease to discover deceit in them, except a few of them. But forgive them, and overlook (their misdeeds). Verily, Allah loves Al-Muhsinun (good-doers - see V. 2:112).


يُحرفون الكلم : يُغيرونهُ . أو يُؤولونه بالباطل
نسُوا حظا : تركوا نصيبا وافرا
خائنةٍ : خيانة وغدر . أو فعلة خائنة

فبسبب نقض هؤلاء اليهود لعهودهم المؤكَّدة طردناهم من رحمتنا، وجعلنا قلوبهم غليظة لا تلين للإيمان، يبدلون كلام الله الذي أنزله على موسى، وهو التوراة، وتركوا نصيبًا مما ذُكِّروا به، فلم يعملوا به. ولا تزال -أيها الرسول- تجد من اليهود خيانةً وغَدرًا، فهم على منهاج أسلافهم إلا قليلا منهم، فاعف عن سوء معاملتهم لك، واصفح عنهم، فإن الله يحب مَن أحسن العفو والصفح إلى من أساء إليه. (وهكذا يجد أهل الزيغ سبيلا إلى مقاصدهم السيئة بتحريف كلام الله وتأويله على غير وجهه، فإن عجَزوا عن التحريف والتأويل تركوا ما لا يتفق مع أهوائهم مِن شرع الله الذي لا يثبت عليه إلا القليل ممن عصمه الله منهم).

فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا - تفسير السعدي

{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ ْ}- أي: بسببه عاقبناهم بعدة عقوبات: الأولى: أنا { لَعَنَّاهُمْ ْ}- أي: طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا، حيث أغلقوا على أنفسهم أبواب الرحمة، ولم يقوموا بالعهد الذي أخذ عليهم، الذي هو سببها الأعظم.
الثانية: قوله: { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ْ}- أي: غليظة لا تجدي فيها المواعظ، ولا تنفعها الآيات والنذر، فلا يرغبهم تشويق، ولا يزعجهم تخويف، وهذا من أعظم العقوبات على العبد، أن يكون قلبه بهذه الصفة التي لا يفيده الهدى, والخير إلا شرا.
الثالثة: أنهم { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ ْ}- أي: ابتلوا بالتغيير والتبديل، فيجعلون للكلم الذي أراد الله معنى غير ما أراده الله ولا رسوله.
الرابعة: أنهم { نسوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ْ} فإنهم ذكروا بالتوراة، وبما أنزل الله على موسى، فنسوا حظا منه، وهذا شامل لنسيان علمه، وأنهم نسوه وضاع عنهم، ولم يوجد كثير مما أنساهم الله إياه عقوبة منه لهم.
وشامل لنسيان العمل الذي هو الترك، فلم يوفقوا للقيام بما أمروا به، ويستدل بهذا على أهل الكتاب بإنكارهم بعض الذي قد ذكر في كتابهم، أو وقع في زمانهم، أنه مما نسوه.
الخامسة: الخيانة المستمرة التي { لا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ ْ}- أي: خيانة لله ولعباده المؤمنين.
ومن أعظم الخيانة منهم، كتمهم [عن] من يعظهم ويحسن فيهم الظن الحق، وإبقاؤهم على كفرهم، فهذه خيانة عظيمة.
وهذه الخصال الذميمة، حاصلة لكل من اتصف بصفاتهم.
فكل من لم يقم بما أمر الله به، وأخذ به عليه الالتزام، كان له نصيب من اللعنة وقسوة القلب، والابتلاء بتحريف الكلم، وأنه لا يوفق للصواب، ونسيان حظ مما ذُكِّر به، وأنه لا بد أن يبتلى بالخيانة، نسأل الله العافية.
وسمى الله تعالى ما ذكروا به حظا، لأنه هو أعظم الحظوظ، وما عداه فإنما هي حظوظ دنيوية، كما قال تعالى: { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ْ} وقال في الحظ النافع: { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ْ} وقوله: { إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ْ}- أي: فإنهم وفوا بما عاهدوا الله عليه فوفقهم وهداهم للصراط المستقيم.
{ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ْ}- أي: لا تؤاخذهم بما يصدر منهم من الأذى، الذي يقتضي أن يعفى عنهم، واصفح، فإن ذلك من الإحسان { إن اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ْ} والإحسان: هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه، فإنه يراك.
وفي حق المخلوقين: بذل النفع الديني والدنيوي لهم.

تفسير الآية 13 - سورة المائدة

تفسير الجلالين التفسير الميسر تفسير السعدي
تفسير البغوي التفسير الوسيط تفسير ابن كثير
تفسير الطبري تفسير القرطبي إعراب الآية

فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية : الآية رقم 13 من سورة المائدة

 سورة المائدة الآية رقم 13

فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا - مكتوبة

الآية 13 من سورة المائدة بالرسم العثماني


﴿ فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٖ مِّنۡهُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱصۡفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ  ﴾ [ المائدة: 13]


﴿ فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ﴾ [ المائدة: 13]

  1. الآية مشكولة
  2. تفسير الآية
  3. استماع mp3
  4. الرسم العثماني
  5. تفسير الصفحة
فهرس القرآن | سور القرآن الكريم : سورة المائدة Al-Maidah الآية رقم 13 , مكتوبة بكتابة عادية و كذلك بالشكيل و مصورة مع الاستماع للآية بصوت ثلاثين قارئ من أشهر قراء العالم الاسلامي مع تفسيرها ,مكتوبة بالرسم العثماني لمونتاج فيديو اليوتيوب .
  
   

تحميل الآية 13 من المائدة صوت mp3


تدبر الآية: فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا

نقضُ الميثاق ذنبٌ توعَّد الله عليه لعِظَم جُرمه وسوء أثره، ولأنه خطيئةٌ لا يرتضيها دينٌ قويم، ولا يُقرُّها خُلقٌ مستقيم.
مَن عاش ملتزمًا بفرائض الله فهو في بُحبُوحةٍ من الرحمة لا تفارقه، ما لم يدَعها.
الجرأة على الوحيَين بتحريف مبانيهما، أو لَيِّ معانيهما، مظهرٌ من مظاهر قسوة القلب.
قد يكون نسيانُ بعضِ العلم عقوبةً على معصيةٍ ارتُكِبت، فمَن أراد أن يحفظَ عِلمه فليحفظ ربَّه، بفعل ما أمر وترك ما نهى.
لا تأمن خيانةَ مَن لم يكن أمينًا مع ربِّه؛ فما الذي يردعُه عن خيانة عهود خَلقه؟! طبع اللؤم غالبٌ على صاحبه، وإن اليهود أهلُ خيانةٍ يتوارثونها كابرًا عن كابر، يأخذها الآخِرُ عن الغابر، وفي هذه الحقيقة تنبيهٌ لأهل الإسلام ألا ينخدعوا بهم.
الإسلام يدعو المسلمَ إلى العفو إذا ما انتصر، وإلى الصَّفح إذا ما عَلا وظَفِر، وعند الاقتدار يحسُن عفوُ الأخيار، فإذا ملكتَ فأسجِح، وإذا قدَرتَ فسامِح.
إذا انتصر المسلمُ على عدوِّه فعفا عنه فقد يهتدي للحقِّ بعفوه، ما لم يَهتدِ إليه بسيفه؛ فإن بريقَ العفو قد يُضيء القلوبَ أكثرَ من بريق السيف.

لقد بين- سبحانه - جانبا من رذائلهم، ومن العقوبات التي عاقبهم بها بسبب فسوقهم عن أمره فقال: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ، لَعَنَّاهُمْ، وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.
والفاء في قوله: فَبِما نَقْضِهِمْ للتفريع على ما تقدم من الحديث عنهم، والباء للسببية و «ما» مزيدة لتوكيد الكلام وتمكينه في النفس والجار والمجرور- متعلق بقوله: لَعَنَّاهُمْ وقوله: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً معطوف على ما قبله وقوله: قاسِيَةً بوزن فاعلة- من القسوة بمعنى الصلابة واليبوسة يقال: قسا قلبه يقسو فهو قاس، إذا غلظ واشتد وصار يابسا صلبا وقساوة القلب هنا مجاز عن عدم تأثره بالمواعظ والترغيب والترهيب أى فبسبب جرائمهم الشديدة أبعدناهم من رحمتنا وجعلنا قلوبهم يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تتأثر بالمواعظ والنذر.
وقرأ حمزة والكسائي: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً بتشديد الياء من غير ألف على وزن فعيلة.
وللمفسرين في معناها رأيان:أحدهما: أن {قسية} بمعنى قاسية، غير أن فيها مبالغة، إذ هي على وزن فعيلة، وهذه الصفة تدل على تمكن صفة القسوة من قلوبهم.
والثاني: أن معنى {قسية} هنا غير معنى قاسية، لأن قسية في هذا الموضع مأخوذة من قولهم:درهم قسى- على وزن شقي- أى: فاسد رديء لأنه مغشوش بنحاس أو غيره مما يخلو منه الدرهم السليم.
والمعنى على هذا الوجه: وجعلنا قلوبهم إيمانها ليس خالصا وإنما يخالطه كفر ونفاق كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غش من نحاس أو رصاص أو غيرهما.
وقد رجح ابن جرير الرأى الأول- وهو أن قسية بمعنى قاسية غير أن فيها مبالغة- فقال {وأولى التأويلين عندي بالصواب تأويل من تأول فعيلة من القسوة كما قيل: نفس زكية وزاكية، وامرأة شاهدة وشهيدة، لأن الله-تبارك وتعالى- وصف القوم بنقضهم ميثاقهم، وكفرهم به، ولم يصفهم بشيء من الإيمان فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها يخالطه كفر كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غش} «1» وأما صاحب الكشاف فقد رد التفسير الثاني إلى الأول وجعل بينهما تعانقا وتلازما في المعنى فقال: وقرأ عبد الله {قسية} أى: ردية مغشوشة.
من قولهم: درهم قسى وهو من القسوة، لأن الذهب والفضة الخالصين فيهما لين، والمغشوش فيه يبس وصلابة» «2» .
وقوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ استئناف مبين لشدة قساوة قلوبهم، فإنه لا قسوة أشد من تحريف كلام الله-تبارك وتعالى- والميل به عن الحق والصواب.
أى: أنهم بلغ بهم الحال في قسوة قلوبهم، وعدم تأثرها بوعيد الله أنهم يميلون كلامه- سبحانه - عن الموضع الذي نزل فيه ولأجله عن طريق التأويل الباطل، أو التفسير الفاسد، أو التبديل للألفاظ بالزيادة تارة وبالنقصان أخرى، على حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم وشهواتهم الممقوتة وعبر- سبحانه - بقوله: يُحَرِّفُونَ بصيغة الفعل المضارع، لاستحضار صورة هؤلاء المحرفين.
والدلالة على أن أبناءهم قد نهجوا نهج آبائهم في هذا الخلق الذميم.
فإن هذا التحريف الذي حكاه الله-تبارك وتعالى- في هذه الآية قد كان من بنى إسرائيل بعد عهد موسى- عليه السلام- واستمروا على ذلك دون أن يصدهم عنه ما كان من نصح النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم ومن تحذيره إياهم.
والمراد بالنسيان في قوله: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ الترك والإهمال قال الراغب:{النسيان: ترك الإنسان ضبط ما استودع.
إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة، وإما عن قصد حتى يزول عن القلب ذكره
} .
والأنواع الثلاثة التي ذكرها الراغب كأسباب للنسيان قد فعلها بنو إسرائيل فهم قد أصابتهم الغفلة عن تدبر كتابهم والعمل بما فيه بسبب ضعف قلوبهم، واستيلاء المطامع والشهوات عليها وأهملوا أمر دينهم وشريعتهم ولم يقيدوا أنفسهم بها عن تعمد وإصرار، لأن تنفيذها يكلفهم الاستقامة على دين الله وهذا ما تأباه نفوسهم الجامحة وشهواتهم العارمة.
والتنكير في قوله: حَظًّا للتكثير والتهويل.
أى: تركوا نصيبا كبيرا مما أمرتهم به شريعتهم وذكرتهم به توراتهم من وجوب اتباعهم للحق وإيمانهم بمحمد- صلّى الله عليه وسلّم- عند ظهوره.
وهذه الجملة الكريمة وما يشبهها مما أورده القرآن في هذا المعنى تعتبر من المعجزات الدالة على صدق القرآن الكريم فإن الناس قبل البعثة النبوية الشريفة لم يكونوا يعرفون أن اليهود نسوا حظا كبيرا مما ذكرتهم به توراتهم.
فلما بين القرآن ذلك، عرفوا ما لم يكونوا يعرفونه من قبل.
ولما كانت أخلاق الآباء كثيرا ما يتوارثها الأبناء، فقد رأينا القرآن الكريم يحذر النبي صلّى الله عليه وسلّم من اليهود المعاصرين له، والذين ورثوا رذائل آبائهم فقال: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.
وقوله خائِنَةٍ بمعنى الخيانة أى عدم الوفاء بالعهد.
فهي مصدر على وزن فاعله كالعافية والطاغية.
قال-تبارك وتعالى- فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ أى بالطغيان.
ويحتمل أن يكون قوله خائِنَةٍ صفة لموصوف محذوف أى على فرقة خائنة أو طائفة.
والمعنى: ولا تزال- أيها الرسول الكريم- ترى في هؤلاء اليهود المعاصرين لك صورة السابقين في الغدر والخيانة.
وإن تباعدت الأزمان فهؤلاء الذين يعاصرونك فيهم خيانة أسلافهم، وغدرهم ونقضهم لعهودهم.
إلا قليلا منهم دخلوا في الإسلام فوفوا بعهودهم ولم يكونوا ناقضين لها.
وفي هذه الجملة الكريمة تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم عما لقيه من اليهود المعاصرين له من كيد ومكر وخيانة.
فكأن الله-تبارك وتعالى- يقول له إن ما تراه منهم من غدر وخداع ليس شيئا مستبعدا، بل هو طبيعة فيهم ورثوها عن آبائهم منذ زمن بعيد: وفيها- أيضا- تحذير له صلّى الله عليه وسلّم من شرورهم ومن مسالكهم الخبيثة لكيد الإسلام والمسلمين فإن التعبير بقوله وَلا تَزالُ المفيد للدوام والاستمرار يدل على استمرار خيانتهم ودوام نقضهم لعهودهم ومواثيقهم وقوله: إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ استثناء من الضمير المجرور في قوله خائِنَةٍ مِنْهُمْ والمراد بهذا العدد القليل منهم، أولئك الذين دخلوا في الإسلام، واتبعوا الحق كعبد الله بن سلام وأمثاله.
ثم ختم سبحانه- الآية بقوله: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ والعفو عدم مقابلة الإساءة بمثلها.
والصفح: ترك اللوم والمعاتبة.
ولذا قالوا: الصفح أعلى رتبة من العفو، لأن العفو ترك المقابلة بالمثل ظاهرا.
أما الصفح فهو يتناول السماحة النفسية واعتبار الإساءة كأن لم تكن في الظاهر والباطن.
وللعلماء أقوال في المراد بالذين أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعفو والصفح عنه:1- فيرى بعضهم أن المراد بهم، القلة اليهودية التي أسلمت، واستثناها الله بقوله إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهذا الرأى مردود بأنهم ماداموا قد آمنوا، فقد عصموا دماءهم وأموالهم، ولم يصبح للعفو والصفح عنهم موضع.
2- ويرى آخرون أن الذين أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعفو والصفح عنهم هم كافة اليهود، إلا أن الآية نسخت بآية التوبة وهي قوله قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ، مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ وهذا الرأى ضعيف لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الآيتين وهو غير متعذر- كما سنبين.
3- ويرى أبو مسلّم أن المراد بهم اليهود الذين بقوا على كفرهم ولكنهم لم ينقضوا عهودهم.
والذي نراه أولى أن العفو والصفح عام لليهود، وأن من مظاهر ذلك مسالمتهم ومساكنتهم، ومجادلتهم بالتي هي أحسن ومعاملتهم بمبدأ لهم ما لنا وعليهم ما علينا، مع العفو عن زلاتهم التي لا تؤثر على كيان الدعوة الإسلامية.
فإذا ما نقضوا عهودهم وخانوا الله ورسوله والمؤمنين، وأصبح العفو عنهم فيه مضرة بالمسلمين ففي هذه الحالة تجب معاملتهم بالطريقة التي تقى المسلمين شرورهم، لأن العفو عنهم- عند استلزام قتالهم للدفاع عن النفس وعن العقيدة- يكون إلقاء بالنفس إلى التهلكة ويكون قد وضع العفو في غير موضعه.
وهذا القول يقارب ما ذهب إليه أبو مسلم.
وربما اعتبر توضيحا له.
فكأن الله-تبارك وتعالى- يقول لنبيه صلّى الله عليه وسلّم فاعف عن هؤلاء اليهود الذين ورثوا الخيانة عن آبائهم، واصفح عن زلاتهم التي لا تؤثر في سير الدعوة الإسلامية إلى الوقت المناسب لمحاسبتهم، إن الله تعالى يحب المحسنين.
وبذلك نرى السورة الكريمة قد بينت جانبا مما أخذ الله على بنى إسرائيل من عهود ومواثيق، ورغّبتهم في الوفاء بها وحذرتهم.
من نقضها، كما بينت بعض العقوبات التي عاقبهم الله بها بسبب فسوقهم عن أمره ورسمت للنبي صلّى الله عليه وسلّم طريق معالجتهم ومعاملتهم بما يقي المسلمين من شرورهم ومكرهم.
وبعد أن بين- سبحانه - جانبا من قبائح اليهود ونقضهم لمواثيقهم عقب ذلك ببيان حال النصارى فقال-تبارك وتعالى-:
قوله تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنينقوله تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم أي : فبنقضهم ميثاقهم ، " ما " زائدة للتوكيد ، عن قتادة وسائر أهل العلم ; وذلك أنها تؤكد الكلام بمعنى تمكنه في النفس من جهة حسن النظم ، ومن جهة تكثيره للتوكيد ; كما قال :لشيء ما يسود من يسودفالتأكيد بعلامة موضوعة كالتأكيد بالتكرير .
لعناهم قال ابن عباس : عذبناهم بالجزية .
وقال الحسن ومقاتل : بالمسخ .
عطاء : أبعدناهم ; واللعن الإبعاد والطرد من الرحمة .
وجعلنا قلوبهم قاسية أي : صلبة لا تعي خيرا ولا تفعله ; والقاسية والعاتية بمعنى واحد ، وقرأ الكسائي وحمزة : " قسية " بتشديد الياء من غير ألف ; وهي قراءة ابن مسعود والنخعي ويحيى بن وثاب ، والعام القسي الشديد الذي لا مطر فيه ، وقيل : هو من الدراهم القسيات أي : الفاسدة الرديئة ; فمعنى " قسية " على هذا ليست بخالصة الإيمان ، أي : فيها نفاق .
قال النحاس : وهذا قول حسن ; لأنه يقال : درهم قسي إذا كان مغشوشا بنحاس أو غيره .
يقال : درهم قسي ( مخفف السين مشدد الياء ) مثال شقي أي : زائف ; ذكر ذلك أبو عبيد وأنشد : ( الشاعر هو : أبو زيد الطائي )لها صواهل في صم السلام كما صاح القسيات في أيدي الصياريفيصف وقع المساحي في الحجارة ، وقال الأصمعي وأبو عبيد : درهم قسي كأنه معرب قاشي .
قال القشيري : وهذا بعيد ; لأنه ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب ، بل الدرهم القسي من القسوة والشدة أيضا ; لأن ما قلت نقرته يقسو ويصلب ، وقرأ الأعمش : " قسية " بتخفيف الياء على وزن فعلة نحو عمية وشجية ; من قسى يقسي لا من قسا يقسو ، وقرأ الباقون على وزن فاعلة ; وهو اختيار أبي عبيد ; وهما لغتان مثل العلية والعالية ، والزكية والزاكية .
قال أبو جعفر النحاس : أولى ما فيه أن تكون قسية بمعنى قاسية ، إلا أن فعيلة أبلغ من فاعلة .
فالمعنى : جعلنا قلوبهم غليظة نابية عن الإيمان والتوفيق لطاعتي ; لأن القوم لم يوصفوا بشيء من الإيمان فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها خالطه كفر ، كالدراهم القسية التي خالطها غش .
قال الراجز :قد قسوت وقست لداتييحرفون الكلم عن مواضعه أي : يتأولونه على غير تأويله ، ويلقون ذلك إلى العوام ، وقيل : معناه يبدلون حروفه .
و ( يحرفون ) في موضع نصب ، أي : جعلنا قلوبهم قاسية محرفين ، وقرأ السلمي والنخعي " الكلام " بالألف وذلك أنهم غيروا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم .
ونسوا حظا مما ذكروا به أي : نسوا عهد الله الذي أخذه الأنبياء عليهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبيان نعته .
ولا تزال تطلع أي : وأنت يا محمد لا تزال الآن تقف على خائنة منهم والخائنة الخيانة ; قال قتادة ، وهذا جائز في اللغة ، ويكون مثل قولهم : قائلة بمعنى قيلولة ، وقيل : هو نعت لمحذوف والتقدير فرقة خائنة ، وقد تقع خائنة للواحد كما يقال : رجل نسابة وعلامة ; فخائنة على هذا للمبالغة ; يقال : رجل خائنة إذا بالغت في وصفه بالخيانة .
قال الشاعر :حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن للغدر خائنة مغل الإصبعقال ابن عباس : على خائنة أي : معصية ، وقيل : كذب وفجور ، وكانت خيانتهم نقضهم العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ; كيوم الأحزاب وغير ذلك من همهم بقتله وسبه .
إلا قليلا منهم لم يخونوا فهو استثناء من الهاء والميم اللتين في خائنة منهم .
فاعف عنهم واصفح في معناه قولان : فاعف عنهم واصفح ما دام بينك وبينهم عهد وهم أهل الذمة ، والقول الآخر أنه منسوخ بآية السيف ، وقيل : بقوله عز وجل وإما تخافن من قوم خيانة .


شرح المفردات و معاني الكلمات : نقضهم , ميثاقهم , لعناهم , وجعلنا , قلوبهم , قاسية , يحرفون , الكلم , مواضعه , ونسوا , حظا , ذكروا , تزال , تطلع , خائنة , قليلا , فاعف , اصفح , الله , يحب , المحسنين ,
English Türkçe Indonesia
Русский Français فارسی
تفسير انجليزي اعراب

آيات من القرآن الكريم

  1. وكنتم أزواجا ثلاثة
  2. قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم
  3. وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا
  4. إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود
  5. قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون
  6. لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم
  7. لكم دينكم ولي دين
  8. هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين
  9. والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم
  10. فرت من قسورة

تحميل سورة المائدة mp3 :

سورة المائدة mp3 : قم باختيار القارئ للاستماع و تحميل سورة المائدة

سورة المائدة بصوت ماهر المعيقلي
ماهر المعيقلي
سورة المائدة بصوت سعد الغامدي
سعد الغامدي
سورة المائدة بصوت عبد  الباسط عبد الصمد
عبد الباسط
سورة المائدة بصوت أحمد العجمي
أحمد العجمي
سورة المائدة بصوت محمد صديق المنشاوي
المنشاوي
سورة المائدة بصوت محمود خليل الحصري
الحصري
سورة المائدة بصوت مشاري راشد العفاسي
مشاري العفاسي
سورة المائدة بصوت ناصر القطامي
ناصر القطامي
سورة المائدة بصوت فارس عباد
فارس عباد
سورة المائدة بصوت ياسر لدوسري
ياسر الدوسري


الباحث القرآني | البحث في القرآن الكريم


Tuesday, December 17, 2024

لا تنسنا من دعوة صالحة بظهر الغيب