سورة المائدة | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الطبري تفسير الصفحة 109 من المصحف
تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 109
110
108
الآية : 10
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }..
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: وَالّذِينَ كَفَرُوا: والذين جحدوا وحدانـية الله, ونقضوا ميثاقه وعقوده التـي عاقدوها إياه. وكَذّبُوا بآياتِنا يقول: وكذّبوا بأدلة الله وحججه الدالة علـى وحدانـيته التـي جاءت بها الرسل وغيرها. أولَئِكَ أصْحَابُ الـجَحِيـمِ يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم أهل الـجحيـم, يعنـي: أهل النار الذين يخـلدون فـيها ولا يخرجون منها أبدا.
الآية : 11
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{يَا أَيّهَآ الّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ }..
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا: أقرّوا بتوحيد الله ورسالة رسوله صلى الله عليه وسلم وما جارهم به من عند ربهم. اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ: اذكروا النعمة التـي أنعم الله بها علـيكم, فـاشكروه علـيها بـالوفـاء له بـميثاقه الذي واثقكم به, والعقود التـي عاقدتـم نبـيكم صلى الله عليه وسلم علـيها. ثم وصف نعمته التـي أمرهم جلّ ثناؤه بـالشكر علـيها مع سائر نعمه, فقال: هي كفه عنكم أيدي القوم الذين هموا بـالبطش بكم, فصرفهم عنكم, وحال بـينهم وبـين ما أرادوه بكم.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي صفة هذه النعمة التـي ذكّر الله جلّ ثناؤه أصحاب نبـيه صلى الله عليه وسلم بها وأمرهم بـالشكر له علـيها. فقال بعضهم: هو استنقاذ الله نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه مـما كانت الـيهود من بنـي النضير هموا به يوم أتوهم يستـحملونهم دية العامريـين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري. ذكر من قال ذلك:
9096ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبـي بكر, قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى بنـي النضير لـيستعينهم علـى دية العامريـين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري فلـما جاءهم خلا بعضهم ببعض, فقالوا: إنكم لن تـجدوا مـحمدا أقرب منه الاَن, فمُروا رجلاً يظهر علـى هذا البـيت فـيطرح علـيه صخرة فـيريحنا منه فقام عمرو بن جحاش بن كعب. فأتـى رسول الله صلى الله عليه وسلم الـخبر, وانصرف عنهم, فأنزل الله عزّ ذكره فـيهم وفـيـما أراد هو وقومه: يا أيها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نَعْمَتَ اللّه عَلَـيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ... الاَية.
9097ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ قال الـيهود: دخـل علـيهم النبـيّ صلى الله عليه وسلم حائطا لهم, وأصحابه من وراء جداره, فـاستعانهم فـي مَغرم دية غرمها, ثم قام من عندهم, فـائتـمروا بـينهم بقتله, فخرج يـمشي القهقري ينظر إلـيهم, ثم دعا أصحابه رجلاً رجلاً حتـى تتامّوا إلـيه.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: اذْكُرُوا نَعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ فَكَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ يهود حين دخـل النبـيّ صلى الله عليه وسلم حائطا لهم, وأصحابه من وراء جدار لهم, فـاستعانهم فـي مغرم فـي دية غرمها, ثم قام من عندهم, فـائتـمروا بـينهم بقتله, فخرج يـمشي معترضا ينظر إلـيهم خيفتهم, ثم دعا أصحابه رجلاً رجلاً حتـى تتاموا إلـيه. قال الله جلّ وعزّ: فَكَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتّقُوا اللّهَ وَعلـى اللّهِ فَلْـيَتَوَكّلِ الـمُؤْمِنُونَ.
9098ـ حدثنا هناد بن السريّ, قال: حدثنا يونس بن بكير, قال: ثنـي أبو معشر, عن يزيد بن أبـي زياد, قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنـي النضير يستعينهم فـي عَقْل أصابه ومعه أبو بكر وعمر وعلـيّ فقال: «أعِينُونـي فـي عَقْلٍ أصَابَنـي» فقالوا: نعم يا أبـا القاسم, قد آن لك أن تأتـينا وتسألنا حاجة, اجلس حتـى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ينتظرونه, وجاء حيـي ابن أخطب وهو رأس القوم, وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال, فقال حيـي لأصحابه: لا ترونه أقرب منه الاَن, اطرحوا علـيه حجارة فـاقتلوه ولا ترون شرّا أبدا فجاءوا إلـى رجي لهم عظيـمة لـيطرحوها علـيه, فأمسك الله عنها أيديهم, حتـى جاءه جبريـل صلى الله عليه وسلم فأقامه من ثم, فأنزل الله جلّ وعزّ: يا أيّها الّذِيَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ فَكَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتّقُوا اللّهَ وَعلـى اللّهِ فَلْـيَتَوَكّلِ الـمُؤْمِنُونَ, فأخبر الله عز ذكره نبـيه صلى الله عليه وسلم ما أرادوا به.
9099ـ حدثنـي القام, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثـير: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ... الاَية, قال: يهود دخـل علـيهم النبـيّ صلى الله عليه وسلم حائطا, فـاستعانهم فـي مغرم غرمه, فـائتـمروا بـينهم بقتله, فقام من عندهم, فخرج معترضا ينظر إلـيهم خيفتهم, ثم دعا أصحابه رجلاً رجلاً حتـى تتاموا إلـيه.
9100ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة, قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الـمنذر بن عمرو الأنصاري أحد بنـي النـجار وهو أحد النقبـاء لـيـلة العقبة, فبعثه فـي ثلاثـين راكبـا من الـمهاجرين والأنصار. فخرجوا, فلقوا عامر بن الطفـيـل بن مالك بن جعفر علـى بئر معونة, وهي من مياه بنـي عامر, فـاقتتلوا, فقتل الـمنذر وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا فـي طلب ضالّة لهم, فلـم يَرُعْهُم إلا والطير تـحوم فـي السماء, يسقط من بـين خراطيـمها عَلَقُ الدم, فقال أحد النفر: قتل أصحابنا والرحمن ثم تولـى يشتدّ حتـى لقـي رجلاً, فـاختلفـا ضربتـين, فلـما خالطته الضربة, رفع رأسه إلـى السماء ففتـح عينـيه, ثم قال: الله أكبر, الـجنة وربّ العالـمين فكان يدعى «أعْنَق لـيـموتَ». ورجع صاحبـاه, فلقـيا زجلـين من بنـي سلـيـم, وبـين النبـيّ صلى الله عليه وسلم وبـين قومهما موادعة, فـانتسبـا لهما إلـى بنـي عامر, فقتلاهما. وقدم قومهما إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية, فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلـيّ وطلـحة وعبد الرحمن بن عوف, حتـى دخـلو علـى كعب بن الأشرف ويهود بنـي النّضير, فـاستعانهم فـي عقلهما. قال: فـاجتـمعت الـيهود لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, واعتلوا بصنـيعة الطعام, فأتاه جبريـل صلى الله عليه وسلم بـالذي اجتـمعت علـيه يهود من الغدر, فخرج ثم دعا علـيّا, فقال: «لا تَبْرَحْ مَقَامَكَ, فَمَنْ خَرَجَ عَلَـيْكَ مِنْ أصْحَابـي فَسَألَكَ عَنّـي فَقُلْ وَجّه إلـى الـمدينة فأَدْرِكُوه» قال: فجعلوا يـمرّون علـى علـيّ, فـيأمرهم بـالذي أمره حتـى أتـى علـيه آخرُهم, ثم تبعهم فذلك قوله: وَلا تَزَالُ تَطّلِعُ عَلـى خاِئنَةٍ مِنْهُمْ.
9101ـ حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا إسرائيـل, عن السديّ, عن أي مالك فـي قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ فَكَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ. قال: نزلت فـي كعب بن الأشرف وأصحابه, حين أرادوا أن يغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: بل النعمة التـي ذكرها الله فـي هذه الاَية, فأمر الـمؤمنـين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالشكر له علـيها, أن الـيهود كانت همت بقتل النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي طعام دعوه إلـيه, فأعلـم الله عزّ وجلّ نبـيه صلى الله عليه وسلم ما هموا به, فـانتهى هو وأصحابه عن إجابتهم إلـيه. ذكر من قال ذلك:
9102ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ... إلـى قوله: فَكَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وذلك أن قوما من الـيهود صنعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه طعاما لـيقتلوه إذا أتـى الطعام, فأوحى الله إلـيه بشأنهم, فلـم يأت الطعام وأمر أصحابه فأبوه.
وقال آخرون: عنى الله جلّ ثناؤه بذلك النعمة التـي أنعمها علـى الـمؤمنـين بـاطلاع نبـيه صلى الله عليه وسلم علـى ما همّ به عدوّه وعدوّهم من الـمشركين يوم بطن نـخـل من اغترارهم إياهم, والإيقاع بهم إذا هم اشتغلوا عنهم بصلاتهم, فسجدوا فـيها, وتعريفه نبـيه صلى الله عليه وسلم الـحذار من عدوّه فـي صلاته بتعلـيـمه إياه صلاة الـخوف. ذكر من قال ذلك:
9103ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ... الاَية, ذكر لنا أنها نزلت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببطن نـخـل فـي الغزوة السابعة, فأراد بنو ثعلبة وبنو مـحارب أن يفتكوا به, فأطلعه الله علـى ذلك. ذكر لنا أن رجلاً انتدب لقتله, فأتـى نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم وسيفه موضوع, فقال: آخذه يا نبـيّ الله؟ قال: «خُذْهُ» قال: أستلّه؟ قال: «نَعَمْ» فسلّه, فقال: من يـمنعك منـي؟ قال: «الله يَـمْنَعُنِـي مِنْكَ». فهدّده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأغلظوا له القول, فشام السيف, وأمر نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بـالرحيـل, فأنزل علـيه صلاة الـخوف عند ذلك.
9104ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الزهري, ذكره عن ابن أبـي سلـمة, عن جابر: أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً, وتفرّق الناس فـي العِضَاه يستظلون تـحتها, فعلق النبـيّ صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة, فجاء أعرابـيّ إلـى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه فسلّه, ثم أقبل علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: من يـمنعك منـي؟ والنبـيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «اللّهُ», فشام الأعرابـيّ السيف, فدعا النبـيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه, فأخبرهم خبر الأعرابـي وهو جالس إلـى جنبه لـم يعاقبه. قال معمر: وكان قتادة يذكر نـحو هذا, وذكر أن قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم, فأرسلوا هذا الأعرابـيّ. وتأوّل: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ... الاَية.
وأولـى الأقوال بـالصحة فـي تأويـل ذلك, قول من قال: عنى الله بـالنعمة التـي ذكر فـي هذه الاَية نعمته علـى الـمؤمنـين به وبرسوله, التـي أنعم بها علـيهم فـي استنقاذه نبـيهم مـحمدا صلى الله عليه وسلم, مـما كانت يهود بنـي النضير همت به من قتله وقتل من معه يوم سار إلـيهم نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم فـي الدية التـي كان تـحملها عن قتـيـلـي عمرو بن أمية.
وإنـما قلنا ذلك أولـى بـالصحة فـي تأويـل ذلك, لأن الله عقب ذكر ذلك برمي الـيهود بصنائعها وقبـيح أفعالها وخيانتها ربها وأنبـياءها. ثم أمر نبـيه صلى الله عليه وسلم بـالعفو عنهم والصفح عن عظيـم جهلهم, فكان معلوما بذلك أنه صلى الله عليه وسلم لـم يؤمر بـالعفو عنهم والصفح عقـيب قوله: إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ ومن غيره كان يبسط الأيدي إلـيهم, لأنه لو كان الذين هموا ببسط الأيدي إلـيهم غيرهم لكان حريّا أن يكون الأمر بـالعفو والصفح عنهم لا عمن لـم يجر لهم بذلك ذكر, ولكان الوصف بـالـخيانة فـي وصفهم فـي هذا الـموضع لا فـي وصف من لـم يَجْر لـخيانته ذكر, ففـي ذلك ما ينبـيء عن صحة ما قضينا له بـالصحة من التأويلات فـي ذلك دون ما خالفه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: واتّقُوا اللّهِ وَعَلـى اللّهِ فَلْـيَتَوَكَلّ الـمُؤْمِنُونَ.
يعنـي جلّ ثناؤه: واحذروا الله أيها الـمؤمنون أن تـخالفوه فـيـما أمركم ونهاكم أن تنقضوا الـميثاق الذي واثقكم به فتستوجبوا منه العقاب الذي لا قِبَل لكم به. وَعَلـى اللّهِ فَلْـيَتَوَكّلِ الـمُؤْمِنُونَ يقول: وإلـى الله فلـيـلق أزمة أمورهم, ويستسلـم لقضائه, ويثق بنصرته وعونه, الـمقرّون بوحدانـية الله ورسالة رسوله, العاملون بأمره ونهيه, فإن ذلك من كمال دينهم وتـمام إيـمانهم, وأنهم إذا فعلوا ذلك كلأهم ورعاهم وحفظهم مـمن أرادهم بسوء, كما حفظكم ودافع عنكم أيها الـمؤمنون الـيهود الذين هموا بـما هموا به من بسط أيديهم إلـيكم, كلاءة منه لكم, إذ كنتـم من أهل الإيـمان به وبرسوله دون غيره, فإن غيره لا يطيق دفع سوء أراد بكم ربكم ولا اجتلاب نفع لكم لـم يقضه لكم.
الآية : 12
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِيَ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللّهُ إِنّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصّلاَةَ وَآتَيْتُمْ الزّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً لاُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَلاُدْخِلَنّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ }..
وهذه الاَية أنزلت إعلاما من الله جلّ ثناؤه نبـيه صلى الله عليه وسلم والـمؤمنـين به, أخلاقَ الذين هموا ببسط أيديهم إلـيهم من الـيهود. كالذي:
9105ـ حدثنا الـحرث بن مـحمد, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا مبـارك, عن الـحسن فـي قوله: ولقَدْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ قال: الـيهود من أهل الكتاب.
وأن الذي هموا به من الغدر ونقض العهد الذي بـينهم وبـينه من صفـاتهم وصفـات أوائلهم وأخلاقهم وأخلاق أسلافهم قديـما, واحتـجاجا لنبـيه صلى الله عليه وسلم علـى الـيهود بـاطلاعه إياه علـى ما كان علـمه عندهم دون العرب من خفـيّ أمورهم ومكنون علومهم, وتوبـيخا للـيهود فـي تـماديهم فـي الغيّ, وإصرارهم علـى الكفر مع علـمهم بخطإ ما هم علـيهم مقـيـمون. يقول الله لنبـيه صلى الله عليه وسلم: لا تستعظموا أمر الذين هموا ببسط أيديهم إلـيهم من هؤلاء الـيهود بـما هموا به لكم, ولا أمر الغدر الذي حاولوه وأرادوه بكم, فإن ذلك من أخلاق أوائلهم وأسلافهم, لا يعدُون أن يكونوا علـى منهاج أوّلهم وطريق سلفهم. ثم ابتدأ الـخبر عزّ ذكره عن بعض غدراتهم وخياناتهم وجراءتهم علـى ربهم ونقضهم ميثاقهم الذي واثقهم علـيه بـارئهم, مع نعمه التـي خصهم بها, وكراماته التـي طوّقهم شكرها, فقال: ولقد أخذ الله ميثاق سلف من همّ ببسط يده إلـيكم من يهود بنـي إسرائيـل يا معشر الـمؤمنـين بـالوفـاء له بعهوده وطاعته فـيـما أمرهم ونهاهم. كما:
9106ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم العسقلانـي, قال: حدثنا أبو جعفر الرازي, عن الربـيع, عن أبـي العالـية فـي قوله: وَلَقَدْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ قال: أخذ الله مواثـيقهم أن يخـلصوا له ولا يعبدوا غيره.
وَبَعَثْنا مِنْهُمْ اثْنَى عَشَرَ نَقِـيبـا يعنـي بذلك: وبعثنا منهم اثنـي عشر كفـيلاً, كفلوا علـيهم بـالوفـاء لله بـما واثقوه علـيه من العهود فـيـما أمرهم به, وفما نهاهم عنه. والنقـيب فـي كلام العرب, كالعريف علـى القوم, غير أنه فوق العريف, يقال منه: نَقَبَ فلان علـى بنـي فلان فهو يَنْقُب نقبـا, فإذا أريد أنه لـم يكن نقـيبـا فصار نقـيبـا, قـيـل: قد نَقُب فهو يَنْقب نَقَابة, ومن العريف: عَرُف علـيهم يَعْرُف عِرَافَةً. فأما الـمناكب فإنهم كالأعوان يكونون مع العرفـاء, واحدهم مَنْكِب. وكان بعض أهل العلـم بـالعربـية يقول: هو الأمين الضامن علـى القوم. فأما أهل التأويـل فإنهم قد اختلفوا بـينهم فـي تأويـله, فقال بعضهم: هو الشاهد علـى قومه. ذكر من قال ذلك:
9107ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلَقَدْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِـي إسْرائيـل وَبَعَثْنا مِنْهُمْ اثْنَـيْ عَشَرَ نَقِـيبـا: من كلّ سبط رجل شاهد علـى قومه.
وقال آخرون: النقـيب: الأمين. ذكر من قال ذلك:
9108ـ حُدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: النقبـاء: الأمناء.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
وإنـما كان الله أمر موسى نبـيه صلى الله عليه وسلم ببعثه النقبـاء الأثنـي عشر من قومه بنـي إسرائيـل إلـى أرض الـجبـابرة بـالشام لـيتـجسسوا لـموسى أخبرهم إذ أراد هلاكهم, وأن يورّث أرضهم وديارهم موسى وقومه, وأن يجعلها مساكن لبنـي إسرائيـل بعد ما أنـجاهم من فرعون وقومه, وأخرجهم من أرض مصر, فبعث موسى الذين أمره الله ببعثهم إلـيها من النقبـاء. كما:
9109ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: أمر الله بنـي إسرائيـل بـالسير إلـى أريحاء, وهي أرض بـيت الـمقدس, فساروا حتـى إذا كانوا قريبـا منهم بعث موسى اثنـي عشر نقـيبـا من جميع أسبـاط بنـي إسرائيـل, فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الـجبـابرة, فلقـيهم رجل من الـجبـارين يقال له عاج, فأخذ الاثنـي عشر, فجعلهم فـي حُجْزته وعلـى رأسه حزمة حطب, فـانطلق بهم إلـى امرأته, فقال: انظري إلـى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا فطرحهم بـين يديها, فقال: ألا أطحنهم برجلـي؟ فقالت امرأته: بل خـلّ عنهم حتـى يخبروا قومهم بـما رأوا ففعل ذلك. فلـما خرج القوم, قال بعضهم لبعض: يا قوم إنكم إن أخبرتـم بنـي إسرائيـل خبر القوم, ارتدّوا عن نبـيّ الله علـيه السلام, لكن اكتـموه وأخبروا انِـيَ الله, فـيكونان فـيـما يريان رأيهما, فأخذ بعضهم علـى بعض الـميثاق بذلك لـيكتـموه. ثم رجعوا فـانطلق عشرة منهم فنكثوا العهد, فجعل الرجل يخبر أخاه وأبـاه بـما رأى من عاج, وكتـم رجلان منهم, فأتوا موسى وهارون, فأخبروهما الـخبر, فذلك حين يقول الله: وَلَقَدْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَـيْ عَشَرَ نَقِـيبـا.
9110ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: اثْنَـيْ عَشَرَ نَقِـيبـا من كلّ سبط من بنـي إسرائيـل رجل أرسلهم موسى إلـى الـجبـارين, فوجدوهم يدخـل فـي كمّ أحدهم اثنان منهم يـلفونهم لفّـا, ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس بـينهم فـي خشبة, ويدخـل فـي شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربع. فرجع النقبـاء كلّ منهم ينهي سبطه عن قتالهم إلا يُوشَع ابن نون وكالب بن يوقنا يأمران الأسبـاط بقتال الـجبـابرة وبجهادهم, فعصوا هذين وأطاعوا الأخرين.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد بنـحوه, إلا أنه قال: من بنـي إسرائيـل رجال, وقال أيضا: يـلقونهما.
9111ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: أمر موسى أن يسير ببنـي إسرائيـل إلـى الأرض الـمقدسة, وقال: إنـي قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلاً, فـاخرج إلـيها وجاهد من فـيها من العدوّ, فإنـي ناصركم علـيهم, وخذ من قومك اثنـي عشر نقـيبـا من كلّ سبط نقـيبـا يكون علـى قومه بـالوفـاء منهم علـى ما أمروا به, وقل لهم إن الله يقول لكم: إنّـي معكُمْ لِئن أقمتُـم الصّلاةَ وآتـيتـمُ الزكاة... إلـى قوله: فقدْ ضلّ سواءَ السّبِـيـلِ. وأخذ موسى منهم اثنـي عشر نقـيبـا اختارهم من الأسبـاط كُفلاء علـى قومهم بـما هم فـيه علـى الوفـاء بعهده وميثاقه, وأخذ من كلّ سبط منهم خيرهم وأوفـاهم رجلاً. يقول الله عزّ وجلّ: ولَقَدْ أَخَذَ اللّهُ ميثاقَ بَنِـي إسْرائِيـل وبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنـي عَشرَ نَقِـيبـا فسار بهم موسى إلـى الأرض الـمقدسة بأمر الله, حتـى إذا نزل التـيه بنـي مصر والشام, وهي بلاد لـيس فـيها شجر ولا ظلّ, دعا موسى ربه حين آذاهم الـحرّ, فظلّل علـيهم بـالغمام, ودعا لهم بـالرزق, فأنزل الله علـيهم الـمنّ والسلوى. وأمر الله موسى فقال: أرسل رجالاً يتـجسسون إلـى أرض كنعان التـي وهبت لبنـي إسرائيـل, من كلّ سبط رجلاً. فأرسل موسى الرءوس كلهم الذين فـيهم, وهذه أسماء الرهط الذين بعث الله من بنـي إسرائيـل إلـى أرض الشام, فـيـما يذكر أهل التوراة لـيجوسوها لبنـي إسرائيـل: من سبط روبـيـل: شامون بن ركون, ومن سبط شمعون سافـاط بن حربـي, ومن سبط يهوذا كالب بن يوقنا, ومن سبط كاذ ميخائيـل بن يوسف, ومن سبط يوسف وهو سبط إفرائيـم يوشع بن نون, ومن سبط بـينامين فلط بن ذنون, ومن سبط ربـالون كرابـيـل بن سودي, ومن سبط منشا بن يوسف حدي بن سوشا, ومن سبط دان حملائل بن حمل, ومن سبط أشار سابور بن ملكيـل, ومن سبط نفتالـي مـحرّ بن وقسي, ومن سبط يساخر حولايـل بن منكد. فهذه أسماء الذين بعثهم موسى يتـجسسون له الأرض, ويومئذٍ سَمّى يوشع بن نون: يوشع بن نون, فأرسلهم وقال لهم: ارتفعوا قبل الشمس, فـارقوا الـجبل, وانظروا ما فـي الأرض, وما الشعب الذي يسكنونه, أقوياء هم أم ضعفـاء؟ أقلـيـل هم أم هم كثـير؟ وانظروا أرضهم التـي يسكنون أشمسة هي أم ذات شجر؟ واحملوا إلـينا من ثمرة تلك الأرض وكان فـي أوّل ما سَمّى لهم من ذلك ثمرة العنب.
9112ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَـيْ عَشَرَ نَقِـيبـا فهم من بنـي إسرائيـل, بعثهم موسى لـينظروا له إلـى الـمدينة. فـانطلقوا فنظروا إلـى الـمدينة, فجاءوا بحبة من فـاكهتهم وِقْرَ رجل, فقالوا: قدروا قوّة قوم وبأسهم هذه فـاكهتهم. فعند ذلك فتنوا, فقالوا: لا نستطيع القتال فَـاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلاَ إنّا هَهُنا قَاعِدونَ.
9113ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج الـمروزي, قال: سمع أبـا معاذ الفضل بن خالد يقول فـي قوله: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَـيْ عَشَرَ نَقِـيبـا أمر الله بنـي إسرائيـل أن يسيروا إلـى الأرض الـمقدّسة مع نبـيهم موسى صلى الله عليه وسلم فلـما كانوا قريبـا من الـمدينة, قال لهم موسى: ادخـلوها فأبوا وجبنوا, وبعثوا اثنـي عشر نقـيبـا لـينظروا إلـيهم. فـانطلقوا فنظروا, فجاءوا بحبة من فـاكهتهم بوِقْر الرجل, فقالوا: قدرّوا قوّة قوم وبأسهم, هذه فـاكهتهم فعند ذلك قالوا لـموسى: اذْهَبْ أنْتَ ورَبّكَ فَقَاتِلاَ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَقالَ اللّهُ إنّـي مَعَكُمْ لَئِنْ أقَمْتُـمُ الصّلاةَ وآتَـيْتُـمُ الزّكاةَ وآمَنْتُـمْ بِرُسُلِـي وَعَزّرْتـمُوهُمْ وأقْرَضْتُـمُ اللّهَ قَرْضا حَسَنَا.
يقول الله تعالـى ذكره وَقالَ اللّهُ لبنـي إسرائيـل إنّـي مَعَكُمْ يقول: إنى ناصركم علـى عدوّكم وعدوي الذين أمرتكم بقتالهم إن قاتلتـموهم ووفـيتـم بعهدي وميثاقـي الذي أخذته علـيكم. وفـي الكلام مـحذوف استُغنـي بـما ظهر من الكلام عما حذف منه, وذلك أن معنى الكلام: وقال الله لهم: إنـي معكم, فترك ذكر «لهم», استغناء بقوله: وَلَقَدْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ إذ كان متقدم الـخبر عن قوم مسمّين بأعيانهم كان معلوما أن سياق ما فـي الكلام من الـخبر عنهم, إذ لـم يكن الكلام مصروفـا عنهم إلـى غيرهم. ثم ابتدأ ربنا جلّ ثناؤه القسم, فقال: قسم لَئِنْ أقَمْتُـمْ معشر بنـي إسرائيـل الصّلاةَ وآتَـيْتُـمُ الزّكاةَ: أي أعطيتـموها من أمرتكم بـاعطائها, وآمَنْتُـمْ بِرُسُلِـي يقول: وصدّقتـم بـما آتاكم به رسلـي من شرائع دينـي. وكان الربـيع بن أنس يقول: هذا خطاب من الله للنقبـاء الاثنـي عشر.
9114ـ حُدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس: أن موسى صلى الله عليه وسلم قال للنقبـاء الاثنـي عشر: سيروا إلـيهم يعنـي إلـى الـجبـارين فحدثونـي حديثهم, وما أمَرُهم, ولا تـخافوا إن الله معكم ما أقمتـم الصلاة وآتـيتـم الزكاة وآمنتـم برسلـي وعزّرتـموهم وأقرضتـم الله قرضا حسنا.
ولـيس الذي قاله الربـيع فـي ذلك ببعيد من الصواب, غير أن من قضاء الله فـي جميع خـلقه أنه ناصرٌ من أطاعه, وولـىّ من اتبع أمره وتـجنب معصيته وجافـي ذنوبه. فإذ كان ذلك كذلك, وكان من طاعته: إقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, والإيـمان بـالرسل, وسائر ما ندب القوم إلـيه كان معلوما أن تكفـير السيئات بذلك وإدخال الـجنات به لـم يخصص به النقبـاء دون سائر بنـي إسرائيـل غيرهم, فكان ذلك بأن يكون ندبـا للقوم جميعا وحضّا لهم علـى ما حضهم علـيه, أحقّ وأولـى من أن يكون ندبـا لبعض وحضّا لـخاصّ دون عام.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: وَعَزّرْتُـمُوهُمْ فقال بعضهُم: تأويـل ذلك: ونصرتـموهم. ذكر من قال ذلك:
9115ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وَعَزّرْتُـمُوهُمْ قال: نصرتـموهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
9116ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: قوله: وَعَزّرْتُـمُوهُمْ قال: نصرتـموهم بـالسيف.
وقال آخرون: هو الطاعة والنصرة. ذكر من قال ذلك:
9117ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سمعت عبد الرحمن بن زيد يقول فـي قوله: وَعَزّرْتـموهُم قال: التعزر والتوقـير: الطاعة والنصرة.
واختلف أهل العربـية فـي تأويـله, فذكر عن يونس الـحِرمرِي أنه كان يقول: تأويـل ذلك: أثنـيتـم علـيهم.
9118ـ حُدثت بذلك عن أبـي عبـيدة معمر بن الـمثنى عنه.
وكان أبو عبـيدة يقول: معنى ذلك نصرتـموهم وأعنتـموهم ووقرتـموهم وعظمتـموهم وأيدتـموهم, وأنشد فـي ذلك:
وكَمْ مِنْ ماجِدٍ لَهُمُ كَرِيـمٍومِنْ لَـيْثٍ يُعَزّزُ فـي النّدِيّ
وكان الفرّاء يقول: العزر الردّ عزررته رددته: إذا رأيته يظلـم, فقلت: اتق الله أو نهيته, فذلك العزر.
وأولـى هذه الأقوال عندي فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معنى ذلك: نصرتـموهم, وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال فـي سورة الفتـح: إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدا وَمُبَشّرا وَنَذِيرا لِتُؤْمِنُوا بـاللّهِ وَرَسُولِهِ وتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ. فـالتوقـير: هو التعظيـم. وإذا كان ذلك كذلك, كان القول فـي ذلك إنـما هو بعض ما ذكرنا من الأقوال التـي حكيناها عمن حكينا عنه. وإذا فسد أن يكون معناه التعظيـم, وكان النصر قد يكون بـالـيد واللسان فأما بـالـيد فـالذبّ بها عنه بـالسيف وغيره, وأما بـاللسان فحسن الثناء, والذبّ عن العرض, صحّ أنه النصر إذ كان النصر يحوي معنى كلّ قائل قال فـيه قولاً مـما حكينا عنه.
وأما قوله: وأقْرَضْتُـمُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا فإنه يقول: وأنفقتـم فـي سبـيـل الله, وذلك فـي جهاد عدوّه وعدوّكم, قَرْضا حَسَنا يقول: وأنفقتـم ما أنفقتـم فـي سبـيـله, فأصبتـم الـحقّ فـي إنفـاقكم ما أنفقتـم فـي ذلك, ولـم تتعدّوا فـيه حدود الله وما ندبكم إلـيه وحثكم علـيه إلـى غيره.
فإن قال لنا قائل: وكيف قال: وأقْرَضْتُـمْ اللّهَ قَرْضا حَسَنا ولـم يقل: إقراضا حسنا, وقد علـمت أن مصدر أقرضت: الإقراض؟ قـيـل: لو قـيـل ذلك كان صوابـا, ولكن قوله: قَرْضا حَسَنا أخرج مصدرا من معناه لا من لفظه, وذلك أن فـي قوله: أقرض معنى قرض, كما فـي معنى أعطى أخذ, فكان معنى الكلام: وقرضتـم الله قرضا حسنا, ونظير ذلك: واللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرضِ نَبَـاتا إذ كان فـي أنبتكم معنى فنبتـم, وكما قال امرؤ القـيس:
(وَرُضْتُ فَذَلّتْ صَعْبَةً أيّ إذْلالِ )
إذ كان فـي رضت معنى أذللت, فخرج الإذلال مصدرا من معناه لا من لفظه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ وَلأُدْخِـلَنّكُمْ جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهَارُ.
يعنـي جلّ ثناؤه بذلك بنـي إسرائيـل, يقول لهم جلّ ثناؤه: لئن أقمتـم الصلاة أيها القوم الذين أعطونـي ميثاقهم بـالوفـاء بطاعتـي, واتبـاع أمري, وآتـيتـم الزكاة, وفعلتـم سائر ما وعدتكم علـيه جنتـي لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئَاتَكُمْ يقول: لأغطين بعفوي عنكم وصفحي عن عقوبتكم, علـى سالف إجرامكم التـي أجرمتـموها فـيـما بـين وبـينكم علـى ذنوبكم التـي سلفت منكم من عبـادة العجل وغيرها من موبقات ذنوبكم ولأدْخِـلَنّكُمْ مع تغطيتـي علـى ذلك منكم بفضلـي يوم القـيامة جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأَنْهارُ فـالـجنات: البساتـين.
وإنـما قلت: معنى قوله: لأُكَفّرَنّ: لأغطينّ, لأن الكفر معناه الـجحود والتغطية والستر, كما قال لبـيد:
(فِـي لَـيْـلَةٍ كَفَرَ النّـجومَ غَمامُها )
يعنـي: «غطاها». التفعيـل من الكَفْر.
واختلف أهل العربـية فـي معنى «اللام» التـي فـي قوله: لأُكَفّرَنّ فقال بعض نـحويـيّ البصرة: اللام الأولـى علـى معنى القَسَم, يعنـي اللام التـي فـي قوله: لَئِنْ أقَمْتُـمْ الصّلاةَ قال: والثانـية معنى قسم آخر.
وقال بعض نـحويـيّ الكوفة: بل اللام الأولـى وقعت موقع الـيـمين, فـاكتفـى بها عن الـيـمين, يعنـي بـاللام الأولـى: لئن أقمتـم الصلاة. قال: واللام الثانـية, يعنـي قوله: لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئاتَكُمْ جواب لها, يعنـي للام التـي فـي قوله: لَئِنْ أقَمْتُـمُ الصّلاةَ. واعتلّ لقـيـله ذلك بأن قوله: لَئِنْ أقَمْتُـمُ الصّلاةَ غير تام ولا مستغن عن قوله: لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ. وإذ كان ذلك كذلك, فغير جائز أن يكون قوله: لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ قسما مبتدأ, بل الواجب أن يكون جوابـا للـيـمين إذ كانت غير مستغنـية عنه. وقوله: تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهارُ يقول: يجري من تـحت أشجار هذه البساتـين التـي أدخـلكموها الأنهار.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِـيـلِ.
يقول عزّ ذكره: فمن جحد منكم يا معشر بنـي إسرائيـل شيئا مـما أمرته به, فتركه, أو ركب ما نهيته عنه فعمله بعد أخذي الـميثاق علـيه بـالوفـاء لـي بطاعتـي واجتناب معصيتـي, فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِـيـلِ يقول: فقد أخطأ قصد الطريق الواضح, وزلّ عن منهج السبـيـل القاصد. والضلال: الركوب علـى غير هدى وقد بـينا ذلك بشاهده فـي غير هذا الـموضع. وقوله: سَوَاءَ يعنـي به: وسط السبـيـل, وقد بـيّنا تأويـل ذلك كله فـي غير هذا الـموضع, فأغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
الآية : 13
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّا مّمّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاّ قَلِيلاً مّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ }..
يقول جلّ ثناؤه لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: يا مـحمد, لا تعجبنّ من هؤلاء الـيهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إلـيك وإلـى أصحابك, ونكثوا العهد الذي بـينك وبـينهم, غدرا منهم بك وأصحابك, فإن ذلك من عاداتهم وعادات سلفهم ومن ذلك أنى أخذت ميثاق سلفهم علـى عهد موسى صلى الله عليه وسلم علـى طاعتـي, وبعثت منهم اثنـي عشر نقـيبـا وقد تُـخيروا من جميعهم لـيتـجسسوا أخبـار الـجبـابرة, ووعدتهم النصر علـيهم, وأن أورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم, بعد ما أريتهم من العبر والاَيات بإهلاك فرعون وقومه فـي البحر وفَلْق البحر لهم وسائر العبر ما أريتـم, فنقضوا ميثاقهم الذي واثقونـي ونكثوا عهدي, فلعنتهم بنقضهم ميثاقهم فإذا كان ذلك من فعل خيارهم مع أياديّ عندهم, فلا تستنكروا مثله من فعل آراذلهم. وفـي الكلام مـحذوف اكتفـي بدلالة الظاهر علـيه, وذلك أن معنى الكلام: فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلّ سواء السبـيـل, فنقضوا الـميثاق, فلعنتهم, فـيـما نقضهم ميثاقهم لعناهم, فـاكتفـى بقوله: فَبِـما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ من ذكر «فنقضوا». ويعنـي بقوله جلّ ثناؤه: فبـما نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ فبنقضهم ميثاقهم. كماقال قتادة.
9119ـ حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: فَبِـما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ يقول: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم.
9120ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: فَبـما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ قال: هو ميثاق أخذه الله علـى أهل التوراة فنقضوه.
وقد ذكرنا معنى اللعن فـي غير هذا الـموضع. والهاء والـميـم من قوله: فَبِـما نَقْضِهِمْ عائدتان علـى ذكر بنـي إسرائيـل قبل.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً.
اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة وبعض أهل مكة والبصرة والكوفة: قاسِيَةً بـالألف, علـى تقدير فـاعلة, من قسوة القلب, من قول القائل: قسا قلبه, فهو يقسو وهو قاس, وذلك إذا غلظ واشتدّ وصار يابسا صلبـا, كما قال الراجز:
(وَقَدْ قَسَوْتُ وَقَسَتْ لِدَاتـي )
فتأويـل الكلام علـى هذه القراءة: فلعنا الذين نقضوا عهدي ولـم يفوا بـميثاقـي من بنـي إسرائيـل بنقضهم ميثاقهم الذي واثقونـي, وجعلنا قلوبهم قاسية غلـيظة يابسة عن الإيـمان بـي والتوفـيق لطاعتـي, منزوعة منها الرأفة والرحمة. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفـيـين: «وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قَسِيةً».
ثم اختلف الذين قرءوا ذلك كذلك فـي تأويـله, فقال بعضهم: معنى ذلك: معنى القسوة, لأن فعيـلة فـي الذمّ أبلغ من فـاعلة, فـاخترنا قراءتها قسيّة علـى قاسية لذلك.
وقال آخرون منهم: بل معنى «قسية» غير معنى القسوة وإنـما القسية فـي هذا الـموضع القلوب التـي لـم يخـلص إيـمانها بـالله, ولكن يخالط إيـمانها كفر كالدراهم القَسِية, وهي التـي يخالط فضتها غش من نـحاس أو رصاص وغير ذلك, كما قال أبو زُرَبـيْد الطائي:
لَهَا صَوَاهِلُ فـي صُمّ السّلامِ كمَاصاحَ القَسِيّاتُ فـي أيدِي الصّيارِيفِ
يصف بذلك وقع مساحي الذين حفروا قبر عثمان علـى الصخور, وهي السّلام.
وأعجب القراءتـين إلـيّ فـي ذلك قراءة من قرأ: «وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قَسِيّةً» علـى فعلـية, لأنها أبلغ فـي ذمّ القوم من قاسية.
وأولـى التأويـلـين فـي ذلك بـالصواب تأويـل من تأوّله فعيـلة من القسوة, كما قـيـل: نفس زكية وزاكية, وامرأة شاهدة وشهيدة لأن الله جلّ ثناؤه وصف القوم بنقضهم ميثاقهم وكفرهم به, ولـم يصفهم بشيء من الإيـمان, فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيـمانها يخالطه كفر كالدراهم القسية التـي يخالط فضتها غشّ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: يُحَرّفُونَ الكَلِـمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ.
يقول عزّ ذكره: وجعلنا قلوب هؤلاء الذين نقضوا عهودنا من بنـي إسرائيـل قسية, منزوعا منها الـخير, مرفوعا منها التوفـيق, فلا يؤمنون, ولا يهتدون, فهم لنزع الله عزّ وجلّ التوفـيق من قلوبهم والإيـمان يحرّفون كلام ربهم الذي أنزله علـى نبـيهم موسى صلى الله عليه وسلم, وهو التوراة, فـيبدّلونه ويكتبون بأيديهم غير الذي أنزله الله جلّ وعزّ علـى نبـيهم ويقولون لـجهال الناس: هذا هو كلام الله الذي أنزله علـى نفسه موسى صلى الله عليه وسلم والتوراة التـي أوحاها إلـيه. وهذا من صفة القرون التـي كانت بعد موسى من الـيهود مـمن أدرك بعضهم عصر نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم, ولكن الله عزّ ذكره أدخـلهم فـي عداد الذين ابتدأ الـخبر عنهم مـمن أدرك موسى منهم, إذ كانوا من أبنائهم وعلـى منهاجهم فـي الكذب علـى الله والفرية علـيه ونقض الـمواثـيق التـي أخذها علـيهم فـي التوراة. كما:
9121ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: يُحَرّفُونَ الكَلِـمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ يعنـي: حدود الله فـي التوراة, ويقولون: إن أمركم مـحمد بـما أنتـم علـيه فـاقبلوه, وإن خالفكم فـاحذروا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَنَسُوا حَظّا مِـمّا ذُكّرُوا بِهِ.
ينـي تعالـى ذكره بقوله: وَنَسُوا حَظّا: وتركوا نصيبـا, وهو كقوله: نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ أي تركوا أمر الله فتركهم الله وقد مضى بـيان ذلك بشواهده فـي غير هذا الـموضع فأغنـي ذلك عن إعادته.
وبـالذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9122ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وَنَسُوا حَظّا مِـمّا ذُكّرُوا بِهِ يقول: تركوا نصيبـا.
9123ـ حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا مبـارك بن فضالة, عن الـحسن فـي قوله: وَنَسُوا حَظّا مِـمّا ذُكّرُوا بِهِ قال: تركوا عُرَى دينهم ووظائف الله جلّ ثناؤه التـي لا تقبل الأعمال إلا بها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا تَزَالُ تَطّلِعُ علـى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إلاّ قَلِـيلاً مِنْهُمْ.
يقول تبـارك وتعالـى لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: ولا تزال يا مـحمد تطلع من الـيهود الذين أنبأتك نبأهم من نقضهم ميثاقـي, ونكثهم عهدي, مع أياديّ عندهم, ونعمتـي علـيهم, علـى مثل ذلك من الغدر والـخيانة, إلا قلـيلاً منهم. والـخائنة فـي هذا الـموضع: الـخيانة, وهو اسم وضع موضع الـمصدر, كما قـيـل خاطئة: للـخطيئة, وقائلة: للقـيـلولة.
وقوله: إلاّ قَلِـيلاً مِنْهُمْ اسثناء من الهاء والـميـم اللتـين فـي قوله: علـى خائِنَةٍ مِنْهُمْ.
وبنـحو الذين قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9124ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: ولاَ تَزَالُ تَطّلِعُ علـى خائنَةٍ مِنْهُمْ قال: علـى خيانة وكذب وفجور.
9125ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وَلا تَزَالُ تَطّلِعُ علـى خائِنَةٍ مِنْهُمْ قال: هم يهود مثل الذي همّوا به من النبـيّ صلى الله عليه وسلم يوم دخـل حائطهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, بنـحوه.
9126ـ حدثنا القاسم, حدثنا الـحسين, قال: قال ابن جريج, قال مـجاهد وعكرمة: قوله: وَلا تَزَالُ تَطّلِعُ علـى خائِنَةٍ مِنْهُمْ من يهود مثل الذي همّوا بـالنبـيّ صلى الله عليه وسلم يوم دخـل علـيهم.
وقال بعض القائلـين: معنى ذلك: ولا تزال تطلع علـى خائن منهم, قال: والعرب تزيد الهاء فـي آخر الـمذكر كقولهم: هو رواية للشعر, ورجل علامة, وأنشد:
حَدّثْتَ نفسَكَ بـالوَفـاءِ ولـم تكُنْللغدْرِ خائنةً مُغِلّ الإصْبَعِ
فقال خائنة, وهو يخاطب رجلاً.
والصواب من التأويـل فـي ذلك القول الذي رويناه عن أهل التأويـل, لأن الله عنى بهذه الاَية القوم من يهود بنـي النضير الذين هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, إذ أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم فـي دية العامريـين, فأطلعه الله عزّ ذكره علـى ما قد همّوا به. ثم قال جلّ ثناؤه بعد تعريفه أخبـار أوائلهم وإعلامه منهج أسلافهم وأن آخرهم علـى منهاج أوّلهم فـي الغدر والـخيانة, لئلا يكبر فعلهم ذلك علـى نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم, فقال جلّ ثناؤه: ولا تزال تطلع من الـيهود علـى خيانة وغدر ونقض عهد. ولـم يرد أنه لا يزال يطلّع علـى رجل منهم خائن, وذلك أن الـخبر ابتدىء به عن جماعتهم, فقـيـل: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمـح إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ, ثم قـيـل: وَلا تَزَالَ تَطّلِعُ علـى خائِنَةٍ مِنْهُمْ, فإذ كان الابتداء عن الـجماعة فلتـختـم بـالـجماعة أولـى.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فـاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنّ اللّهَ يُحِبّ الـمُـحْسِنـينَ.
وهذ أمر من الله عزّ ذكره نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم بـالعفو عن هؤلاء القوم الذين همّوا أن يبسطوا أيديهم إلـيه من الـيهود, يقول الله جلّ وعزّ له: اعف يا مـحمد عن هؤلاء الـيهود الذين همّوا بـما همّوا به من بسط أيديهم إلـيك وإلـى أصحابك بـالقتل, واصفح لهم عن جرمهم بترك التعرّض لـمكروههم, فإنـي أحبّ من أحسن العفو والصفح إلـى من أساء إلـيه. وكان قتادة يقول: هذه منسوخة, ويقول: نسختها آية براءة: قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـاللّهِ وَلا بـالـيَوْمِ الاَخِرِ... الاَية.
9127ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: فـاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ قال: نسختها: قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـاللّهِ وَلا بـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ.
9128ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا حجاج بن الـمنهال, قال: حدثنا همام, عن قتادة: فـاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنّ اللّهَ يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ ولـم يؤمر يؤمئذٍ بقتالهم, فأمره الله عزّ ذكره أن يعفو عنهم ويصفح, ثم نسخ ذلك فـي براءة فقال: قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـاللّهِ وَلا بـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الـحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حتـى يُعْطُوا الـجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وهم أهل الكتاب. فأمر الله جلّ ثناؤه نبـيه صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم حتـى يسلـموا, أو يقرّوا بـالـجزية.
حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا عبدة بن سلـيـم, قال: قرأت علـى ابن أبـي عروبة, عن قتادة نـحوه.
والذي قاله قتادة غير مدفوع إمكانه, غير أن الناسخ الذي لا شكّ فـيه من الأمر, هو ما كان نافـيا كلّ معانـي خلافه الذي كان قبله. فأما ما كان غير ناف جميعه, فلا سبـيـل إلـى العلـم بأنه ناسخ إلا بخبر من الله جلّ وعزّ, أو من رسوله صلى الله عليه وسلم. ولـيس فـي قوله: قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـاللّهِ وَلا بـالـيَوْمِ الاَخِرِ دلالة علـى الأمر بنفـي معانـي الصفح والعفو عن الـيهود. وإذ كان ذلك كذلك, وكان جائزا مع إقرارهم بـالصّغار وأدائهم الـجزية بعد القتال, الأمر بـالعفو عنهم فـي غدرة هموا بها أو نكثة عزموا علـيها, ما لـم ينصبوا حربـا دون أداء الـجزية, ويـمتنعوا من الأحكام اللازمة منهم, لـم يكن واجبـا أن يحكم لقوله: قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـاللّهِ وَلا بـالـيَوْمِ الاَخِرِ... الاَية, بأنه ناسخ قوله: فـاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنّ اللّهَ يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ
110
108
الآية : 10
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }..
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: وَالّذِينَ كَفَرُوا: والذين جحدوا وحدانـية الله, ونقضوا ميثاقه وعقوده التـي عاقدوها إياه. وكَذّبُوا بآياتِنا يقول: وكذّبوا بأدلة الله وحججه الدالة علـى وحدانـيته التـي جاءت بها الرسل وغيرها. أولَئِكَ أصْحَابُ الـجَحِيـمِ يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم أهل الـجحيـم, يعنـي: أهل النار الذين يخـلدون فـيها ولا يخرجون منها أبدا.
الآية : 11
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{يَا أَيّهَآ الّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ }..
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا: أقرّوا بتوحيد الله ورسالة رسوله صلى الله عليه وسلم وما جارهم به من عند ربهم. اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ: اذكروا النعمة التـي أنعم الله بها علـيكم, فـاشكروه علـيها بـالوفـاء له بـميثاقه الذي واثقكم به, والعقود التـي عاقدتـم نبـيكم صلى الله عليه وسلم علـيها. ثم وصف نعمته التـي أمرهم جلّ ثناؤه بـالشكر علـيها مع سائر نعمه, فقال: هي كفه عنكم أيدي القوم الذين هموا بـالبطش بكم, فصرفهم عنكم, وحال بـينهم وبـين ما أرادوه بكم.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي صفة هذه النعمة التـي ذكّر الله جلّ ثناؤه أصحاب نبـيه صلى الله عليه وسلم بها وأمرهم بـالشكر له علـيها. فقال بعضهم: هو استنقاذ الله نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه مـما كانت الـيهود من بنـي النضير هموا به يوم أتوهم يستـحملونهم دية العامريـين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري. ذكر من قال ذلك:
9096ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبـي بكر, قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى بنـي النضير لـيستعينهم علـى دية العامريـين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري فلـما جاءهم خلا بعضهم ببعض, فقالوا: إنكم لن تـجدوا مـحمدا أقرب منه الاَن, فمُروا رجلاً يظهر علـى هذا البـيت فـيطرح علـيه صخرة فـيريحنا منه فقام عمرو بن جحاش بن كعب. فأتـى رسول الله صلى الله عليه وسلم الـخبر, وانصرف عنهم, فأنزل الله عزّ ذكره فـيهم وفـيـما أراد هو وقومه: يا أيها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نَعْمَتَ اللّه عَلَـيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ... الاَية.
9097ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ قال الـيهود: دخـل علـيهم النبـيّ صلى الله عليه وسلم حائطا لهم, وأصحابه من وراء جداره, فـاستعانهم فـي مَغرم دية غرمها, ثم قام من عندهم, فـائتـمروا بـينهم بقتله, فخرج يـمشي القهقري ينظر إلـيهم, ثم دعا أصحابه رجلاً رجلاً حتـى تتامّوا إلـيه.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: اذْكُرُوا نَعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ فَكَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ يهود حين دخـل النبـيّ صلى الله عليه وسلم حائطا لهم, وأصحابه من وراء جدار لهم, فـاستعانهم فـي مغرم فـي دية غرمها, ثم قام من عندهم, فـائتـمروا بـينهم بقتله, فخرج يـمشي معترضا ينظر إلـيهم خيفتهم, ثم دعا أصحابه رجلاً رجلاً حتـى تتاموا إلـيه. قال الله جلّ وعزّ: فَكَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتّقُوا اللّهَ وَعلـى اللّهِ فَلْـيَتَوَكّلِ الـمُؤْمِنُونَ.
9098ـ حدثنا هناد بن السريّ, قال: حدثنا يونس بن بكير, قال: ثنـي أبو معشر, عن يزيد بن أبـي زياد, قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنـي النضير يستعينهم فـي عَقْل أصابه ومعه أبو بكر وعمر وعلـيّ فقال: «أعِينُونـي فـي عَقْلٍ أصَابَنـي» فقالوا: نعم يا أبـا القاسم, قد آن لك أن تأتـينا وتسألنا حاجة, اجلس حتـى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ينتظرونه, وجاء حيـي ابن أخطب وهو رأس القوم, وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال, فقال حيـي لأصحابه: لا ترونه أقرب منه الاَن, اطرحوا علـيه حجارة فـاقتلوه ولا ترون شرّا أبدا فجاءوا إلـى رجي لهم عظيـمة لـيطرحوها علـيه, فأمسك الله عنها أيديهم, حتـى جاءه جبريـل صلى الله عليه وسلم فأقامه من ثم, فأنزل الله جلّ وعزّ: يا أيّها الّذِيَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ فَكَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتّقُوا اللّهَ وَعلـى اللّهِ فَلْـيَتَوَكّلِ الـمُؤْمِنُونَ, فأخبر الله عز ذكره نبـيه صلى الله عليه وسلم ما أرادوا به.
9099ـ حدثنـي القام, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثـير: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ... الاَية, قال: يهود دخـل علـيهم النبـيّ صلى الله عليه وسلم حائطا, فـاستعانهم فـي مغرم غرمه, فـائتـمروا بـينهم بقتله, فقام من عندهم, فخرج معترضا ينظر إلـيهم خيفتهم, ثم دعا أصحابه رجلاً رجلاً حتـى تتاموا إلـيه.
9100ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة, قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الـمنذر بن عمرو الأنصاري أحد بنـي النـجار وهو أحد النقبـاء لـيـلة العقبة, فبعثه فـي ثلاثـين راكبـا من الـمهاجرين والأنصار. فخرجوا, فلقوا عامر بن الطفـيـل بن مالك بن جعفر علـى بئر معونة, وهي من مياه بنـي عامر, فـاقتتلوا, فقتل الـمنذر وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا فـي طلب ضالّة لهم, فلـم يَرُعْهُم إلا والطير تـحوم فـي السماء, يسقط من بـين خراطيـمها عَلَقُ الدم, فقال أحد النفر: قتل أصحابنا والرحمن ثم تولـى يشتدّ حتـى لقـي رجلاً, فـاختلفـا ضربتـين, فلـما خالطته الضربة, رفع رأسه إلـى السماء ففتـح عينـيه, ثم قال: الله أكبر, الـجنة وربّ العالـمين فكان يدعى «أعْنَق لـيـموتَ». ورجع صاحبـاه, فلقـيا زجلـين من بنـي سلـيـم, وبـين النبـيّ صلى الله عليه وسلم وبـين قومهما موادعة, فـانتسبـا لهما إلـى بنـي عامر, فقتلاهما. وقدم قومهما إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية, فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلـيّ وطلـحة وعبد الرحمن بن عوف, حتـى دخـلو علـى كعب بن الأشرف ويهود بنـي النّضير, فـاستعانهم فـي عقلهما. قال: فـاجتـمعت الـيهود لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, واعتلوا بصنـيعة الطعام, فأتاه جبريـل صلى الله عليه وسلم بـالذي اجتـمعت علـيه يهود من الغدر, فخرج ثم دعا علـيّا, فقال: «لا تَبْرَحْ مَقَامَكَ, فَمَنْ خَرَجَ عَلَـيْكَ مِنْ أصْحَابـي فَسَألَكَ عَنّـي فَقُلْ وَجّه إلـى الـمدينة فأَدْرِكُوه» قال: فجعلوا يـمرّون علـى علـيّ, فـيأمرهم بـالذي أمره حتـى أتـى علـيه آخرُهم, ثم تبعهم فذلك قوله: وَلا تَزَالُ تَطّلِعُ عَلـى خاِئنَةٍ مِنْهُمْ.
9101ـ حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا إسرائيـل, عن السديّ, عن أي مالك فـي قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ فَكَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ. قال: نزلت فـي كعب بن الأشرف وأصحابه, حين أرادوا أن يغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: بل النعمة التـي ذكرها الله فـي هذه الاَية, فأمر الـمؤمنـين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالشكر له علـيها, أن الـيهود كانت همت بقتل النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي طعام دعوه إلـيه, فأعلـم الله عزّ وجلّ نبـيه صلى الله عليه وسلم ما هموا به, فـانتهى هو وأصحابه عن إجابتهم إلـيه. ذكر من قال ذلك:
9102ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ... إلـى قوله: فَكَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وذلك أن قوما من الـيهود صنعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه طعاما لـيقتلوه إذا أتـى الطعام, فأوحى الله إلـيه بشأنهم, فلـم يأت الطعام وأمر أصحابه فأبوه.
وقال آخرون: عنى الله جلّ ثناؤه بذلك النعمة التـي أنعمها علـى الـمؤمنـين بـاطلاع نبـيه صلى الله عليه وسلم علـى ما همّ به عدوّه وعدوّهم من الـمشركين يوم بطن نـخـل من اغترارهم إياهم, والإيقاع بهم إذا هم اشتغلوا عنهم بصلاتهم, فسجدوا فـيها, وتعريفه نبـيه صلى الله عليه وسلم الـحذار من عدوّه فـي صلاته بتعلـيـمه إياه صلاة الـخوف. ذكر من قال ذلك:
9103ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ... الاَية, ذكر لنا أنها نزلت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببطن نـخـل فـي الغزوة السابعة, فأراد بنو ثعلبة وبنو مـحارب أن يفتكوا به, فأطلعه الله علـى ذلك. ذكر لنا أن رجلاً انتدب لقتله, فأتـى نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم وسيفه موضوع, فقال: آخذه يا نبـيّ الله؟ قال: «خُذْهُ» قال: أستلّه؟ قال: «نَعَمْ» فسلّه, فقال: من يـمنعك منـي؟ قال: «الله يَـمْنَعُنِـي مِنْكَ». فهدّده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأغلظوا له القول, فشام السيف, وأمر نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بـالرحيـل, فأنزل علـيه صلاة الـخوف عند ذلك.
9104ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الزهري, ذكره عن ابن أبـي سلـمة, عن جابر: أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً, وتفرّق الناس فـي العِضَاه يستظلون تـحتها, فعلق النبـيّ صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة, فجاء أعرابـيّ إلـى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه فسلّه, ثم أقبل علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: من يـمنعك منـي؟ والنبـيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «اللّهُ», فشام الأعرابـيّ السيف, فدعا النبـيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه, فأخبرهم خبر الأعرابـي وهو جالس إلـى جنبه لـم يعاقبه. قال معمر: وكان قتادة يذكر نـحو هذا, وذكر أن قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم, فأرسلوا هذا الأعرابـيّ. وتأوّل: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ... الاَية.
وأولـى الأقوال بـالصحة فـي تأويـل ذلك, قول من قال: عنى الله بـالنعمة التـي ذكر فـي هذه الاَية نعمته علـى الـمؤمنـين به وبرسوله, التـي أنعم بها علـيهم فـي استنقاذه نبـيهم مـحمدا صلى الله عليه وسلم, مـما كانت يهود بنـي النضير همت به من قتله وقتل من معه يوم سار إلـيهم نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم فـي الدية التـي كان تـحملها عن قتـيـلـي عمرو بن أمية.
وإنـما قلنا ذلك أولـى بـالصحة فـي تأويـل ذلك, لأن الله عقب ذكر ذلك برمي الـيهود بصنائعها وقبـيح أفعالها وخيانتها ربها وأنبـياءها. ثم أمر نبـيه صلى الله عليه وسلم بـالعفو عنهم والصفح عن عظيـم جهلهم, فكان معلوما بذلك أنه صلى الله عليه وسلم لـم يؤمر بـالعفو عنهم والصفح عقـيب قوله: إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ ومن غيره كان يبسط الأيدي إلـيهم, لأنه لو كان الذين هموا ببسط الأيدي إلـيهم غيرهم لكان حريّا أن يكون الأمر بـالعفو والصفح عنهم لا عمن لـم يجر لهم بذلك ذكر, ولكان الوصف بـالـخيانة فـي وصفهم فـي هذا الـموضع لا فـي وصف من لـم يَجْر لـخيانته ذكر, ففـي ذلك ما ينبـيء عن صحة ما قضينا له بـالصحة من التأويلات فـي ذلك دون ما خالفه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: واتّقُوا اللّهِ وَعَلـى اللّهِ فَلْـيَتَوَكَلّ الـمُؤْمِنُونَ.
يعنـي جلّ ثناؤه: واحذروا الله أيها الـمؤمنون أن تـخالفوه فـيـما أمركم ونهاكم أن تنقضوا الـميثاق الذي واثقكم به فتستوجبوا منه العقاب الذي لا قِبَل لكم به. وَعَلـى اللّهِ فَلْـيَتَوَكّلِ الـمُؤْمِنُونَ يقول: وإلـى الله فلـيـلق أزمة أمورهم, ويستسلـم لقضائه, ويثق بنصرته وعونه, الـمقرّون بوحدانـية الله ورسالة رسوله, العاملون بأمره ونهيه, فإن ذلك من كمال دينهم وتـمام إيـمانهم, وأنهم إذا فعلوا ذلك كلأهم ورعاهم وحفظهم مـمن أرادهم بسوء, كما حفظكم ودافع عنكم أيها الـمؤمنون الـيهود الذين هموا بـما هموا به من بسط أيديهم إلـيكم, كلاءة منه لكم, إذ كنتـم من أهل الإيـمان به وبرسوله دون غيره, فإن غيره لا يطيق دفع سوء أراد بكم ربكم ولا اجتلاب نفع لكم لـم يقضه لكم.
الآية : 12
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِيَ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللّهُ إِنّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصّلاَةَ وَآتَيْتُمْ الزّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً لاُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَلاُدْخِلَنّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ }..
وهذه الاَية أنزلت إعلاما من الله جلّ ثناؤه نبـيه صلى الله عليه وسلم والـمؤمنـين به, أخلاقَ الذين هموا ببسط أيديهم إلـيهم من الـيهود. كالذي:
9105ـ حدثنا الـحرث بن مـحمد, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا مبـارك, عن الـحسن فـي قوله: ولقَدْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ قال: الـيهود من أهل الكتاب.
وأن الذي هموا به من الغدر ونقض العهد الذي بـينهم وبـينه من صفـاتهم وصفـات أوائلهم وأخلاقهم وأخلاق أسلافهم قديـما, واحتـجاجا لنبـيه صلى الله عليه وسلم علـى الـيهود بـاطلاعه إياه علـى ما كان علـمه عندهم دون العرب من خفـيّ أمورهم ومكنون علومهم, وتوبـيخا للـيهود فـي تـماديهم فـي الغيّ, وإصرارهم علـى الكفر مع علـمهم بخطإ ما هم علـيهم مقـيـمون. يقول الله لنبـيه صلى الله عليه وسلم: لا تستعظموا أمر الذين هموا ببسط أيديهم إلـيهم من هؤلاء الـيهود بـما هموا به لكم, ولا أمر الغدر الذي حاولوه وأرادوه بكم, فإن ذلك من أخلاق أوائلهم وأسلافهم, لا يعدُون أن يكونوا علـى منهاج أوّلهم وطريق سلفهم. ثم ابتدأ الـخبر عزّ ذكره عن بعض غدراتهم وخياناتهم وجراءتهم علـى ربهم ونقضهم ميثاقهم الذي واثقهم علـيه بـارئهم, مع نعمه التـي خصهم بها, وكراماته التـي طوّقهم شكرها, فقال: ولقد أخذ الله ميثاق سلف من همّ ببسط يده إلـيكم من يهود بنـي إسرائيـل يا معشر الـمؤمنـين بـالوفـاء له بعهوده وطاعته فـيـما أمرهم ونهاهم. كما:
9106ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم العسقلانـي, قال: حدثنا أبو جعفر الرازي, عن الربـيع, عن أبـي العالـية فـي قوله: وَلَقَدْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ قال: أخذ الله مواثـيقهم أن يخـلصوا له ولا يعبدوا غيره.
وَبَعَثْنا مِنْهُمْ اثْنَى عَشَرَ نَقِـيبـا يعنـي بذلك: وبعثنا منهم اثنـي عشر كفـيلاً, كفلوا علـيهم بـالوفـاء لله بـما واثقوه علـيه من العهود فـيـما أمرهم به, وفما نهاهم عنه. والنقـيب فـي كلام العرب, كالعريف علـى القوم, غير أنه فوق العريف, يقال منه: نَقَبَ فلان علـى بنـي فلان فهو يَنْقُب نقبـا, فإذا أريد أنه لـم يكن نقـيبـا فصار نقـيبـا, قـيـل: قد نَقُب فهو يَنْقب نَقَابة, ومن العريف: عَرُف علـيهم يَعْرُف عِرَافَةً. فأما الـمناكب فإنهم كالأعوان يكونون مع العرفـاء, واحدهم مَنْكِب. وكان بعض أهل العلـم بـالعربـية يقول: هو الأمين الضامن علـى القوم. فأما أهل التأويـل فإنهم قد اختلفوا بـينهم فـي تأويـله, فقال بعضهم: هو الشاهد علـى قومه. ذكر من قال ذلك:
9107ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلَقَدْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِـي إسْرائيـل وَبَعَثْنا مِنْهُمْ اثْنَـيْ عَشَرَ نَقِـيبـا: من كلّ سبط رجل شاهد علـى قومه.
وقال آخرون: النقـيب: الأمين. ذكر من قال ذلك:
9108ـ حُدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: النقبـاء: الأمناء.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
وإنـما كان الله أمر موسى نبـيه صلى الله عليه وسلم ببعثه النقبـاء الأثنـي عشر من قومه بنـي إسرائيـل إلـى أرض الـجبـابرة بـالشام لـيتـجسسوا لـموسى أخبرهم إذ أراد هلاكهم, وأن يورّث أرضهم وديارهم موسى وقومه, وأن يجعلها مساكن لبنـي إسرائيـل بعد ما أنـجاهم من فرعون وقومه, وأخرجهم من أرض مصر, فبعث موسى الذين أمره الله ببعثهم إلـيها من النقبـاء. كما:
9109ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: أمر الله بنـي إسرائيـل بـالسير إلـى أريحاء, وهي أرض بـيت الـمقدس, فساروا حتـى إذا كانوا قريبـا منهم بعث موسى اثنـي عشر نقـيبـا من جميع أسبـاط بنـي إسرائيـل, فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الـجبـابرة, فلقـيهم رجل من الـجبـارين يقال له عاج, فأخذ الاثنـي عشر, فجعلهم فـي حُجْزته وعلـى رأسه حزمة حطب, فـانطلق بهم إلـى امرأته, فقال: انظري إلـى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا فطرحهم بـين يديها, فقال: ألا أطحنهم برجلـي؟ فقالت امرأته: بل خـلّ عنهم حتـى يخبروا قومهم بـما رأوا ففعل ذلك. فلـما خرج القوم, قال بعضهم لبعض: يا قوم إنكم إن أخبرتـم بنـي إسرائيـل خبر القوم, ارتدّوا عن نبـيّ الله علـيه السلام, لكن اكتـموه وأخبروا انِـيَ الله, فـيكونان فـيـما يريان رأيهما, فأخذ بعضهم علـى بعض الـميثاق بذلك لـيكتـموه. ثم رجعوا فـانطلق عشرة منهم فنكثوا العهد, فجعل الرجل يخبر أخاه وأبـاه بـما رأى من عاج, وكتـم رجلان منهم, فأتوا موسى وهارون, فأخبروهما الـخبر, فذلك حين يقول الله: وَلَقَدْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَـيْ عَشَرَ نَقِـيبـا.
9110ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: اثْنَـيْ عَشَرَ نَقِـيبـا من كلّ سبط من بنـي إسرائيـل رجل أرسلهم موسى إلـى الـجبـارين, فوجدوهم يدخـل فـي كمّ أحدهم اثنان منهم يـلفونهم لفّـا, ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس بـينهم فـي خشبة, ويدخـل فـي شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربع. فرجع النقبـاء كلّ منهم ينهي سبطه عن قتالهم إلا يُوشَع ابن نون وكالب بن يوقنا يأمران الأسبـاط بقتال الـجبـابرة وبجهادهم, فعصوا هذين وأطاعوا الأخرين.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد بنـحوه, إلا أنه قال: من بنـي إسرائيـل رجال, وقال أيضا: يـلقونهما.
9111ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: أمر موسى أن يسير ببنـي إسرائيـل إلـى الأرض الـمقدسة, وقال: إنـي قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلاً, فـاخرج إلـيها وجاهد من فـيها من العدوّ, فإنـي ناصركم علـيهم, وخذ من قومك اثنـي عشر نقـيبـا من كلّ سبط نقـيبـا يكون علـى قومه بـالوفـاء منهم علـى ما أمروا به, وقل لهم إن الله يقول لكم: إنّـي معكُمْ لِئن أقمتُـم الصّلاةَ وآتـيتـمُ الزكاة... إلـى قوله: فقدْ ضلّ سواءَ السّبِـيـلِ. وأخذ موسى منهم اثنـي عشر نقـيبـا اختارهم من الأسبـاط كُفلاء علـى قومهم بـما هم فـيه علـى الوفـاء بعهده وميثاقه, وأخذ من كلّ سبط منهم خيرهم وأوفـاهم رجلاً. يقول الله عزّ وجلّ: ولَقَدْ أَخَذَ اللّهُ ميثاقَ بَنِـي إسْرائِيـل وبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنـي عَشرَ نَقِـيبـا فسار بهم موسى إلـى الأرض الـمقدسة بأمر الله, حتـى إذا نزل التـيه بنـي مصر والشام, وهي بلاد لـيس فـيها شجر ولا ظلّ, دعا موسى ربه حين آذاهم الـحرّ, فظلّل علـيهم بـالغمام, ودعا لهم بـالرزق, فأنزل الله علـيهم الـمنّ والسلوى. وأمر الله موسى فقال: أرسل رجالاً يتـجسسون إلـى أرض كنعان التـي وهبت لبنـي إسرائيـل, من كلّ سبط رجلاً. فأرسل موسى الرءوس كلهم الذين فـيهم, وهذه أسماء الرهط الذين بعث الله من بنـي إسرائيـل إلـى أرض الشام, فـيـما يذكر أهل التوراة لـيجوسوها لبنـي إسرائيـل: من سبط روبـيـل: شامون بن ركون, ومن سبط شمعون سافـاط بن حربـي, ومن سبط يهوذا كالب بن يوقنا, ومن سبط كاذ ميخائيـل بن يوسف, ومن سبط يوسف وهو سبط إفرائيـم يوشع بن نون, ومن سبط بـينامين فلط بن ذنون, ومن سبط ربـالون كرابـيـل بن سودي, ومن سبط منشا بن يوسف حدي بن سوشا, ومن سبط دان حملائل بن حمل, ومن سبط أشار سابور بن ملكيـل, ومن سبط نفتالـي مـحرّ بن وقسي, ومن سبط يساخر حولايـل بن منكد. فهذه أسماء الذين بعثهم موسى يتـجسسون له الأرض, ويومئذٍ سَمّى يوشع بن نون: يوشع بن نون, فأرسلهم وقال لهم: ارتفعوا قبل الشمس, فـارقوا الـجبل, وانظروا ما فـي الأرض, وما الشعب الذي يسكنونه, أقوياء هم أم ضعفـاء؟ أقلـيـل هم أم هم كثـير؟ وانظروا أرضهم التـي يسكنون أشمسة هي أم ذات شجر؟ واحملوا إلـينا من ثمرة تلك الأرض وكان فـي أوّل ما سَمّى لهم من ذلك ثمرة العنب.
9112ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَـيْ عَشَرَ نَقِـيبـا فهم من بنـي إسرائيـل, بعثهم موسى لـينظروا له إلـى الـمدينة. فـانطلقوا فنظروا إلـى الـمدينة, فجاءوا بحبة من فـاكهتهم وِقْرَ رجل, فقالوا: قدروا قوّة قوم وبأسهم هذه فـاكهتهم. فعند ذلك فتنوا, فقالوا: لا نستطيع القتال فَـاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلاَ إنّا هَهُنا قَاعِدونَ.
9113ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج الـمروزي, قال: سمع أبـا معاذ الفضل بن خالد يقول فـي قوله: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَـيْ عَشَرَ نَقِـيبـا أمر الله بنـي إسرائيـل أن يسيروا إلـى الأرض الـمقدّسة مع نبـيهم موسى صلى الله عليه وسلم فلـما كانوا قريبـا من الـمدينة, قال لهم موسى: ادخـلوها فأبوا وجبنوا, وبعثوا اثنـي عشر نقـيبـا لـينظروا إلـيهم. فـانطلقوا فنظروا, فجاءوا بحبة من فـاكهتهم بوِقْر الرجل, فقالوا: قدرّوا قوّة قوم وبأسهم, هذه فـاكهتهم فعند ذلك قالوا لـموسى: اذْهَبْ أنْتَ ورَبّكَ فَقَاتِلاَ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَقالَ اللّهُ إنّـي مَعَكُمْ لَئِنْ أقَمْتُـمُ الصّلاةَ وآتَـيْتُـمُ الزّكاةَ وآمَنْتُـمْ بِرُسُلِـي وَعَزّرْتـمُوهُمْ وأقْرَضْتُـمُ اللّهَ قَرْضا حَسَنَا.
يقول الله تعالـى ذكره وَقالَ اللّهُ لبنـي إسرائيـل إنّـي مَعَكُمْ يقول: إنى ناصركم علـى عدوّكم وعدوي الذين أمرتكم بقتالهم إن قاتلتـموهم ووفـيتـم بعهدي وميثاقـي الذي أخذته علـيكم. وفـي الكلام مـحذوف استُغنـي بـما ظهر من الكلام عما حذف منه, وذلك أن معنى الكلام: وقال الله لهم: إنـي معكم, فترك ذكر «لهم», استغناء بقوله: وَلَقَدْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ إذ كان متقدم الـخبر عن قوم مسمّين بأعيانهم كان معلوما أن سياق ما فـي الكلام من الـخبر عنهم, إذ لـم يكن الكلام مصروفـا عنهم إلـى غيرهم. ثم ابتدأ ربنا جلّ ثناؤه القسم, فقال: قسم لَئِنْ أقَمْتُـمْ معشر بنـي إسرائيـل الصّلاةَ وآتَـيْتُـمُ الزّكاةَ: أي أعطيتـموها من أمرتكم بـاعطائها, وآمَنْتُـمْ بِرُسُلِـي يقول: وصدّقتـم بـما آتاكم به رسلـي من شرائع دينـي. وكان الربـيع بن أنس يقول: هذا خطاب من الله للنقبـاء الاثنـي عشر.
9114ـ حُدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس: أن موسى صلى الله عليه وسلم قال للنقبـاء الاثنـي عشر: سيروا إلـيهم يعنـي إلـى الـجبـارين فحدثونـي حديثهم, وما أمَرُهم, ولا تـخافوا إن الله معكم ما أقمتـم الصلاة وآتـيتـم الزكاة وآمنتـم برسلـي وعزّرتـموهم وأقرضتـم الله قرضا حسنا.
ولـيس الذي قاله الربـيع فـي ذلك ببعيد من الصواب, غير أن من قضاء الله فـي جميع خـلقه أنه ناصرٌ من أطاعه, وولـىّ من اتبع أمره وتـجنب معصيته وجافـي ذنوبه. فإذ كان ذلك كذلك, وكان من طاعته: إقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, والإيـمان بـالرسل, وسائر ما ندب القوم إلـيه كان معلوما أن تكفـير السيئات بذلك وإدخال الـجنات به لـم يخصص به النقبـاء دون سائر بنـي إسرائيـل غيرهم, فكان ذلك بأن يكون ندبـا للقوم جميعا وحضّا لهم علـى ما حضهم علـيه, أحقّ وأولـى من أن يكون ندبـا لبعض وحضّا لـخاصّ دون عام.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: وَعَزّرْتُـمُوهُمْ فقال بعضهُم: تأويـل ذلك: ونصرتـموهم. ذكر من قال ذلك:
9115ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وَعَزّرْتُـمُوهُمْ قال: نصرتـموهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
9116ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: قوله: وَعَزّرْتُـمُوهُمْ قال: نصرتـموهم بـالسيف.
وقال آخرون: هو الطاعة والنصرة. ذكر من قال ذلك:
9117ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سمعت عبد الرحمن بن زيد يقول فـي قوله: وَعَزّرْتـموهُم قال: التعزر والتوقـير: الطاعة والنصرة.
واختلف أهل العربـية فـي تأويـله, فذكر عن يونس الـحِرمرِي أنه كان يقول: تأويـل ذلك: أثنـيتـم علـيهم.
9118ـ حُدثت بذلك عن أبـي عبـيدة معمر بن الـمثنى عنه.
وكان أبو عبـيدة يقول: معنى ذلك نصرتـموهم وأعنتـموهم ووقرتـموهم وعظمتـموهم وأيدتـموهم, وأنشد فـي ذلك:
وكَمْ مِنْ ماجِدٍ لَهُمُ كَرِيـمٍومِنْ لَـيْثٍ يُعَزّزُ فـي النّدِيّ
وكان الفرّاء يقول: العزر الردّ عزررته رددته: إذا رأيته يظلـم, فقلت: اتق الله أو نهيته, فذلك العزر.
وأولـى هذه الأقوال عندي فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معنى ذلك: نصرتـموهم, وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال فـي سورة الفتـح: إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدا وَمُبَشّرا وَنَذِيرا لِتُؤْمِنُوا بـاللّهِ وَرَسُولِهِ وتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ. فـالتوقـير: هو التعظيـم. وإذا كان ذلك كذلك, كان القول فـي ذلك إنـما هو بعض ما ذكرنا من الأقوال التـي حكيناها عمن حكينا عنه. وإذا فسد أن يكون معناه التعظيـم, وكان النصر قد يكون بـالـيد واللسان فأما بـالـيد فـالذبّ بها عنه بـالسيف وغيره, وأما بـاللسان فحسن الثناء, والذبّ عن العرض, صحّ أنه النصر إذ كان النصر يحوي معنى كلّ قائل قال فـيه قولاً مـما حكينا عنه.
وأما قوله: وأقْرَضْتُـمُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا فإنه يقول: وأنفقتـم فـي سبـيـل الله, وذلك فـي جهاد عدوّه وعدوّكم, قَرْضا حَسَنا يقول: وأنفقتـم ما أنفقتـم فـي سبـيـله, فأصبتـم الـحقّ فـي إنفـاقكم ما أنفقتـم فـي ذلك, ولـم تتعدّوا فـيه حدود الله وما ندبكم إلـيه وحثكم علـيه إلـى غيره.
فإن قال لنا قائل: وكيف قال: وأقْرَضْتُـمْ اللّهَ قَرْضا حَسَنا ولـم يقل: إقراضا حسنا, وقد علـمت أن مصدر أقرضت: الإقراض؟ قـيـل: لو قـيـل ذلك كان صوابـا, ولكن قوله: قَرْضا حَسَنا أخرج مصدرا من معناه لا من لفظه, وذلك أن فـي قوله: أقرض معنى قرض, كما فـي معنى أعطى أخذ, فكان معنى الكلام: وقرضتـم الله قرضا حسنا, ونظير ذلك: واللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرضِ نَبَـاتا إذ كان فـي أنبتكم معنى فنبتـم, وكما قال امرؤ القـيس:
(وَرُضْتُ فَذَلّتْ صَعْبَةً أيّ إذْلالِ )
إذ كان فـي رضت معنى أذللت, فخرج الإذلال مصدرا من معناه لا من لفظه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ وَلأُدْخِـلَنّكُمْ جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهَارُ.
يعنـي جلّ ثناؤه بذلك بنـي إسرائيـل, يقول لهم جلّ ثناؤه: لئن أقمتـم الصلاة أيها القوم الذين أعطونـي ميثاقهم بـالوفـاء بطاعتـي, واتبـاع أمري, وآتـيتـم الزكاة, وفعلتـم سائر ما وعدتكم علـيه جنتـي لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئَاتَكُمْ يقول: لأغطين بعفوي عنكم وصفحي عن عقوبتكم, علـى سالف إجرامكم التـي أجرمتـموها فـيـما بـين وبـينكم علـى ذنوبكم التـي سلفت منكم من عبـادة العجل وغيرها من موبقات ذنوبكم ولأدْخِـلَنّكُمْ مع تغطيتـي علـى ذلك منكم بفضلـي يوم القـيامة جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأَنْهارُ فـالـجنات: البساتـين.
وإنـما قلت: معنى قوله: لأُكَفّرَنّ: لأغطينّ, لأن الكفر معناه الـجحود والتغطية والستر, كما قال لبـيد:
(فِـي لَـيْـلَةٍ كَفَرَ النّـجومَ غَمامُها )
يعنـي: «غطاها». التفعيـل من الكَفْر.
واختلف أهل العربـية فـي معنى «اللام» التـي فـي قوله: لأُكَفّرَنّ فقال بعض نـحويـيّ البصرة: اللام الأولـى علـى معنى القَسَم, يعنـي اللام التـي فـي قوله: لَئِنْ أقَمْتُـمْ الصّلاةَ قال: والثانـية معنى قسم آخر.
وقال بعض نـحويـيّ الكوفة: بل اللام الأولـى وقعت موقع الـيـمين, فـاكتفـى بها عن الـيـمين, يعنـي بـاللام الأولـى: لئن أقمتـم الصلاة. قال: واللام الثانـية, يعنـي قوله: لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئاتَكُمْ جواب لها, يعنـي للام التـي فـي قوله: لَئِنْ أقَمْتُـمُ الصّلاةَ. واعتلّ لقـيـله ذلك بأن قوله: لَئِنْ أقَمْتُـمُ الصّلاةَ غير تام ولا مستغن عن قوله: لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ. وإذ كان ذلك كذلك, فغير جائز أن يكون قوله: لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ قسما مبتدأ, بل الواجب أن يكون جوابـا للـيـمين إذ كانت غير مستغنـية عنه. وقوله: تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهارُ يقول: يجري من تـحت أشجار هذه البساتـين التـي أدخـلكموها الأنهار.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِـيـلِ.
يقول عزّ ذكره: فمن جحد منكم يا معشر بنـي إسرائيـل شيئا مـما أمرته به, فتركه, أو ركب ما نهيته عنه فعمله بعد أخذي الـميثاق علـيه بـالوفـاء لـي بطاعتـي واجتناب معصيتـي, فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِـيـلِ يقول: فقد أخطأ قصد الطريق الواضح, وزلّ عن منهج السبـيـل القاصد. والضلال: الركوب علـى غير هدى وقد بـينا ذلك بشاهده فـي غير هذا الـموضع. وقوله: سَوَاءَ يعنـي به: وسط السبـيـل, وقد بـيّنا تأويـل ذلك كله فـي غير هذا الـموضع, فأغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
الآية : 13
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّا مّمّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاّ قَلِيلاً مّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ }..
يقول جلّ ثناؤه لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: يا مـحمد, لا تعجبنّ من هؤلاء الـيهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إلـيك وإلـى أصحابك, ونكثوا العهد الذي بـينك وبـينهم, غدرا منهم بك وأصحابك, فإن ذلك من عاداتهم وعادات سلفهم ومن ذلك أنى أخذت ميثاق سلفهم علـى عهد موسى صلى الله عليه وسلم علـى طاعتـي, وبعثت منهم اثنـي عشر نقـيبـا وقد تُـخيروا من جميعهم لـيتـجسسوا أخبـار الـجبـابرة, ووعدتهم النصر علـيهم, وأن أورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم, بعد ما أريتهم من العبر والاَيات بإهلاك فرعون وقومه فـي البحر وفَلْق البحر لهم وسائر العبر ما أريتـم, فنقضوا ميثاقهم الذي واثقونـي ونكثوا عهدي, فلعنتهم بنقضهم ميثاقهم فإذا كان ذلك من فعل خيارهم مع أياديّ عندهم, فلا تستنكروا مثله من فعل آراذلهم. وفـي الكلام مـحذوف اكتفـي بدلالة الظاهر علـيه, وذلك أن معنى الكلام: فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلّ سواء السبـيـل, فنقضوا الـميثاق, فلعنتهم, فـيـما نقضهم ميثاقهم لعناهم, فـاكتفـى بقوله: فَبِـما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ من ذكر «فنقضوا». ويعنـي بقوله جلّ ثناؤه: فبـما نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ فبنقضهم ميثاقهم. كماقال قتادة.
9119ـ حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: فَبِـما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ يقول: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم.
9120ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: فَبـما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ قال: هو ميثاق أخذه الله علـى أهل التوراة فنقضوه.
وقد ذكرنا معنى اللعن فـي غير هذا الـموضع. والهاء والـميـم من قوله: فَبِـما نَقْضِهِمْ عائدتان علـى ذكر بنـي إسرائيـل قبل.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً.
اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة وبعض أهل مكة والبصرة والكوفة: قاسِيَةً بـالألف, علـى تقدير فـاعلة, من قسوة القلب, من قول القائل: قسا قلبه, فهو يقسو وهو قاس, وذلك إذا غلظ واشتدّ وصار يابسا صلبـا, كما قال الراجز:
(وَقَدْ قَسَوْتُ وَقَسَتْ لِدَاتـي )
فتأويـل الكلام علـى هذه القراءة: فلعنا الذين نقضوا عهدي ولـم يفوا بـميثاقـي من بنـي إسرائيـل بنقضهم ميثاقهم الذي واثقونـي, وجعلنا قلوبهم قاسية غلـيظة يابسة عن الإيـمان بـي والتوفـيق لطاعتـي, منزوعة منها الرأفة والرحمة. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفـيـين: «وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قَسِيةً».
ثم اختلف الذين قرءوا ذلك كذلك فـي تأويـله, فقال بعضهم: معنى ذلك: معنى القسوة, لأن فعيـلة فـي الذمّ أبلغ من فـاعلة, فـاخترنا قراءتها قسيّة علـى قاسية لذلك.
وقال آخرون منهم: بل معنى «قسية» غير معنى القسوة وإنـما القسية فـي هذا الـموضع القلوب التـي لـم يخـلص إيـمانها بـالله, ولكن يخالط إيـمانها كفر كالدراهم القَسِية, وهي التـي يخالط فضتها غش من نـحاس أو رصاص وغير ذلك, كما قال أبو زُرَبـيْد الطائي:
لَهَا صَوَاهِلُ فـي صُمّ السّلامِ كمَاصاحَ القَسِيّاتُ فـي أيدِي الصّيارِيفِ
يصف بذلك وقع مساحي الذين حفروا قبر عثمان علـى الصخور, وهي السّلام.
وأعجب القراءتـين إلـيّ فـي ذلك قراءة من قرأ: «وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قَسِيّةً» علـى فعلـية, لأنها أبلغ فـي ذمّ القوم من قاسية.
وأولـى التأويـلـين فـي ذلك بـالصواب تأويـل من تأوّله فعيـلة من القسوة, كما قـيـل: نفس زكية وزاكية, وامرأة شاهدة وشهيدة لأن الله جلّ ثناؤه وصف القوم بنقضهم ميثاقهم وكفرهم به, ولـم يصفهم بشيء من الإيـمان, فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيـمانها يخالطه كفر كالدراهم القسية التـي يخالط فضتها غشّ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: يُحَرّفُونَ الكَلِـمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ.
يقول عزّ ذكره: وجعلنا قلوب هؤلاء الذين نقضوا عهودنا من بنـي إسرائيـل قسية, منزوعا منها الـخير, مرفوعا منها التوفـيق, فلا يؤمنون, ولا يهتدون, فهم لنزع الله عزّ وجلّ التوفـيق من قلوبهم والإيـمان يحرّفون كلام ربهم الذي أنزله علـى نبـيهم موسى صلى الله عليه وسلم, وهو التوراة, فـيبدّلونه ويكتبون بأيديهم غير الذي أنزله الله جلّ وعزّ علـى نبـيهم ويقولون لـجهال الناس: هذا هو كلام الله الذي أنزله علـى نفسه موسى صلى الله عليه وسلم والتوراة التـي أوحاها إلـيه. وهذا من صفة القرون التـي كانت بعد موسى من الـيهود مـمن أدرك بعضهم عصر نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم, ولكن الله عزّ ذكره أدخـلهم فـي عداد الذين ابتدأ الـخبر عنهم مـمن أدرك موسى منهم, إذ كانوا من أبنائهم وعلـى منهاجهم فـي الكذب علـى الله والفرية علـيه ونقض الـمواثـيق التـي أخذها علـيهم فـي التوراة. كما:
9121ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: يُحَرّفُونَ الكَلِـمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ يعنـي: حدود الله فـي التوراة, ويقولون: إن أمركم مـحمد بـما أنتـم علـيه فـاقبلوه, وإن خالفكم فـاحذروا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَنَسُوا حَظّا مِـمّا ذُكّرُوا بِهِ.
ينـي تعالـى ذكره بقوله: وَنَسُوا حَظّا: وتركوا نصيبـا, وهو كقوله: نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ أي تركوا أمر الله فتركهم الله وقد مضى بـيان ذلك بشواهده فـي غير هذا الـموضع فأغنـي ذلك عن إعادته.
وبـالذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9122ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وَنَسُوا حَظّا مِـمّا ذُكّرُوا بِهِ يقول: تركوا نصيبـا.
9123ـ حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا مبـارك بن فضالة, عن الـحسن فـي قوله: وَنَسُوا حَظّا مِـمّا ذُكّرُوا بِهِ قال: تركوا عُرَى دينهم ووظائف الله جلّ ثناؤه التـي لا تقبل الأعمال إلا بها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا تَزَالُ تَطّلِعُ علـى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إلاّ قَلِـيلاً مِنْهُمْ.
يقول تبـارك وتعالـى لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: ولا تزال يا مـحمد تطلع من الـيهود الذين أنبأتك نبأهم من نقضهم ميثاقـي, ونكثهم عهدي, مع أياديّ عندهم, ونعمتـي علـيهم, علـى مثل ذلك من الغدر والـخيانة, إلا قلـيلاً منهم. والـخائنة فـي هذا الـموضع: الـخيانة, وهو اسم وضع موضع الـمصدر, كما قـيـل خاطئة: للـخطيئة, وقائلة: للقـيـلولة.
وقوله: إلاّ قَلِـيلاً مِنْهُمْ اسثناء من الهاء والـميـم اللتـين فـي قوله: علـى خائِنَةٍ مِنْهُمْ.
وبنـحو الذين قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9124ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: ولاَ تَزَالُ تَطّلِعُ علـى خائنَةٍ مِنْهُمْ قال: علـى خيانة وكذب وفجور.
9125ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وَلا تَزَالُ تَطّلِعُ علـى خائِنَةٍ مِنْهُمْ قال: هم يهود مثل الذي همّوا به من النبـيّ صلى الله عليه وسلم يوم دخـل حائطهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, بنـحوه.
9126ـ حدثنا القاسم, حدثنا الـحسين, قال: قال ابن جريج, قال مـجاهد وعكرمة: قوله: وَلا تَزَالُ تَطّلِعُ علـى خائِنَةٍ مِنْهُمْ من يهود مثل الذي همّوا بـالنبـيّ صلى الله عليه وسلم يوم دخـل علـيهم.
وقال بعض القائلـين: معنى ذلك: ولا تزال تطلع علـى خائن منهم, قال: والعرب تزيد الهاء فـي آخر الـمذكر كقولهم: هو رواية للشعر, ورجل علامة, وأنشد:
حَدّثْتَ نفسَكَ بـالوَفـاءِ ولـم تكُنْللغدْرِ خائنةً مُغِلّ الإصْبَعِ
فقال خائنة, وهو يخاطب رجلاً.
والصواب من التأويـل فـي ذلك القول الذي رويناه عن أهل التأويـل, لأن الله عنى بهذه الاَية القوم من يهود بنـي النضير الذين هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, إذ أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم فـي دية العامريـين, فأطلعه الله عزّ ذكره علـى ما قد همّوا به. ثم قال جلّ ثناؤه بعد تعريفه أخبـار أوائلهم وإعلامه منهج أسلافهم وأن آخرهم علـى منهاج أوّلهم فـي الغدر والـخيانة, لئلا يكبر فعلهم ذلك علـى نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم, فقال جلّ ثناؤه: ولا تزال تطلع من الـيهود علـى خيانة وغدر ونقض عهد. ولـم يرد أنه لا يزال يطلّع علـى رجل منهم خائن, وذلك أن الـخبر ابتدىء به عن جماعتهم, فقـيـل: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمـح إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ, ثم قـيـل: وَلا تَزَالَ تَطّلِعُ علـى خائِنَةٍ مِنْهُمْ, فإذ كان الابتداء عن الـجماعة فلتـختـم بـالـجماعة أولـى.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فـاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنّ اللّهَ يُحِبّ الـمُـحْسِنـينَ.
وهذ أمر من الله عزّ ذكره نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم بـالعفو عن هؤلاء القوم الذين همّوا أن يبسطوا أيديهم إلـيه من الـيهود, يقول الله جلّ وعزّ له: اعف يا مـحمد عن هؤلاء الـيهود الذين همّوا بـما همّوا به من بسط أيديهم إلـيك وإلـى أصحابك بـالقتل, واصفح لهم عن جرمهم بترك التعرّض لـمكروههم, فإنـي أحبّ من أحسن العفو والصفح إلـى من أساء إلـيه. وكان قتادة يقول: هذه منسوخة, ويقول: نسختها آية براءة: قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـاللّهِ وَلا بـالـيَوْمِ الاَخِرِ... الاَية.
9127ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: فـاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ قال: نسختها: قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـاللّهِ وَلا بـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ.
9128ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا حجاج بن الـمنهال, قال: حدثنا همام, عن قتادة: فـاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنّ اللّهَ يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ ولـم يؤمر يؤمئذٍ بقتالهم, فأمره الله عزّ ذكره أن يعفو عنهم ويصفح, ثم نسخ ذلك فـي براءة فقال: قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـاللّهِ وَلا بـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الـحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حتـى يُعْطُوا الـجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وهم أهل الكتاب. فأمر الله جلّ ثناؤه نبـيه صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم حتـى يسلـموا, أو يقرّوا بـالـجزية.
حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا عبدة بن سلـيـم, قال: قرأت علـى ابن أبـي عروبة, عن قتادة نـحوه.
والذي قاله قتادة غير مدفوع إمكانه, غير أن الناسخ الذي لا شكّ فـيه من الأمر, هو ما كان نافـيا كلّ معانـي خلافه الذي كان قبله. فأما ما كان غير ناف جميعه, فلا سبـيـل إلـى العلـم بأنه ناسخ إلا بخبر من الله جلّ وعزّ, أو من رسوله صلى الله عليه وسلم. ولـيس فـي قوله: قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـاللّهِ وَلا بـالـيَوْمِ الاَخِرِ دلالة علـى الأمر بنفـي معانـي الصفح والعفو عن الـيهود. وإذ كان ذلك كذلك, وكان جائزا مع إقرارهم بـالصّغار وأدائهم الـجزية بعد القتال, الأمر بـالعفو عنهم فـي غدرة هموا بها أو نكثة عزموا علـيها, ما لـم ينصبوا حربـا دون أداء الـجزية, ويـمتنعوا من الأحكام اللازمة منهم, لـم يكن واجبـا أن يحكم لقوله: قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـاللّهِ وَلا بـالـيَوْمِ الاَخِرِ... الاَية, بأنه ناسخ قوله: فـاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنّ اللّهَ يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ
الصفحة رقم 109 من المصحف تحميل و استماع mp3