إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم
( إنما حرم عليكم الميتة ) قرأ أبو جعفر الميتة في كل القرآن بالتشديد والباقون يشددون البعض والميتة كل ما لم تدرك ذكاته مما يذبح ( والدم ) أراد به الدم الجاري يدل عليه قوله تعالى أو دما مسفوحا " ( 145 - الأنعام ) واستثنى الشرع من الميتة السمك والجراد ومن الدم الكبد والطحال فأحلهاأخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحلت لنا ميتتان ودمان الميتتان الحوت والجراد والدمان أحسبه قال الكبد والطحال ... "( ولحم الخنزير ) أراد به جميع أجزائه فعبر عن ذلك باللحم لأنه معظمه ( وما أهل به لغير الله ) أي ما ذبح للأصنام والطواغيت وأصل الإهلال رفع الصوت وكانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها فجرى ذلك من أمرهم حتى قيل لكل ذابح وإن لم يجهر بالتسمية مهل وقال الربيع بن أنس وغيره ( وما أهل به لغير الله ) قال ما ذكر عليه اسم غير الله ( فمن اضطر ) بكسر النون وأخواته قرأ عاصم وحمزة ، ووافق أبو عمرو إلا في اللام والواو مثل " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن " ( 110 - الإسراء ) ويعقوب إلا في الواو ووافق ابن عامر في التنوين ، والباقون كلهم بالضم فمن كسر قال لأن الجزم يحرك إلى الكسر ، ومن ضم فلضمة أول الفعل نقل حركتها إلى ما قبلها وأبو جعفر بكسر الطاء ، ومعناه فمن اضطر إلى أكل ميتة أي أحوج وألجئ إليه ( غير ) نصب على الحال ، وقيل على الاستثناء وإذا رأيت ( غير ) يصلح في موضعها ( لا ) فهي حال وإذا صلح في موضعها ( إلا ) فهي استثناء ( باغ ولا عاد ) أصل البغي قصد الفساد ، يقال بغى الجرح يبغي بغيا إذا ترامى إلى الفساد وأصل العدوان الظلم ومجاوزة الحد ، يقال عدا عليه عدوا وعدوانا إذا ظلم واختلفوا في معنى قوله ( غير باغ ولا عاد ) فقال بعضهم ( غير باغ ) أي خارج على السلطان ولا عاد معتد عاص بسفره ، بأن خرج لقطع الطريق أو لفساد في الأرض وهو قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير . وقالوا لا يجوز للعاصي بسفره أن يأكل الميتة إذا اضطر إليها ولا أن يترخص برخص المسافر حتى يتوب وبه قال الشافعي رحمه الله لأن إباحته له إعانة له على فساده وذهب جماعة إلى أن البغي والعدوان راجعان إلى الأكل واختلفوا في تفصيله فقال الحسن وقتادة ( غير باغ ) لا تأكله من غير اضطرار ( ولا عاد ) أي لا يعدو لشبعه وقيل ( غير باغ ) أي غير طالبها وهو يجد غيرها ( ولا عاد ) أي غير متعد ما حد له فما يأكل حتى يشبع ولكن يأكل منها قوتا مقدار ما يمسك رمقه وقال مقاتل بن حيان ( غير باغ ) أي مستحل لها ( ولا عاد ) أي متزود منها وقيل ( غير باغ ) أي غير مجاوز للقدر الذي أحل له ( ولا عاد ) أي لا يقصر فيما أبيح له فيدعه قال مسروق : من اضطر إلى الميتة ، والدم ولحم الخنزير فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النارواختلف العلماء في مقدار ما يحل للمضطر أكله من الميتة فقال بعضهم مقدار ما يسد رمقه وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه وأحد قولي الشافعي رضي الله عنه . والقول الآخر يجوز أن يأكل حتى يشبع وبه قال مالك رحمه الله تعالى وقال سهل بن عبد الله ( غير باغ ) مفارق للجماعة ( ولا عاد ) مبتدع مخالف للسنة ولم يرخص للمبتدع في تناول المحرم عند الضرورة ( فلا إثم عليه ) أي فلا حرج عليه في أكلها ( إن الله غفور ) لمن أكل في حال الاضطرار ( رحيم ) حيث رخص للعباد في ذلك
فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم
قوله تعالى : ( فمن خاف ) أي علم كقوله تعالى : " فإن خفتم ألا يقيما حدود الله " ( 229 - البقرة ) أي علمتم ( من موص ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب بفتح الواو وتشديد الصاد كقوله تعالى : " ما وصى به نوحا " ( 13 - الشورى ) " ووصينا الإنسان " ( 8 - العنكبوت ) وقرأ الآخرون بسكون الواو وتخفيف الصاد كقوله تعالى : " يوصيكم الله في أولادكم " ( 11 - النساء ) " من بعد وصية يوصي بها أو دين " ( 12 - النساء) ( جنفا ) أي جورا وعدولا عن الحق ، والجنف الميل ( أو إثما ) أي ظلما قال السدي وعكرمة والربيع : الجنف الخطأ والإثم العمد ( فأصلح بينهم فلا إثم عليه ) واختلفوا في معنى الآية قال مجاهد : معناها أن الرجل إذا حضر مريضا وهو يوصي فرآه يميل إما بتقصير أو إسراف أو وضع الوصية في غير موضعها فلا حرج على من حضره أن يأمره بالعدل وينهاه عن الجنف فينظر للموصى وللورثة وقال آخرون إنه أراد به أنه إذا أخطأ الميت في وصيته أو جار متعمدا فلا حرج على وليه أو وصيه أو والي أمور المسلمين أن يصلح بعد موته بين ورثته وبين الموصى لهم ويرد الوصية إلى العدل والحق فلا إثم عليه أي فلا حرج عليه ( إن الله غفور رحيم ) وقال طاوس : جنفة توليجة وهو أن يوصي لبني بنيه يريد ابنه ولولد ابنته ولزوج ابنته يريد بذلك ابنتهقال الكلبي : كان الأولياء والأوصياء يمضون وصية الميت بعد نزول قوله تعالى " فمن بدله بعدما سمعه " الآية وإن استغرق المال كله ولم يبق للورثة شيء ثم نسخها قوله تعالى : " فمن خاف من موص جنفا " الآية قال ابن زيد : فعجز الموصي أن يوصي للوالدين والأقربين كما أمر الله تعالى وعجز الموصي أن يصلح فانتزع الله تعالى ذلك منهم ففرض الفرائضروي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار ، " ثم قرأ أبو هريرة : ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) إلى قوله ( غير مضار ) .
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم
قوله تعالى : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) قال أهل التفسير كانت قريش وحلفاؤها ومن دان بدينها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة ويقولون نحن أهل الله وقطان حرمه فلا نخلف الحرم ولا نخرج منه ويتعظمون أن يقفوا مع سائر العرب بعرفات وسائر الناس كانوا يقفون بعرفات فإذا أفاض الناس من عرفات أفاض الحمس من المزدلفة فأمرهم الله أن يقفوا بعرفات ويفيضوا منها إلى جمع مع سائر الناس وأخبرهم أنه سنة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وقال بعضهم خاطب به جميع المسلمينوقوله تعالى ( من حيث أفاض الناس ) من جمع أي ثم أفيضوا من جمع إلى منى وقالوا لأن الإفاضة من عرفات قبل الإفاضة من جمع فكيف يسوغ أن يقول فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ثم أفيضوا من عرفات والأول قول أكثر أهل التفسيروفي الكلام تقديم وتأخير تقديره : فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحراموقيل ثم بمعنى الواو أي وأفيضوا كقوله تعالى : " ثم كان من الذين آمنوا " ( 17 - البلد ) وأما الناس فهم العرب كلهم غير الحمسوقال الكلبي : هم أهل اليمن وربيعة وقال الضحاك : الناس هاهنا إبراهيم عليه السلام وحده كقوله تعالى " أم يحسدون الناس " ( 54 - النساء) ، وأراد محمدا صلى الله عليه وسلم وحده ، ويقال هذا الذي يقتدى به ويكون لسان قومه وقال الزهري : الناس هاهنا آدم عليه السلام وحده دليله قراءة سعيد بن جبير ثم أفيضوا من حيث أفاض الناسي بالياء ، ويقال هو آدم نسي عهد الله حين أكل من الشجرةأخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال : سئل أسامة وأنا جالس كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حين دفع قال كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص ، قال هشام : والنص فوق العنقأخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا إبراهيم بن سويد حدثني عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب قال أخبرني سعيد بن جبير مولى والبة الكوفي حدثني ابن عباس أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وراءه زجرا شديدا وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع ، ( واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ) "
إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم
قال أصحاب السرية : يا رسول الله هل نؤجر على وجهنا هذا وهل نطمع أن يكون سفرنا هذا غزوا؟ فأنزل الله تعالى ( إن الذين آمنوا والذين هاجروا ) فارقوا عشائرهم ومنازلهم وأموالهم ) ( وجاهدوا ) المشركين ( في سبيل الله ) طاعة لله فجعلها جهادا ، ) ( أولئك يرجون رحمت الله ) أخبر أنهم على رجاء الرحمة ( والله غفور رحيم ) .
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم
قوله تعالى : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ) اللغو كل مطرح من الكلام لا يعتد به واختلف أهل العلم في اللغو في اليمين المذكورة في الآية فقال قوم : هو ما يسبق إلى اللسان على عجلة لصلة الكلام من غير عقد وقصد كقول القائل : لا والله وبلى والله وكلا والله .أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت : لغو اليمين قول الإنسان : لا والله وبلى والله ورفعه بعضهم وإلى هذا ذهب الشعبي وعكرمة وبه قال الشافعي .ويروى عن عائشة : أيمان اللغو ما كانت في الهزل والمراء ، والخصومة والحديث الذي لا يعقد عليه القلب وقال قوم : هو أن يحلف عن شيء يرى أنه صادق فيه ثم يتبين له خلاف ذلك وهو قول الحسن والزهري وإبراهيم النخعي وقتادة ومكحول ، وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه وقالوا لا كفارة فيه ولا إثم عليه وقال علي : هو اليمين على الغضب وبه قال طاووس وقال سعيد بن جبير : هو اليمين في المعصية لا يؤاخذه الله بالحنث فيها ، بل يحنث ويكفر . وقال مسروق : ليس عليه كفارة أيكفر خطوات الشيطان؟ وقال الشعبي في الرجل يحلف على المعصية : كفارته أن يتوب منها وكل يمين لا يحل لك أن تفي بها فليس فيها كفارة ولو أمرته بالكفارة لأمرته أن يتم على قوله وقال زيد بن أسلم : هو دعاء الرجل على نفسه تقول لإنسان أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا [ أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدا ويقول : هو كافر إن فعل كذا ] . فهذا كله لغو لا يؤاخذه الله به ولو آخذهم به لعجل لهم العقوبة " ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم " ( 11 - يونس ) وقال " ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير " ( 11 - الإسراء ) .قوله تعالى : ( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) أي عزمتم وقصدتم إلى اليمين وكسب القلب العقد والنية ( والله غفور رحيم ) واعلم أن اليمين لا تنعقد إلا بالله أو باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته : فاليمين بالله أن يقول : والذي أعبده والذي أصلي له والذي نفسي بيده ونحو ذلك واليمين بأسمائه كقوله والله والرحمن ، ونحوه واليمين بصفاته كقوله : وعزة الله وعظمة الله وجلال الله وقدرة الله ونحوها فإذا حلف بشيء منها على أمر في المستقبل فحنث يجب عليه الكفارة وإذا حلف على أمر ماض أنه كان ولم يكن أو على أنه لم يكن وقد كان إن كان عالما به حالة ما حلف فهو اليمين الغموس وهو من الكبائر وتجب فيه الكفارة عند بعض أهل العلم عالما كان أو جاهلا وبه قال الشافعي ولا تجب عند بعضهم وهو قول أصحاب الرأي وقالوا إن كان عالما فهو كبيرة ولا كفارة لها كما في سائر الكبائر وإن كان جاهلا فهو يمين اللغو عندهم ومن حلف بغير الله مثل أن قال : والكعبة وبيت الله ونبي الله أو حلف بأبيه ونحو ذلك فلا يكون يمينا ، فلا تجب عليه الكفارة إذا حلف وهو يمين مكروهة قال الشافعي : وأخشى أن يكون معصية .أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت .
للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم
قوله تعالى : ( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ) يؤلون أي يحلفون والألية : اليمين والمراد من الآية : اليمين على ترك وطء المرأة قال قتادة : كان الإيلاء طلاقا لأهل الجاهلية وقال سعيد بن المسيب : كان ذلك من ضرار أهل الجاهلية كان الرجل لا يحب امرأته ولا يريد أن يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها أبدا فيتركها لا أيما ولا ذات بعل وكانوا عليه في ابتداء الإسلام فضرب الله له أجلا في الإسلام واختلف أهل العلم فيه : فذهب أكثرهم إلى أنه إن حلف أن لا يقرب زوجته أبدا أو سمى مدة أكثر من أربعة أشهر يكون موليا فلا يتعرض لها قبل مضي أربعة أشهر وبعد مضيها يوقف ويؤمر بالفيء أو بالطلاق بعد مطالبة المرأة والفيء هو الرجوع عما قاله بالوطء إن قدر عليه وإن لم يقدر فبالقول فإن لم يفئ ولم يطلق طلق عليه السلطان واحدة وذهب إلى الوقوف بعد مضي المدة عمر وعثمان وعلي وأبو الدرداء وابن عمر قال سليمان بن يسار : أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يقول بوقف المولي . وإليه ذهب سعيد بن جبير وسليمان بن يسار ومجاهد وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وقال بعض أهل العلم : إذا مضت أربعة أشهر تقع عليها طلقة بائنة وهو قول ابن عباس وابن مسعود وبه قال سفيان الثوري وأصحاب الرأي .وقال سعيد بن المسيب والزهري : تقع طلقة رجعية ولو حلف أن لا يطأها أقل من أربعة أشهر لا يكون موليا بل هو حالف فإذا وطئها قبل مضي تلك المدة تجب عليه كفارة اليمين ولو حلف أن لا يطأها أربعة أشهر لا يكون موليا عند من يقول بالوقف بعد مضي المدة لأن بقاء المدة شرط للوقف وثبوت المطالبة بالفيء أو الطلاق وقد مضت المدة . وعند من لا يقول بالوقف يكون موليا ويقع الطلاق بمضي المدة .ومدة الإيلاء : أربعة أشهر في حق الحر والعبد جميعا عند الشافعي رحمه الله لأنها ضربت لمعنى يرجع إلى الطبع وهو قلة صبر المرأة عن الزوج فيستوي فيه الحر والعبد كمدة العنة .وعند مالك رحمه الله وأبي حنيفة رحمه الله تتنصف مدة العنة بالرق غير أن عند أبي حنيفة تتنصف برق المرأة وعند مالك برق الزوج كما قالا في الطلاق .قوله تعالى : ( تربص أربعة أشهر ) أي انتظار أربعة أشهر والتربص : التثبت والتوقف ( فإن فاءوا ) رجعوا عن اليمين بالوطء ( فإن الله غفور رحيم ) وإذا وطئ خرج عن الإيلاء وتجب عليه كفارة اليمين عند أكثر أهل العلم وقال الحسن وإبراهيم النخعي وقتادة : لا كفارة عليه لأن الله تعالى وعد بالمغفرة فقال ( فإن الله غفور رحيم ) وذلك عند الأكثرين في إسقاط العقوبة لا في الكفارة ولو قال لزوجته : إن قربتك فعبدي حر أو صرت طالقا أو لله علي عتق رقبة أو صوم أو صلاة فهو مول لأن المولي من يلزمه أمر بالوطء ويوقف بعد مضي المدة فإن فاء يقع الطلاق أو العتق المعلق به وإن التزم في الذمة تلزمه كفارة اليمين في قول وفي قول يلزمه ما التزم في ذمته من الإعتاق والصلاة والصوم
ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم
قوله تعالى : ( ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء ) أي النساء المعتدات وأصل التعريض هو التلويح بالشيء والتعريض في الكلام ما يفهم به السامع مراده من غير تصريح والتعريض بالخطبة مباح في العدة وهو أن يقول : رب راغب فيك من يجد مثلك إنك لجميلة وإنك لصالحة وإنك علي لكريمة وإني فيك لراغب ، وإن من غرضي أن أتزوج وإن جمع الله بيني وبينك بالحلال أعجبني ولئن تزوجتك لأحسنن إليك ونحو ذلك من الكلام من غير أن يقول أنكحيني والمرأة تجيبه بمثله إن رغبت فيه وقال إبراهيم : لا بأس أن يهدي لها ويقوم بشغلها في العدة إذا كانت من شأنه .روي أن سكينة بنت حنظلة بانت من زوجها فدخل عليها أبو جعفر محمد بن علي الباقر في عدتها وقال : يا بنت حنظلة أنا من قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدي علي وقدمي في الإسلام فقالت سكينة أتخطبني وأنا في العدة وأنت يؤخذ العلم عنك؟ فقال : إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي في عدة زوجها أبي سلمة فذكر لها منزلته من الله عز وجل وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدة تحامله على يده .والتعريض بالخطبة جائز في عدة الوفاة أما المعتدة عن فرقة الحياة نظر : إن كانت ممن لا يحل لمن بانت منه نكاحها كالمطلقة ثلاثا والمبانة باللعان والرضاع : يجوز خطبتها تعريضا وإن كانت ممن للزوج نكاحها كالمختلعة والمفسوخ نكاحها يجوز لزوجها خطبتها تعريضا وتصريحا .وهل يجوز للغير تعريضا؟ فيه قولان : أحدهما يجوز كالمطلقة ثلاثا والثاني لا يجوز لأن المعاودة لصاحب العدة كالرجعية لا يجوز للغير تعريضها بالخطبة .وقوله تعالى : ( من خطبة النساء ) الخطبة التماس النكاح وهي مصدر خطب الرجل المرأة يخطب خطبة وقال الأخفش : الخطبة الذكر والخطبة التشهد فيكون معناه : فيما عرضتم به من ذكر النساء عندهن ، ( أو أكننتم ) أضمرتم ( في أنفسكم ) نكاحهن يقال : أكننت الشيء وكننته لغتان وقال ثعلب : أكننت الشيء أي أخفيته في نفسي وكننته سترته وقال السدي : هو أن يدخل فيسلم ويهدي إن شاء ولا يتكلم بشيء ( علم الله أنكم ستذكرونهن ) بقلوبكم ( ولكن لا تواعدوهن سرا ) اختلفوا في السر المنهي عنه فقال قوم : هو الزنا كان الرجل يدخل على المرأة من أجل الزنية وهو يتعرض بالنكاح ويقول لها : دعيني فإذا أوفيت عدتك أظهرت نكاحك هذا قول الحسن وقتادة وإبراهيم وعطاء ورواية عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال زيد بن أسلم : أي لا ينكحها سرا فيمسكها فإذا حلت أظهر ذلك .وقال مجاهد : هو قول الرجل لا تفوتيني بنفسك فإني ناكحك وقال الشعبي والسدي لا يأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيره وقال عكرمة : لا ينكحها ولا يخطبها في العدة .قال الشافعي : السر هو الجماع وقال الكلبي : أي لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع فيقول آتيك الأربعة والخمسة وأشباه ذلك ويذكر السر ويراد به الجماع قال امرؤ القيس :ألا زعمت بسباسة القوم أنني كبرت وألا يحسن السر أمثاليإنما قيل للزنا والجماع سر لأنه يكون في خفاء بين الرجل والمرأة .قوله تعالى : ( إلا أن تقولوا قولا معروفا ) ما ذكرنا من التعريض بالخطبة .قوله تعالى : ( ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ) أي لا تحققوا العزم على عقدة النكاح في العدة حتى يبلغ الكتاب أجله أي : حتى تنقضي العدة وسماها الله كتابا لأنها فرض من الله كقوله تعالى : " كتب عليكم " أي فرض عليكم ( واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ) أي فخافوا الله ( واعلموا أن الله غفور حليم ) لا يعجل بالعقوبة .
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم
قوله تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) نزلت في اليهود والنصارى حيث قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه .وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها ( الشنوف ) وهم يسجدون لها ، فقال : يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل " فقالت له قريش إنما نعبدها حبا لله ليقربونا إلى الله زلفى ، فقال الله تعالى : قل يا محمد إن كنتم تحبون الله وتعبدون الأصنام ليقربوكم إليه فاتبعوني يحببكم الله ، فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم ، أي اتبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله فحب المؤمنين لله اتباعهم أمره وإيثار طاعته وابتغاء مرضاته ، وحب الله للمؤمنين ثناؤه عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم فذلك قوله تعالى : ( ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ) .وقيل لما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن أبي لأصحابه إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى ابن مريم
إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم
( إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ) لما كان منه ، فحملها إليه رجل من قومه وقرأها عليه فقال الحارث : إنك - والله - ما علمت لصدوق وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك وإن الله عز وجل لأصدق الثلاثة ، فرجع الحارث إلى المدينة وأسلم وحسن إسلامه .