قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين
﴿تأس﴾: فلا تأس: فلا تحزن. «grieve»
قال الله تعالى : ( فإنها محرمة عليهم ) قيل: هاهنا تم الكلام ، معناه تلك البلدة محرمة عليهم أبدا لم يرد به تحريم تعبد ، وإنما أراد تحريم منع ، فأوحى الله تعالى إلى موسى : [ بي حلفت ] لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي يوشع وكالب ، ولأتيهنهم في هذه البرية ( أربعين سنة ) [ يتيهون ] مكان كل يوم من الأيام التي تحبسون فيها سنة ، ولألقين جيفهم في هذه القفار ، وأما بنوهم الذين لم يعملوا الشر فيدخلونها ، فذلك قوله تعالى : ( فإنها محرمة عليهم أربعين سنة ) ( يتيهون : ) يتحيرون ، ( في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين ) أي : لا تحزن على مثل هؤلاء القوم ، فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ وهم ستمائة ألف مقاتل ، وكانوا يسيرون كل يوم جادين فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا عنه .وقيل: إن موسى وهارون عليهما السلام لم يكونا فيهم ، والأصح أنهما كانا فيهم ولم يكن لهما عقوبة إنما كانت العقوبة لأولئك القوم ، ومات في التيه كل من دخلها ممن جاوز عشرين سنة غير يوشع وكالب ، ولم يدخل أريحاء أحد ممن قالوا إنا لن ندخلها أبدا فلما هلكوا وانقضت الأربعون سنة ، ونشأت النواشئ من ذراريهم ساروا إلى حرب الجبارين .واختلفوا فيمن تولى تلك الحرب وعلى يدي من كان الفتح ، فقال قوم : وإنما فتح موسى أريحاء وكان يوشع على مقدمته ، فسار موسى عليه السلام إليهم فيمن بقي من بني إسرائيل ، فدخلها يوشع فقاتل الجبابرة ثم دخلها موسى عليه السلام فأقام فيها ما شاء الله تعالى ، ثم قبضه الله تعالى إليه ، ولا يعلم قبره أحد ، وهذا أصح الأقاويل لاتفاق العلماء أن عوج بن عنق قتله موسى عليه السلام .وقال الآخرون : إنما قاتل الجبارين يوشع ولم يسر إليهم إلا بعد موت موسى عليه السلام ، [ وقالوا : مات موسى ] وهارون جميعا في التيه .قصة وفاة هارونقال السدي : أوحى الله عز وجل إلى موسى أني متوفي هارون فأت به جبل كذا وكذا ، فانطلق موسى وهارون عليهما السلام نحو ذلك الجبل فإذا هما بشجرة لم ير مثلها وإذا ببيت مبني وفيه سرير عليه فرش وإذا فيه ريح طيبة ، فلما نظر هارون إلى ذلك أعجبه ، فقال : يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير قال : فنم عليه ، فقال : إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب علي ، قال له موسى : لا ترهب إني أكفيك أمر رب هذا البيت فنم ، قال : يا موسى نم أنت معي فإن جاء رب البيت غضب علي وعليك جميعا فلما ناما أخذ هارون الموت فلما وجد منيته قال : يا موسى خدعتني ، فلما قبض رفع البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير به إلى السماء ، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل وليس معه هارون قالوا : إن موسى قتل هارون وحسده لحب بني إسرائيل له ، فقال موسى عليه السلام : ويحكم كان أخي فكيف أقتله ، فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله تعالى ونزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه .وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : صعد موسى وهارون عليهما السلام الجبل فمات هارون [ وبقي موسى ] فقالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام أنت قتلته فآذوه فأمر الله الملائكة فحملوه حتى مروا به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنه مات ، فبرأه الله تعالى مما قالوا ، ثم إن الملائكة حملوه ودفنوه فلم يطلع على موضع قبره أحد إلا الرخم فجعله الله أصم وأبكم .وقال عمرو بن ميمون : مات هارون قبل موت موسى عليه السلام في التيه ، وكانا قد خرجا إلى بعض الكهوف فمات هارون ودفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل ، فقالوا : قتلته لحبنا إياه ، وكان محببا في بني إسرائيل ، فتضرع موسى عليه السلام إلى ربه عز وجل فأوحى الله إليه أن انطلق بهم إلى قبره فإني باعثه ، فانطلق بهم إلى قبره [ فناداه موسى ] فخرج من قبره ينفض رأسه ، فقال : أنا قتلتك؟ قال : لا ولكني مت ، قال : فعد إلى مضجعك ، وانصرفوا .وأما وفاة موسى عليه السلام ، قال ابن إسحاق : كان موسى عليه الصلاة والسلام قد كره الموت وأعظمه فأراد الله أن يحبب إليه الموت ، فنبأ يوشع بن نون فكان يغدو ويروح عليه ، قال : فيقول له موسى عليه السلام يا نبي الله ما أحدث الله إليك؟ [ فيقول له يوشع : يا نبي الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة ، فهل كنت أسألك شيئا مما أحدث الله إليك ] حتى تكون أنت الذي تبتدئ به وتذكره؟ ولا يذكر له شيئا ، فلما رأى ذلك كره موسى الحياة وأحب الموت .أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال : أخبرنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جاء ملك الموت إلى موسى بن عمران ، فقال له : أجب ربك ، قال : فلطم موسى عليه السلام عين ملك الموت ففقأها ، قال : فرجع ملك الموت إلى الله تعالى فقال : إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني قال فرد الله إليه عينه ، وقال : ارجع إلى عبدي فقل له : الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور ، فما وارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة ، قال : ثم مه؟ قال : ثم تموت ، قال : فالآن من قريب ، رب أدنني من الأرض المقدسة رمية بحجر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر " .وقال وهب : خرج موسى لبعض حاجته فمر برهط من الملائكة يحفرون قبرا لم ير شيئا قط أحسن منه ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة ، فقال لهم : يا ملائكة الله لم تحفرون هذا القبر؟ قالوا : لعبد كريم على ربه ، فقال : إن هذا العبد من الله لهو بمنزلة ، ما رأيت كاليوم مضجعا قط ، فقالت الملائكة : يا صفي الله تحب أن يكون لك؟ قال : وددت ، قالوا : فانزل واضطجع فيه وتوجه إلى ربك ، قال : فاضطجع فيه وتوجه إلى ربه ثم تنفس أسهل تنفس فقبض الله تبارك وتعالى روحه ، ثم سوت عليه الملائكة .وقيل: إن ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فقبض روحه .وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة فلما مات موسى عليه السلام وانقضت الأربعون سنة بعث الله يوشع نبيا فأخبرهم أن الله قد أمره بقتال الجبابرة ، فصدقوه وتابعوه فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحاء ومعه تابوت الميثاق ، فأحاط بمدينة أريحاء ستة أشهر ، فلما كان السابع نفخوا في القران وضج الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة ، ودخلوا فقاتلوا الجبارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم ، وكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها حتى يقطعونها ، فكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت ، فقال : اللهم اردد الشمس علي وقال للشمس : إنك في طاعة الله سبحانه وتعالى وأنا في طاعته فسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقيم حتى ينتقم من أعداء الله تعالى قبل دخول السبت ، فردت عليه الشمس وزيدت في النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين ، وتتبع ملوك الشام فاستباح منهم أحدا وثلاثين ملكا حتى غلب على جميع أرض الشام ، وصارت الشام كلها لبني إسرائيل وفرق عماله في نواحيها وجمع الغنائم ، فلم تنزل النار ، فأوحى الله إلى يوشع أن فيها غلولا فمرهم فليبايعوا فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال : هلم ما عندك فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل بالياقوت والجواهر كان قد غله ، فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان ، ثم مات يوشع ودفن في جبل أفرائيم ، وكان عمره مائة وستا وعشرين سنة ، وتدبيره أمر بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام سبعا وعشرين سنة .
قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين
﴿تأس﴾: فلا تأس: فلا تحزن ولا تتأسف. «grieve»
قوله عز وجل : ( قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ) أي : تقيموا أحكامهما وما يجب عليكم فيهما ، ( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس ) فلا تحزن ، ( على القوم الكافرين )
وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا
﴿وتأسرون﴾: وتأخذون من الأعداء في الحرب. «and you took captive»
( وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب ) أي : عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين وهم بنو قريظة ( من صياصيهم ) حصونهم ومعاقلهم ، واحدها صيصية ، ومنه قيل للقرن ولشوكة الديك والحاكة صيصية وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أصبح من الليلة التي انصرف الأحزاب فيها راجعين إلى بلادهم وانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون عن الخندق إلى المدينة ، ووضعوا السلاح فلما كان الظهر أتى جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتجرا بعمامة من استبرق على بغلة عليها رحالة وعليها قطيفة من ديباج ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند زينب بنت جحش وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقه ، فقال : قد وضعت السلاح يا رسول الله ؟ قال : نعم ، فقال جبريل : عفا الله عنك ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة ، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم .وروي أنه كان الغبار على وجه جبريل عليه السلام وفرسه فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح الغبار عن وجهه وعن فرسه ، فقال : إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة فانهد إليهم فإني قد قطعت أوتارهم ، وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - مناديا فأذن : أن من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة ، وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي الله عنه برايته إليهم ، وابتدرها الناس فسار علي رضي الله عنه حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع حتى لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالطريق ، فقال : يا رسول الله لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث ، قال : لم ، أظنك سمعت لي منهم أذى ؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال : لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا .فلما دنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حصونهم قال : يا إخوان القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته ؟ . قالوا : يا أبا القاسم ما كنت جهولا .ومر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال : هل مر بكم أحد ؟ فقالوا : نعم يا رسول الله مر بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج ، فقال عليه السلام : ذاك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم .فلما أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم ، فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد صلاة العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " ، فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة فما عابهم الله بذلك ولا عنفهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال وحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب .وكان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده .فلما أيقنوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير منصرف عنهم حتى يناجزهم ، قال كعب بن أسد : يا معشر يهود إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم ، قالوا : وما هن ؟ قال : نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم ، فتأمنوا على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم ، قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره ، قال : فإذا أبيتم هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد رجالا مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئا نخشى عليه ، وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء ، فقالوا : نقتل هؤلاء المساكين فما خير في العيش بعدهم ؟ قال : فإن أبيتم هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا أن نصيب من محمد وأصحابه غرة . قالوا : أنفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا ؟ أما من قد علمت فأصابهم من المسخ ما لم يخف عليك ؟ فقال : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة في الدهر حازما ؟ قال ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف ، وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا فأرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم ، فلما رأوه قام إليه الرجال وهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم ، فقالوا : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ قال : نعم ، قالوا : ماذا يفعل بنا إذا نزلنا ؟ فأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح ، قال أبو لبابة : فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله ، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده ، وقال : لا أبرح مكاني حتى يتوب الله علي مما صنعت ، وعاهد الله أن لا يطأ أرض بني قريظة أبدا ، ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا ، فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبره وأبطأ عليه قال : أما لو جاءني لاستغفرت له ، فأما إذا فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه ، ثم إن الله تعالى أنزل توبة أبي لبابة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيت أم سلمة ، قالت أم سلمة فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك فقلت مما تضحك يا رسول الله أضحك الله سنك ؟ قال : تيب على أبي لبابة ، فقلت : إلا أبشره بذلك يا رسول الله ؟ فقال بلى إن شئت ، فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب ، فقالت يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك ، قال فثار الناس إليه ليطلقوه فقال : لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده فلما مر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خارجا إلى الصبح أطلقه ، ثم قال : إن ثعلبة بن شعبة وأسيد بن شعبة ، وأسيد بن عبيد وهم نفر من بني هذيل ليسوا من قريظة ولا النضير نسبهم فوق ذلك هم بنو عم القوم أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظي فمر بحرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليها محمد بن مسلمة الأنصاري تلك الليلة ، فلما رآه قال : من هذا ؟ قال : عمرو بن سعدى ، وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : لا أغدر بمحمد أبدا ، فقال محمد بن مسلمة حين عرفه : اللهم لا تحرمني عثرات الكرام ثم خلى سبيله ، فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة تلك الليلة ثم ذهب فلا يدري أين ذهب من أرض الله ، فذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شأنه ، فقال : ذاك رجل قد نجاه الله بوفائه . وبعض الناس يزعم أنه كان قد أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأصبحت رمته ملقاة لا يدري أين ذهب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه تلك المقالة ، والله أعلم . فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله فتواثبت الأوس فقالوا : يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت في موالي الخزرج ، بالأمس ما قد علمت ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع وكانوا حلفاء الخزرج ، فنزلوا على حكمه فسألهم إياه عبد الله بن أبي بن سلول ، فوهبهم له فلما كلمه الأوس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيكم رجل منكم ؟ " قالوا : بلى ، قال : فذاك إلى سعد بن معاذ ، وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خيمة امرأة من المسلمين يقال لها رفيدة في مسجده ، وكانت تداوي الجرحى ، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب ، فلما حكمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني قريظة أتاه قومه فاحتملوه على حمار قد وطأوا له بوسادة من أدم ، وكان رجلا جسيما ثم أقبلوا معه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يقولون يا أبا عمرو أحسن في مواليك ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم ، فلما أكثروا عليه قال : قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني الأشهل فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه فلما انتهى سعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : قوموا إلى سيدكم فأنزلوه ، فقاموا إليه فقالوا : يا أبا عمرو إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ولاك مواليك لتحكم فيهم ، فقال سعد : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيها ما حكمت ؟ قالوا : نعم ، قال : وعلى من هاهنا في الناحية التي فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو معرض عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إجلالا له ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم ، قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد : " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار ، ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم ، فخندق بها خندقا ثم بعث إليهم فضربت أعناقهم في تلك الخنادق ، يخرج بهم إليه أرسالا وفيهم عدو الله حيي بن أخطب وكعب بن أسد رئيس القوم ، وهم ستمائة أو سبعمائة ، والمكثر لهم يقول كانوا بين ثمانمائة إلى تسعمائة ، وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسالا يا كعب ما ترى ما يصنع بنا فقال كعب : أفي كل موطن لا تعقلون ألا ترون الداعي لا ينزع وإن من يذهب به منكم لا يرجع ، هو والله القتل ، فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتى حيي بن أخطب عدو الله عليه حلة تفاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة أنملة أنملة مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ، فلما نظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل ، ثم أقبل على الناس فقال أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل ، ثم جلس فضربت عنقه .وروى عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت لم يقتل من نساء بني قريظة إلا امرأة واحدة قالت والله إنها لعندي تتحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقتل رجالهم بالسيوف إذ هتف هاتف باسمها : أين فلانة قالت : أنا والله قلت : ويلك مالك ؟ قالت : أقتل ، قلت : ولم ؟ قالت : حدث أحدثته ، قالت : فانطلق بها فضرب عنقها ، وكانت عائشة تقول : ما أنسى عجبا منها طيب نفس وكثرة ضحك ، وقد عرفت إنها تقتل . قال الواقدي : وكان اسم تلك المرأة شبابة ، امرأة الحكم القرظي وكانت قتلت خلاد بن سويد ، رمت عليه رحى فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها فضرب عنقها بخلاد بن سويد قال : وكان علي والزبير يضربان أعناق بني قريظة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس هنالك .وروى محمد بن إسحاق عن الزهري أن الزبير بن باطا القرظي ، وكان يكنى أبا عبد الرحمن ، كان قد من على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية يوم بعاث ، أخذه فجز ناصيته ، ثم خلى سبيله ، فجاءه يوم قريظة وهو شيخ كبير فقال : يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني ؟ قال : وهل يجهل مثلي مثلك ؟ قال : إني أردت أن أجزيك بيدك عندي ، قال : إن الكريم يجزي الكريم ، قال : ثم أتى ثابت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله قد كانت للزبير عندي يد وله علي منة ، وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لي دمه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هو لك " فأتاه فقال له إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وهب لي دمك ، قال شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة ، فأتى ثابت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله أهله وماله ؟ قال هم لك فأتاه فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاني امرأتك وولدك فهم لك ، قال : أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك ، فأتى ثابت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ماله يا رسول الله ؟ قال : هو لك ، قال : فأتاه فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أعطاني مالك فهو لك ، فقال : أي ثابت ما فعل الله بمن كان وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي كعب بن أسد ، قال : قتل ، قال : فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب ؟ قال : قتل ، قال : فما فعل مقدمنا إذا شددنا وحامينا إذا كررنا عزال بن شموئيل ؟ قال : قتل ، قال : فما فعل المجلسان يعني بني كعب ابن قريظة وبني عمرو بن قريظة ؟ قال : ذهبوا وقتلوا ، قال : فإني أسألك بيدي عندك يا ثابت إلا ما ألحقتني بالقوم ، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء خير ، فما أنا بصابر لله فترة دلو نضح حتى ألقى الأحبة فقدمه ثابت فضرب عنقه ، فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله ألقى الأحبة ، قال : يلقاهم والله في نار جهنم خالدا فيها مخلدا أبدا .قالوا : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بقتل من أنبت منهم ثم قسم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين ، وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال وأخرج منها الخمس ، فكان للفارس ثلاثة أسهم للفرس سهمان ولفارسه سهم وللراجل ممن ليس له فرس سهم ، وكانت الخيل ستة وثلاثين فرسا وكان أول فيء وقع فيه السهمان ، ثم بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع لهم بهم خيلا وسلاحا ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنانة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة ، فكانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توفي عنها وهي في ملكه ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرص عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب ، فقالت : يا رسول الله بل تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك فتركها وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام وأبت إلا اليهودية ، فعزلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووجد في نفسه بذلك من أمرها ، فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال إن هذا لثعلبة بن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة فجاءه فقال : يا رسول الله قد أسلمت ريحانة ، فسره ذلك .فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ ، وذلك أنه دعا بعد أن حكم في بني قريظة ما حكم فقال : اللهم إنك قد علمت أنه لم يكن قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك ، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئا فأبقني لها وإن كنت قد قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك ، فانفجر كلمه فرجعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيمته التي ضربت عليه في المسجد ، قالت عائشة : فحضره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإني لفي حجرتي ، قالت : وكانوا كما قال الله تعالى : " رحماء بينهم ( الفتح - 29 ) ، وكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن محمد ، أخبرنا يحيى بن آدم ، أخبرنا إسرائيل ، سمعت أبا إسحاق يقول ، سمعت سليمان بن صرد يقول ، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول حين أجلى الله الأحزاب عنه : " الآن نغزوهم ولا يغزونا ، نحن نسير إليهم " .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا قتيبة ، أخبرنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : " لا إله إلا الله وحده ، أعز جنده ، ونصر عبده ، وغلب الأحزاب وحده " فلا شيء بعده " .قال الله تعالى في قصة بني قريظة : ( وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون ) وهم الرجال ، يقال : كانوا ستمائة ( وتأسرون فريقا ) وهم النساء والذراري ، يقال : كانوا سبعمائة وخمسين ، ويقال : كانوا تسعمائة
لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور
﴿تأسوا﴾: لكيلا تأسوا: لكيلا تحزنوا. «grieve»
( لكي لا تأسوا ) تحزنوا ( على ما فاتكم ) من الدنيا ( ولا تفرحوا بما آتاكم ) قرأ أبو عمرو بقصر الألف ، لقوله " فاتكم " فجعل الفعل له وقرأ الآخرون ( آتاكم ) بمد الألف ، أي : أعطاكم . قال عكرمة : ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا ( والله لا يحب كل مختال فخور ) متكبر بما أوتي من الدنيا " فخور " يفخر به على الناس .قال جعفر بن محمد الصادق : يا ابن آدم ما لك تأسف على مفقود لا يرده إليك الفوت ، وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يدك الموت .