1. التفسير الميسر
  2. تفسير الجلالين
  3. تفسير السعدي
  4. تفسير البغوي
  5. التفسير الوسيط
تفسير القرآن | باقة من أهم تفاسير القرآن الكريم المختصرة و الموجزة التي تعطي الوصف الشامل لمعنى الآيات الكريمات : سبعة تفاسير معتبرة لكل آية من كتاب الله تعالى , [ المائدة: 26] .

  
   

﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾
[ سورة المائدة: 26]

القول في تفسير قوله تعالى : قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على ..


تفسير الجلالين التفسير الميسر تفسير السعدي
تفسير البغوي التفسير الوسيط تفسير ابن كثير
تفسير الطبري تفسير القرطبي إعراب الآية

التفسير الميسر : قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في


قال الله لنبيه موسى عليه السلام: إن الأرض المقدَّسة محرَّم على هؤلاء اليهود دخولها أربعين سنة، يتيهون في الأرض حائرين، فلا تأسف -يا موسى- على القوم الخارجين عن طاعتي.

المختصر في التفسير : شرح المعنى باختصار


قال الله لنبيه موسى عليه السلام: إن الله حرَّم دخول الأرض المقدسة على بني إسرائيل مدة أربعين سنة، يضلون هذه المدة في الصحراء حيارى لا يهتدون، فلا تأسف - يا موسى - على القوم الخارجين عن طاعة الله، فإن ما يصيبهم من عقاب هو بسبب معاصيهم وذنوبهم.

تفسير الجلالين : معنى و تأويل الآية 26


(قال) تعالى له (فإنها) أي الأرض المقدسة (محرمة عليهم) أن يدخلوها (أربعين سنة يتيهون) يتحيرون (في الأرض) وهي تسعة فراسخ قاله ابن عباس (فلا تأس) تحزن (على القوم الفاسقين) روي أنهم كانوا يسيرون الليل جادين فإذا أصبحوا إذا هم في الموضع الذي ابتدأوا منه ويسيرون النهار كذلك حتى انقرضوا كلهم إلا من لم يبلغ العشرين، قيل: وكانوا ستمائة ألف ومات هارون وموسى في التيه وكان رحمة لهما وعذابا لأولئك وسأل موسى ربه عند موته أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر فأدناه كما في الحديث، ونبئ يوشع بعد الأربعين وأمر بقتال الجبارين فسار بمن بقي معه وقاتلهم وكان يوم الجمعة ووقفت له الشمس ساعة حتى فرغ من قتالهم، وروى أحمد في مسنده حديث "" إن الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس "".

تفسير السعدي : قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في


{ قَالَ } الله مجيبا لدعوة موسى: { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ }- أي: إن من عقوبتهم أن نحرم عليهم دخول هذه القرية التي كتبها الله لهم، مدة أربعين سنة، وتلك المدة أيضا يتيهون في الأرض، لا يهتدون إلى طريق ولا يبقون مطمئنين، وهذه عقوبة دنيوية، لعل الله تعالى كفر بها عنهم، ودفع عنهم عقوبة أعظم منها، وفي هذا دليل على أن العقوبة على الذنب قد تكون بزوال نعمة موجودة، أو دفع نقمة قد انعقد سبب وجودها أو تأخرها إلى وقت آخر.
ولعل الحكمة في هذه المدة أن يموت أكثر هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، الصادرة عن قلوب لا صبر فيها ولا ثبات، بل قد ألفت الاستعباد لعدوها، ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها، ولتظهر ناشئة جديدة تتربى عقولهم على طلب قهر الأعداء، وعدم الاستعباد، والذل المانع من السعادة.
ولما علم الله تعالى أن عبده موسى في غاية الرحمة على الخلق، خصوصا قومه، وأنه ربما رق لهم، واحتملته الشفقة على الحزن عليهم في هذه العقوبة، أو الدعاء لهم بزوالها، مع أن الله قد حتمها، قال: { فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }- أي: لا تأسف عليهم ولا تحزن، فإنهم قد فسقوا، وفسقهم اقتضى وقوع ما نزل بهم لا ظلما منا.

تفسير البغوي : مضمون الآية 26 من سورة المائدة


قال الله تعالى : ( فإنها محرمة عليهم ) قيل: هاهنا تم الكلام ، معناه تلك البلدة محرمة عليهم أبدا لم يرد به تحريم تعبد ، وإنما أراد تحريم منع ، فأوحى الله تعالى إلى موسى : [ بي حلفت ] لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي يوشع وكالب ، ولأتيهنهم في هذه البرية ( أربعين سنة ) [ يتيهون ] مكان كل يوم من الأيام التي تحبسون فيها سنة ، ولألقين جيفهم في هذه القفار ، وأما بنوهم الذين لم يعملوا الشر فيدخلونها ، فذلك قوله تعالى : ( فإنها محرمة عليهم أربعين سنة ) ( يتيهون : ) يتحيرون ، ( في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين ) أي : لا تحزن على مثل هؤلاء القوم ، فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ وهم ستمائة ألف مقاتل ، وكانوا يسيرون كل يوم جادين فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا عنه .
وقيل: إن موسى وهارون عليهما السلام لم يكونا فيهم ، والأصح أنهما كانا فيهم ولم يكن لهما عقوبة إنما كانت العقوبة لأولئك القوم ، ومات في التيه كل من دخلها ممن جاوز عشرين سنة غير يوشع وكالب ، ولم يدخل أريحاء أحد ممن قالوا إنا لن ندخلها أبدا فلما هلكوا وانقضت الأربعون سنة ، ونشأت النواشئ من ذراريهم ساروا إلى حرب الجبارين .
واختلفوا فيمن تولى تلك الحرب وعلى يدي من كان الفتح ، فقال قوم : وإنما فتح موسى أريحاء وكان يوشع على مقدمته ، فسار موسى عليه السلام إليهم فيمن بقي من بني إسرائيل ، فدخلها يوشع فقاتل الجبابرة ثم دخلها موسى عليه السلام فأقام فيها ما شاء الله تعالى ، ثم قبضه الله تعالى إليه ، ولا يعلم قبره أحد ، وهذا أصح الأقاويل لاتفاق العلماء أن عوج بن عنق قتله موسى عليه السلام .
وقال الآخرون : إنما قاتل الجبارين يوشع ولم يسر إليهم إلا بعد موت موسى عليه السلام ، [ وقالوا : مات موسى ] وهارون جميعا في التيه .
قصة وفاة هارونقال السدي : أوحى الله عز وجل إلى موسى أني متوفي هارون فأت به جبل كذا وكذا ، فانطلق موسى وهارون عليهما السلام نحو ذلك الجبل فإذا هما بشجرة لم ير مثلها وإذا ببيت مبني وفيه سرير عليه فرش وإذا فيه ريح طيبة ، فلما نظر هارون إلى ذلك أعجبه ، فقال : يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير قال : فنم عليه ، فقال : إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب علي ، قال له موسى : لا ترهب إني أكفيك أمر رب هذا البيت فنم ، قال : يا موسى نم أنت معي فإن جاء رب البيت غضب علي وعليك جميعا فلما ناما أخذ هارون الموت فلما وجد منيته قال : يا موسى خدعتني ، فلما قبض رفع البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير به إلى السماء ، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل وليس معه هارون قالوا : إن موسى قتل هارون وحسده لحب بني إسرائيل له ، فقال موسى عليه السلام : ويحكم كان أخي فكيف أقتله ، فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله تعالى ونزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : صعد موسى وهارون عليهما السلام الجبل فمات هارون [ وبقي موسى ] فقالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام أنت قتلته فآذوه فأمر الله الملائكة فحملوه حتى مروا به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنه مات ، فبرأه الله تعالى مما قالوا ، ثم إن الملائكة حملوه ودفنوه فلم يطلع على موضع قبره أحد إلا الرخم فجعله الله أصم وأبكم .
وقال عمرو بن ميمون : مات هارون قبل موت موسى عليه السلام في التيه ، وكانا قد خرجا إلى بعض الكهوف فمات هارون ودفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل ، فقالوا : قتلته لحبنا إياه ، وكان محببا في بني إسرائيل ، فتضرع موسى عليه السلام إلى ربه عز وجل فأوحى الله إليه أن انطلق بهم إلى قبره فإني باعثه ، فانطلق بهم إلى قبره [ فناداه موسى ] فخرج من قبره ينفض رأسه ، فقال : أنا قتلتك؟ قال : لا ولكني مت ، قال : فعد إلى مضجعك ، وانصرفوا .
وأما وفاة موسى عليه السلام ، قال ابن إسحاق : كان موسى عليه الصلاة والسلام قد كره الموت وأعظمه فأراد الله أن يحبب إليه الموت ، فنبأ يوشع بن نون فكان يغدو ويروح عليه ، قال : فيقول له موسى عليه السلام يا نبي الله ما أحدث الله إليك؟ [ فيقول له يوشع : يا نبي الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة ، فهل كنت أسألك شيئا مما أحدث الله إليك ] حتى تكون أنت الذي تبتدئ به وتذكره؟ ولا يذكر له شيئا ، فلما رأى ذلك كره موسى الحياة وأحب الموت .
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال : أخبرنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جاء ملك الموت إلى موسى بن عمران ، فقال له : أجب ربك ، قال : فلطم موسى عليه السلام عين ملك الموت ففقأها ، قال : فرجع ملك الموت إلى الله تعالى فقال : إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني قال فرد الله إليه عينه ، وقال : ارجع إلى عبدي فقل له : الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور ، فما وارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة ، قال : ثم مه؟ قال : ثم تموت ، قال : فالآن من قريب ، رب أدنني من الأرض المقدسة رمية بحجر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر " .
وقال وهب : خرج موسى لبعض حاجته فمر برهط من الملائكة يحفرون قبرا لم ير شيئا قط أحسن منه ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة ، فقال لهم : يا ملائكة الله لم تحفرون هذا القبر؟ قالوا : لعبد كريم على ربه ، فقال : إن هذا العبد من الله لهو بمنزلة ، ما رأيت كاليوم مضجعا قط ، فقالت الملائكة : يا صفي الله تحب أن يكون لك؟ قال : وددت ، قالوا : فانزل واضطجع فيه وتوجه إلى ربك ، قال : فاضطجع فيه وتوجه إلى ربه ثم تنفس أسهل تنفس فقبض الله تبارك وتعالى روحه ، ثم سوت عليه الملائكة .
وقيل: إن ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فقبض روحه .
وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة فلما مات موسى عليه السلام وانقضت الأربعون سنة بعث الله يوشع نبيا فأخبرهم أن الله قد أمره بقتال الجبابرة ، فصدقوه وتابعوه فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحاء ومعه تابوت الميثاق ، فأحاط بمدينة أريحاء ستة أشهر ، فلما كان السابع نفخوا في القران وضج الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة ، ودخلوا فقاتلوا الجبارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم ، وكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها حتى يقطعونها ، فكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت ، فقال : اللهم اردد الشمس علي وقال للشمس : إنك في طاعة الله سبحانه وتعالى وأنا في طاعته فسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقيم حتى ينتقم من أعداء الله تعالى قبل دخول السبت ، فردت عليه الشمس وزيدت في النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين ، وتتبع ملوك الشام فاستباح منهم أحدا وثلاثين ملكا حتى غلب على جميع أرض الشام ، وصارت الشام كلها لبني إسرائيل وفرق عماله في نواحيها وجمع الغنائم ، فلم تنزل النار ، فأوحى الله إلى يوشع أن فيها غلولا فمرهم فليبايعوا فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال : هلم ما عندك فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل بالياقوت والجواهر كان قد غله ، فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان ، ثم مات يوشع ودفن في جبل أفرائيم ، وكان عمره مائة وستا وعشرين سنة ، وتدبيره أمر بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام سبعا وعشرين سنة .

التفسير الوسيط : ويستفاد من هذه الآية


وهذا الرجاء من موسى لربه في معنى الدعاء عليهم بسبب جبنهم وعصيانهم وقد أجاب الله-تبارك وتعالى- دعاءه فيهم، بأن أضلهم ظاهرا كما ضلوا باطنا وجاء الحكم الفاصل ممن يملكه فقال-تبارك وتعالى-: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ، فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ.
وقوله: يَتِيهُونَ من التيه وهو الحيرة.
يقال: تاه يتيه ويتوه إذا تحير وضل الطريق.
ووقع فلان في التيه.
أى: في مواضع الحيرة.
وقوله: فَلا تَأْسَ أى: فلا تحزن عليهم من الأسى وهو الحزن.
يقال: أسى- كتعب- أى: حزن.
فهو آس مثل حزين.
وأسا على مصيبته- من باب عدا- أى: حزن قال امرؤ القيس:وقوفا بها صحبي على مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجمل أى: يقولون لا تهلك نفسك حزنا وتجمل بالصبر.
والمعنى: قال الله-تبارك وتعالى- لنبيه موسى مجيبا لدعائه: يا موسى إن الأرض المقدسة محرمة على هؤلاء الجبناء العصاة مدة أربعين سنة، يسيرون خلالها في الصحراء تائهين حيارى لا يستقيم لهم أمر، ولا يستقر لهم قرار، فلا تحزن عليهم بسبب هذه العقوبة فإننا ما عاقبناهم بهذه العقوبة إلا بسبب خروجهم عن طاعتنا، وتمردهم على أوامرنا، وجبنهم عن قتال أعدائنا، وسوء أدبهم مع أنبيائنا.
قال الآلوسى.
قوله: مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أى: لا يدخلونها ولا يملكونها.
والتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد، وجوز أن يكون تحريم تعبد والأول أظهر وقوله أَرْبَعِينَ سَنَةً متعلق بقوله:محرمة فيكون التحريم مؤقتا لا مؤبدا، فلا يكون مخالفا لظاهر قوله-تبارك وتعالى- ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ.
والمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم هذه المدة، لكن لا بمعنى أن كلهم يدخلونها بعدها، بل بعضهم ممن بقي- يجوز له دخولها- فقد روى أن موسى سار بمن بقي من بنى إسرائيل- بعد انقضاء هذه المدة- إلى الأرض المقدسة.
وقوله: يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ استئناف لبيان كيفية حرمانهم.
وقيل حال من ضمير عَلَيْهِمْ.
وقيل: الظرف متعلق بقوله: يَتِيهُونَ فيكون التيه مؤقتا والتحريم مطلقا يحتمل التأبيد وعدمه».
وقال الفخر الرازي: اختلف الناس في أن موسى وهارون- عليهما السلام- هل بقيا في التيه أو لا؟ فقال قوم: إنهما ما كانا في التيه لأن موسى دعا الله أن يفرق بينه وبين القوم الفاسقين، ودعوات الأنبياء مجابة، لأن التيه كان عذابا والأنبياء لا يعذبون.
وقال آخرون: إنهما كانا مع القوم في ذلك التيه، إلا أن الله-تبارك وتعالى- سهل عليهما ذلك العذاب كما سهل النار على إبراهيم فجعلها بردا وسلاما.
وإنهما قد ماتا في التيه وبقي يوشع بن نون- وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته- وهو الذي فتح الأرض المقدسة- بعد انقضاء مدة التيه وقيل بل بقي موسى بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة» .
هذا ونرى من المناسب في هذا المقام أن نتعرض بشيء من التفصيل للمسائل الآتية:أولا: الرد على اليهود في دعواهم أن الأرض المقدسة- فلسطين- ملك لهم مستندين إلى قوله-تبارك وتعالى-: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ثانيا: الحكمة في كون عقابهم أربعين سنة يتيهون في الأرض.
ثالثا: ما يؤخذ من هذه الآيات من العبر والعظات.
وللإجابة على المسألة الأولى نقول: للمفسرين أقوال في المراد من الكتابة في قوله-تبارك وتعالى- ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أشهرها قولان:أولهما: أن معنى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ: أمركم بدخولها، وفرضه عليكم كما أمركم بالصلاة والزكاة فالكتب هنا مثله في قوله-تبارك وتعالى- كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ: أى: فرض عليكم وهذا قول قتادة والسدى والثاني: أن معنى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قدرها لكم وقضى أن تكون مساكن لكم دون الجبارين.
وهذا القضاء مشروط بالإيمان، وطاعة الأنبياء، والجهاد في سبيل نصرة الحق، فإذا لم يكونوا كذلك- وهم لم يكونوا كذلك فعلا- لم يتحقق لهم التمكين في الأرض المقدسة، ولذا بعد أن أغراهم نبيهم موسى- عليه السلام- بدخولها، حذرهم من الجبن والعصيان فقال لهم: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ.
قال الآلوسى: «وترتيب الخيبة والخسران على الارتداد يدل على اشتراط الكتب بالمجاهدة المترتبة على الإيمان قطعا».
وقال ابن عباس: كانت هبة من الله لهم ثم حرمها- سبحانه - عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم.
وقال الفخر الرازي: إن الوعد بقوله كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مشروط بقيد الطاعة فلما لم يوجد الشرط لا جرم لم يوجد المشروط».
والخلاصة أن الكتابة في قوله-تبارك وتعالى- كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ: إما أن تكون تكليفية على معنى: أن الله-تبارك وتعالى- كتب عليكم وفرض أن تدخلوها مجاهدين مطيعين لنبيكم فإذا خالفتم ذلك حقت عليكم العقوبة.
وإما أن تكون كتابة قدرية.
أى: قضى وقدر- سبحانه - أن تكون لكم متى آمنتم وأطعتم.
وبنو إسرائيل ما آمنوا وما أطاعوا، بل كفروا وعصوا فحرمها- سبحانه - عليهم.
وبذلك ترى أن دعوى اليهود بأن الأرض المقدسة ملك لهم، بدليل قوله-تبارك وتعالى- كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ لا أساس لها من الصحة ولا يشهد لها عقل أو نقل.
وللإجابة عن المسألة الثانية نقول: اقتضت حكمة الله-تبارك وتعالى- أن يجعل عقوبته لقوم مناسبة لما اجترحوا من ذنوب وآثام وبنو إسرائيل لطول ما ألفوا من ذل واستعباد، هانت عليهم نعمة الحرية.
وضعف عندهم الشعور بالعزة.
وأصبحت حياة الذلة مع القعود.
أحب إليهم من حياة العزة مع الجهاد ولهذا عند ما أمرهم نبيهم موسى- عليه السلام- بدخول الأرض المقدسة اعتذروا بشتى المعاذير الواهية وأكدوا له عدم اقترابهم منها مادام الجبارون فيها:وقالوا: إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ.
فاقتضت حكمة الله-تبارك وتعالى- أن يحرمهم منها جزاء جبنهم وعصيانهم وأن يعاقبهم بما يشبه القعود، بأن يحكم عليهم بالتيهان في بقعة محدودة من الأرض، يذهبون فيها ويجيئون وهم حيارى لا يعرفون لهم مقرا وأن يستمروا على تلك الحالة أربعين سنة حتى ينشأ من بينهم جيل آخر سوى ذلك الجيل الذي استمرأ الذل والهوان.
قال ابن خلدون في مقدمته.. ويظهر من مساق قوله-تبارك وتعالى- قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ومن مفهومه: أن حكمة ذلك التيه مقصودة، وهي فناء الأجيال الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر، وأفسدوا من عصبيتهم، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف القهر ولا يسام بالمذلة.
فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتى فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر.
فسبحان الحكيم العليم» .
هذا ولصاحب المنار كلام حسن في حكمة هذه العقوبة، نرى من المناسب إثباته هنا، فقد قال- رحمه الله- في ختام تفسيره لهذه الآيات:«إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد، والإحساس بالظلم والاضطهاد، تفسد أخلاقها، وتذل نفوسها.
وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة، حتى تكون كالغرائز الفطرية.
والطبائع الخلقية، وإذا أخرجت صاحبها من بيئتها، ورفعت عن رقبته نيرها، ألفيته ينزع بطبعه إليها ويتفلت منك ليقتحم فيها، وهذا شأن البشر في كل ما يألفونه، ويجرون عليه من خير وشر، وإيمان وكفر.
أفسد ظلم فرعون فطرة بنى إسرائيل في مصر، وطبع عليها بطابع المهانة والذل.
وقد أراهم الله-تبارك وتعالى- من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى- عليه السلام- وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من الذل إلى الحرية.
ولكنهم كانوا مع هذا كله إذا أصابهم ضرر يتطيرون بموسى، ويذكرون مصر ويحنون إليها.
وكان الله-تبارك وتعالى- يعلم أنهم لا تطاوعهم أنفسهم المهينة على دخول أرض الجبارين، وأن وعده-تبارك وتعالى- لأجدادهم إنما يتم على وفق سنته في طبيعة الاجتماع البشرى، إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية والعبودية.
ونشأ بعده جيل جديد في حرية البداوة، وعدل الشريعة، ونور الآيات الإلهية، وما كان الله ليهلك قوما بذنوبهم، حتى يبين لهم حجته عليهم، ليعلموا أنه لم يظلمهم إنما يظلمون أنفسهم.
وعلى هذه السّنة العادلة أمر الله-تبارك وتعالى- بنى إسرائيل بدخول الأرض المقدسة، فأبوا واستكبروا.
فأخذهم الله بذنوبهم وأنشأ من بعدهم قوما آخرين.
فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التي ضربها الله لنا، وأن نعلم أن إصلاح الأمم من بعد فسادها بالظلم والاستبداد إنما يكون بإنشاء جيل جديد جمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها.
وللإجابة عن المسألة الثالثة- وهي ما يؤخذ من هذه الآيات من عظات وعبر- نقول: إن هذه الآيات الكريمة قد اشتملت على لون حكيم في أسلوب الدعوة إلى الله-تبارك وتعالى- فقد بدأت بتذكير بنى إسرائيل بأمجادهم وبعظم نعم الله عليهم، لتغرس فيهم الشعور بالعزة ولتغريهم بالاستجابة لما أمر به- سبحانه -.
كما اشتملت على تحذيرهم من مغبة الجبن والمخالفة لأن ذلك يؤدى إلى الخسران.
وفوق ذلك فقد صورت تصويرا معجزا طبيعة بنى إسرائيل على حقيقتها وكشفت عن خور عزيمتهم، وسقوط همتهم وسوء اختيارهم لأنفسهم.. بما جعلهم أهلا للعقوبات الرادعة وفي كل ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما لحقه من اليهود المعاصرين له من أذى، وتحذير لهم من السير على طريقة آبائهم المعوجة، حتى لا يعرضوا أنفسهم للعقوبات التي حلت بأسلافهم.
قال الإمام ابن جرير: عند تفسيره للآيات الكريمة: وهذا- أيضا- من الله- تعالى تعريف- لنبيه صلى الله عليه وسلم بتمادي هؤلاء اليهود في الغي، وبعدهم عن الحق، وسوء اختيارهم لأنفسهم، وشدة خلافهم لأنبيائهم وبطء إثابتهم إلى الرشاد، مع كثرة نعم الله عندهم، وتتابع آياته وآلائه عليهم، مسليا بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم عما ينزل به من مجادلاتهم في ذات الله، يقول الله- له: لا تأس على ما أصابك منهم، فإن الذهاب عن الله، والبعد عن الحق، وما فيه من الحظ لهم في الدنيا والآخرة، من عاداتهم وعادات أسلافهم، وأوائلهم، وتعزّ بما لاقى منهم أخوك موسى- عليه السلام-.
وقال الإمام ابن كثير: وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود، وبيان فضائحهم، ومخالفتهم لله ولرسوله، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمرهم به من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم، مع أن بين أظهرهم كليم الله وصفيه من خلقه في ذلك الزمان.
وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم.
هذا مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من الغرق له ولجنوده في اليم وهم ينظرون.
لتقر به أعينهم- وما بالعهد من قدم- ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازن عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم.
وظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل، ولا يسترها الذيل.
وقال- رحمه الله- قبل ذلك: وما أحسن ما أجاب به الصحابة- رضى الله عنهم- يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم في قتال قريش.
فقد قالوا فأحسنوا.
لقد قال المقداد: يا رسول الله، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ولكن نقول لك: «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون» كذلك يؤخذ من هذه القصة أن معصية الله ورسله تؤدى إلى الخسران، فإن بنى إسرائيل لما جبنوا عن دخول الأرض المقدسة، وعصوا أمر نبيهم، عاقبهم الله بالتيه مدة أربعين سنة، صارت قصتهم عبرة للمعتبرين، وموعظة للمتقين.
وبعد أن ساق- سبحانه - جوانب متعددة من أحوال أهل الكتاب وما جبلوا عليه من أخلاق سيئة، أتبع ذلك بقصة ابني آدم، فقال-تبارك وتعالى-:

قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في: تفسير ابن كثير


وقوله تعالى : { [ قال ] فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض [ فلا تأس على القوم الفاسقين ] } لما دعا عليهم موسى عليه السلام ، حين نكلوا عن الجهاد حكم الله عليهم بتحريم دخولها قدرا مدة أربعين سنة ، فوقعوا في التيه يسيرون دائما لا يهتدون للخروج منه ، وفيه كانت أمور عجيبة ، وخوارق كثيرة ، من تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم ، ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صماء تحمل معهم على دابة ، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة عينا تجري لكل شعب عين ، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن عمران . وهناك أنزلت التوراة ، وشرعت لهم الأحكام ، وعملت قبة العهد ، ويقال لها : قبة الزمان .
قال يزيد بن هارون عن أصبغ بن زيد عن القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير : سألت ابن عباس عن قوله : { فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض } الآية . قال : فتاهوا في الأرض أربعين سنة ، يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم قرار ، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم المن والسلوى وهذا قطعة من حديث " الفتون " ، ثم كانت وفاة هارون ، عليه السلام ، ثم بعده بمدة ثلاثة سنين مات موسى الكليم ، عليه السلام ، وأقام الله فيهم " يوشع بن نون " عليه السلام ، نبيا خليفة عن موسى بن عمران ، ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدة ، ويقال : إنه لم يبق منهم أحد سوى " يوشع " و " كالب " ، ومن هاهنا قال بعض المفسرين في قوله : { قال فإنها محرمة عليهم } هذا وقف تام ، وقوله : { أربعين سنة } منصوب بقوله : { يتيهون في الأرض } فلما انقضت المدة خرج بهم " يوشع بن نون " عليه السلام ، أو بمن بقي منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني ، فقصد بهم بيت المقدس فحاصرها ، فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر ، فلما تضيفت الشمس للغروب ، وخشي دخول السبت عليهم قال " إنك مأمورة وأنا مأمور ، اللهم احبسها علي " ، فحبسها الله تعالى حتى فتحها ، وأمر الله " يوشع بن نون " أن يأمر بني إسرائيل حين يدخلون بيت المقدس أن يدخلوا بابها سجدا ، وهم يقولون : حطة ، أي: حط عنا ذنوبنا ، فبدلوا ما أمروا به ، فدخلوا يزحفون على أستاههم ، وهم يقولون : حبة في شعرة ، وقد تقدم هذا كله في سورة البقرة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أبي عمر العدني حدثنا سفيان عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس قوله : { فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض } قال : فتاهوا أربعين سنة ، فهلك موسى وهارون في التيه وكل من جاوز الأربعين سنة ، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم " يوشع بن نون " ، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى وهو الذي افتتحها ، وهو الذي قيل له : " اليوم يوم الجمعة " فهموا بافتتاحها ، ودنت الشمس للغروب ، فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا ، فنادى الشمس : " إني مأمور وإنك مأمورة " فوقفت حتى افتتحها ، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط ، فقربوه إلى النار فلم تأت فقال : فيكم الغلول ، فدعا رءوس الأسباط وهم اثنا عشر رجلا فبايعهم ، والتصقت يد رجل منهم بيده ، فقال : الغلول عندك ، فأخرجه فأخرج رأس بقرة من ذهب ، لها عينان من ياقوت ، وأسنان من لؤلؤ ، فوضعه مع القربان ، فأتت النار فأكلتها .
وهذا السياق له شاهد في الصحيح . وقد اختار ابن جرير أن قوله : { فإنها محرمة عليهم } هو العامل في " أربعين سنة " ، وأنهم مكثوا لا يدخلونها أربعين سنة ، وهم تائهون في البرية لا يهتدون لمقصد . قال : ثم خرجوا مع موسى عليه السلام ، ففتح بهم بيت المقدس . ثم احتج على ذلك قال : بإجماع علماء أخبار الأولين أن عوج بن عنق " قتله موسى عليه السلام ، قال : فلو كان قتله إياه قبل التيه لما رهبت بنو إسرائيل من العماليق فدل على أنه كان بعد التيه . قال : وأجمعوا على أن " بلعام بن باعورا " أعان الجبارين بالدعاء على موسى قال : وما ذاك إلا بعد التيه لأنهم كانوا قبل التيه لا يخافون من موسى وقومه ، هذا استدلاله ، ثم قال :
حدثنا أبو كريب حدثنا ابن عطية حدثنا قيس عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كانت عصا موسى عشرة أذرع ، ووثبته عشرة أذرع ، وطوله عشرة أذرع ، فوثب فأصاب كعب " عوج " فقتله ، فكان جسرا لأهل النيل سنة .
وروي أيضا عن محمد بن بشار حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن نوف البكالي قال : كان سرير " عوج " ثمانمائة ذراع ، وكان طول موسى عشرة أذرع ، وعصاه عشرة أذرع ، ووثب في السماء عشرة أذرع ، فضرب " عوجا " فأصاب كعبه ، فسقط ميتا ، وكان جسرا للناس يمرون عليه .
وقوله تعالى : { فلا تأس على القوم الفاسقين } تسلية لموسى عليه السلام ، عنهم ، أي: لا تتأسف ولا تحزن عليهم فمهما حكمت عليهم به فإنهم يستحقون ذلك .
وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود وبيان فضائحهم ، ومخالفتهم لله ولرسوله ونكولهم عن طاعتهما ، فيما أمرهم به من الجهاد ، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ، ومقاتلتهم ، مع أن بين أظهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان ، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم ، هذا وقد شاهدوا ما أحل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم ، وهم ينظرون لتقر به أعينهم وما بالعهد من قدم ، ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم ، فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام ، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ، ولا يسترها الذيل ، هذا وهم في جهلهم يعمهون ، وفي غيهم يترددون ، وهم البغضاء إلى الله وأعداؤه ، ويقولون مع ذلك : { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] فقبح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود ، وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود ، ويقضي لهم فيها بتأبيد الخلود ، وقد فعل وله الحمد من جميع الوجود .

تفسير القرطبي : معنى الآية 26 من سورة المائدة


قوله تعالى : قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض استجاب الله دعاءه وعاقبهم في التيه أربعين سنة ، وأصل التيه في اللغة الحيرة ; يقال منه : تاه يتيه تيها وتوها إذا تحير .
وتيهته وتوهته بالياء والواو ، والياء أكثر ، والأرض التيهاء التي لا يهتدى فيها ; وأرض تيه وتيهاء ومنها قال : ( هو العجاج )تيه أتاويه على السقاطوقال آخر :بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضهافكانوا يسيرون في فراسخ قليلة - قيل : في قدر ستة فراسخ - يومهم وليلتهم فيصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا ; فكانوا سيارة لا قرار لهم .
واختلف هل كان معهم موسى وهارون ؟ فقيل : لا ; لأن التيه عقوبة ، وكانت سنو التيه بعدد أيام العجل ، فقوبلوا على كل يوم سنة ; وقد قال : فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ، وقيل : كانا معهم لكن سهل الله الأمر عليهما كما جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم ، ومعنى ( محرمة ) أي : أنهم ممنوعون من دخولها ; كما يقال : حرم الله وجهك على النار ، وحرمت عليك دخول الدار ; فهو تحريم منع لا تحريم شرع ، عن أكثر أهل التفسير ; قال الشاعر :جالت لتصرعني فقلت لها اقصري إني امرؤ صرعي عليك حرامأي : أنا فارس فلا يمكنك صرعي ، وقال أبو علي : يجوز أن يكون تحريم تعبد ، ويقال : كيف يجوز على جماعة كثيرة من العقلاء أن يسيروا في فراسخ يسيرة فلا يهتدوا للخروج منها ؟ فالجواب : قال أبو علي : قد يكون ذلك بأن يحول الله الأرض التي هي عليها إذا ناموا فيردهم إلى المكان الذي ابتدءوا منه ، وقد يكون بغير ذلك من الاشتباه والأسباب المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارجة عن العادة .
أربعين ظرف زمان للتيه ; في قول الحسن وقتادة ; قالا : ولم يدخلها أحد منهم ; فالوقف على هذا على عليهم ، وقال الربيع بن أنس وغيره : إن أربعين سنة ظرف للتحريم ، فالوقف على هذا على أربعين سنة ; فعلى الأول إنما دخلها أولادهم ; قاله ابن عباس .
ولم يبق منهم إلا يوشع وكالب ، فخرج منهم يوشع بذرياتهم إلى تلك المدينة وفتحوها ، وعلى الثاني : فمن بقي منهم بعد أربعين سنة دخلوها .
وروي عن ابن عباس أن موسى وهارون ماتا في التيه .
قال غيره : ونبأ الله يوشع وأمره بقتال الجبارين ، وفيها حبست عليه الشمس حتى دخل المدينة ، وفيها أحرق الذي وجد الغلول عنده ، وكانت تنزل من السماء - إذا غنموا - نار بيضاء فتأكل الغنائم ; وكان ذلك دليلا على قبولها ، فإن كان فيها غلول لم تأكله ، وجاءت السباع والوحوش فأكلته ; فنزلت النار فلم تأكل ما غنموا فقال : إن فيكم الغلول فلتبايعني كل قبيلة فبايعته ، فلصقت يد رجل منهم بيده فقال : فيكم الغلول فليبايعني كل رجل منكم فبايعوه رجلا رجلا حتى لصقت يد رجل منهم بيده فقال : عندك الغلول فأخرج مثل رأس البقرة من ذهب ، فنزلت النار فأكلت الغنائم ، وكانت نارا بيضاء مثل الفضة لها حفيف أي : صوت مثل صوت الشجر وجناح الطائر فيما يذكرون ; فذكروا أنه أحرق الغال ومتاعه بغور يقال له الآن عاجز ، عرف باسم الغال ; وكان اسمه عاجزا .
قلت : ويستفاد من هذا عقوبة الغال قبلنا ، وقد تقدم حكمه في ملتنا ، وبيان ما انبهم من اسم النبي والغال في الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : غزا نبي من الأنبياء الحديث أخرجه مسلم وفيه قال : فغزا فأدنى للقرية حين صلاة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي شيئا فحبست عليه حتى فتح الله عليه - قال : فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار لتأكله فأبت أن تطعمه فقال : فيكم غلول فليبايعني من كل قبيلة رجل فبايعوه - قال - فلصقت يده بيد رجلين أو ثلاثة فقال فيكم الغلول وذكر نحو ما تقدم .
قال علماؤنا : والحكمة في حبس الشمس على يوشع عند قتاله أهل أريحاء وإشرافه على فتحها عشي يوم الجمعة ، وإشفاقه من أن تغرب الشمس قبل الفتح أنه لو لم تحبس عليه حرم عليه القتال لأجل السبت ، ويعلم به عدوهم فيعمل فيهم السيف ويجتاحهم ; فكان ذلك آية له خص بها بعد أن كانت نبوته ثابتة بخبر موسى عليه الصلاة والسلام ، على ما يقال ، والله أعلم ، وفي هذا الحديث يقول عليه السلام : فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا ذلك بأن الله عز وجل رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا ، وهذا يرد قول من قال في تأويل قوله تعالى : وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين إنه تحليل الغنائم والانتفاع بها ، وممن قال إن موسى عليه الصلاة والسلام مات بالتيه عمرو بن ميمون الأودي ، وزاد : وهارون ; وكانا خرجا في التيه إلى بعض الكهوف فمات هارون فدفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل ; فقالوا : ما فعل هارون ؟ فقال : مات ; قالوا : كذبت ولكنك قتلته لحبنا له ، وكان محبا في بني إسرائيل ; فأوحى الله تعالى إليه أن انطلق بهم إلى قبره فإني باعثه حتى يخبرهم أنه مات موتا ولم تقتله ; فانطلق بهم إلى قبره فنادى يا هارون فخرج من قبره ينفض رأسه فقال : أنا قاتلك ؟ قال : لا ; ولكني مت ; قال : فعد إلى مضجعك ; وانصرف ، وقال الحسن : إن موسى لم يمت بالتيه ، وقال غيره : إن موسى فتح أريحاء ، وكان يوشع على مقدمته فقاتل الجبابرة الذين كانوا بها ، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم ، ثم قبضه الله تعالى إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلائق .
قال الثعلبي : وهو أصح الأقاويل .
قلت : قد روى مسلم عن أبي هريرة قال : أرسل ملك الموت إلى موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاءه صكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال : " أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت " قال : فرد الله إليه عينه وقال : " ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة " قال : " أي : رب ثم مه " ، قال : " ثم الموت " قال : " فالآن " ; فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قد علم قبره ووصف موضعه ، ورآه فيه قائما يصلي كما في حديث الإسراء ، إلا أنه يحتمل أن يكون أخفاه الله عن الخلق سواه ولم يجعله مشهورا عندهم ; ولعل ذلك لئلا يعبد ، والله أعلم ، ويعني بالطريق طريق بيت المقدس ، ووقع في بعض الروايات إلى جانب الطور مكان الطريق ، واختلف العلماء في تأويل لطم موسى عين ملك الموت وفقئها على أقوال ; منها : أنها كانت عينا متخيلة لا حقيقة ، وهذا باطل ، لأنه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له .
ومنها : أنها كانت عينا معنوية وإنما فقأها بالحجة ، وهذا مجاز لا حقيقة ، ومنها : أنه عليه السلام لم يعرف ملك الموت ، وأنه رأى رجلا دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عن نفسه فلطم عينه ففقأها ; وتجب المدافعة في هذا بكل ممكن ، وهذا وجه حسن ; لأنه حقيقة في العين والصك ; قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة ، غير أنه اعترض عليه بما في الحديث ; وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال : " يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت " فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت ; وأيضا قوله في الرواية الأخرى : " أجب ربك " يدل على تعريفه بنفسه ، والله أعلم .
ومنها : أن موسى عليه الصلاة والسلام كان سريع الغضب ، إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته ورفع شعر بدنه جبته ; وسرعة غضبه كانت سببا لصكه ملك الموت .
قال ابن العربي : وهذا كما ترى ، فإن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب ، ومنها وهو الصحيح من هذه الأقوال : أن موسى عليه الصلاة والسلام عرف ملك الموت ، وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجزم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير ، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخيره فلما جاءه على غير الوجه الذي أعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه ، فلطمه ففقأ عينه امتحانا لملك الموت ; إذ لم يصرح له بالتخيير ، ومما يدل على صحة هذا ، أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم ، والله بغيبه أحكم وأعلم .
هذا أصح ما قيل في وفاة موسى عليه السلام ، وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصا وأخبارا الله أعلم بصحتها ; وفي الصحيح غنية عنها .
وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة ; فيروى أن يوشع رآه بعد موته في المنام فقال له : كيف وجدت الموت ؟ فقال : " كشاة تسلخ وهي حية " ، وهذا صحيح معنى ; قال : صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : إن للموت سكرات على ما بيناه في كتاب " التذكرة " ، وقوله : فلا تأس على القوم الفاسقين أي : لا تحزن ، والأسى الحزن ; أسى يأسى أسى أي : حزن ، قال :يقولون لا تهلك أسى وتجمل

﴿ قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين ﴾ [ المائدة: 26]

سورة : المائدة - الأية : ( 26 )  - الجزء : ( 6 )  -  الصفحة: ( 112 )

English Türkçe Indonesia
Русский Français فارسی
تفسير انجليزي اعراب

تفسير آيات من القرآن الكريم

  1. تفسير: كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله
  2. تفسير: وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون
  3. تفسير: إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا
  4. تفسير: وربك أعلم بمن في السموات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا
  5. تفسير: ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم
  6. تفسير: وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم
  7. تفسير: إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين
  8. تفسير: فسجد الملائكة كلهم أجمعون
  9. تفسير: وفواكه مما يشتهون
  10. تفسير: الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنـزل من السماء ماء فأخرجنا به

تحميل سورة المائدة mp3 :

سورة المائدة mp3 : قم باختيار القارئ للاستماع و تحميل سورة المائدة

سورة المائدة بصوت ماهر المعيقلي
ماهر المعيقلي
سورة المائدة بصوت سعد الغامدي
سعد الغامدي
سورة المائدة بصوت عبد  الباسط عبد الصمد
عبد الباسط
سورة المائدة بصوت أحمد العجمي
أحمد العجمي
سورة المائدة بصوت محمد صديق المنشاوي
المنشاوي
سورة المائدة بصوت محمود خليل الحصري
الحصري
سورة المائدة بصوت مشاري راشد العفاسي
مشاري العفاسي
سورة المائدة بصوت ناصر القطامي
ناصر القطامي
سورة المائدة بصوت فارس عباد
فارس عباد
سورة المائدة بصوت ياسر لدوسري
ياسر الدوسري

,

لا تنسنا من دعوة صالحة بظهر الغيب