تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 135 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 135

135- تفسير الصفحة رقم135 من المصحف
الآية: 60 {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون}
قوله تعالى: "وهو الذي يتوفاكم بالليل" أي ينيمكم فيقبض نفوسكم التي بها تميزون، وليس ذلك موتا حقيقة بل هو قبض الأرواح عن التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت. والتوفي استيفاء الشيء. وتوفي الميت استوفى عدد أيام عمره، والذي ينام كأنه استوفى حركاته في اليقظة. والوفاة الموت. وأوفيتك المال، وتوفيته، واستوفيته إذا أخذته أجمع. وقال الشاعر:
إن بني الأدرد ليسوا من أحد ولا توفاهم قريش في العدد
ويقال: إن الروح إذا خرج من البدن في المنام تبقى فيه الحياة؛ ولهذا تكون فيه الحركة والتنفس، فإذا انقضى عمره خرج روحه وتنقطع حياته، وصار ميتا لا يتحرك ولا يتنفس. وقال بعضهم. لا تخرج منه الروح، ولكن يخرج منه الذهن. ويقال: هذا أمر لا يعرف حقيقته إلا الله تعالى. وهذا أصح الأقاويل، والله أعلم. "ثم يبعثكم فيه" أي في النهار؛ ويعني اليقظة. "ليقضى أجل مسمى" أي ليستوفي كل إنسان أجلا ضرب له. وقرأ أبو رجاء وطلحة بن مصرف "ليقضي أجلا مسمى" أي عنده. "جرحتم" كسبتم، وقد تقدم في (المائدة). وفي الآية تقديم وتأخير، والتقدير وهو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم بالنهار ويعلم ما جرحتم فيه؛ فقدم الأهم الذي من أجله وقع البعث في النهار. وقال ابن جريج "ثم يبعثكم فيه" أي في المنام. ومعنى الآية: إن إمهاله تعالى للكفار ليس لغفلة عن كفرهم فإنه أحصى كل شيء عددا وعلمه وأثبته، ولكن ليقضي أجلا مسمى من رزق وحياة، ثم يرجعون إليه فيجازيهم. وقد دل على الحشر والنشر بالبعث؛ لأن النشأة الثانية منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر.
الآية: 61 {وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون}
قوله تعالى: "وهو القاهر فوق عباده" يعني فوقية المكانة والرتبة لا فوقية المكان والجهة. "ويرسل عليكم حفظة" أي من الملائكة. والإرسال حقيقته إطلاق الشيء بما حمل من الرسالة؛ فإرسال الملائكة بما حملوا من الحفظ الذي أمروا به، كما قال: "وإن عليكم لحافظين" [الانفطار: 10] أي ملائكة تحفظ أعمال العباد وتحفظهم من الآفات. والحفظة جمع حافظ، مثل الكتبة والكاتب. ويقال: إنهما ملكان بالليل وملكان بالنهار، يكتب أحدهما الخير والآخر الشر، إذا مشى الإنسان يكون أحدهما بين يديه والآخر وراءه، وإذا جلس يكون أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله؛ لقوله تعالى: "عن اليمين وعن الشمال قعيد" [ق: 17]. ويقال: لكل إنسان خمسة من الملائكة: اثنان بالليل، واثنان بالنهار، والخامس لا يفارقه ليلا ولا نهارا. والله أعلم. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
ومن الناس من يعيش شقيا جاهل القلب غافل اليقظه
فإذا كان ذا وفاء ورأي حذر الموت واتقى الحفظه
إنما الناس راحل ومقيم فالذي بان للمقيم عظه
قوله تعالى: "حتى إذا جاء أحدكم الموت" يريد أسبابه؛ كما تقدم في سورة (البقرة). "توفته رسلنا" على تأنيث الجماعة؛ كما قال: "ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات" [المائدة: 32] و"كذبت رسل" [فاطر: 4]. وقرأ حمزة "توفاه رسلنا" على تذكير الجمع. وقرأ الأعمش "تتوفاه رسلنا" بزيادة تاء والتذكير. والمراد أعوان ملك الموت؛ قاله ابن عباس وغيره. ويروى أنهم يسلون الروح من الجسد حتى إذا كان عند قبضها قبضها ملك الموت. وقال الكلبي: يقبض ملك الموت الروح من الجسد ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة إن كان مؤمنا أو إلى ملائكة العذاب إن كان كافرا. ويقال: معه سبعة من ملائكة الرحمة وسبعة من ملائكة العذاب؛ فإذا قبض نفسا مؤمنة دفعها إلى ملائكة الرحمة فيبشرونها بالثواب ويصعدون بها إلى السماء، إذا قبض نفسا كافرة دفعها إلى ملائكة العذاب فيبشرونها بالعذاب ويفزعونها، ثم يصعدون بها إلى السماء ثم ترد إلى سجين، وروح المؤمن إلى عليين. والتوفي تارة يضاف إلى ملك الموت؛ كما قال: "قل يتوفاكم ملك الموت" [السجدة: 11] وتارة إلى الملائكة لأنهم يتولون ذلك؛ كما في هذه الآية وغيرها. وتارة إلى الله وهو المتوفي على الحقيقة؛ كما قال: "الله يتوفى الأنفس حين موتها" [الزمر: 42] "قل الله يحييكم ثم يميتكم" [الجاثية: 26] "الذي خلق الموت والحياة" [الملك: 2] فكل مأمور من الملائكة فإنما يفعل ما أمر به. "وهم لا يفرطون" أي لا يضيعون ولا يقصرون، أي يطيعون أمر الله. وأصله من التقدم، كما تقدم. فمعنى فرط قدم العجز. وقال أبو عبيدة: لا يتوانون. وقرأ عبيد بن عمير "لا يفرطون" بالتخفيف، أي لا يجاوزون الحد فيما أمروا به الإكرام والإهانة.
الآية: 62 {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين}
قوله تعالى: "ثم ردوا إلى الله" أي ردهم الله بالبعث للحساب. "مولاهم الحق" أي خالقهم ورازقهم وباعثهم ومالكهم. "الحق" بالخفض قراءة الجمهور، على النعت والصفة لاسم الله تعالى. وقرأ الحسن "الحق" بالنصب على إضمار أعني، أو على المصدر، أي حقا. "ألا له الحكم" أي اعلموا وقولوا له الحكم وحده يوم القيامة، أي القضاء والفصل. "وهو أسرع الحاسبين" أي لا يحتاج إلى فكرة وروية ولا عقد يد. وقد تقدم.
الآية: 63 {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين}
قوله تعالى: "قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر" أي شدائدهما؛ يقال: يوم مظلم أي شديد. قال النحاس: والعرب تقول: يوم مظلم إذا كان شديدا، فإن عظمت ذلك قالت: يوم ذو كواكب؛ وأنشد سيبويه:
بني أسد هل تعلمون بلاءنا إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا
وجمع "الظلمات" على أنه يعني ظلمة البر وظلمة البحر وظلمة الليل وظلمة الغيم، أي إذا أخطأتم الطريق وخفتم الهلاك دعوتموه "لئن أنجانا من هذه" أي من هذه الشدائد "لنكونن من الشاكرين" أي من الطائعين. فوبخهم الله في دعائهم إياه عند الشدائد، وهم يدعون معه في حال الرخاء غيره بقوله: "ثم أنتم تشركون". وقرأ الأعمش "وخيفة" من الخوف، وقرأ أبو بكر عن عاصم "خفية" بكسر الخاء، والباقون بضمها، لغتان. وزاد الفراء خفوة وخفوة. قال: ونظيره حبية وحبية وحبوة وحبوة. وقراءة الأعمش بعيدة؛ لأن معنى "تضرعا" أن تظهروا التذلل و"خفية" أن تبطنوا مثل ذلك. وقرأ الكوفيون "لئن أنجانا" واتساق المعنى بالتاء؛ كما قرأ أهل المدينة وأهل الشأم.
الآية: 64 {قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون}
قوله تعالى: "قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب" وقرأ الكوفيون "ينجيكم" بالتشديد، الباقون بالتخفيف. قيل: معناهما واحد مثل نجا وأنجيته ونجيته. وقيل: التشديد للتكثير. والكرب: الغم يأخذ بالنفس؛ يقال منه: رجل مكروب. قال عنترة:
ومكروب كشفت الكرب عنه بطعنة فيصل لما دعاني
والكربة مشتقة من ذلك.
قوله تعالى: "ثم أنتم تشركون" تقريع وتوبيخ؛ مثل قوله في أول السورة "ثم أنتم تمترون". لأن الحجة إذا قامت بعد المعرفة وجب الإخلاص، وهم قد جعلوا بدلا منه وهو الإشراك؛ فحسن أن يقرعوا ويوبخوا على هذه الجهة وإن كانوا مشركين قبل النجاة.
الآية: 65 {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون}
قوله تعالى: "قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا" أي القادر على إنجائكم من الكرب، قادر على تعذيبكم. ومعنى "من فوقكم" الرجم بالحجارة والطوفان والصيحة والريح؛ كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح؛ عن مجاهد وابن جبير وغيرهما. "أو من تحت أرجلكم" الخسف والرجفة؛ كما فعل بقارون وأصحاب مدين. وقيل: "من فوقكم" يعني الأمراء الظلمة، "ومن تحت أرجلكم" يعني السفلة وعبيد السوء؛ عن ابن عباس ومجاهد أيضا. "أو يلبسكم شيعا" وروي عن أبي عبدالله المدني "أو يلبسكم" بضم الياء، أي يجللكم العذاب ويعمكم به، وهذا من اللبس بضم الأول، وقراءة الفتح من اللبس. وهو موضع مشكل والأعراب يبينه. أي يلبس عليكم أمركم، فحذف أحد المفعولين وحرف الجر؛ كما قال: "وإذا كالوهم أو وزنوهم" [المطففين: 3] وهذا اللبس بأن يخلط أمرهم فيجعلهم مختلفي الأهواء؛ عن ابن عباس. وقيل: معنى "يلبسكم شيعا" بقوي عدوكم حتى يخالطكم وإذا خالطكم فقد لبسكم. "شيعا" معناه فرقا. وقيل يجعلكم فرقا يقاتل بعضكم بعضا؛ وذلك بتخليط أمرهم وافتراق أمرائهم على طلب الدنيا. وهو معنى قوله "ويذيق بعضكم بأس بعض" أي بالحرب والقتل في الفتنة؛ عن مجاهد. والآية عامة في المسلمين والكفار. وقيل هي في الكفار خاصة. وقال الحسن: هي في أهل الصلاة.
قلت: وهو الصحيح؛ فإنه المشاهد في الوجود، فقد لبسنا العدو في ديارنا واستولى على أنفسنا وأموالنا، مع الفتنة المستولية علينا بقتل بعضنا بعضا واستباحة بعضنا أموال بعض. نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. وعن الحسن أيضا أنه تأول ذلك فيما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم. روى مسلم عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من أقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا). وروى النسائي عن خباب بن الأرت، وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه راقب رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة كلها حتى كان مع الفجر، فلما سلم رسول الله من صلاته جاءه خباب فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت نحوها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أجل إنها صلاة رغب ورهب سألت الله عز وجل فيها ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت ربي عز وجل ألا يهلكنا بما أهلك به الأمم فأعطانيها وسألت ربي عز وجل ألا يظهر علينا عدوا من غيرنا فأعطانيها وسألت ربي عز وجل ألا يلبسنا شيعا فمنعنيها). وقد أتينا على هذه الأخبار في كتاب (التذكرة) والحمد لله. وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: (يا جبريل ما بقاء أمتي على ذلك)؟ فقال له جبريل: (إنما أنا عبد مثلك فادع ربك وسله لأمتك) فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ وأسبغ الوضوء وصلى وأحسن الصلاة، ثم دعا فنزل جبريل وقال: (يا محمد إن الله تعالى سمع مقالتك وأجارهم من خصلتين وهو العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم). فقال: (يا جبريل ما بقاء أمتي إذا كان فيهم أهواء مختلفة ويذيق بعضهم بأس بعض)؟ فنزل جبريل بهذه الآية: "الم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا" [العنكبوت: 1 - 2] الآية. وروى عمرو بن دينار عن جابر بن عبدالله قال: لما نزلت هذه الآية "قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجه الله" فلما نزلت "أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض" قال: (هاتان أهون). وفي سنن ابن ماجة عن ابن عمر قال: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الكلمات حين يصبح: ويمسي اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة. اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي. اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بك أن أغتال من تحتي). قال وكيع: يعني الخسف.
قوله تعالى: "انظر كيف نصرف الآيات" أي نبين لهم الحجج والدلالات. "لعلهم يفقهون" يريد بطلان ما هم عليه من الشرك والمعاصي.
الآية: 66 {وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل}
قوله تعالى: "وكذب به قومك" أي بالقرآن. وقرأ ابن أبي عبلة "وكذبت". بالتاء. "وهو الحق" أي القصص الحق. "قل لست عليكم بوكيل" قال الحسن: لست بحافظ أعمالكم حتى أجازيكم عليها، إنما أنا منذر وقد بلغت؛ نظيره "وما أنا عليكم بحفيظ" [هود: 86] أي أحفظ عليكم أعمالكم. ثم قيل: هذا منسوخ بآية القتال. وقيل: ليس بمنسوخ، إذ لم يكن في وسعه إيمانهم.
الآية: 67 {لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون}
قوله تعالى: "لكل نبأ مستقر" لكل خبر حقيقة، أي لكل شيء وقت يقع فيه من غير تقدم وتأخر. وقيل: أي لكل عمل جزاء. قال الحسن: هذا وعيد من الله تعالى للكفار؛ لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث. الزجاج: يجوز أن يكون وعيدا بما ينزل بهم في الدنيا. قال السدي: استقر يوم بدر ما كان يعدهم به من العذاب. وذكر الثعلبي أنه رأى في بعض التفاسير أن هذه الآية نافعة من وجع الضرس إذا كتبت على كاغد ووضع على السن.
الآية: 68 {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}
قوله تعالى: "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا" بالتكذيب والرد والاستهزاء "فأعرض عنهم" والخطاب مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه. وهو صحيح؛ فإن العلة سماع الخوض في آيات الله، وذلك يشملهم وإياه. وقيل: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وحد؛ لأن قيامه عن المشركين كان يشق عليهم، ولم يكن المؤمنون عندهم كذلك؛ فأمر أن ينابذهم بالقيام عنهم إذا استهزؤوا وخاضوا ليتأدبوا بذلك ويدعوا الخوض والاستهزاء. والخوض أصله في الماء، ثم استعمل بعد في غمرات الأشياء التي هي مجاهل، تشبيها بغمرات الماء فاستعير من المحسوس للمعقول. وقيل: هو مأخوذ من الخلط. وكل شيء خضته فقد خلطته؛ ومنه خاض الماء بالعسل خلط. فأدب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية؛ لأنه كان يقعد إلى قوم من المشركين يعظهم ويدعوهم فيستهزؤون بالقرآن؛ فأمره الله أن يعرض عنهم إعراض منكر. ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكرا وعلم أنه لا يقبل منه فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه. وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا" قال: هم الذين يستهزؤون بكتاب الله، نهاه الله عن أن يجلس معهم إلا أن ينسى فإذا ذكر قام. وروى ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هم الذين يقولون في القرآن غير الحق.
في هذه الآية رد من كتاب الله عز وجل على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم لهم أن يخالطوا الفاسقين ويصوبوا آراءهم تقية. وذكر الطبري عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه أنه قال: لا تجالسوا أهل الخصومات، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله. قال ابن العربي: وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل. قال ابن خويز منداد: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر، مؤمنا كان أو كافرا. قال: وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم والبيع، ومجالس الكفار وأهل البدع، وألا تعتقد مودتهم ولا يسمع كلامهم لا مناظرتهم. وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي: أسمع مني كلمة، فأعرض عنه وقال: ولا نصف كلمة. ومثله عن أيوب السختياني. وقال الفضيل بن عياض: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه، ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها، ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وإذا علم الله عز وجل من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له. وروى أبو عبدالله الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام). فبطل بهذا كله قول من زعم أن مجالستهم جائزة إذا صانوا أسماعهم.
قوله تعالى: "وإما ينسينك" "إما" شرط، فيلزمها النون الثقيلة في الأغلب وقد لا تلزم؛ كما قال:
إما يصبك عدو في مناوأة يوما فقد كنت تستعلي وتنتصر
وقرأ ابن عباس وابن عامر "ينسينك" بتشديد السين على التكثير؛ يقال: نسى وأنسى بمعنى واحد لغتان؛ قال الشاعر:
قالت سليمى أتسري اليوم أم تقل وقد ينسيك بعض الحاجة الكسل
وقال امرؤ القيس:
تنسني إذا قمت سربالي
المعنى: يا محمد إن أنساك الشيطان أن تقوم عنهم فجالستهم بعد النهي. "فلا تقعد بعد الذكرى" أي إذا ذكرت فلا تقعد "مع القوم الظالمين يعني المشركين. والذكرى اسم للتذكير.
قيل: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته؛ ذهبوا إلى تبرئته عليه السلام من النسيان. وقيل: هو خاص به، والنسيان جائز عليه. قال ابن العربي: وإن عذرنا أصحابنا في قولهم إن قوله تعالى: "لئن أشركت ليحبطن عملك" [الزمر: 65] خطاب للأمة باسم النبي صلى الله عليه وسلم لاستحالة الشرك عليه، فلا عذر لهم في هذا لجواز النسيان عليه. قال عليه السلام؛ (نسي آدم فنسيت ذريته) خرجه الترمذي وصححه. وقال مخبرا عن نفسه: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني). خرجه في الصحيح، فأضاف النسيان إليه. وقال وقد سمع قراءة رجل: (لقد أذكرني آية كذا وكذا كنت أنسيتها). واختلفوا بعد جواز النسيان عليه؛ هل يكون فيما طريقه البلاغ من الأفعال وأحكام الشرع أم لا.؟ فذهب إلى الأول فيما ذكره القاضي عياض عامة العلماء والأئمة النظار؛ كما هو ظاهر القرآن والأحاديث، لكن شرط الأئمة أن الله تعالى ينبهه على ذلك ولا يقره عليه. ثم اختلفوا هل من شرط التنبيه اتصال بالحادثة على الفور، وهو مذهب القاضي أبي بكر والأكثر من العلماء، أو يجوز في ذلك التراخي ما لم ينخرم عمره وينقطع تبليغه، وإليه نحا أبو المعالي. ومنعت طائفة من العلماء السهو عليه في الأفعال البلاغية والعبادات الشرعية؛ كما منعوه اتفاقا في الأقوال البلاغية، واعتذروا عن الظواهر الواردة في ذلك؛ وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق. وشذت الباطنية وطائفة من أرباب علم القلوب فقالوا: لا يجوز النسيان عليه، وإنما ينسى قصدا ويتعمد صورة النسيان ليسن. ونحا إلى هذا عظيم من أئمة التحقيق وهو أبو المظفر الإسفراييني في كتابه (الأوسط) وهو منحى غير سديد، وجمع الضد مع الضد مستحيل بعيد.