تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 159 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 159

159- تفسير الصفحة رقم159 من المصحف
الآية: 69 {أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون}
قوله تعالى: "أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم" "أو عجبتم" فتحت الواو لأنها واو عطف، دخلت عليها ألف الاستفهام للتقرير. وسبيل الواو أن تدخل على حروف الاستفهام إلا الألف لقوتها. أي وعظ من ربكم. "على رجل منكم" أي على لسان رجل. وقيل: "على" بمعنى "مع"، أي مع رجل وقيل: المعنى أن جاءكم ذكر من ربكم منزل على رجل منكم، أي تعرفون نسبه. أي على رجل من جنسكم. ولو كان ملكا فربما كان في اختلاف الجنس تنافر الطبع.
قوله تعالى: "واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح" "خلفاء" جمع خليفة على التذكير والمعنى، وخلائف على اللفظ، من عليهم بأن جعلهم سكان الأرض بعد قوم نوح. "وزادكم في الخلق بسطة" ويجوز "بصطة" بالصاد لأن بعدها طاء؛ أي طولا في الخلق وعظم الجسم. قال ابن عباس: كان أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستين ذراعا. وهذه الزيادة كانت على خلق آبائهم. وقيل: على خلق قوم نوح. قال وهب: كان رأس أحدهم مثل قبة عظيمة، وكان عين الرجل يفرخ فيها السباع، وكذلك مناخرهم. وروى شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: أن كان الرجل من قوم عاد يتخذ المصراعين من حجارة لو اجتمع عليها خمسمائة رجل من هذه الأمة لم يطيقوه، وأن كان أحدهم ليغمز برجله الأرض فتدخل فيها. "فاذكروا آلاء الله" أي نعم الله، واحدها إلى وإلي وإلو وألى. كالآناء واحدها إنى وإني وإنو وأنى. "لعلكم تفلحون" تقدم.
الآيتان: 70 - 71 - 72 {قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين، فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين}
طلبوا العذاب الذي خوفهم به وحذرهم منه. فقال لهم: "قد وقع عليكم" ومعنى وقع أي وجب. يقال: وقع القول والحكم أي وجب ! ومثله: "ولما وقع عليهم الرجز" [الأعراف: 134]. أي نزل بهم. "وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض" [النمل: 82]. والرجس العذاب وقيل: عني بالرجس الرين على القلب بزيادة الكفر. "أتجادلونني في أسماء" يعني الأصنام التي عبدوها، وكان لها أسماء مختلفة. "ما نزل الله بها من سلطان" أي من حجة لكم في عبادتها. فالاسم هنا بمعنى المسمى. نظيره "إن هي إلا أسماء سميتموها" [النجم: 23]. وهذه الأسماء مثل العزى من العز والأعز واللات، وليس لها من العز والإلهية شيء. "دابر" آخر. وقد تقدم. أي لم يبق لهم بقية.
الآية: 73 {وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم}
قوله تعالى: "وإلى ثمود أخاهم صالحا" هو ثمود بن عاد بن إرم بن سام بن نوح. وهو أخو جديس، وكانوا في سعة من معايشهم؛ فخالفوا أمر الله وعبدوا غيره، وأفسدوا في الأرض. فبعث الله إليهم صالحا نبيا، وهو صالح بن عبيد بن آسف بن كاشح بن عبيد بن حاذر بن ثمود. وكانوا قوما عربا. وكان صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا فدعاهم إلى الله تعالى حتى شمط ولا يتبعه. منهم إلا قليل مستضعفون. ولم ينصرف "ثمود" لأنه جعل اسما للقبيلة. وقال أبو حاتم: لم ينصرف، لأنه اسم أعجمي. قال النحاس: وهذا غلط؛ لأنه مشتق من الثمد وهو الماء القليل. وقد قرأ القراء "ألا إن ثمود كفروا ربهم" [هود: 68] على أنه اسم للحي. وكانت مساكن ثمود الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى. وهم من ولد سام بن نوح. وسميت ثمود لقلة مائها. وسيأتي بيانه في "الحجر" إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: "هذه ناقة الله لكم آية" أخرج لهم الناقة حين سألوه من حجر صلد؛ فكان لها يوم تشرب فيه ماء الوادي كله، وتسقيهم مثله لبنا لم يشرب قط ألذ وأحلى منه. وكان بقدر حاجتهم على كرتهم؛ قال الله تعالى: "لها شرب ولكم شرب يوم معلوم" [الشعراء: 155]. وأضيفت الناقة إلى الله عز وجل على جهة إضافة الخلق إلى الخالق. وفيه معنى التشريف والتخصيص.
قوله تعالى: "فذروها تأكل في أرض الله" أي ليس عليكم رزقها ومؤونتها.