تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 190 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 190

190- تفسير الصفحة رقم190 من المصحف
الآية: 21 {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم}
قوله تعالى: "يبشرهم ربهم" أي يعلمهم في الدنيا ما لهم في الآخرة من الثواب الجزيل والنعيم المقيم. والنعيم: لين العيش ورغده.
الآية: 22 {خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم}
قوله تعالى: "خالدين" نصب على الحال. والخلود الإقامة. "إن الله عنده أجر عظيم" أي أعد لهم في دار كرامته ذلك الثواب.
الآية: 23 {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون}
ظاهر هذه الآية أنها خطاب لجميع المؤمنين كافة، وهي باقية الحكم إلى يوم القيامة في قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين. وروت فرقة أن هذه الآية إنما نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفرة. فالمخاطبة على هذا إنما هي للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها من بلاد العرب، خوطبوا بألا يوالوا الآباء والإخوة فيكونوا لهم تبعا في سكنى بلاد الكفر. "إن استحبوا" أي أحبوا، كما يقال: استجاب بمعنى أجاب. أي لا تطيعوهم ولا تخصوهم. وخص الله سبحانه الآباء والإخوة إذ لا قرابة أقرب منها. فنفى الموالاة بينهم كما نفاها بين الناس بقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء" [المائدة: 51] ليبين أن القرب قرب الأديان لا قرب الأبدان. وفي مثله تنشد الصوفية:
يقولون لي دار الأحبة قد دنت وأنت كئيب إن ذا لعجيب
فقلت وما تغني ديار قريبة إذا لم يكن بين القلوب قريب
فكم من بعيد الدار نال مراده وآخر جار الجنب مات كئيب
ولم يذكر الأبناء في هذه الآية إذ الأغلب من البشر أن الأبناء هم التبع للآباء. والإحسان والهبة مستثناة من الولاية. قالت أسماء: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي راغبة وهي مشركة أفأصلها؟ قال: (صلي أمك) خرجه البخاري. "ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون" قال ابن عباس: هو مشرك مثلهم لأن من رضي بالشرك فهو مشرك.
الآية: 24 {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}
لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبيه والأب لابنه والأخ لأخيه والرجل لزوجته: إنا قد أمرنا بالهجرة، فمنهم من تسارع لذلك، ومنهم من أبى أن يهاجر، فيقول: والله لئن لم تخرجوا إلى دار الهجرة لا أنفعكم ولا أنفق عليكم شيئا أبدا. ومنهم من تتعلق به امرأته وولده ويقولون له: أنشدك بالله ألا تخرج فنضيع بعدك، فمنهم من يرق فيدع الهجرة ويقيم معهم، فنزلت "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان". يقول: إن اختاروا الإقامة على الكفر بمكة على الإيمان بالله والهجرة إلى المدينة. "ومن يتولهم منكم" بعد نزول الآية "فأولئك هم الظالمون". ثم نزل في الذين تخلفوا ولم يهاجروا: "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم" وهي الجماعة التي ترجع إلى عقد واحد كعقد العشرة فما زاد، ومنه المعاشرة وهي الاجتماع على الشيء. "وأموال اقترفتموها" يقول: اكتسبتموها بمكة. وأصل الاقتراف اقتطاع الشيء من مكانه إلى غيره. "وتجارة تخشون كسادها" قال ابن المبارك: هي البنات والأخوات إذا كسدن في البيت لا يجدن لهن خاطبا. قال الشاعر:
كسدن من الفقر في قومهن وقد زادهن مقامي كسودا
"ومساكن ترضونها" يقول: ومنازل تعجبكم الإقامة فيها. "أحب إليكم من الله ورسوله
من أن تهاجروا إلى الله ورسوله بالمدينة. "وأحب" خبر كان. ويجوز في غير القرآن رفع "أحب" على الابتداء والخبر، واسم كان مضمر فيها. وأنشد سيبويه:
إذا مت كان الناس صنفان: شامت وآخر مثن بالذي كنت أصنع
وأنشد:
هي الشفاء لدائي لو ظفرت بها وليس منها شفاء الداء مبذول
وفي الآية دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب. وقد مضى في "آل عمران" معنى محبة الله تعالى ومحبة رسوله. "وجهاد في سبيله فتربصوا" صيغته صيغة أمر ومعناه التهديد. يقول: انتظروا. وفي قوله: "وجهاد في سبيله" دليل على فضل الجهاد، وإيثاره على راحة النفس وعلائقها بالأهل والمال. وسيأتي فضل الجهاد في آخر السورة. وقد مضى من أحكام الهجرة في "النساء" ما فيه كفاية، والحمد لله. وفي الحديث الصحيح (إن الشيطان قعد لابن آدم ثلاث مقاعد قعد له في طريق الإسلام فقال لم تذر دينك ودين آبائك فخالفه وأسلم وقعد له في طريق الهجرة فقال له أتذر مالك وأهلك فخالفه وهاجر ثم قعد في طريق الجهاد فقال له تجاهد فتقتل فينكح أهلك ويقسم مالك فخالفه وجاهد فحق على الله أن يدخله الجنة). وأخرجه النسائي من حديث سبرة بن أبي فاكه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشيطان...) فذكره. قال البخاري: (ابن الفاكه) ولم يذكر فيها اختلافا. وقال ابن أبي عدي: يقال ابن الفاكه وابن أبي الفاكه. انتهى.
الآية: 25 {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين}
قوله تعالى: "لقد نصركم الله في مواطن كثيرة" لما بلغ هوازن فتح مكة جمعهم مالك بن عوف النصري من بنى نصر بن مالك، وكانت الرياسة في جميع العسكر إليه، وساق مع الكفار أموالهم ومواشيهم ونساءهم وأولادهم، وزعم أن ذلك يحمي به نفوسهم وتشتد في القتال عند ذلك شوكتهم. وكانوا ثمانية آلاف في قول الحسن ومجاهد. وقيل: أربعة آلاف، من هوازن وثقيف. وعلى هوازن مالك بن عوف، وعلى ثقيف كنانة بن عبد، فنزلوا بأوطاس. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي عينا، فأتاه وأخبره بما شاهد منهم، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قصدهم، واستعار من صفوان بن أمية بن خلف الجمحي دروعا. قيل: مائة درع. وقيل: أربعمائة درع. واستسلف من ربيعة المخزومي ثلاثين ألفا أو أربعين ألفا، فلما قدم قضاه إياها. ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (بارك الله لك في أهلك ومالك إنما جزاء السلف الوفاء والحمد) خرجه ابن ماجة في السنن. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا من المسلمين، منهم عشرة آلاف صحبوه من المدينة وألفان من مسلمة الفتح وهم الطلقاء إلى من انضاف إليه من الأعراب من سُليم وبني كلاب وعبس وذبيان. واستعمل على مكة عتاب بن أسيد. وفي مخرجه هذا رأى جهال الأعراب شجرة خضراء وكان لهم في الجاهلية شجرة معروفة تسمى ذات أنواط يخرج إليها الكفار يوما معلوما في السنة يعظمونها، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال عليه السلام: (الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى "اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون" لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى أنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه). فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى وادي حنين، وهو من أودية تهامة، وكانت هوازن قد كمنت في جنبتي الوادي وذلك في غبش الصبح فحملت على المسلمين حملة رجل واحد، فانهزم جمهور المسلمين ولم يلو أحد على أحد، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت معه أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب وابنه جعفر، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد وهو أيمن بن أم أيمن قتل يومئذ بحنين - وربيعة بن الحارث، والفضل بن عباس، وقيل في موضع جعفر بن أبي سفيان: قثم بن العباس. فهؤلاء عشرة رجال، ولهذا قال العباس:
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة وقد فر من قد فر عنه وأقشعوا
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه بما مسه في الله لا يتوجع
وثبتت أم سليم في جملة من ثبت محتزمة ممسكة بعيرا لأبي طلحة وفي يدها خنجر. ولم ينهزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من هؤلاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء واسمها دلدل. وفي صحيح مسلم عن أنس قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة ألا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي عباس ناد أصحاب السمرة). فقال عباس - وكان رجلا صيتا. ويروى من شدة صوته أنه أغير يوما على مكة فنادى واصباحاه فأسقطت كل حامل سمعت صوته جنينها - : فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها. فقالوا: يا لبيك يا لبيك. قال: فاقتتلوا والكفار...) الحديث. وفيه: (قال ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار). ثم قال: (انهزموا ورب محمد). قال فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى. قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا. قال أبو عمر: روينا من وجوه عن بعض من أسلم من المشركين ممن شهد حنينا أنه قال - وقد سئل عن يوم حنين - : لقينا المسلمين فما لبثنا أن هزمناهم وأتبعناهم حتى انتهينا إلى رجل راكب على بغلة بيضاء، فلما رآنا زجرنا زجرة وانتهرنا، وأخذ بكفه حصى وترابا فرمى به وقال: (شاهت الوجوه) فلم تبق عين إلا دخلها من ذلك، وما ملكنا أنفسنا أن رجعنا على أعقابنا. وقال سعيد بن جبير: حدثنا رجل من المشركين، يوم حنين قال: لما التقينا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقفوا لنا حلب شاة، حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - تلقانا رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا، فرجعنا وركبوا أكتافنا فكانت إياها. يعني الملائكة.
قلت: ولا تعارض فإنه يحتمل أن يكون شاهت الوجوه من قوله صلى الله عليه وسلم ومن قول الملائكة معا ويدل على أن الملائكة قاتلت يوم حنين. فالله أعلم. وقتل علي رضي الله عنه يوم حنين أربعين رجلا بيده. وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف رأس. وقيل: ستة آلاف، واثني عشر ألف ناق سوى ما لا يعلم من الغنائم.
قال العلماء في هذه الغزاة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه). وقد مضى في "الأنفال" بيانه. قال ابن العربي: ولهذه النكتة وغيرها أدخل الأحكاميون هذه الآية في الأحكام.
قلت: وفيه أيضا جواز استعارة السلاح وجواز الاستمتاع بما استعير إذا كان على المعهود مما يستعار له مثله، وجواز استلاف الإمام المال عند الحاجة إلى ذلك ورده إلى صاحبه. وحديث صفوان أصل في هذا الباب. وفي هذه الغزاة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض حيضة). وهو يدل على أن السبي يقطع العصمة. وقد مضى بيانه في سورة "النساء" مستوفى. وفي حديث مالك أن صفوان خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر، فشهد حنينا والطائف وامرأته مسلمة. الحديث. قال مالك: ولم يكن ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أرى أن يستعان بالمشركين على المشركين إلا أن يكونوا خدما أو نواتية. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي: لا بأس بذلك إذا كان حكم الإسلام هو الغالب، وإنما تكره الاستعانة بهم إذا كان حكم الشرك هو الظاهر. وقد مضى القول في الإسهام لهم في "الأنفال"
قوله تعالى: "ويوم حنين" حنين واد بين مكة والطائف، وانصرف لأنه اسم مذكر، وهي لغة القرآن. ومن العرب من لا يصرفه، يجعله اسما للبقعة. وأنشد:
نصروا نبيهم وشدوا أزره بحنين يوم تواكل الأبطال
"ويوم" ظرف، وانتصب هنا على معنى: ونصركم يوم حنين. وقال الفراء: لم تنصرف "مواطن" لأنه ليس لها نظير في المفرد وليس لها جماع، إلا أن الشاعر ربما اضطر فجمع، وليس يجوز في الكلام كل ما يجوز في الشعر. وأنشد:
فهن يعلكن حدائداتها
وقال النحاس: رأيت أبا إسحاق يتعجب من هذا قال: أخذ قول الخليل وأخطأ فيه، لأن الخليل يقول فيه: لم ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد، ولا يجمع جمع التكسير، وأما بالألف والتاء فلا يمتنع.
قوله تعالى: "إذ أعجبتكم كثرتكم" قيل: كانوا اثني عشر ألفا. وقيل: أحد عشر ألفا وخمسمائة. وقيل: ستة عشر ألفا. فقال بعضهم: لن نغلب اليوم عن قلة. فوكلوا إلى هذه الكلمة، فكان ما ذكرناه من الهزيمة في الابتداء إلى أن تراجعوا، فكان النصر والظفر للمسلمين ببركة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. فبين الله عز وجل في هذه الآية أن الغلبة إنما تكون بنصر الله لا بالكثرة وقد قال: "وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده" [آل عمران: 160].
قوله تعالى: "وضاقت عليكم الأرض بما رحبت" أي من الخوف، كما قال:
كأن بلاد الله وهي عريضة على الخائف المطلوب كفة حابل
والرحب - بضم الراء - السعة. تقول منه: فلان رحب الصدر. والرحب - بالفتح - : الواسع. تقول منه: بلد رحب، وأرض رحبة. وقد رحبت ترحب رحبا ورحابة. وقيل: الباء بمعنى مع أي مع رحبها. وقيل: بمعنى على، أي على رحبها. وقيل: المعنى برحبها، فـ "ما" مصدرية.
قوله تعالى: "ثم وليتم مدبرين" روى مسلم عن أبي إسحاق قال: جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة. فقال: أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى، ولكنه انطلق أخِفّاءُ من الناس، وحسر إلى هذا الحي من هوازن. وهم قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: (أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبدالمطلب. اللهم نزل نصرك). قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
الآيتان: 26 - 27 {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين، ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم}
قوله تعالى: "ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين" أي أنزل عليهم ما يسكنهم ويذهب خوفهم، حتى اجترؤوا على قتال المشركين بعد أن ولوا. "وأنزل جنودا لم تروها" وهم الملائكة، يقوون المؤمنين بما يلقون في قلوبهم من الخواطر والتثبيت، ويضعفون الكافرين بالتجبين لهم من حيث لا يرونهم ومن غير قتال، لأن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر. وروي أن رجلا من بني نصر قال للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق، والرجال الذين كانوا عليها بيض، ما كنا فيهم إلا كهيئة الشامة، وما كان قتلنا إلا بأيديهم. أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (تلك الملائكة). "وعذب الذين كفروا" أي بأسيافكم. "وذلك جزاء الكافرين، ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء" أي على من انهزم فيهديه إلى الإسلام. كمالك بن عوف النصري رئيس حنين ومن أسلم معه من قومه.
ولما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين بالجعرانة، أتاه وفد هوازن مسلمين راغبين في العطف عليهم والإحسان إليهم، وقالوا: يا رسول الله، انك خير الناس وأبر الناس، وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالنا. فقال لهم: (إني قد كنت استأنيت بكم وقد وقعت المقاسم وعندي من ترون وإن خير القول أصدقه فاختاروا إما ذراريكم وإما أموالكم). فقالوا: لا نعدل بالأنساب شيئا. فقام خطيبا وقال: (هؤلاء جاؤونا مسلمين وقد خيرناهم فلم يعدلوا بالأنساب فرضوا برد الذرية وما كان لي ولبني عبدالمطلب وبني هاشم فهو لهم). وقال المهاجرون والأنصار: أما ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وامتنع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن في قومهما من أن يردوا عليهم شيئا مما وقع لهم في سهامهم. وامتنع العباس بن مرداس السلمي كذلك، وطمع أن يساعده قومه كما ساعد الأقرع وعيينة قومهما. فأبت بنو سليم وقالوا: بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ضن منكم بما في يديه فإنا نعوضه منه). فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وأولادهم، وعوض من لم تطب نفسه بترك نصيبه أعواضا رضوا بها. وقال قتادة: ذكر لنا أن ظئر النبي صلى الله عليه وسلم التي أرضعته من بني سعد أتته يوم حنين فسألته سبايا حنين فقال صلى الله عليه وسلم: (إني لا أملك إلا ما يصيبني منهم ولكن ايتيني غدا فاسأليني والناس عندي فإذا أعطيتك حصتي أعطاك الناس). فجاءت الغد فبسط لها ثوبه فأقعدها عليه. ثم سألته فأعطاها نصيبه فلما رأى ذلك الناس أعطوها أنصباءهم. وكان عدد سبي هوزان في قول سعيد بن المسيب ستة آلاف رأس. وقيل: أربعة آلاف. قال أبو عمر: فيهن الشيماء أخت النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وهي بنت الحارث بن عبدالعزى من بنى سعد بن بكر وبنت حليمة السعدية، فأكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاها وأحسن إليها، ورجعت مسرورة إلى بلادها بدينها وبما أفاء الله عليها. قال ابن عباس: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أوطاس امرأة تعدو وتصيح ولا تستقر، فسأل عنها فقيل: فقدت بنيا لها. ثم رآها وقد وجدت ابنها وهي تقبله وتدنيه، فدعاها وقال لأصحابه: (أطارحة هذه ولدها في النار)؟ قالوا: لا. قال: (لم)؟ قالوا: لشفقتها. قال: (الله أرحم بكم منها). وخرجه مسلم بمعناه والحمد لله.