تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 190 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 190

189

ثم فسر الفوز بقوله: 21- "يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم" والتنكير في الرحمة والرضوان والجنات للتعظيم، والمعنى أنها فوق وصف الواصفين وتصور المتصورين. والنعيم المقيم: الدائم المستمر الذي لا يفارق صاحبه.
وذكر الأبد بعد الخلود تأكيد له، وجملة 22- "إن الله عنده أجر عظيم" مؤكدة لما قبلها مع تضمنها للتعليل: أي أعطاهم الله سبحانه هذه الأجور العظيمة لكون الأجر الذي عنده عظيم يهب منه ما يشاء لمن يشاء، وهو ذو الفضل العظيم. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله" وقال: "إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر" فنفى المشركين من المسجد "من آمن بالله" يقول: من وحد الله وآمن بما أنزل الله: "وأقام الصلاة" يعني الصلوات الخمس "ولم يخش إلا الله" يقول: لم يعبد إلا الله "فعسى أولئك" يقول: أولئك هم المهتدون كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً" يقول: إن ربك سيبعثك مقاماً محموداً، وهي الشفاعة، وكل عسى في القرآن فهي واجبة. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والدارمي والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن المنذر والبيهقي في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان". قال الله تعالى: "إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر". وقد وردت أحاديث كثيرة في استحباب ملازمة المساجد وعمارتها والتردد إليها للطاعات. وأخرج مسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن النعمان بن بشير قال:" كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل لله عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل جهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيه فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله: "أجعلتم سقاية الحاج" إلى قوله: "لا يهدي القوم الظالمين"". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "أجعلتم سقاية الحاج" الآية. وذلك أن المشركين قالوا عمارة بيت الله وقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد، فكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره، فذكر الله سبحانه استكبارهم وإعراضهم، فقال لأهل الحرم من المشركين: " قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون * مستكبرين به سامرا تهجرون " يعني أنهم كانوا يستكبرون بالحرم، وقال به سامراً: كانوا به يسمرون ويهجرون بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم، فخير الإيمان بالله والجهاد مع نبي الله على عمران المشركين البيت وقيامهم على السقاية ولم يكن لينفعهم عند الله مع الشرك به وإن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه قال الله: " لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين " يعني الذين زعموا أنهم أهل العمارة فسماهم ظالمين بشركهم فلم تغن عنهم العمارة شيئاً، وفي إسناده العوفي وهو ضعيف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال العباس حين أسر يوم بدر: إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني، فأنزل الله: "أجعلتم سقاية الحاج" الآية: يعني أن ذلك كان في الشرك فلا أقبل ما كان في الشرك. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال: نزلت في علي بن أبي طالب والعباس. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الشعبي قال: تفاخر علي والعباس وشيبة في السقاية والحجابة فأنزل الله: "أجعلتم سقاية الحاج" الآية، وقد روي معنى هذا من طرق.
23- " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون " الخطاب للمؤمنين كافة، وهو حكم باق إلى يوم القيامة يدل على قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين، وقالت طائفة من أهل العلم: إنها نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفر، فيكون الخطاب لمن كان من المؤمنين بمكة وغيرها من بلاد العرب، نهوا أن يوالوا الآباء والإخوة فيكونون لهم تبعاً في سكنى البلاد والكفر إن استحبوا: أي أحبوا، كما يقال: استجاب بمعنى أجاب، وهو في الأصل طلب المحبة، وقد تقدم تحقيق المقام في سورة المائدة في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء" ثم حكم على من يتولى من استحب الكفر على الإيمان من الآباء والإخوان بالظلم، فدل ذلك على أن تولي من كان كذلك من أعظم الذنوب وأشدها.
ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: 24- "إن كان آباؤكم" إلى آخره، والعشيرة: الجماعة التي ترجع إلى عقد واحد، وعشيرة الرجل قرابته الأدنون، وهم الذين يعاشرونه وهي اسم جمع. وقرأ أبو بكر وحماد " عشيرتكم " بالجمع. قال الأخفش لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات، وإنما يجمعونها على عشائر. وقرأ الحسن " عشيرتكم ". وقرأ الباقون "عشيرتكم" والاقتراف: الاكتساب، وأصله اقتطاع الشيء من مكانه، والتركيب يدور على الدنو، والكاسب يدني الشيء من نفسه ويدخله تحت ملكه، والتجارة الأمتعة التي يشترونها ليربحوا فيها، والكساد عدم النفاق لفوات وقت بيعها بالهجرة ومفارقة الأوطان. ومن غرائب التفسير ما روي عن ابن المبارك أنه قال: إن المراد بالتجارة في هذه الآية البنات والأخوات إذا كسدن في البيت لا يجدن لهن خاطباً، واستشهد لذلك بقول الشاعر: كسدن من الفقر في قومهن وقد زادهن مقامي كسادا وهذا البيت وإن كان فيه إطلاق الكساد على عدم وجود الخاطب لهن فليس فيه جواز إطلاق اسم التجارة عليهن، والمراد بالمساكن التي يرضونها: المنازل التي تعجبهم وتميل إليها أنفسهم ويرون الإقامة فيها أحب إليهم من المهاجرة إلى الله ورسوله، وأحب خبر كان: أي كانت هذه الأشياء المذكورة في الآية أحب إليكم من الله ورسوله ومن الجهاد في سبيل الله "فتربصوا" أي انتظروا "حتى يأتي الله بأمره" فيكم وما تقتضيه مشيئته من عقوبتكم، وقيل المراد بأمر الله سبحانه: القتال، وقيل فتح مكة وفيه بعد، فقد روي أن هذه السورة نزلت بعد الفتح. وفي هذا وعيد شديد ويؤكده إبهام الأمر وعدم التصريح به لتذهب أنفسهم كل مذهب وتتردد بين أنواع العقوبات "والله لا يهدي القوم الفاسقين" أي الخارجين عن طاعته، النافرين عن امتثال أوامره ونواهيه. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: أمروا بالهجرة فقال العباس بن عبد المطلب: أنا أسقي الحاج. وقال طلحة أخو بني عبد الدار: أنا أحجب الكعبة فلا نهاجر، فأنزلت: "لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في هذه الآية قال: هي الهجرة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة "اقترفتموها" قال: أصبتموها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "حتى يأتي الله بأمره" قال: بالفتح في أمره بالهجرة، هذا كله قبل فتح مكة. وأخرج البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر الجراح قصده ابنه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر" الآية، وهي تؤكد معنى هذه الآية، وقد تقدم بيان حكم الهجرة في سورة النساء.
المواطن جمع موطن، ومواطن الحرب: مقاماتها، والمواطن التي نصر الله المسلمين فيها هي يوم بدر وما بعد من المواطن التي نصر الله المسلمين على الكفار فيها قبل يوم حنين، 25- "ويوم حنين" معطوف على مواطن بتقدير مضاف: إما في الأول وتقديره في أيام مواطن، أو في الثاني وتقديره وموطن يوم حنين، لئلا يعطف الزمان على المكان. ورد بأنه لا استبعاد في عطف الزمان على المكان فلا يحتاج إلى تقدير، وقيل: إن يوم حنين منصور بفعل مقدر معطوف على "نصركم" أي ونصركم يوم حنين، ورجح هذا صاحب الكشاف، قال: وموجب ذلك أن قوله: "إذ أعجبتكم" بدل من يوم حنين، فلو جعلت ناصبة هذا الظاهر لم يصح، لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن، ولم يكونوا كثيراً في جميعها. ورد بأن العطف لا يجب فيه تشارك المتعاطفين في جميع ما ثبت للمعطوف، كما تقول: جاءني زيد وعمرو مع قومه، أو في ثيابه أو على فرسه، وقيل إن "إذ أعجبتكم كثرتكم" ليس ببدل من يوم حنين، بل منصوب بفعل مقدر: أي اذكروا إذ أعجبتكم كثرتكم، وحنين: واد بين مكة والطائف، وانصرف على أنه اسم للمكان، ومن العرب من يمنعه على أنه اسم للبقعة، ومنه قول الشاعر: نصروا نبيهم وشدوا أزره بحنين يوم تواكل الأبطال وإنما أعجب من أعجب من المسلمين بكثرتهم لأنهم كانوا إثني عشر ألفاً، وقيل: أحد عشر ألفاً، وقيل: ستة عشر ألفاً، فقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة، فوكلوا إلى هذه الكلمة فلم تغن الكثرة شيئاً عنهم، بل انهزموا وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت معه طائفة يسيرة منهم عمه العباس وأبو سفيان بن الحارث، ثم تراجع المسلمون فكان النصر والظفر. والإغناء: إعطاء ما يدفع الحاجة: أي لم تعطكم الكثرة شيئاً يدفع حاجتكم ولم تفدكم. قوله: "بما رحبت" الرحب بضم الراء: السعة، والرحب بفتح الراء: المكان الواسع، والباء بمعنى مع، وما مصدرية، ومحل الجار والمجرور النصب على الحال. والمعنى: أن الأرض مع كونها واسعة الأطراف ضاقت عليهم بسبب ما حل بهم من الخوف والوجل، وقيل إن الباء بمعنى على: أي على رحبها "ثم وليتم مدبرين" أي انهزمتم حال كونكم مدبرين: أي مولين أدباركم جاعلين لها إلى جهة عدوكم.
قوله: 26- "ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين": هم الذين لم ينهزموا، وقيل الذين انهزموا، والظاهر جميع من حضر منهم لأنهم ثبتوا بعد ذلك وقاتلوا وانتصروا. قوله: "وأنزل جنوداً لم تروها" هم الملائكة. وقد اختلف في عددهم على أقوال: قيل خمسة آلاف، وقيل ثمانية آلاف، وقيل ستة عشر ألفاً، وقيل غير ذلك، وهذا لا يعرف إلا من طريق النبوة. واختلفوا أيضاً هل قاتلت الملائكة في هذا اليوم أم لا؟ وقد تقدم أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر، وأنهم إنما حضروا في غير بدر لتقوية قلوب المؤمنين، وإدخال الرعب في قلوب المشركين "وعذب الذين كفروا" بما وقع عليهم من القتل والأسر وأخذ الأموال وسبي الذرية، والإشارة بقوله: "وذلك" إلى التعذيب المفهوم من عذب، وسمي ما حل بهم من العذاب في هذا اليوم جزاء مع أنه غير كاف بل لا بد من عذاب الآخرة مبالغة في وصف ما وقع عليهم وتعظيماً له.