تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 198 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 198

198- تفسير الصفحة رقم198 من المصحف
الآية: 69 {كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون}
قوله تعالى: "كالذين من قبلكم" قال الزجاج: الكاف في موضع نصب، أي وعد الله الكفار نار جهنم وعدا كما وعد الذين من قبلهم. وقيل: المعنى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، فحذف المضاف. وقيل: أي أنتم كالذين من قبلكم، فالكاف في محل رفع لأنه خبر ابتداء محذوف. ولم ينصرف "أشد" لأنه أفعل صفة. والأصل فيه أشدد، أي كانوا أشد منكم قوة فلم يتهيأ لهم ولا أمكنهم رفع عذاب الله عز وجل.
روى سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (تأخذون كما أخذت الأمم قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه). قال أبو هريرة: وإن شئتم فاقرؤوا القرآن: "كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم" قال أبو هريرة: والخلاق، الدين "فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم" حتى فرغ من الآية. قالوا: يا نبي الله، فما صنعت اليهود والنصارى؟ قال: (وما الناس إلا هم). وفي الصحيح عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: (فمن)؟ وقال ابن عباس: ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم. ونحوه عن ابن مسعود.
قوله تعالى: "فاستمتعوا بخلاقهم" أي انتفعوا بنصيبهم من الدين كما فعل الذين من قبلهم. "وخضتم" خروج من الغيبة إلى الخطاب. "كالذي خاضوا" أي كخوضهم. فالكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف، أي وخضتم خوضا كالذين خاضوا. و"الذي" اسم ناقص مثل من، يعبر به عن الواحد والجمع. وقد مضى في "البقرة" ويقال: خضت الماء أخوضه خوضا وخياضا. والموضع مخاضة، وهو ما جاز الناس فيها مشاة وركبانا. وجمعها المخاض والمخاوض أيضا، عن أبي زيد. وأخضت دابتي في الماء. وأخاض القوم، أي خاضت خيلهم. وخضت الغمرات: اقتحمتها. ويقال: خاضه بالسيف، أي حرك سيفه في المضروب. وخوض في نجيعه شدد للمبالغة. والمخوض للشراب كالمجدع للسويق، يقال منه: خضت، الشراب. وخاض القوم في الحديث وتخاوضوا أي تفاوضوا فيه، فالمعنى: خضتم في أسباب الدنيا باللهو واللعب. وقيل: في أمر محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب. "أولئك حبطت" بطلت. وقد تقدم. "أعمالهم" حسناتهم. "وأولئك هم الخاسرون" وقد تقدم أيضا.
الآية: 70 {ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}
قوله تعالى: "ألم يأتهم نبأ" أي خبر "الذين من قبلهم" الألف لمعنى التقرير والتحذير، أي ألم يسمعوا إهلاكنا الكفار من قبل. "قوم نوح وعاد وثمود" بدل من الذين. "وقوم إبراهيم" أي نمرود بن كنعان وقومه. "وأصحاب مدين" مدين اسم للبلد الذي كان فيه شعيب، أهلكوا بعذاب يوم الظلة. "والمؤتفكات" قيل: يراد به قوم لوط، لأن أرضهم ائتفكت بهم، أي انقلبت، قاله قتادة. وقيل: المؤتفكات كل من أهلك، كما يقال: انقلبت عليهم الدنيا. "أتتهم رسلهم بالبينات" يعني جميع الأنبياء. وقيل: أتت أصحاب المؤتفكات رسلهم، فعلى هذا رسولهم لوط وحده، ولكنه بعث في كل قرية رسولا، وكانت ثلاث قريات، وقيل أربع. وقوله تعالى في موضع آخر: "والمؤتفكة" [النجم: 53] على طريق الجنس. وقيل: أراد بالرسل الواحد، كقوله "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات" [المؤمنون: 51] ولم يكن في عصره غيره.
قلت: وهذا فيه نظر، للحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خاطب المؤمنين بما أمر به المرسلين) الحديث. وقد تقدم في "البقرة". والمراد جميع الرسل، والله أعلم.
قوله تعالى: "فما كان الله ليظلمهم" أي ليهلكهم حتى يبعث إليهم الأنبياء. "ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" ولكن ظلموا أنفسهم بعد قيام الحجة عليهم.
الآية: 71 {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم}
قوله تعالى: "بعضهم أولياء بعض" أي قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف. وقال في المنافقين "بعضهم من بعض" لأن قلوبهم مختلفة ولكن يقسم بعضهم إلى بعض في الحكم.
قوله تعالى: "يأمرون بالمعروف" أي بعبادة الله تعالى وتوحيده، وكل ما أتبع ذلك. "وينهون عن المنكر" عن عبادة الأوثان وكل ما أتبع ذلك. وذكر الطبري عن أبي العالية أنه قال: كل ما ذكر الله في القرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين. وقد مضى القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سورة "المائدة" و"آل عمران" والحمد لله.
قوله تعالى: "ويقيمون الصلاة" تقدم في أول "البقرة" القول فيه. وقال ابن عباس: هي الصلوات الخمس، وبحسب هذا تكون الزكاة هنا المفروضة. ابن عطية: والمدح عندي بالنوافل أبلغ؛ إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرائض.
قوله تعالى: "ويطيعون الله" في الفرائض "ورسوله" فيما سن لهم. والسين في قوله: "سيرحمهم الله" مدخلة في الوعد مهلة لتكون النفوس تتنعم برجائه؛ وفضله تعالى زعيم بالإنجاز.
الآية: 72 {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم}
قوله تعالى: "وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات" أي بساتين "تجري من تحتها الأنهار" أي من تحت أشجارها وغرفها الأنهار. وقد تقدم في "البقرة" أنها تجري منضبطة بالقدرة في غير أخدود. "خالدين فيها ومساكن طيبة" قصور من الزبرجد والدر والياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام. "في جنات عدن" أي في دار إقامة. يقال: عدن بالمكان إذا أقام به؛ ومنه المعدن. وقال عطاء الخراساني: "جنات عدن" هي قصبة الجنة، وسقفها عرش الرحمن جل وعز. وقال ابن مسعود: هي بطنان الجنة، أي وسطها. وقال الحسن: هي قصر من ذهب لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل؛ ونحوه عن الضحاك. وقال مقاتل والكلبي: عدن أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محفوفة بها، وهي مغطاة من يوم خلقها الله حتى ينزلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن يشاء الله. "ورضوان من الله أكبر" أي أكبر من ذلك. "ذلك هو الفوز العظيم".