تفسير الطبري تفسير الصفحة 198 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 198
199
197
 الآية : 69
القول في تأويل قوله تعالى: {كَالّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدّ مِنكُمْ قُوّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالّذِي خَاضُوَاْ أُوْلَـَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنْيَا وَالاَخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين الذين قالوا إنما كنا نخوض ونلعب: أبا لله وآيات كتابه ورسوله كنتم تستهزءون, كالذين من قبلكم من الأمم الذين فعلوا فعلكم فأهلكهم الله, وعجّل لهم في الدنيا الخزي مع ما أعدّ لهم من العقوبة والنكال في الاَخرة؟ يقول لهم جل ثناؤه: واحذروا أن يحلّ بكم من عقوبة الله مثل الذي حلّ بهم, فإنهم كانوا أشدّ منكم قوّة وبطشا, وأكثر منكم أموالاً وأولادا. فاسْتَمْتَعُوا بخَلاقِهِمْ يقول: فتمتعوا بنصيبهم وحظهم من دنياهم ودينهم, ورضوا بذلك من نصيبهم في الدنيا عوضا من نصيبهم في الاَخرة. وقد سلكتم أيها المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بخلاقكم, يقول: فعلتم بدينكم ودنياكم كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلكم الذين أهلكتهم بخلافهم أمري, بخلاقهم, يقول: كما فعل الذين من قبلكم بنصيبهم من دنياهم ودينهم, وخضتم في الكذب والباطل على الله كالذي خاضوا, يقول: وخضتم أنتم أيها المنافقون كخوض تلك الأمم قبلكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13233ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني أبو معشر, عن سعيد بن أبي سعيد المقبري, عن أبي هريرة, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, قال: «لَتَأْخُذُنّ كمَا أخَذَ الأُمَمُ مِنْ قَبْلِكُمْ, ذِرَاعا بِذِرَاعٍ, وَشِبْرا بِشِبْرٍ, وَباعا بِباعٍ حتى لَوْ أنّ أحَدا مِنْ أُولَئِكَ دَخَلَ جَحْرَ ضَبّ لَدَخَلْتُمُوهُ». قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم القرآن: كالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أشَدّ مِنْكُمْ قَوّةً وأكْثَرَ أمْوَالاً وأوَلادا فاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقهِمْ فاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كمَا اسْتَمْتَعَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كالّذِي خاضُوا قالوا: يا رسول الله, كما صنعت فارس والروم؟ قال: «فَهَلِ النّاسُ إلاّ هُمْ».
13234ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج عن عمر بن عطاء, عن عكرمة عن ابن عباس, قوله: كالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ.... الآية. قال: قال ابن عباس: ما أشبه الليلة بالبارحة كالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم, لا أعلم إلا أنه قال: والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم حُجْرَ ضبّ لدخلتموه
قال ابن جريج: وأخبرنا زياد بن سعد, عن محمد بن زيد بن مهاجر, عن سعيد بن أبي سعيد المقبري, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَالّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لَتَتّبِعُنّ سُنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرا بِشِبْرٍ, وَذِرَاعا بذِرَاعٍ, وَباعا بباعٍ حتى لَوْ دَخَلُوا حُجْرَ ضَبّ لَدَخَلْتُمُوهُ» قالوا: وَمن هم يا رسول الله, أهل الكتاب؟ قال: «فَمَهُ؟».
13235ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال أبو سعيد الخدريّ إنه قال: فمن.
13236ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: فاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ قال: بدينهم.
13237ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حِذْرَكُمْ أنْ تُحْدِثُوا في الإسْلامِ حَدَثا» وقد علم أنه سيفعل ذلك أقوام من هذه الأمة, فقال الله في ذلك: فاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كمَا اسْتَمْتَعَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كالّذِي خاضُوا وإنما حسبوا أن لا يقع بهم من الفتنة ما وقع ببني إسرائيل قبلهم, وإن الفتنة عائدة كما بدت.
وأما قوله: أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعمالُهُمْ فإن معناه: هؤلاء الذين قالوا إنما كنا نخوض ونلعب, وفعلوا في ذلك فعل الهالكين من الأمم قبلهم, حبطت أعمالهم يقول: ذهبت أعمالهم باطلاً, فلا ثواب لها إلا النار, لأنها كانت فيما يسخط الله ويكرهه. وأُولَئكَ هُمُ الخاسِرُونَ يقول: وأولئك هم المغبونون صفقتهم ببيعهم نعيم الاَخرة, بخلاقهم من الدنيا اليسير الزهيد.
الآية : 70
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـَكِن كَانُوَاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ألم يأت هؤلاء المنافقين الذين يسرّون الكفر بالله, وينهون عن الإيمان به وبرسوله نَبأُ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يقول: خبر الأمم الذين كانوا من قبلهم حين عصوا رسلنا, وخالفوا أمرنا ماذا حلّ بهم من عقوبتنا؟ ثم بين جلّ ثناؤه من أولئك الأمم التي قال لهؤلاء المنافقين ألم يأتهم نبؤهم, فقال: قَوْمُ نُوحٍ ولذلك خفض «القوم» لأنه ترجم بهن عن «الذين», و«الذين» في موضع خفض.
ومعنى الكلام: ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر قوم نوح وصنيعي بهم, إذ كذّبوا رسولي نوحا وخالفوا أمري, ألم أغرقهم بالطوفان؟ وعادٍ يقول: وخبر عاد إذ عصوا رسولي هودا, ألم أهلكهم بريح صرصر عاتية؟ وخبر ثمود إذ عصوا رسولي صالحا, ألم أهلكهم بالرجفة, فأتركهم بأفنيتهم خمودا؟ وخبر قوم إبراهيم إذ عصوه, وردّوا عليه ما جاءهم به من عند الله من الحقّ, ألم أسلبهم النعمة وأهلك ملكهم نمروذ؟ وخبر أصحاب مدين بن إبراهيم, ألم أهلكهم بعذاب يوم الظلة, إذ كذّبوا رسولي شعيبا؟ وخبر المنقلبة بهم أرضهم, فصار أعلاها أسفلها, إذ عصوا رسولي لوطا وكذّبوا ما جاءهم به من عندي من الحقّ. يقول تعالى ذكره: أفأمن هؤلاء المنافقون الذين يستهزءون بالله وبآياته ورسوله, أن يسلك بهم في الانتقام منهم وتعجيل الخزي والنكال لهم في الدنيا سبيل أسلافهم من الأمم, ويحلّ بهم بتكذيبهم رسولي محمدا صلى الله عليه وسلم ما حلّ بهم في تكذيبهم رسلنا, إذ أتتهم بالبينات.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13238ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَالمُؤْتَفِكاتِ قال: قوم لوط انقلبت بهم أرضهم, فجعل عاليها سافلها.
13239ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَالمُؤْتَفِكاتِ قال: هم قوم لوط.
فإن قال قائل: فإن كان عني بالمؤتفكات قوم لوط, فكيف قيل: المؤتفكات, فجمعت ولم توحد؟ قيل: إنها كانت قريات ثلاثا, فجمعت لذلك, ولذلك جمعت بالتاء على قول الله: والمؤتفِكةَ أهْوَى.
فإن قال: وكيف قيل: أتتهم رسلهم بالبينات, وإنما كان المرسل إليهم واحدا؟ قيل: معنى ذلك: أتى كل قرية من المؤتفكات رسول يدعوهم إلى الله, فتكون رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم إليهم للدعاء إلى الله عن رسالته رسلاً إليهم, كما قالت العرب لقوم نسبوا إلى أبي فديك الخارجي الفديكات وأبو فديك واحد, ولكن أصحابه لما نسبوا إليه وهو رئيسهم دعوا بذلك ونسبوا إلى رئيسهم فكذلك قوله: أتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبَيّناتِ. وقد يحتمل أن يقال: معنى ذلك: أتت قوم نوح وعاد وثمود وسائر الأمم الذين ذكرهم الله في هذه الآية رسلهم من الله بالبينات.
وقوله: فَمَا كانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ يقول جلّ ثناؤه: فما أهلك الله هذه الأمم التي ذكر أنه أهلكها إلا بإجرامها وظلمها أنفسها واستحقاقها من الله عظيم العقاب, لا ظلما من الله لهم ولا وضعا منه جلّ ثناؤه عقوبة في غير من هو لها أهل لأن الله حكيم, لا خلل في تدبيره ولا خطأ في تقديره, ولكن القوم الذين أهلكهم ظلموا أنفسهم بمعصية الله وتكذيبهم رسله حتى أسخطوا عليهم ربهم فحق عليهم كلمة العذاب فعذّبوا.
الآية : 71
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: وأما المؤمنون والمؤمنات, وهم المصدّقون بالله ورسوله وآيات كتابه, فإن صفتهم أن بعضهم أنصار بعض وأعوانهم. يَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ يقول: يأمرون الناس بالإيمان بالله ورسوله, وبما جاء به من عند الله. وَيُقيِمُونَ الصّلاةَ يقول: ويؤدّون الصلاةَ المفروضة. وَيُؤْتُونَ الزّكاةَ يقول: ويعطون الزكاة المفروضة أهلها. وَيُطيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ فيأتمرون لأمر الله ورسوله وينتهون عما نهيناهم عنه. أُولَئِكَ سَيرْحَمُهُمُ اللّهُ يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم الذين سيرحمهم الله, فينقذهم من عذابه ويدخلهم جنته, لا أهل النفاق والتكذيب بالله ورسوله, الناهون عن المعروف, الاَمرون بالمنكر, القابضون أيديهم عن أداء حقّ الله من أموالهم. إنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يقول: إن الله ذو عزّة في انتقامه ممن انتقم من خلقه على معصيته وكفره به, لا يمنعه من الانتقام منه مانع ولا ينصره منه ناصر, حكيم في انتقامه منهم في جميع أفعاله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13240ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية, قال: كلّ ما ذكره الله في القرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فالأمر بالمعروف: دعاء من الشرك إلى الإسلام, والنهي عن المنكر: النهي عن عبادة الأوثان والشياطين.
13241ـ قال: حدثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: يُقِيمُونَ الصّلاةَ قال: الصلوات الخمس.
الآية : 72
القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }.
يقول تعالى ذكره: وعد الله الذين صدقوا الله ورسوله وأقرّوا به وبما جاء به من عند الله من الرجال والنساء جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهَارُ يقول: بساتين تجري تحت أشجارها الأنهار, خالِدِينَ فِيها يقول: لابثين فيها أبدا مقيمين لا يزول عنهم نعيمها. ولا يبيد. وَمَساكِنَ طَيّبَةً يقول: ومنازل يسكنونها طيبة.
و«طيبها», أنها فيما ذُكر لنا كما:
13242ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا إسحاق بن سليمان, عن الحسن, قال: سألت عمران بن حصين وأبا هريرة عن آية في كتاب الله تبارك وتعالى: وَمَساكِنَ طَيّبَةٍ في جَنّاتٍ عَدْنٍ فقالا: على الخبير سقطت, سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «قَصْرٌ فِي الجَنّةِ مِنْ لُؤْلُؤٍ, فِيهِ سَبْعُونَ دَارا مِنْ ياقُوتَةٍ حَمْرَاءَ, في كُلّ دارٍ سَبْعُونَ بَيْنا مِنْ زُمُرّدَةٍ خَضْرَاءَ, في كُلّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيرا».
13243ـ حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري, قال: حدثنا قرة بن حبيب, عن حسن بن فرقد, عن الحسن, عن عمران بن حصين وأبي هريرة, قالا: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: وَمَساكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ قال: «قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ, فِي ذلكَ القَصْرِ سَبْعُونَ دَارا مِنْ ياقُوتَةٍ حَمْرَاءَ, فِي كُلّ دَارٍ سَبْعُونَ بَيْتا مِنْ زَبَرْجَدَة خَضْرَاءَ, في كُلّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيرا, على كُلّ سَرِيرٍ فِرَاشا مِنْ كُلّ لَوْنٍ, على كُلّ فِرَاشٍ زَوْجَةٌ مِنَ الحُورِ العِينِ, في كُلّ بَيْتٍ سَبْعُونَ مائِدَةً, على كُلّ مائِدَةٍ سَبْعُونَ لَوْنا مِنْ طَعامٍ, في كُلّ بَيْتٍ سَبْعُونَ وَصِيفَةً وَيُعْطَى المُؤْمِنُ مِنَ القُوّةِ في غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ ما يَأتي على ذلكَ كُلّه أجْمَعُ».
وأما قوله: فِي جَنّاتِ عَدْنٍ فإنه يعني: وهذه المساكن الطيبة التي وصفها جلّ ثناؤه في جنات عدن وفي من صلة مساكن. وقيل: جنات عدن, لأنها بساتين خلد وإقامة لا يظعن منها أحد. وقيل: إنما قيل لها جنات عدن, لأنها دار الله التي استخلصها لنفسه ولمن شاء من خلقه, من قول العرب: عدن فلان بأرض كذا, إذا أقام بها وخلد بها, ومنه المعدن, ويقال: هو في معدن صدق, يعني به أنه في أصل ثابت وقد أنشد بعض الرواة بيت الأعشى:
وَإنْ تَسْتَضِيفُوا إلى حُكْمِهِتُضَافُوا إلى رَاجِحٍ قَدْ عَدَنْ
وينشد: «قد وزن».
وكالذي قلنا في ذلك, كان ابن عباس وجماعة معه فيما ذكر يتأوّلونه.
13244ـ حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد, قال: حدثنا عتاب بن بشير, عن خصيف, عن عكرمة, عن ابن عباس: جَنّاتِ عَدْنِ قال: معدن الرجل الذي يكون فيه.
13245ـ حدثنا محمد بن سهل بن عسكر, قال: حدثنا ابن أبي مريم, قال: حدثنا الكندي, سعد عن زيادة بن محمد, عن محمد بن كعب القرظي, عن فضالة بن عبيد, عن أبي الدرداء, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّهَ يَفْتَحُ الذّكْرَ ثَلاثِ ساعاتٍ يَبْقَيْنَ مِنَ اللّيْلِ: في السّاعَةِ الأُولى مِنْهُنّ يَنْظُرُ فِي الكِتَابِ الّذِي لا يَنْظُرُ فِيهِ أحَدٌ غيرُهُ فَيَمْحُو ما يَشاءُ ويُثْبِتُ, ثُمّ يَنْزِلُ في السّاعَةِ الثّانِيَةِ إلى جَنّةِ عَدْنِ, وَهيَ دَارُهُ التي لَمْ تَرَها عَيْنٌ ولَمْ تَخْطُرْ على قَلْبِ بَشَرٍ, وَهِيَ مَسْكَنُهُ, وَلا يَسْكُنُ مَعُهُ مِنْ بَنِي آدَمِ غيرَ ثلاثَة: النّبِيّينَ وَالصّدّيقينَ والشّهَدَاءِ, ثُمّ يَقُولُ: طُوبَى لِمَنْ دَخَلَكِ» وَذَكَرَ فِي السّاعَةِ الثّالِثَةِ.
حدثني موسى بن سهل, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا الليث بن سعد, قال: حدثنا زيادة بن محمد, عن محمد بن كعب القرظي, عن فضالة بن عبيد, عن أبي الدرداء, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَدْنٌ دارُهُ» يعني دار الله «التي لم ترها عَيْنٌ ولم تَخْطُرْ على قَلْبٍ بَشَرٍ, وهي مَسْكَنُهُ, ولا يسكنها معه من بني آدم غَيْرُ ثلاثٍ: النبيين, والصدّيقين, والشهداء, يقول الله تبارك وتعالى: طُوبَى لمن دَخَلَكَ».
وقال آخرون: معنى جَنّاتِ عَدْنٍ: جنات أعناب كروم. ذكر من قال ذلك:
13246ـ حدثني أحمد بن أبي سريج الرازي, قال: حدثنا زكريا بن عديّ, قال: حدثنا عبيد الله بن عمرو, عن زيد ابن أبي أنيسة, عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحرث, أن ابن عباس سأل كَعَبا عن جنات عدن, فقال: هي الكروم والأعناب بالسريانية.
وقال آخرون: هي اسم لُبْطَنان الجنة ووسطها. ذكر من قال ذلك:
13247ـ حدثنا حميد بن مسعدة, قال: حدثنا بشر بن المفضل, قال: حدثنا شعبة, عن سليمان الأعمش, عن عبد الله بن مرّة, عن مسروق, عن عبد الله, قال: عدن: بُطْنان الجنة.
13248ـ حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى, قالا: حدثنا يحيى بن سعيد, عن سفيان وشعبة, عن الأعمش, عن عبد الله بن مرة, عن مسروق, عن عبد الله, في قوله: جَنّاتِ عَدْنٍ قال: بُطْنان الجنة. قال ابن بشار في حديثه: فقلت: ما بطنانها؟ وقال ابن المثنى, في حديثه: فقلت للأعمش: ما بطنان الجنة؟ قال: وسطها.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن عبد الله بن مرة وأبي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله: جَنّاتِ عَدْنٍ قال: بُطْنان الجنة.
قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا شعبة, عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله, بمثله.
حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا ابن أبي عدّي, عن شعبة, عن سليمان, عن عبد الله بن مرة, عن مسروق, عن عبد الله, مثله.
حدثنا أحمد بن أبي سريج, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي الضحى وعبد الله بن مرّة عنهما جميعا, أو عن أحدهما, عن مسروق, عن عبد الله: جَنّاتِ عَدْنٍ قال: بُطْنان الجنة.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله بن مسعود في قول الله: جَنّاتِ عَدْنٍ قال: بُطْنان الجنة.
وقال آخرون: عدن: اسم لقصر. ذكر من قال ذلك:
13249ـ حدثني عليّ بن سعيد الكندي, قال: حدثنا عبدة أبو غسان, عن عون بن موسى الكناني, عن الحسن, قال: جنات عدن, وما أدراك ما جنات عدن قصر من ذهب لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق أو شهيد أو حكم عدل. ورفع به صوته.
حدثنا أحمد بن أبي سريج, قال: حدثنا عبد الله بن عاصم, قال: حدثنا عون بن موسى, قال: سمعت الحسن بن أبي الحسن, يقول: جنات عدن, وما أدراك ما جنات عدن قصر من ذهب, لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق, أو شهيد, أو حكم عدل ورفع الحسن به صوته.
13250ـ حدثنا أحمد, قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا حماد بن سلمة, عن يعلى بن عطاء, عن نافع بن عاصم, عن عبد الله بن عمرو, قال: إن في الجنة قصرا يقال له: عدن, حوله البروج والروح, له خمسون ألف باب على كل باب حِبَرَة, لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق.
حدثنا الحسن بن ناجح, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن يعلى بن عطاء, قال: سمعت يعقوب بن عاصم يحدّث, عن عبد الله بن عمرو: أن في الجنة قصرا يقال له عدن, له خمسة آلاف باب, على كل باب خمسة آلاف حِبَرَة, لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق أو شهيد.
وقيل: هي مدينة الجنة. ذكر من قال ذلك:
13251ـ حُدثت عن عبد الرحمن المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: في جَنّاتِ عَدْنٍ قال: هي مدينة الجنة, فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى, والناس حولهم بعد, والجنات حولها.
وقيل: إنه اسم نهر. ذكر من قال ذلك:
13252ـ حُدثت عن المحاربي, عن واصل بن السائب الرقاشي, عن عطاء, قال: عدن: نهر في الجنة, جناته على حافتيه.
وأما قوله: وَرِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أكْبَرُ فإن معناه ورضا الله عنهم أكبر من ذلك كله, وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
13253ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن مالك بن أنس, عن زيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيد الخدريّ, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الجَنّةِ: يا أهْلَ الجَنّةِ فَيَقُولُونَ: لَبّيْكَ رَبّنا وَسَعْدَيْكَ فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولونَ: ومَا لَنا لا نَرْضَى وَقَدْ أعْطَيْتَنَا ما لَمْ تُعْطِ أحَدا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقول أنا أعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذلكَ قالُوا: يا رَبّ وأيّ شَيْ أفْضَلُ مِنْ ذلكَ؟ قال: أُحِلّ عَلَيْكُمْ رِضْوَاني فَلا أسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أبَدا».
13254ـ حدثنا ابن حميد, قال: ثني يعقوب, عن حفص, عن شمر, قال: يجيء القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاحب إلى الرجل, حين ينشقّ عنه قبره, فيقول: أبشر بكرامة الله, أبشر برضوان الله فيقول مثلك من يبشر بالخير ومن أنت؟ فيقول: أنا القرآن الذي كنت أسْهِر ليلك, وأظمىء نهارك. فيحمله على رقبته, حتى يوافى به ربه, فيمثل بين يديه, فيقول: يا ربّ عبدك هذا اجزه عني خيرا, فقد كنت أسهر ليله, وأظمىء نهاره, وآمره فيطيعني, وأنهاه فيطيعني فيقول الربّ تبارك وتعالى: فله حلة الكرامة فيقول: أي ربّ زده, فإنه أهل ذلك فيقول: فله رضواني قال: ورضوان من الله أكبر.
وابتدىء الخبر عن رضوان الله للمؤمنين والمؤمنات أنه أكبر من كلّ ما ذكر جلّ ثناؤه, فرفع, وإن كان الرضوان فيما قد وعدهم, ولم يعطف به في الإعراب على الجنات والمساكن الطيبة, ليعلم بذلك تفضيل الله رضوانه عن المؤمنين على سائر ما قسم لهم من فضله وأعطاهم من كرامته, نظير قول القائل في الكلام الاَخر أعطيتك ووصلتك بكذا, وأكرمتك, ورضاي بعد عنك أفضل ذلك.
ذلكَ هُوَ الفَوُزُ العَظِيمُ هذه الأشياء التي وعدت المؤمنين والمؤمنات, هو الفوز العظيم, يقول: هو الظفر العظيم والنجاء الجسيم, لأنهم ظفروا بكرامة الأبد, ونجوا من الهوان في السفر, فهو الفوز العظيم الذي لا شيء أعظم منه