تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 211 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 211

211- تفسير الصفحة رقم211 من المصحف
الآية: 21 {وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون}
يريد كفار مكة. "رحمة من بعد ضراء مستهم" قيل: رخاء بعد شدة، وخصب بعد جدب. "إذا لهم مكر في آياتنا" أي استهزاء وتكذيب. وجواب قوله: "وإذا أذقنا": "إذا لهم" على قول الخليل وسيبويه. "قل الله أسرع مكرا" ابتداء وخبر. "مكرا" على البيان؛ أي أعجل عقوبة على جزاء مكرهم، أي أن ما يأتيهم من العذاب أسرع في إهلاكهم مما أتوه من المكر. "إن رسلنا يكتبون ما تمكرون" يعني بالرسل الحفظة. وقراءة العامة "تمكرون" بالتاء خطابا. وقرأ يعقوب في رواية رويس وأبو عمرو في رواية هارون العتكي "يمكرون" بالياء؛ لقول: "إذا لهم مكر في آياتنا" قيل: قال أبو سفيان قحطنا بل بدعائك فان سقيتنا صدقناك؛ فسقوا باستسقائه صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا، فهذا مكرهم.
الآيتان: 22 - 23 {هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين، فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون}
قوله تعالى: "هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم" أي يحملكم في البر على الدواب وفي البحر على الفلك. وقال الكلبي: يحفظكم في السير. والآية تتضمن تعديد النعم فيما هي الحال بسبيله من ركوب الناس الدواب والبحر. وقد مضى الكلام في ركوب البحر في "البقرة". "يسيركم" قراءة العامة. ابن عامر "ينشركم" بالنون والشين، أي يبثكم ويفرقكم. والفلك يقع على الواحد والجمع، ويذكر ويؤنث، وقد تقدم القول فيه. وقوله: "وجربن بهم" خروج من الخطاب إلى الغيبة، وهو في القرآن وأشعار العرب كثير؛ قال النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأمد
قال ابن الأنباري: وجائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب؛ قال الله تعالى: "وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا" [الإنسان: 21 - 22] فأبدل الكاف من الهاء.
قوله تعالى "بريح طيبة وفرحوا بها" تقدم الكلام فيها في البقرة. "جاءتها ريح عاصف" الضمير في "جاءتها" للسفينة. وقيل للريح الطيبة. والعاصف الشديدة؛ يقال: عصفت الريح وأعصفت، فهي عاصف ومعصف ومعصفة أي شديدة، قال الشاعر:
حتى إذا أعصفت ريح مزعزعة فيها قطار ورعد صوته زجل
وقال "عاصف" بالتذكير لأن لفظ الريح مذكر، وهي القاصف أيضا. والطيبة غير عاصف ولا بطيئة. "وجاءهم الموج من كل مكان" والموج ما ارتفع من الماء "وظنوا" أي أيقنوا "أنهم أحيط بهم" أي أحاط بهم البلاء؛ يقال لمن وقع في بلية: قد أحيط به، كأن البلاء قد أحاط به؛ وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بموضع فقد هلك أهله. "دعوا الله مخلصين له الدين" أي دعوه وحده وتركوا ما كانوا يعبدون. وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد، وأن المضطر يجاب دعاؤه، وإن كان كافرا؛ لانقطاع الأسباب ورجوعه إلى الواحد رب الأرباب؛ على ما يأتي بيانه في "النمل" إن شاء الله تعالى. وقال بعض المفسرين: إنهم قالوا في دعائهم أهيا شراهيا؛ أي يا حي يا قيوم. وهي لغة العجم.
مسألة: هذه الآية تدل على ركوب البحر مطلقا، ومن السنة حديث أبي هريرة وفيه: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء... الحديث. وحديث أنس في قصة أم حرام يدل على جواز ركوبه في الغزو، وقد مضى هذا المعنى في "البقرة" مستوفى والحمد لله. وقد تعدم في آخر "الأعراف" حكم راكب البحر في حال ارتجاجه وغليانه، هل حكمه حكم الصحيح أو المريض المحجور عليه؛ فتأمله هناك.
قوله تعالى: "لئن أنجيتنا من هذه" أي هذه الشدائد والأهوال. وقال الكلبي: من هذه الريح. "لنكونن من الشاكرين" أي من العاملين بطاعتك على نعمة الخلاص. "فلما أنجاهم" أي خلصهم وأنقذهم.. "إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق" أي يعملون في الأرض بالفساد وبالمعاصي. والبغي: الفساد والشرك؛ من بغى الجرح إذا فسد؛ وأصله الطلب، أي يطلبون الاستعلاء بالفساد. "بغير الحق" أي بالتكذيب؛ ومنه بغت المرأة طلبت غير زوجها.
قوله تعالى: "يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم" أي وباله عائد عليكم؛ وتم الكلام، ثم ابتدأ فقال: "متاع الحياة الدنيا ثم إلي مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون" أي هو متاع الحياة الدنيا؛ ولا بقاء له. قال النحاس: "بغيكم" رفع بالابتداء وخبره "متاع الحياة الدنيا". و"على أنفسكم" مفعول معنى فعل البغي. ويجوز أن يكون خبره "على أنفسكم" وتضمر مبتدأ، أي ذلك متاع الحياة الدنيا، أو هو متاع الحياة الدنيا؛ وبين المعنيين حرف لطيف، إذا رفعت متاعا على أنه خبر "بغيكم" فالمعنى. إنما بغي بعضكم على بعض؛ مثل: "فسلموا على أنفسكم" [النور: 61] وكذا "لقد جاءكم رسول من أنفسكم" [التوبة: 128]. وإذا كان الخبر "على أنفسكم" فالمعنى إنما فسادكم راجع عليكم؛ مثل "وإن أسأتم فلها". وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال: أراد أن البغي متاع الحياة الدنيا، أي عقوبته تعجل لصاحبه في الدنيا؛ كما يقال: البغي مصرعة. وقرأ ابن أبي إسحاق "متاع" بالنصب على أنه مصدر؛ أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا. أو ينزع الخافض، أي لمتاع، أو مصدر، بمعنى المفعول على الحال، أي متمتعين. أو هو نصب على الظرف، أي في متاع الحياة الدنيا، ومتعلق الظرف والجار والحال معنى الفعل في البغي. و"على أنفسكم" مفعول ذلك المعنى.
الآية: 24 {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون}
قوله تعالى: "إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء" معنى الآية التشبيه والتمثيل، أي صفة الحياة الدنيا في فنائها وزوالها وقلة خطرها والملاذ بها كماء؛ أي مثل ماء، فالكاف في موضع رفع. وسيأتي لهذا التشبيه مزيد بيان في "الكهف" إن شاء الله تعالى. "أنزلناه من السماء" نعت لـ "ماء". "فاختلط" روي عن نافع أنه وقف على "فاختلط" أي فاختلط الماء بالأرض، "به نبات الأرض" أي بالماء نبات الأرض؛ فأخرجت ألوانا من النبات، فنبات على هذا ابتداء، وعلى مذهب من لم يقف على "فاختلط" مرفوع باختلط؛ أي اختلط النبات بالمطر، أي شرب منه فتندى وحسن وأخضر. والاختلاط تداخل الشيء بعضه في بعض.
قوله تعالى: "مما يأكل الناس" من الحبوب والثمار والبقول. "والأنعام" من الكلأ والتبن والشعير. "حتى إذا أخذت الأرض زخرفها" أي حسنها وزينتها. والزخرف كمال حسن الشيء؛ ومنه قيل للذهب: زخرف. "وازينت" أي بالحبوب والثمار والأزهار؛ والأصل تزينت أدغمت التاء في الزاي وجيء بألف الوصل؛ لأن الحرف المدغم مقام حرفين الأول منهما ساكن والساكن لا يمكن الابتداء به. وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب "وتزينت" على الأصل. وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية "وازينت" أي أتت بالزينة عليها، أي الغلة والزرع، وجاء بالفعل على أصله ولو أعله لقال وازانت. وقال عوف بن أبي جميلة الأعرابي: قرأ أشياخنا "وازيانت" وزنه اسوادت. وفي رواية المقدمي "وازاينت" والأصل فيه تزاينت، وزنه تقاعست ثم أدغم. وقرأ الشعبي وقتادة "وازيانت" مثل أفعلت. وقرأ عثمان النهدي "وازينت" مثل أفعلت، وعنه أيضا "وازيانت مثل أفعالت، وروى عنه "ازيأنت" بالهمزة؛ ثلاث قراءات.
قوله تعالى: "وظن أهلها" أي أيقن. "أنهم قادرون عليها" أي على حصادها والانتفاع بها؛ أخبر عن الأرض والمعنى النبات إذ كان مفهوما وهو منها. وقيل: رد إلى الغلة، وقيل: إلى الزينة. "أتاها أمرنا" أي عذابنا، أو أمرنا بهلاكها. "ليلا أو نهارا" ظرفان. "فجعلناها حصيدا" مفعولان، أي محصودة مقطوعة لا شيء فيها. وقال "حصيدا" ولم يؤنث لأنه فعيل بمعنى مفعول. قال أبو عبيد: الحصيد المستأصل. "كأن لم تغن بالأمس" أي لم تكن عامرة؛ من غني إذا أقام فيه وعمره. والمغاني في اللغة: المنازل التي يعمرها الناس. وقال قتادة: كأن لم تنعم. قال لبيد:
وغنيت سبتا قبل مجرى داحس لو كان للنفس اللجوج خلود
وقراءة العامة "تغن" بالتاء لتأنيث الأرض. وقرأ قتادة "يغن" بالياء، يذهب به إلى الزخرف؛ يعني فكما يهلك هذا الزرع هكذا كذلك الدنيا. "نفصل الآيات" أي نبينها. "لقوم يتفكرون" في آيات الله.
الآية: 25 {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}
قوله تعالى: "والله يدعو إلى دار السلام" لما ذكر وصف هذه الدار وهي دار الدنيا وصف الآخرة فقال: إن الله لا يدعوكم إلى جمع الدنيا بل يدعوكم إلى الطاعة لتصيروا إلى دار السلام، أي إلى الجنة. قال قتادة والحسن: السلام هو الله، وداره الجنة؛ وسميت الجنة دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات. ومن أسمائه سبحانه "السلام"، وقد بيناه في (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى). ويأتي في سورة "الحشر" إن شاء الله. وقيل: المعنى والله يدعو إلى دار السلامة. والسلام والسلامة بمعنى كالرضاع والرضاعة؛ قاله الزجاج. قال الشاعر:
تحيي بالسلامة أم بكر وهل لك بعد قومك من سلام
وقيل: أراد والله يدعو إلى دار التحية؛ لأن أهلها ينالون من الله التحية والسلام، وكذلك من الملائكة. قال الحسن: إن السلام لا ينقطع، عن أهل الجنة، وهو تحيتهم؛ كما قال: "وتحيتهم فيها سلام" [يونس: 10]. وقال يحيى بن معاذ: يا ابن آدم، دعاك الله إلى دار السلام فانظر من أين تجيبه، فإن أجبته من دنياك دخلتها، وإن أجبته من قبرك منعتها. وقال ابن عباس: الجنان سبع: دار الجلال، ودار السلام، وجنة عدن، وجنة المأوى، وجنة الخلد، وجنة الفردوس، وجنة النعيم.
قوله تعالى: "ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" عم بالدعوة إظهارا لحجته، وخص بالهداية استغناء عن خلقه. والصراط المستقيم، قيل: كتاب الله؛ رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الصراط المستقيم كتاب الله تعالى). وقيل: الإسلام؛ رواه النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: الحق؛ قاله قتادة ومجاهد. وقيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وروى جابر بن عبدالله قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: (رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا فقال له اسمع سمعت أذناك واعقل عقل قلبك وإنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول فمن أجابك دخل في الإسلام ومن دخل في الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل مما فيها) ثم تلا يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم (ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم". ثم تلا قتادة ومجاهد: "والله يدعو إلى دار السلام". وهذه الآية بينة الحجة في الرد على القدرية؛ لأنهم قالوا: هدى الله الخلق كلهم إلى صراط مستقيم، والله قال: "ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" فردوا على الله نصوص القرآن.