تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 211 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 211

210

قوله: 21- "وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا" لما بين سبحانه في الآية المتقدمة أنهم طلبوا آية عناداً ومكراً ولجاجاً، وأكد ذلك بما ذكره هنا من أنه سبحانه إذا أذاقهم رحمة منه من بعد أن مستهم الضراء فعلوا مقابل هذه النعمة العظيمة المكر منهم في آيات الله، والمراد بإذاقتهم رحمته سبحانه أنه وسع عليهم في الأرزاق، وأدر عليهم النعم بالمطر وصلاح الثمار بعد أن مستهم الضراء بالجدب وضيق المعايش، فما شكروا نعمته ولا قدروها حق قدرها، بل أضافوها إلى أصنامهم التي لا تنفع ولا تضر، وطعنوا في آيات الله واحتالوا في دفعها بكل حيلة، وهو معنى المكر فيها. وإذا الأولى شرطية، وجوابها إذا لهم مكر، وهي فجائية، ذكر معنى ذلك الخليل وسيبويه. ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عنهم فقال: "قل الله أسرع مكراً" أي أعجل عقوبة، وقد دل أفعل التفضيل على أن مكرهم كان سريعاً، ولكن مكر الله أسرع منه. وإذا الفجائية يستفاد منها السرعة، لأن المعنى أنهم فاجئوا المكر: أي أوقعوه على جهة الفجاءة والسرعة، وتسمية عقوبة الله سبحانه مكراً من باب المشاكلة كما قرر في مواطن من عبارات الكتاب العزيز: "إن رسلنا يكتبون ما تمكرون". قرأ يعقوب في رواية وأبو عمرو في رواية "يمكرون" بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية. والمعنى: أن رسل الله وهم الملائكة يكتبون مكر الكفار لا يخفى ذلك على الملائكة الذين هم الحفظة، فكيف يخفى على العليم الخبير؟ وفي هذا وعيد لهم شديد، وهذه الجملة تعليلية للجملة التي قبلها، فإن مكرهم إذا كان ظاهراً لا يخفى، فعقوبة الله كائنة لا محالة، ومعنى هذه الآية قريب من معنى الآية المتقدمة وهي "وإذا مس الإنسان ضر" وفي هذه زيادة، وهي أنهم لا يقتصرون على مجرد الإعراض، بل يطلبون الغوائل لآيات الله بما يدبرونه من المكر.
22- " هو الذي يسيركم في البر والبحر " ضرب سبحانه لهؤلاء مثلاً حتى ينكشف المراد انكشافاً تاماً، ومعنى تسييرهم في البر أنهم يمشون على أقدامهم التي خلقها لهم لينتفعوا بها ويركبون ما خلقه الله لركوبهم من الدواب، ومعنى تسييرهم في البحر: أنه ألهمهم لعمل السفائن التي يركبون فيها في لجج البحر ويسر ذلك لهم ودفع عنهم أسباب الهلاك. وقد قرأ ابن عامر وهو الذي ينشركم في البحر بالنون والشين المعجمة من النشر كما في قوله: "فانتشروا في الأرض" أي ينشرهم سبحانه في البحر فينجي من يشاء ويغرق من يشاء "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم" الفلك يقع على الواحد والجمع ويذكر ويؤنث، وقد تقدم تحقيقه "وجرين" أي السفن بهم: أي بالراكبين عليها، وحتى لانتهاء الغاية والغاية مضمون الجملة الشرطية بكمالها، فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة: أولها: الكون في الفلك، والثاني: جريها بهم بالريح الطيبة التي ليست بعاصفة، وثالثها: فرحهم. والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة: الأول "جاءتها" أي لجاءت الفلك ريح عاصف أو جاءت الريح الطيبة: أي تلقتها ريح عاصف، والعصوف شدة هبوب الريح، والثاني "وجاءهم الموج من كل مكان" أي من جميع الجوانب للفلك والمراد جاء الراكبين فيها، والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر، والثالث "ظنوا أنهم أحيط بهم" أي غلب على ظنونهم الهلاك، وأصله من إحاطة العدو بقوم أو ببلد، فجعل هذه الإحاطة مثلاً في الهلاك وإن كان بغير العدو كما هنا، وجواب إذا في قوله: "إذا كنتم في الفلك" قوله: "جاءتها" إلى آخره ويكون قوله: "دعوا الله" بدلاً من ظنوا لكون هذا الدعاء الواقع منهم إنما كان عند ظن الهلاك وهو الباعث عليه، فكان بدلاً منه بدل اشتمال لاشتماله عليه، ويمكن أن يكون جملة دعوا مستأنفة كأنه قيل: ماذا صنعوا؟ فقيل: دعوا الله، وفي قوله: "وجرين بهم" التفات من الخطاب إلى الغيبة، جعل الفائدة فيه صاحب الكشاف المبالغة. وقال الرازي: الانتقال من مقام الخطاب إلى مقام الغيبة في هذا المقام دليل المقت والتبعيد كما أن عكس ذلك في قوله: "إياك نعبد" دليل الرضا والتقريب، وانتصاب مخلصين على الحال: أي لم يشوبوا دعاءهم بشيء من الشوائب، كما جرت عادتهم في غير هذا الموطن أنهم يشركون أصنامهم في الدعاء، وليس هذا لأجل الإيمان بالله وحده، بل لأجل أن ينجيهم مما شارفوه من الهلاك لعلمهم أنه لا ينجيهم سوى الله سبحانه. وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد، وأن المضطر يجاب دعاؤه وإن كان كافراً. وفي هذه الآية بيان أن هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون إلى أصنامهم في هذه الحالة وما يشابهها، فيا عجباً لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات؟ فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ولم يخلصوا الدعاء لله كما فعله المشركون كما تواتر ذلك إلينا تواتراً يحصل به القطع، فانظر هداك الله ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية وأين وصل بها أهلها، وإلى أين رمى بهم الشيطان، وكيف اقتادهم وتسلط عليهم؟ حتى انقادوا له انقياداً ما كان يطمع في مثله ولا في بعضه من عباد الأوثان، فإنا لله وإنا إليه راجعون، واللام في "لئن أنجيتنا من هذه" هي اللام الموطئة للقسم: أي قائلين ذلك، والإشارة بقوله: "من هذه" إلى ما وقعوا فيه من مشارفة الهلاك في البحر، واللام في "لنكونن" جواب القسم: أي لنكونن في كل حال ممن يشكر نعمك التي أنعمت بها علينا، منها هذه النعمة التي نحن بصدد سؤالك أن تفرجها عنا وتنجينا منها، وقيل: إن هذه الجملة مفعول دعوا.
23- "فلما نجاهم" الله من هذه المحنة التي وقعوا فيها، وأجاب دعاءهم لم يفوا بما وعدوا من أنفسهم، بل فعلوا فعل الجاحدين لا فعل الشاكرين، وجعلوا البغي في الأرض بغير الحق مكان الشكر. وإذا في "إذا هم يبغون" هي الفجائية: أي فاجئوا البغي في الأرض بغير الحق، والبغي: هو الفساد، من قولهم بغى الجرح: إذا ترامى في الفساد، وزيادة في الأرض للدلالة على أن فسادهم هذا شامل لأقطار الأرض، والبغي وإن كان ينافي أن يكون بحق، بل لا يكون إلا بالباطل، لكن زيادة بغير الحق إشارة إلى أنهم فعلوا ذلك بغير شبهة عندهم، بل تمرداً وعناداً، لأنهم قد يفعلون ذلك لشبهة يعتقدونها مع كونها باطلة. قوله: "يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا" لما ذكر سبحانه أن هؤلاء المتقدم ذكرهم يبغون في الأرض بغير الحق ذكر عاقبة البغي وسوء مغبته. قرأ ابن إسحاق وحفص والمفضل بنصب متاع، وقرأ الباقون بالرفع. فمن قرأ بالنصب جعل ما قبله جملة تامة: أي بغيكم وبال على أنفسكم، فيكون بغيكم مبتدأ وعلى أنفسكم خبره، ويكون متاع في موضع المصدر المؤكد، كأنه قيل: تتمتعون متاع الحياة الدنيا، ويكون المصدر مع الفعل المقدر استئنافاً، وقيل: إن متاع على قراءة النصب ظرف زمان نحو مقدم الحاج: أي زمن متاع الحياة الدنيا، وقيل: هو مفعوله له: أي لأجل متاع الحياة الدنيا، وقيل منصوب بنزع الخافض: أي كمتاع، وقيل: على الحال على أنه مصدر بمعنى المفعول: أي ممتعين، وقد نوقش غالب هذه الأقوال في توجيه النصب. وأما من قرأ برفع متاع فجعله خبر المبتدأ: أي بغيكم متاع الحياة الدنيا، ويكون على أنفسكم متعلق بالمصدر، والتقدير: إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم متاع الحياة الدنيا ومنفعتها التي لا بقاء لها، فيكون المراد بأنفسكم على هذا الوجه أبناء جنسهم، وعبر عنهم بالأنفس لما يدركه الجنس على جنسه من الشفقة، وقيل: ارتفاع متاع على أنه خبر ثان، وقيل على أنه خبر لمبتدأ محذوف: أي هو متاع. قال النحاس: على قراءة الرفع يكون بغيكم مرتفعاً بالابتداء وخبره متاع الحياة الدنيا، وعلى أنفسكم مفعول البغي، ويجوز أن يكون خبره على أنفسكم ويضمر مبتدأ: أي ذلك متاع الحياة الدنيا، أو هو متاع الحياة الدنيا انتهى. وقد نوقش أيضاً بعض هذه الوجوه المذكورة في توجيه الرفع بما يطول به البحث في غير طائل. والحاصل أنه إذا جعل خبر المبتدأ على أنفسكم، فالمعنى: أن ما يقع من البغي على الغير هو بغي على نفس الباغي باعتبار ما يؤول إليه الأمر من الانتقام منه مجازاة على بغيه، وإن جعل الخبر متاع، فالمراد أن بغي هذا الجنس الإنساني على بعضه بعضاً هو سريع الزوال قريب الاضمحلال، كسائر أمتعة الحياة الدنيا فإنها ذاهبة عن قرب متلاشية بسرعة ليس لذلك كثير فائدة ولا عظيم جدوى. ثم ذكر سبحانه ما يكون على ذلك البغي من المجازاة يوم القيامة مع وعيد شديد فقال: "ثم إلينا مرجعكم" وتقديم الخبر للدلالة على القصر، والمعنى: أنكم بعد هذه الحياة الدنيا ومتاعها ترجعون إلى الله فيجازي المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه "فننبئكم بما كنتم تعملون" في الدنيا: أي فنخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير وشر والمراد بذلك المجازاة كما تقول لمن أساء: سأخبرك بما صنعت، وفيه أشد وعيد وأفظع تهديد. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله: "فانتظروا إني معكم من المنتظرين" قال: خوفهم عذابه وعقوبته. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا" قال: استهزاء وتكذيب. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "وظنوا أنهم أحيط بهم" قال: هلكوا. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص ما حاصله: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أهدر يوم الفتح دم جماعة، منهم عكرمة بن أبي جهل، هرب من مكة وركب البحر فأصابهم عاصف، فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً، فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر الإخلاص ما ينجيني في البر غيره، اللهم إن لك عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً، فجاء فأسلم. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم والخطيب في تاريخه والديلمي في مسند الفردوس عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث هن رواجع على أهلها: المكر، والنكث، والبغي، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم" " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه "". وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبغ ولا تكن باغياً، فإن الله يقول: "إنما بغيكم على أنفسكم"". وأخرج أبو الشيخ عن مكحول قال: ثلاث من كن فيه كن عليه: المكر، والبغي، والنكث، قال الله سبحانه: "إنما بغيكم على أنفسكم". أقول أنا: وينبغي أن يلحق بهذه الثلاث التي دل القرآن على أنها تعود على فاعلها: الخدع، فإن الله يقول: "يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما". وأخرج ابن مردويه من حديث ابن عمر مثله.
لما ذكر الله سبحانه ما تقدم من متاع الدنيا جاء بكلام مستأنف يضمن بيان حالها وسرعة تقضيها، وأنها تعود بعد أن تملأ الأعين برونقها، وتجتلب النفوس ببهجتها. وتحمل أهلها على أن يسفكوا دماء بعضهم بعضاً، ويهتكوا حرمهم حباً لها وعشقاً لجمالها الظاهري، وتكالباً على التمتع بها، وتهافتاً على نيل ما تشتهي الأنفس منها بضرب من التشبيه المركب، فقال: 24- "إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء" إلى آخر الآية. والمعنى: أن مثلها في سرعة الذهاب والاتصاف بوصف يضاد ما كانت عليه ويباينه، مثل ما على الأرض من أنواع النبات في زوال رونقه وذهاب بهجته وسرعة تقضيه، بعد أن كان غضاً مخضراً طرياً قد تعانقت أغصانه المتمايلة، وزهت أوراقه المتصافحة، وتلألأت أنوار نوره، وحاكت الزهر أنواع زهره، وليس المشبه به هو ما دخله الكاف في قوله: "كماء أنزلناه من السماء" بل ما يفهم من الكلام، والباء في "فاختلط به نبات الأرض" للسببية: أي فاختلط بسببه نبات الارض بأن اشتبك بعضه ببعض حتى بلغ إلى حد الكمال، ويحتمل أن يراد أن النبات كان في أول بروزه ومبدأ حدوثه غير مهتز ولا مترعرع فإذا نزل الماء عليه اهتز وربا حتى اختلط بعض الأنواع ببعض "مما يأكل الناس والأنعام" من الحبوب والثمار والكلأ والتبن وأخذت الأرض زخرفها. قال في الصحاح الزخرف: الذهب، ثم يشبه به كل مموه مزور انتهى. والمعنى: أن الأرض أخذت لونها الحسن المشابه بعضه للون الذهب، وبعضه للون الفضة، وبعضه للون الياقوت، وبعضه للون الزمرد. وأصل ازينت: تزينت أدغمت التاء في الزاي وجيء بألف الوصل لأن الحرف المدغم مقام حرفين أولهما ساكن، والساكن لا يمكن الابتداء به. وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب وتزينت على الأصل. وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية وأزينت على وزن أفعلت: أي أزينت الزينة التي عليها، شبهها بالعروس التي تلبس الثياب الجيدة المتلونة ألواناً كثيرة. وقال عوف بن أبي جميلة. قرأ أشياخنا وازيانت على وزن اسوادت، وفي رواية المقدمي وازانت والأصل فيه تزاينت على وزن تفاعلت. وقرأ الشعبي وقتادة أزينت، ومعنى هذه القراءات كلها هو ما ذكرنا "وظن أهلها أنهم قادرون عليها" أي غلب على ظنونهم أو تيقنوا أنهم قادرون على حصادها والانتفاع بها، والضمير في عليها للأرض، والمراد النبات الذي هو عليها "أتاها أمرنا" جواب إذا، أي جاءها أمرنا بإهلاكها واستئصالها وضربها ببعض العاهات "فجعلناها حصيداً" أي جعلنا زرعها شبيهاً بالمحصود في قطعه من أصوله. قال أبو عبيدة: الحصيد المستأصل "كأن لم تغن بالأمس" أي كأن لم يكن زرعها موجوداً فيها بالأمس مخضراً طرياً، من غني بالمكان بالكسر يغني بالفتح إذا أقام به، والمراد بالأمس الوقت القريب، والمغاني في اللغة المنازل. وقال قتادة: كأن لم تنعم، قال لبيد: غنيت سنينا قبل مجرى داحس لو كان للنفس اللجوج خلود وقرأ قتادة "كأن لم يغن" بالتحتية بإرجاع الضمير إلى الزخرف. وقرأ من عداه "تغن" بالفوقية بإرجاع الضمير إلى الأرض "كذلك" أي مثل ذلك التفصيل البديع "نفصل الآيات" القرآنية التي من جملتها هذه الآية "لعلهم يتفكرون" فيما اشتملت عليه، ويجوز أن يراد الآيات التكوينية.
قوله: 25- "والله يدعو إلى دار السلام" لما نفر عباده عن الميل إلى الدنيا بما ضربه لهم من المثل السابق رغبهم في الدار الآخرة بإخبارهم بهذه الدعوة منه عز وجل إلى دار السلام، قال الحسن وقتادة: السلام هو الله تعالى، وداره الجنة. وقال الزجاج: المعنى والله يدعو إلى دار السلامة. ومعنى السلام والسلامة واحد كالرضاع والرضاعة، ومنه قول الشاعر: تحيي بالسلامة أم بكر وهل لك بعد قومك من سلام وقيل: أراد دار السلام الذي هو التحية، لأن أهلها ينالون من الله السلام بمعنى التحية كما في قوله: "تحيتهم فيها سلام"، وقيل: السلام اسم لأحد الجنان السبع: أحدها: دار السلام، والثانية: دار الجلال، والثالثة: جنة عدن، والرابعة: جنة المأوى، والخامسة: جنة الخلد، والسادسة: جنة الفردوس، والسابعة: جنة النعيم. وقيل: المراد دار السلام الواقع من المؤمنين بعضهم على بعض في الجنة، وقد اتفقوا على أن دار السلام هي الجنة، وإنما اختلفوا في سبب التسمية بدار السلام "ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" جعل سبحانه الدعوة إلى دار السلام عامة، والهداية خاصة بمن يشاء أن يهديه تكميلاً للحجة وإظهاراً للاستغناء عن خلقه.
ثم قسم سبحانه أهل الدعوة إلى قسمين، وبين حال كل طائفة فقال: 26- "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" أي الذين أحسنوا بالقيام بما أوجبه الله عليهم من الأعمال والكف عما نهاهم عنه من المعاصي، والمراد بالحسنى المثوبة الحسنى. قال ابن الأنباري: العرب توقع هذه اللفظة على الخصلة المحبوبة المرغوب فيها، ولذلك ترك موصوفها، وقيل: المراد بالحسنى الجنة، وأما الزيادة فقيل المراد بها ما يزيد على المثوبة من التفضل كقوله: "ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله" وقيل: الزيادة النظر إلى وجهه الكريم، وقيل: الزيادة هي مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها، وقيل: الزيادة غرفة من لؤلؤ، وقيل: الزيادة مغفرة من الله ورضوان، وقيل: هي أنه سبحانه يعطيهم في الدنيا من فضله ما لا يحاسبهم عليه، وقيل غير ذلك مما لا فائدة في ذكره، وسيأتي بيان ما هو الحق في آخر البحث "ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة" معنى يرهق يلحق، ومنه قيل: غلام مراهق إذا لحق بالرجال، وقيل: يعلو، وقيل: يغشى، والمعنى متقارب، والقتر: الغبار، ومنه قول الفرزدق: متوج برداء الملك يتبعه موج ترى فوقه الرايات والقترا وقرأ الحسن قتر بإسكان المثناة، والمعنى واحد، قاله النحاس، وواحد القتر قترة، والذلة: ما يظهر على الوجه من الخضوع والإنكسار والهوان، والمعنى: أنه لا يعلو وجوههم غبرة ولا يظهر فيها هوان، وقيل: القتر الكآبة، وقيل: سواد الوجوه، وقيل: هو دخان النار "أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون" الإشارة إلى المتصفين بالصفات السابقة هم أصحاب الجنة الخالدون فيها المتنعمون بأنواع نعيمها.