تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 215 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 215

215- تفسير الصفحة رقم215 من المصحف
الآية: 54 {ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون}
قوله تعالى: "ولو أن لكل نفس ظلمت" أي أشركت وكفرت. "ما في الأرض" أي ملكا. "لافتدت به" أي من عذاب الله، يعني ولا يقبل منها؛ كما قال: "إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به" [آل عمران: 91] وقد تقدم.
قوله تعالى: "وأسروا الندامة" أي أخفوها؛ يعني رؤساءهم، أي أخفوا ندامتهم عن اتباعهم. "لما رأوا العذاب" وهذا قبل الإحراق بالنار، فإذا وقعوا في النار ألهتهم النار عن التصنع؛ بدليل قولهم: "ربنا غلبت علينا شقوتنا" [المؤمنون: 106]. فبين أنهم لا يكتمون ما بهم. وقيل: "أسروا" أظهروا، والكلمة من الأضداد، ويدل عليه أن الآخرة ليست دار تجلد وتصبر. وقيل: وجدوا ألم الحسرة في قلوبهم؛ لأن الندامة لا يمكن إظهارها. قال كثير:
فأسررت الندامة يوم نادى بسرد جمال غاضرة المنادي
وذكر المبرد فيه وجها ثالثا: أنه بدت بالندامة أسرة وجوههم، وهي تكاسير الجبهة، واحدها سرار. والندامة: الحسرة لوقوع شيء أو فوت شيء، وأصلها اللزوم؛ ومنه النديم لأنه يلازم المجالس. وفلان نادم سادم. والسدم اللهج بالشيء. وندم وتندم بالشيء أي اهتم به. قال الجوهري: السدم (بالتحريك) الندم والحزن؛ وقد سدم بالكسر أي اهتم وحزن ورجل نادم سادم، وندمان سدمان؛ وقيل: هو اتباع. وماله هم ولا سدم إلا ذلك. وقيل: الندم مقلوب الدمن، والدمن اللزوم؛ ومنه فلان مدمن الخمر. والدمن: ما اجتمع في الدار وتلبد من الأبوال والأبعار؛ سمي به للزومه. والدمنة: الحقد الملازم للصدر، والجمع دمن. وقد دمنت قلوبهم بالكسر؛ يقال: دمنت على فلان أي ضغنت. "وقضي بينهم بالقسط" أي بين الرؤساء والسفل بالعدل. "وهم لا يظلمون".
الآية: 55 {ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون}
"ألا" كلمة تنبيه للسامع تزاد في أول الكلام؛ أي انتبهوا لما أقول لكم: "إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق" "له ملك السماوات والأرض" [الحديد: 2] فلا مانع يمنعه من إنفاذ ما وعده. "ولكن أكثرهم لا يعلمون" ذلك.
الآية: 56 {هو يحيي ويميت وإليه ترجعون}
بين المعنى. وقد تقدم
الآية: 57 {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين}
قوله تعالى: "يا أيها الناس" يعني قريشا. "قد جاءتكم موعظة" أي وعظ. "من ربكم" بعني القرآن، فيه مواعظ وحكم. "وشفاء لما في الصدور" أي من الشك والنفاق والخلاف، والشقاق. "وهدى" أي ورشدا لمن اتبعه. "ورحمة" أي نعمة. "للمؤمنين" خصهم لأنهم المنتفعون بالإيمان؛ والكل صفات القرآن، والعطف لتأكيد المدح. قال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
الآية: 58 {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}
قوله تعالى: "قل بفضل الله وبرحمته" قال أبو سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهما: فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام. وعنهما أيضا: فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله. وعن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة: فضل الله الإيمان، ورحمته القرآن؛ على العكس من القول الأول. وقيل: غير هذا. "فبذلك فليفرحوا" إشارة إلى الفضل والرحمة. والعرب تأتي "بذلك" للواحد والاثنين والجمع. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ "فبذلك فلتفرحوا" بالتاء؛ وهي قراءة يزيد بن القعقاع ويعقوب وغيرهما؛ وفي الحديث (لتأخذوا مصافكم). والفرح لذة في القلب بإدراك المحبوب. وقد ذم الفرج في مواضع؛ كقوله: "لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين" [القصص: 76] وقوله: "إنه لفرح فخور" [هود: 10] ولكنه مطلق. فإذا قيد الفرح لم يكن ذما؛ لقوله: "فرحين بما آتاهم الله من فضله" [آل عمران: 170] وههنا قال تبارك وتعالى: "فبذلك فليفرحوا" أي بالقرآن والإسلام فليفرحوا؛ فقيد. قال هارون: وفي حرف أبي "فبذلك فافرحوا". قال النحاس: سبيل الأمر أن يكون باللام ليكون معه حرف جازم كما أن مع النهي حرفا؛ إلا أنهم يحذفون، من الأمر للمخاطب استغناء بمخاطبته، وربما جاؤوا به على الأصل؛ منه "فبذلك فلتفرحوا". "هو خير مما يجمعون" يعني في الدنيا. وقراءة العامة بالياء في الفعلين؛ وروي عن ابن عامر أنه قرأ "فليفرحوا" بالياء "تجمعون" بالتاء خطابا للكافرين. وروي عن الحسن أنه قرأ بالتاء في الأول؛ و"يجمعون" بالياء على العكس. وروى أبان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من هداه الله للإسلام وعلمه القرآن ثم شكا الفاقة كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه ثم تلا "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون".
الآية: 59 {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون}
قوله تعالى: "قل أرأيتم" يخاطب كفار مكة. "ما أنزل الله لكم من رزق" "ما" في موضع نصب بـ "أرأيتم". وقال الزجاج: في موضع نصب بـ "أنزل". "وأنزل" بمعنى خالق؛ كما قال: "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" [الزمر: 6]. "وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد" [الحديد: 25]. فيجوز أن يعبر عن الخلق بالإنزال؛ لأن الذي في الأرض من الرزق إنما هو بما ينزل من السماء من المطر. "فجعلتم منه حراما وحلالا" قال مجاهد: هو ما حكموا به من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وقال الضحاك: هو قول الله تعالى: "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا" [الأنعام: 136]. "قل أآلله أذن لكم" أي في التحليل والتحريم. "أم على الله" "أم" بمعنى بل. "تفترون" هو قولهم إن الله أمرنا بها.
استدل بهذه الآية من نفي القياس، وهذا بعيد؛ فإن القياس دليل الله تعالى، فيكون التحليل والتحريم من الله تعالى عند وجود دلالة نصبها الله تعالى على الحكم، فإن خالف في كون القياس دليلا لله تعالى فهو خروج عن هذا الغرض ورجوع إلى غيره.
الآية: 60 {وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون}
قوله تعالى: "وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة" "يوم" منصوب على الظرف، أو بالظن؛ نحو ما ظنك زيدا؛ والمعنى: أيحسبون أن الله لا يؤاخذهم به. "إن الله لذو فضل على الناس" أي في التأخير والإمهال. وقيل: أراد أهل مكة حين جعلهم في حرم آمن. "ولكن أكثرهم" يعني الكفار. "لا يشكرون" الله على نعمه ولا في تأخير العذاب عنهم. وقيل: "لا يشكرون" لا يوحدون.
الآية: 61 {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}
قوله تعالى: "وما تكون في شأن" "ما" للجحد؛ أي لست في شأن، يعني من عبادة أو غيرها إلا والرب مطلع عليك. والشأن الخطب، والأمر، وجمعه شؤون. قال الأخفش: تقول العرب ما شانت شأنه، أي ما عملت عمله. "وما تتلو منه من قرآن" قال الفراء والزجاج: الهاء في "منه" تعود على الشأن، أي تحدث شأنا فيتلى من أجله القرآن فيعلم كيف حكمه، أو ينزل فيه قرآن فيتلى. وقال الطبري: "منه" أي من كتاب الله تعالى. "من قرآن" أعاد تفخيما؛ كقوله: "إني أنا الله" [القصص: 30]. "ولا تعملون من عمل" يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم والأمة. وقوله: "وما تكون في شأن" خطاب له والمراد هو وأمته؛ وقد يخاطب الرسول والمراد هو وأتباعه. وقيل: المراد كفار قريش. "إلا كنا عليكم شهودا" أي نعلمه؛ ونظيره "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم" [المجادلة: 4] "إذ تفيضون فيه" أي تأخذون فيه، والهاء عائدة على العمل؛ يقال: أفاض فلان في الحديث والعمل إذا اندفع فيه. قال الراعي:
فأفضن بعد كظومهن بجرة من ذي الأباطح إذ رعين حقيلا
ابن عباس: "تفيضون فيه" تفعلونه. الأخفش: تتكلمون. ابن زيد: تخوضون. ابن كيسان: تنشرون القول. وقال الضحاك: الهاء عائدة على القرآن؛ المعنى: إذ تشيعون في القرآن الكذب. "وما يعزب عن ربك" قال ابن عباس: يغيب. وقال أبو روق: يبعد. وقال ابن كيسان: يذهب. وقرأ الكسائي "يعزب" بكسر الزاي حيث وقع؛ وضم الباقون؛ وهما لغتان فصيحتان؛ نحو يعرش ويعرش. "من مثقال" "من" صلة؛ أي وما يعزب عن ربك مثقال "ذرة" أي وزن وذرة، أي نميلة حمراء صغيرة؛ وقد تقدم في النساء. "في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر" عطف على لفظ مثقال، وإن شئت على ذرة. وقرأ يعقوب وحمزة برفع الراء فيهما عطفا على موضع مثقال لأن من زائدة للتأكيد. وقال الزجاج: ويجوز الرفع على الابتداء. وخبره "إلا في كتاب مبين" يعني اللوح المحفوظ مع علم الله تعالى به. قال الجرجاني "إلا" بمعنى واو النسق، أي وهو في كتاب مبين؛ كقوله تعالى: "إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم" [النمل:10 - 11] أي ومن ظلم. وقوله: "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم" [البقرة: 150] أي والذين ظلموا منهم؛ فـ "إلا" بمعنى واو النسق، وأضمر هو بعده كقوله: "وقولوا حطة" [البقرة: 58]. أي هي حطة. وقوله: "ولا تقولوا ثلاثة" [النساء: 171] أي هم ثلاثة. ونظير ما نحن فيه: "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين" [الأنعام: 59] وهو في كتاب مبين.