تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 215 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 215

214

وجملة 55- "ألا إن لله ما في السموات والأرض" مسوقة لتقرير كمال قدرته لأن من ملك ما في السموات والأرض تصرف به كيف يشاء، وغلب غير العقلاء لكونهم أكثر المخلوقات. قيل: لما ذكر سبحانه افتداء الكفار بما في الأرض لو كان لهم ذلك بين أن الأشياء كلها لله، وليس لهم شيء يتمكنون من الافتداء به، وقيل: لما أقسم على حقية ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يصحب ذلك بدليل البرهان البين بأن ما في العالم على اختلاف أنواعه ملكه يتصرف به كيف يشاء، وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه تنبيه للغافلين، وإيقاظ للذاهلين، ثم أكد ما سبق بقوله: "ألا إن وعد الله حق" أي كائن لا محالة، وهو عام يندرج فيه ما استعجلوه من العذاب اندراجاً أولياً، وتصدير الجملة بحرف التنبيه كما قلنا في التي قبلها مع الدلالة على تحقق مضمون الجملتين "ولكن أكثر الناس" أي الكفار "لا يعلمون" ما فيه صلاحهم فيعملون به، وما فيه فسادهم فيجتنبونه.
56- "هو يحيي ويميت" يهب الحياة ويسلبها "وإليه ترجعون" في الدار الآخرة فيجازي كلاً بما يستحقه، ويتفضل على من يشاء من عباده.
قوله: 57- "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم" يعني القرآن فيه ما يتعظ به من قرأه وعرف معناه، والوعظ في الأصل: هو التذكير بالعواقب سواء كان بالترغيب أو الترهيب، والواعظ هو كالطبيب ينهى المريض عما يضره، ومن في "من ربكم" متعلقة بالفعل، وهو جاءتكم، فتكون ابتدائية، أو متعلقة بمحذوف، فتكون تبعيضية "وشفاء لما في الصدور" من الشكوك التي تعتري بعض المرتابين لوجود ما يستفاد منه فيه من العقائد الحقة، واشتماله على تزييف العقائد الباطلة، والهدى: الإرشاد لمن اتبع القرآن وتفكر فيه وتدبر معانيه إلى الطريق الموصلة إلى الجنة، والرحمة: هي ما يوجد في الكتاب العزيز من الأمور التي يرحم الله بها عباده، فيطلبها من أراد ذلك حتى ينالها، فالقرآن العظيم مشتمل على هذه الأمور.
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل الخطاب معه بعد خطابه للناس على العموم، فقال: 58- "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا" المراد بالفضل من الله سبحانه: هو تفضله على عباده في الآجل والعاجل بما لا يحيط به الحصر، والرحمة: رحمته لهم. وروي عن ابن عباس أنه قال فضل الله: القرآن، ورحمته: الإسلام. وروي عن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة أن فضل الله: الإيمان، ورحمته: القرآن. والأولى: حمل الفضل والرحمة على العموم، ويدخل في ذلك ما في القرآن منهما دخولاً أولياً، وأصل الكلام: قل بفضل الله وبرحمته فليفرحوا، ثم حذف هذا الفعل لدلالة الثاني في قوله: "فبذلك فليفرحوا" عليه، قيل: والفاء في هذا الفعل المحذوف داخلة في جواب شرط مقدر كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فليخصوا فضل الله ورحمته بالفرح. وتكرير الباء في برحمته للدلالة على أن كل واحد من الفضل والرحمة سبب مستقل في الفرح، والفرح: هو اللذة في القلب بسبب إدراك المطلوب، وقد ذم الله سبحانه الفرح في مواطن كقوله: "لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين" وجوزه في قوله: "فرحين بما آتاهم الله من فضله" وكما في هذه الآية، ويجوز أن تتعلق الباء في "بفضل الله وبرحمته" بقوله: "جاءتك"، والتقدير: جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك: أي فبمجيئها فليفرحوا، وقرأ يزيد بن القعقاع ويعقوب فلتفرحوا بالفوقية، وقرأ الجمهور بالتحتية، والضمير في هو خير راجع إلى المذكور من الفضل والرحمة، أو إلى المجيء على الوجه الثاني، أو إلى اسم الإشارة في قوله: "فبذلك" والمعنى: أن هذا خير لهم مما يجمعونه من حطام الدنيا. وقد قرئ بالتاء الفوقية في "يجمعون" مطابقة للقراءة بها في " ولا تفرحوا ". وقد تقرر في العربية أن لام الأمر تحذف مع الخطاب إلا في لغة قليلة جاءت هذه القراءة عليها، وقرأ الجمهور بالمثناة التحتية في يجمعون كما قرأوا في "فليفرحوا". وروي عن ابن عامر أنه قرأ بالفوقية في "يجمعون"، والتحتية في " فليفرحوا ". وقد أخرج الطبراني وأبو الشيخ عن أبي الأحوص قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: إن أخي يشتكي بطنه، فوصف له الخمر، فقال: سبحانه الله! ما جعل الله في رجس شفاء، إنما الشفاء في شيء من القرآن والعسل، فهما شفاء لما في الصدور وشفاء للناس. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: "إن الله جعل القرآن شفاء لما في الصدور، ولم يجعله شفاء لأمراضكم". وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أشتكي صدري، فقال:إقرأ القرآن، يقول الله: شفاء لما في الصدور". وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن واثلة بن الأسقع "أن رجلاً شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجع حلقه قال: عليك بقراءة القرآن والعسل، فالقرآن شفاء لما في الصدور، والعسل شفاء من كل داء". وأخرج أبو داود والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتاء يعني الفوقية، وقد روي نحو هذا من غير هذه الطريق. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل بفضل الله وبرحمته" قال: "بفضل الله القرآن، وبرحمته أن جعلكم من أهله". وأخرج الطبراني في الأوسط عن البراء مثله من قوله. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال: بكتاب الله وبالإسلام. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عنه قال: فضله الإسلام، ورحمته القرآن. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عنه أيضاً قال: بفضل الله القرآن، وبرحمته حين جعلهم من أهله. وقد روي عن جماعة من التابعين نحو هذه الروايات المتقدمة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس هو خير مما يجمعون من الأموال والحرث والأنعام.
أشار سبحانه بقوله: 59- "قل أرأيتم ما أنزل الله" إلخ إلى طريق أخرى غير ما تقدم في إثبات النبوة، وتقرير ذلك ما حاصله أنكم تحكمون بتحليل البعض وتحريم البعض، فإن كان بمجرد التشهي والهوى فهو مهجور باتفاق العقلاء مسلمهم وكافرهم، وإن كان لاعتقادكم أنه حكم الله فيكم وفيما رزقكم فلا تعرفون ذلك إلا بطريق موصلة إلى الله، ولا طريق يتبين بها الحلال من الحرام إلا من جهة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده، ومعنى أرأيتم: أخبروني و "ما" في محل نصب بأرأيتم المتضمن لمعنى أخبروني. وقيل: إن ما في محل الرفع بالابتداء وخبرها "آلله أذن لكم" و قل في قوله: "قل آلله أذن لكم" تكرير للتأكيد والرابط محذوف، ومجموع المبتدأ والخبر في محل نصب بأرأيتم، والمعنى: أخبروني الذي أنزل الله إليكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً، آلله أذن لكم في تحليله وتحريمه "أم على الله تفترون" وعلى الوجهين، فمن في منه حراماً للتبعيض، والتقدير: فجعلتم بعضه حراماً وجعلتم بعضه حلالاً وذلك كما كانوا يفعلونه في الأنعام حسبما سبق حكاية ذلك عنهم في الكتاب العزيز، ومعنى إنزال الرزق: كون المطر ينزل من جهة العلو، وكذلك يقضي الأمر في أرزاق العباد في السماء على ما قد ثبت في اللوح المحفوظ من ذكره سبحانه وتعالى لكل شيء فيه. وروي عن الزجاج أن ما في موضع نصب بأنزل، وأنزل بمعنى خلق كما قال: "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" "وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد" وعلى هذا القول والقول الأول يكون قوله: "قل آلله أذن لكم" مستأنفاً، قيل: ويجوز أن تكون الهمزة في "آلله أذن لكم" للإنكار، وأم منقطعة بمعنى: بل أتفترون على الله، وإظهار الاسم الشريف وتقديمه على الفعل للدلالة على كمال الافتراء. وفي هذه الآية الشريفة ما يصك مسامع المتصدرين للإفتاء لعباد الله في شريعته، بالتحليل والتحريم والجواز وعدمه، مع كونهم من المقلدين الذين لا يعقلون حجج الله، ولا يفهمونها ولا يدرون ما هي، ومبلغهم من العلم الحكاية لقول قائل من هذه الأمة قد قلدوه في دينهم، وجعلوه شارعاً مستقلاً، ما عمل به من الكتاب والسنة فهو المعمول به عندهم، وما لم يبلغه أو بلغه ولم يفهمه حق فهمه، أو فهمه وأخطأ الصواب في اجتهاده وترجيحه، فهو في حكم المنسوخ عندهم المرفوع حكمه عن العباد، مع كون من قلدوه متعبداً بهذه الشريعة كما هم متعبدون بها ومحكوماً عليه بأحكامها كما هو محكوم عليهم بها، وقد اجتهد رأيه وأدى ما عليه، وفاز بأجرين مع الإصابة وأجر مع الخطأ، إنما الشأن في جعلهم لرأيه الذي أخطأ فيه شريعة مستقلة، ودليلاً معمولاً به، وقد أخطأوا في هذا خطأ بيناً، وغلطوا غلطاً فاحشاً، فإن الترخيص للمجتهد في اجتهاد رأيه يخصه وحده، ولا قائل من أهل الإسلام المعتد بأقوالهم أنه يجوز لغيره أن يعمل به تقليداً له واقتداء به، وما جاء به المقلدة في تقوم هذا الباطل، فهو من الجهل العاطل، اللهم كما رزقتنا من العلم ما نميز به بين الحق والباطل، فارزقنا من الإنصاف ما نظفر عنده بما هو الحق عندك يا واهب الخير.
ثم قال: 60- "وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة" أي أي شيء ظنهم في هذا اليوم، وما يصنع بهم فيه، وهذه الجملة الاستفهامية المتضمنة لتعظيم الوعيد لهم غير داخلة تحت القول الذي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، بل مبتدأة مسوقة لبيان ما سيحل بهم من عذاب الله، و يوم القيامة منصوب بالظن، وذكر الكذب بعد الافتراء، مع أن الافتراء لا يكون إلا كذباً لزيادة التأكيد. وقرأ عيسى بن عمر وما ظن على أنه فعل "إن الله لذو فضل على الناس" يتفضل عليهم بأنواع النعم في الدنيا والآخرة "ولكن أكثرهم لا يشكرون" الله على نعمه الواصلة إليهم منه سبحانه في كل وقت من الأوقات، وطرفة من الطرفات.
قوله: 61- "وما تكون في شأن" الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نافية. والشأن: الأمر بمعنى القصد، وأصله الهمز، وجمعه شؤون. قال الأخفش: تقول العرب: ما شأنت شأنه: أي ما عملت عمله " وما تتلوا منه من قرآن ". قال الفراء والزجاج: الضمير في منه يعود على الشأن، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف: أي تلاوة كائنة منه، إذ التلاوة للقرآن من أعظم شؤونه صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أنه يتلو من أجل الشأن الذي حدث القرآن فيعلم كيف حكمه، أو يتلو القرآن الذي ينزل في ذلك الشأن. وقال ابن جرير الطبري: الضمير عائد في منه إلى الكتاب: أي ما يكون من كتاب الله من قرآن، وأعاده تفخيماً له كقوله: "إنني أنا الله" والخطاب في "ولا تعملون من عمل" لرسول الله وللأمة، وقيل الخطاب لكفار قريش " إلا كنا عليكم شهودا " استثناء مفرغ من أعم الأحوال للمخاطبين: أي شهوداً عليكم بعمله منكم، والضمير. في فيه من قوله: "تفيضون فيه" عائد على العمل، يقال: أفاض فلان في الحديث والعمل: إذا اندفع فيه. وقال الضحاك: الضمير في فيه عائد على القرآن، والمعنى: إذ تشيعون في القرآن الكذب. قوله: "وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء". قرأ الكسائي يعزب بكسر الزاي، وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان فصيحتان، ومعنى يعزب: يغيب، وقيل يبعد. وقال ابن كيسان: يذهب، وهذه المعاني متقاربة، ومن في "من مثقال" زائدة للتأكيد: أي وما يغيب عن ربك وزن ذرة: أي نملة حمراء، وعبر بالأرض والسماء مع أنه سبحانه لا يغيب عنه شيء لا فيهما ولا فيما هو خارج عنهما، لأن الناس لا يشاهدون سواهما وسوى ما فيهما من المخلوقات، وقدم الأرض على السماء لأنها محل استقرار العالم فهم يشاهدون ما فيها من قرب، والواو في "ولا أصغر من ذلك ولا أكبر" للعطف على لفظ مثقال، وانتصبا لكونهما ممتنعين، ويجوز أن يكون العطف على ذرة، وقيل: انتصابهما بلا التي لنفي الجنس، والواو للاستئناف، وليس من متعلقات وما يعزب، وخبر لا "إلا في كتاب" والمعنى: ولا أصغر من مثقال الذرة ولا أكبر منه إلا وهو في كتاب مبين فكيف يغيب عنه؟ وقرأ يعقوب وحمزة برفع أصغر وأكبر، ووجه ذلك أنه معطوف على محل من مثقال، ومحله الرفع، وقد أورد على توجيه النصب والرفع على العطف على لفظ مثقال ومحله، أو على لفظ ذرة إشكال، وهو أنه يصير تقدير الآية: لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب، ويلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجاً عن علم الله وهو محال. وقد أجيب عن هذا الإشكال بأن الأشياء المخلوقة قسمان: قسم أوجده الله ابتداء من غير واسطة كخلق الملائكة والسموات والأرض، وقسم آخر أوجده بواسطة القسم الأول من حوادث عالم الكون والفساد، ولا شك أن هذا القسم الثاني متباعد في سلسلة العلية عن مرتبة الأول، فالمراد من الآية أنه لا يبعد عن مرتبة وجوده سبحانه شيء في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين أثبت فيه صورة تلك المعلومات، والغرض الرد على من يزعم أنه غير عالم بالجزئيات. وأجيب أيضاً بأن الاستثناء منقطع: أي لكن هو في كتاب مبين. وذكر أبو علي الجرجاني أن إلا بمعنى الواو، على أن الكلام قد تم عند قوله: "ولا أكبر" ثم وقع الابتداء بقوله: "إلا في كتاب مبين" أي وهو أيضاً في كتاب مبين. والعرب قد تضع إلا موضع الواو، ومنه قوله تعالى: " إني لا يخاف لدي المرسلون * إلا من ظلم " يعني ومن ظلم، وقوله: "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا" أي والذي ظلموا، وقدر هو بعد الواو التي جاءت إلا بمعناها كما في قوله: "وقولوا حطة" أي هي حطة، ومثله "ولا تقولوا ثلاثة" "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين". وقال الزجاج: إن الرفع على الابتداء في قراءة من قرأ بالرفع، وخبره "إلا في كتاب" واختاره صاحب الكشاف، واختار في قراءة النصب التي قرأ بها الجمهور أنهما منصوبان بلا التي لنفي الجنس، واستشكل العطف بنحو ما قدمنا.
ثم لما بين سبحانه إحاطته بجميع الأشياء، وكان في ذلك تقوية لقلوب المطيعين، وكسر لقلوب العاصين ذكر حال المطيعين، فقال: 62- "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" الولي في اللغة: القريب. والمراد بأولياء الله: خلص المؤمنين كأنهم قربوا من الله سبحانه بطاعته واجتناب معصيته.