سورة يوسف | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 235 من المصحف
قوله تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة" قال سعيد بن جبير: على ملة الإسلام وحدها. وقال الضحاك: أهل دين واحد، أهل ضلالة أو أهل هدى. "ولا يزالون مختلفين" أي على أديان شتى؛ قاله مجاهد وقتادة. "إلا من رحم ربك" استثناء منقطع؛ أي لكن من رحم ربك بالإيمان والهدى فإنه لم يختلف. وقيل: مختلفين في الرزق، فهذا غني وهذا فقير. "إلا من رحم ربك" بالقناعة؛ قاله الحسن. "ولذلك خلقهم" قال الحسن ومقاتل، وعطاء ويمان: الإشارة للاختلاف، أي وللاختلاف خلقهم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: ولرحمته خلقهم؛ وإنما قال: "ولذلك" ولم يقل ولتلك، والرحمة مؤنثة لأنه مصدر؛ وأيضا فإن تأنيث الرحمة غير حقيقي، فحملت على معنى الفضل. وقيل. الإشارة بذلك للاختلاف والرحمة، وقد يشارك بـ "ذلك" إلى شيئين متضادين؛ كقوله تعالى: "لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك" [البقرة: 68] ولم يقل بين ذينك ولا تينك، وقال: "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما" [الفرقان: 67] وقال: "ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا" [الإسراء: 110] وكذلك قوله: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا" [يونس: 58] وهذا أحسن الأقوال إن شاء الله تعالى؛ لأنه يعم، أي ولما ذكر خلقهم؛ وإلى هذا أشار مالك رحمه الله فيما روى عنه أشهب؛ قال أشهب: سألت مالكا عن هذه الآية قال: خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير؛ أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وأهل الرحمة للرحمة. وروي عن ابن عباس أيضا قال: خلقهم فريقين، فريقا يرحمه وفريقا لا يرحمه. قال المهدوي: وفي الكلام على هذا التقدير تقديم وتأخير؛ المعنى: ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين؛ ولذلك، خلقهم. وقيل: هو. متعلق بقوله "ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود" [هود: 103] والمعنى: ولشهود ذلك اليوم خلقهم. وقيل: هو متعلق بقوله: "فمنهم شقي وسعيد" [هود: 105] أي للسعادة والشقاوة خلقهم.
قوله تعالى: "وتمت كلمة ربك" معنى "تمت" ثبت ذلك كما أخبر وقدر في أزله؛ وتمام الكلمة امتناعها عن قبول التغيير والتبديل. "لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" "من" لبيان الجنس؛ أي من جنس الجنة وجنس الناس. "أجمعين" تأكيد؛ وكما أخبر أنه يملأ ناره كذلك أخبر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يملأ جنته بقوله: (ولكل واحدة منكما ملؤها). خرجه البخاري من حديث أبي هريرة وقد تقدم.
الآية: 120 {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين}
قوله تعالى: "وكلا نقص عليك" "كلا" نصب بـ "نقص" معناه وكل الذي تحتاج إليه من أنباء الرسل نقص عليك. وقال الأخفش: "كلا" حال مقدمة، كقولك: كلا ضربت القوم. "من أنباء الرسل" أي من أخبارهم وصبرهم على أذى قومهم. "ما نثبت به فؤادك" أي على أداء الرسالة، والصبر على ما ينالك فيها من الأذى. وقيل: نزيدك به تثبيتا ويقينا. وقال ابن عباس: ما نشد به قلبك. وقال ابن جريج: نصبر به قلبك حتى لا تجزع. وقال أهل المعاني: نطيب، والمعنى متقارب. و"ما" بدل من "كلا" المعنى: نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك. "وجاءك في هذه الحق" أي في هذه السورة؛ عن ابن عباس وأبي موسى وغيرهما؛ وخص هذه السورة لأن فيها أخبار الأنبياء والجنة والنار. وقيل: خصها بالذكر تأكيدا وإن كان الحق في كل القرآن. وقال قتادة والحسن: المعنى في هذه الدنيا، يريد النبوة. "وموعظة وذكرى للمؤمنين" الموعظة ما يتعظ به من إهلاك الأمم الماضية، والقرون الخالية المكذبة؛ وهذا تشريف لهذه السورة؛ لأن غيرها من السور قد جاء فيها الحق والموعظة والذكرى ولم يقل فيها كما قال في هذه على التخصيص. "وذكرى للمؤمنين" أي يتذكرون ما نزل بمن هلك فيتوبون؛ وخص المؤمنين لأنهم المتعظون إذا سمعوا قصص الأنبياء.
الآيات: 121 - 123 {وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون، ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون}
قوله تعالى: "وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم" تهديد ووعيد. "إنا عاملون. وانتظروا إنا منتظرون" تهديد آخر، وقد تقدم معناه. "ولله غيب السماوات والأرض" أي غيبهما وشهادتهما؛ فحذف لدلالة المعنى. وقال ابن عباس: خزائن السماوات والأرض. وقال الضحاك: جميع ما غاب عن العباد فيهما. وقال الباقون: غيب السماوات والأرض نزول العذاب من السماء وطلوعه من الأرض. وقال أبو علي الفارسي: "ولله غيب السماوات والأرض" أي علم ما غاب فيهما؛ أضاف الغيب وهو مضاف إلى المفعول توسعا؛ لأنه حذف حرف الجر؛ تقول: غبت في الأرض وغبت ببلد كذا.. "وإليه يرجع الأمر كله" أي يوم القيامة، إذ ليس لمخلوق أمر إلا بإذنه. وقرأ نافع وحفص "يرجع" بضم الياء وبفتح الجيم؛ أي يرد. "فاعبده وتوكل عليه" أي الجأ إليه وثق به. "وما ربك بغافل عما تعملون" أي يجازي كلا بعمله. وقرأ أهل المدينة والشام وحفص بالتاء على المخاطبة. الباقون بياء على الخبر. قال الأخفش سعيد: "يعملون" إذا لم يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم معهم؛ قال: بعضهم وقال: "تعملون" بالتاء لأنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قل لهم "وما ربك بغافل عما تعملون". وقال كعب الأحبار: خاتمة التوراة خاتمة "هود" من قوله: "ولله غيب السماوات والأرض" إلى آخر السورة.
سورة يوسف
مقدمة السورة
وهي مكية كلها. وقال ابن عباس وقتادة: إلا أربع آيات منها. وروي أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت السورة؛ وسيأتي. وقال سعد بن أبي وقاص: أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زمانا فقالوا: لو قصصت علينا؛ فنزل: "نحن نقص عليك" [يوسف: 3] فتلاه عليهم زمانا فقالوا: لو حدثتنا؛ فأنزل: "الله نزل أحسن الحديث" [الزمر: 23]. قال العلماء: وذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن وكررها بمعنى واحد في وجوه مختلفة، بألفاظ متباينة على درجات البلاغة، وقد ذكر قصة يوسف ولم يكررها، فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرر، ولا على معارضة غير المتكرر، والإعجاز لمن تأمل.
الآية: 1 {الر تلك آيات الكتاب المبين}
قوله تعالى: "الر" تقدم القول فيه؛ والتقدير هنا: تلك آيات الكتاب، على الابتداء والخبر. وقيل: "الر" اسم السورة؛ أي هذه السورة المسماة "الر" "تلك آيات الكتاب المبين" يعني بالكتاب المبين القرآن المبين؛ أي المبين حلاله وحرامه، وحدوده وأحكامه وهداه وبركته. وقيل: أي هذه تلك الآيات التي كنتم توعدون بها في التوراة.
الآية: 2 {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}
قوله تعالى: "إنا أنزلناه قرآنا عربيا" يجوز أن يكون المعنى: إنا أنزلنا القرآن عربيا؛ نصب "قرآنا" على الحال؛ أي مجموعا. و"عربيا" نعت لقوله "قرآنا". ويجوز أن يكون توطئة للحال، كما تقول: مررت بزيد رجلا صالحا، و"عربيا" على الحال، أي يقرأ بلغتكم يا معشر العرب. أعرب بين، ومنه (الثيب تعرب عن نفسها). "لعلكم تعقلون" أي لكي تعلموا معانيه، وتفهموا ما فيه. وبعض العرب يأتي بأن مع "لعل" تشبيها بعسى. واللام في "لعل" زائدة للتوكيد؛ كما قال الشاعر:
يا أبتا علك أو عساكا
وقيل: "لعلكم تعقلون" أي لتكونوا على رجاء من تدبره؛ فيعود معنى الشك إليهم لا إلى الكتاب، ولا إلى الله عز وجل. وقيل: معنى "أنزلناه" أي أنزلنا خبر يوسف، قال النحاس: وهذا أشبه بالمعنى؛ لأنه يروى أن اليهود قالوا: سلوه لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن خبر يوسف؛ فأنزل الله عز وجل هذا بمكة موافقا لما في التوراة، وفيه زيادة ليست عندهم. فكان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم - إذ أخبرهم ولم يكن يقرأ كتابا قط ولا هو في موضع كتاب - بمنزلة إحياء عيسى عليه السلام الميت على ما يأتي فيه.
الآية: 3 {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين}
قوله تعالى: "نحن نقص عليك" ابتداء وخبره: "أحسن القصص" بمعنى المصدر، والتقدير: قصصنا أحسن القصص. وأصل القصص تتبع الشيء، ومنه قوله تعالى: "وقالت لأخته قصيه" [القصص: 11] أي تتبعي أثره؛ فالقاص، يتبع الآثار فيخبر بها. والحسن يعود إلى القصص لا إلى القصة. يقال: فلان حسن الاقتصاص للحديث أي جيد السياقة له. وقيل: القصص ليس مصدرا، بل هو في معنى الاسم، كما يقال: الله رجاؤنا، أي مرجونا فالمعنى على هذا: نحن نخبرك بأحسن الأخبار. "بما أوحينا إليك" أي بوحينا فـ "ما" مع الفعل بمنزلة المصدر. "هذا القرآن" نصب القرآن على أنه نعت لهذا، أو بدل منه، أو عطف بيان. وأجاز الفراء الخفض؛ قال: على التكرير؛ وهو عند البصريين على البدل من "ما". وأجاز أبو إسحاق الرفع على إضمار مبتدأ، كأن سائلا سأله عن الوحي فقيل له: هو هذا القرآن. "وإن كنت من قبله لمن الغافلين" أي من الغافلين عما عرفناكه.
مسألة: واختلف العلماء لم سميت هذه السورة أحسن القصص من بين سائر الأقاصيص؟ فقيل: لأنه ليست قصة في القرآن تتضمن من العبر والحكم ما تتضمن هذه القصة؛ وبيانه قوله في آخرها: "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب" [يوسف: 111]. وقيل: سماها أحسن القصص لحسن مجاوزة يوسف عن إخوته، وصبره على أذاهم، وعفوه عنهم - بعد الالتقاء بهم - عن ذكر ما تعاطوه، وكرمه في العفو عنهم، حتى قال: "لا تثريب عليكم اليوم" [يوسف: 92]. وقيل: لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين، والجن والإنس والأنعام والطير، وسير الملوك والممالك، والتجار والعلماء والجهال، والرجال والنساء وحيلهن ومكرهن، وفيها ذكر التوحيد والفقه والسير وتعبير الرؤيا، والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش، وجمل الفوائد التي تصلح للدين والدنيا. وقيل لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب وسيرهما. وقيل: "أحسن" هنا بمعنى أعجب. وقال بعض أهل المعاني: إنما كانت أحسن القصص لأن كل من ذكر فيها كان مآله السعادة؛ انظر إلى يوسف وأبيه وإخوته، وامرأة العزيز؛ قيل: والملك أيضا أسلم بيوسف وحسن إسلامه، ومستعبر الرؤيا الساقي، والشاهد فيما يقال: فما كان أمر الجميع إلا إلى خير.
الآية: 4 {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين}
قوله تعالى: "إذ قال يوسف" "إذ" في موضع نصب على الظرف؛ أي اذكر لهم حين قال يوسف. وقراءة العامة بضم السين. وقرأ طلحة بن مصرف "يؤسف" بالهمزة وكسر السين. وحكى أبو زيد: "يؤسف" بالهمزة وفتح السين. ولم ينصرف لأنه أعجمي؛ وقيل: هو عربي. وسئل أبو الحسن الأقطع - وكان حكيما - عن "يوسف" فقال: الأسف في اللغة الحزن؛ والأسيف العبد، وقد اجتمعا في يوسف؛ فلذلك سمي يوسف. "لأبيه يا أبت" بكسر التاء قراءة أبي عمرو وعاصم ونافع وحمزة والكسائي، وهي عند البصريين علامة التأنيث أدخلت على الأب في النداء خاصة بدلا من ياء الإضافة، وقد تدخل علامة التأنيث على المذكر فيقال: رجل نكحة وهزأة؛ قال النحاس: إذا قلت "يا أبت" بكسر التاء فالتاء عند سيبويه بدل من ياء الإضافة؛ ولا يجوز على قوله الوقف إلا بالهاء، وله على قوله دلائل: منها - أن قولك: "يا أبه" يؤدي عن معنى "يا أبي"؛ وأنه لا يقال: "يا أبت" إلا في المعرفة؛ ولا يقال: جاءني أبت، ولا تستعمل العرب هذا إلا في النداء خاصة، ولا يقال: "يا أبتي" لأن التاء بدل من الياء فلا يجمع بينهما. وزعم الفراء أنه إذا قال: "يا أبت" فكسر دل على الياء لا غير؛ لأن الياء في النية. وزعم أبو إسحاق أن هذا خطأ، والحق ما قال، كيف تكون الياء في النية وليس يقال: "يا أبتي"؟ وقرأ أبو جعفر والأعرج وعبدالله بن عامر "يا أبت" بفتح التاء؛ قال البصريون: أرادوا "يا أبتي" بالياء، ثم أبدلت الياء ألفا فصارت "يا أبتا" فحذفت الألف وبقيت الفتحة على التاء. وقيل: الأصل الكسر، ثم أبدل من الكسرة فتحة، كما يبدل من الياء ألف فيقال: يا غلاما أقبل. وأجاز الفراء "يا أبت" بضم التاء. "إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر" ليس بين النحويين اختلاف أنه يقال: جاءني أحد عشر، ورأيت ومررت بأحد عشر، وكذلك ثلاثة عشر وتسعة عشر وما بينهما؛ جعلوا الاسمين اسما واحدا وأعربوهما بأخف الحركات. قال السهيلي: أسماء هذه الكواكب جاء ذكرها مسندا؛ رواه الحارث بن أبي أسامة قال: جاء بستانة - وهو رجل من أهل الكتاب - فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأحد عشر كوكبا الذي رأى يوسف فقال: (الحرثان والطارق والذيال وقابس والمصبح والضروح وذو الكنفات وذو القرع والفليق ووثاب والعمودان؛ رآها يوسف عليه السلام تسجد له). قال ابن عباس وقتادة: الكواكب إخوته، والشمس أمه، والقمر أبوه. وقال قتادة أيضا: الشمس خالته، لأن أمه كانت قد ماتت، وكانت خالته تحت أبيه. "رأيتهم" توكيد. وقال: "رأيتهم لي ساجدين" فجاء مذكرا؛ فالقول عند الخليل وسيبويه أنه لما أخبر عن هذه الأشياء بالطاعة والسجود وهما من أفعال من يعقل أخبر عنها كما يخبر عمن يعقل. وقد تقدم هذا المعنى في قوله: "وتراهم ينظرون إليك" [الأعراف: 198]. والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته، وإن كان خارجا عن الأصل.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 235
235- تفسير الصفحة رقم235 من المصحفقوله تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة" قال سعيد بن جبير: على ملة الإسلام وحدها. وقال الضحاك: أهل دين واحد، أهل ضلالة أو أهل هدى. "ولا يزالون مختلفين" أي على أديان شتى؛ قاله مجاهد وقتادة. "إلا من رحم ربك" استثناء منقطع؛ أي لكن من رحم ربك بالإيمان والهدى فإنه لم يختلف. وقيل: مختلفين في الرزق، فهذا غني وهذا فقير. "إلا من رحم ربك" بالقناعة؛ قاله الحسن. "ولذلك خلقهم" قال الحسن ومقاتل، وعطاء ويمان: الإشارة للاختلاف، أي وللاختلاف خلقهم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: ولرحمته خلقهم؛ وإنما قال: "ولذلك" ولم يقل ولتلك، والرحمة مؤنثة لأنه مصدر؛ وأيضا فإن تأنيث الرحمة غير حقيقي، فحملت على معنى الفضل. وقيل. الإشارة بذلك للاختلاف والرحمة، وقد يشارك بـ "ذلك" إلى شيئين متضادين؛ كقوله تعالى: "لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك" [البقرة: 68] ولم يقل بين ذينك ولا تينك، وقال: "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما" [الفرقان: 67] وقال: "ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا" [الإسراء: 110] وكذلك قوله: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا" [يونس: 58] وهذا أحسن الأقوال إن شاء الله تعالى؛ لأنه يعم، أي ولما ذكر خلقهم؛ وإلى هذا أشار مالك رحمه الله فيما روى عنه أشهب؛ قال أشهب: سألت مالكا عن هذه الآية قال: خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير؛ أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وأهل الرحمة للرحمة. وروي عن ابن عباس أيضا قال: خلقهم فريقين، فريقا يرحمه وفريقا لا يرحمه. قال المهدوي: وفي الكلام على هذا التقدير تقديم وتأخير؛ المعنى: ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين؛ ولذلك، خلقهم. وقيل: هو. متعلق بقوله "ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود" [هود: 103] والمعنى: ولشهود ذلك اليوم خلقهم. وقيل: هو متعلق بقوله: "فمنهم شقي وسعيد" [هود: 105] أي للسعادة والشقاوة خلقهم.
قوله تعالى: "وتمت كلمة ربك" معنى "تمت" ثبت ذلك كما أخبر وقدر في أزله؛ وتمام الكلمة امتناعها عن قبول التغيير والتبديل. "لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" "من" لبيان الجنس؛ أي من جنس الجنة وجنس الناس. "أجمعين" تأكيد؛ وكما أخبر أنه يملأ ناره كذلك أخبر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يملأ جنته بقوله: (ولكل واحدة منكما ملؤها). خرجه البخاري من حديث أبي هريرة وقد تقدم.
الآية: 120 {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين}
قوله تعالى: "وكلا نقص عليك" "كلا" نصب بـ "نقص" معناه وكل الذي تحتاج إليه من أنباء الرسل نقص عليك. وقال الأخفش: "كلا" حال مقدمة، كقولك: كلا ضربت القوم. "من أنباء الرسل" أي من أخبارهم وصبرهم على أذى قومهم. "ما نثبت به فؤادك" أي على أداء الرسالة، والصبر على ما ينالك فيها من الأذى. وقيل: نزيدك به تثبيتا ويقينا. وقال ابن عباس: ما نشد به قلبك. وقال ابن جريج: نصبر به قلبك حتى لا تجزع. وقال أهل المعاني: نطيب، والمعنى متقارب. و"ما" بدل من "كلا" المعنى: نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك. "وجاءك في هذه الحق" أي في هذه السورة؛ عن ابن عباس وأبي موسى وغيرهما؛ وخص هذه السورة لأن فيها أخبار الأنبياء والجنة والنار. وقيل: خصها بالذكر تأكيدا وإن كان الحق في كل القرآن. وقال قتادة والحسن: المعنى في هذه الدنيا، يريد النبوة. "وموعظة وذكرى للمؤمنين" الموعظة ما يتعظ به من إهلاك الأمم الماضية، والقرون الخالية المكذبة؛ وهذا تشريف لهذه السورة؛ لأن غيرها من السور قد جاء فيها الحق والموعظة والذكرى ولم يقل فيها كما قال في هذه على التخصيص. "وذكرى للمؤمنين" أي يتذكرون ما نزل بمن هلك فيتوبون؛ وخص المؤمنين لأنهم المتعظون إذا سمعوا قصص الأنبياء.
الآيات: 121 - 123 {وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون، ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون}
قوله تعالى: "وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم" تهديد ووعيد. "إنا عاملون. وانتظروا إنا منتظرون" تهديد آخر، وقد تقدم معناه. "ولله غيب السماوات والأرض" أي غيبهما وشهادتهما؛ فحذف لدلالة المعنى. وقال ابن عباس: خزائن السماوات والأرض. وقال الضحاك: جميع ما غاب عن العباد فيهما. وقال الباقون: غيب السماوات والأرض نزول العذاب من السماء وطلوعه من الأرض. وقال أبو علي الفارسي: "ولله غيب السماوات والأرض" أي علم ما غاب فيهما؛ أضاف الغيب وهو مضاف إلى المفعول توسعا؛ لأنه حذف حرف الجر؛ تقول: غبت في الأرض وغبت ببلد كذا.. "وإليه يرجع الأمر كله" أي يوم القيامة، إذ ليس لمخلوق أمر إلا بإذنه. وقرأ نافع وحفص "يرجع" بضم الياء وبفتح الجيم؛ أي يرد. "فاعبده وتوكل عليه" أي الجأ إليه وثق به. "وما ربك بغافل عما تعملون" أي يجازي كلا بعمله. وقرأ أهل المدينة والشام وحفص بالتاء على المخاطبة. الباقون بياء على الخبر. قال الأخفش سعيد: "يعملون" إذا لم يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم معهم؛ قال: بعضهم وقال: "تعملون" بالتاء لأنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قل لهم "وما ربك بغافل عما تعملون". وقال كعب الأحبار: خاتمة التوراة خاتمة "هود" من قوله: "ولله غيب السماوات والأرض" إلى آخر السورة.
سورة يوسف
مقدمة السورة
وهي مكية كلها. وقال ابن عباس وقتادة: إلا أربع آيات منها. وروي أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت السورة؛ وسيأتي. وقال سعد بن أبي وقاص: أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زمانا فقالوا: لو قصصت علينا؛ فنزل: "نحن نقص عليك" [يوسف: 3] فتلاه عليهم زمانا فقالوا: لو حدثتنا؛ فأنزل: "الله نزل أحسن الحديث" [الزمر: 23]. قال العلماء: وذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن وكررها بمعنى واحد في وجوه مختلفة، بألفاظ متباينة على درجات البلاغة، وقد ذكر قصة يوسف ولم يكررها، فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرر، ولا على معارضة غير المتكرر، والإعجاز لمن تأمل.
الآية: 1 {الر تلك آيات الكتاب المبين}
قوله تعالى: "الر" تقدم القول فيه؛ والتقدير هنا: تلك آيات الكتاب، على الابتداء والخبر. وقيل: "الر" اسم السورة؛ أي هذه السورة المسماة "الر" "تلك آيات الكتاب المبين" يعني بالكتاب المبين القرآن المبين؛ أي المبين حلاله وحرامه، وحدوده وأحكامه وهداه وبركته. وقيل: أي هذه تلك الآيات التي كنتم توعدون بها في التوراة.
الآية: 2 {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}
قوله تعالى: "إنا أنزلناه قرآنا عربيا" يجوز أن يكون المعنى: إنا أنزلنا القرآن عربيا؛ نصب "قرآنا" على الحال؛ أي مجموعا. و"عربيا" نعت لقوله "قرآنا". ويجوز أن يكون توطئة للحال، كما تقول: مررت بزيد رجلا صالحا، و"عربيا" على الحال، أي يقرأ بلغتكم يا معشر العرب. أعرب بين، ومنه (الثيب تعرب عن نفسها). "لعلكم تعقلون" أي لكي تعلموا معانيه، وتفهموا ما فيه. وبعض العرب يأتي بأن مع "لعل" تشبيها بعسى. واللام في "لعل" زائدة للتوكيد؛ كما قال الشاعر:
يا أبتا علك أو عساكا
وقيل: "لعلكم تعقلون" أي لتكونوا على رجاء من تدبره؛ فيعود معنى الشك إليهم لا إلى الكتاب، ولا إلى الله عز وجل. وقيل: معنى "أنزلناه" أي أنزلنا خبر يوسف، قال النحاس: وهذا أشبه بالمعنى؛ لأنه يروى أن اليهود قالوا: سلوه لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن خبر يوسف؛ فأنزل الله عز وجل هذا بمكة موافقا لما في التوراة، وفيه زيادة ليست عندهم. فكان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم - إذ أخبرهم ولم يكن يقرأ كتابا قط ولا هو في موضع كتاب - بمنزلة إحياء عيسى عليه السلام الميت على ما يأتي فيه.
الآية: 3 {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين}
قوله تعالى: "نحن نقص عليك" ابتداء وخبره: "أحسن القصص" بمعنى المصدر، والتقدير: قصصنا أحسن القصص. وأصل القصص تتبع الشيء، ومنه قوله تعالى: "وقالت لأخته قصيه" [القصص: 11] أي تتبعي أثره؛ فالقاص، يتبع الآثار فيخبر بها. والحسن يعود إلى القصص لا إلى القصة. يقال: فلان حسن الاقتصاص للحديث أي جيد السياقة له. وقيل: القصص ليس مصدرا، بل هو في معنى الاسم، كما يقال: الله رجاؤنا، أي مرجونا فالمعنى على هذا: نحن نخبرك بأحسن الأخبار. "بما أوحينا إليك" أي بوحينا فـ "ما" مع الفعل بمنزلة المصدر. "هذا القرآن" نصب القرآن على أنه نعت لهذا، أو بدل منه، أو عطف بيان. وأجاز الفراء الخفض؛ قال: على التكرير؛ وهو عند البصريين على البدل من "ما". وأجاز أبو إسحاق الرفع على إضمار مبتدأ، كأن سائلا سأله عن الوحي فقيل له: هو هذا القرآن. "وإن كنت من قبله لمن الغافلين" أي من الغافلين عما عرفناكه.
مسألة: واختلف العلماء لم سميت هذه السورة أحسن القصص من بين سائر الأقاصيص؟ فقيل: لأنه ليست قصة في القرآن تتضمن من العبر والحكم ما تتضمن هذه القصة؛ وبيانه قوله في آخرها: "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب" [يوسف: 111]. وقيل: سماها أحسن القصص لحسن مجاوزة يوسف عن إخوته، وصبره على أذاهم، وعفوه عنهم - بعد الالتقاء بهم - عن ذكر ما تعاطوه، وكرمه في العفو عنهم، حتى قال: "لا تثريب عليكم اليوم" [يوسف: 92]. وقيل: لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين، والجن والإنس والأنعام والطير، وسير الملوك والممالك، والتجار والعلماء والجهال، والرجال والنساء وحيلهن ومكرهن، وفيها ذكر التوحيد والفقه والسير وتعبير الرؤيا، والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش، وجمل الفوائد التي تصلح للدين والدنيا. وقيل لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب وسيرهما. وقيل: "أحسن" هنا بمعنى أعجب. وقال بعض أهل المعاني: إنما كانت أحسن القصص لأن كل من ذكر فيها كان مآله السعادة؛ انظر إلى يوسف وأبيه وإخوته، وامرأة العزيز؛ قيل: والملك أيضا أسلم بيوسف وحسن إسلامه، ومستعبر الرؤيا الساقي، والشاهد فيما يقال: فما كان أمر الجميع إلا إلى خير.
الآية: 4 {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين}
قوله تعالى: "إذ قال يوسف" "إذ" في موضع نصب على الظرف؛ أي اذكر لهم حين قال يوسف. وقراءة العامة بضم السين. وقرأ طلحة بن مصرف "يؤسف" بالهمزة وكسر السين. وحكى أبو زيد: "يؤسف" بالهمزة وفتح السين. ولم ينصرف لأنه أعجمي؛ وقيل: هو عربي. وسئل أبو الحسن الأقطع - وكان حكيما - عن "يوسف" فقال: الأسف في اللغة الحزن؛ والأسيف العبد، وقد اجتمعا في يوسف؛ فلذلك سمي يوسف. "لأبيه يا أبت" بكسر التاء قراءة أبي عمرو وعاصم ونافع وحمزة والكسائي، وهي عند البصريين علامة التأنيث أدخلت على الأب في النداء خاصة بدلا من ياء الإضافة، وقد تدخل علامة التأنيث على المذكر فيقال: رجل نكحة وهزأة؛ قال النحاس: إذا قلت "يا أبت" بكسر التاء فالتاء عند سيبويه بدل من ياء الإضافة؛ ولا يجوز على قوله الوقف إلا بالهاء، وله على قوله دلائل: منها - أن قولك: "يا أبه" يؤدي عن معنى "يا أبي"؛ وأنه لا يقال: "يا أبت" إلا في المعرفة؛ ولا يقال: جاءني أبت، ولا تستعمل العرب هذا إلا في النداء خاصة، ولا يقال: "يا أبتي" لأن التاء بدل من الياء فلا يجمع بينهما. وزعم الفراء أنه إذا قال: "يا أبت" فكسر دل على الياء لا غير؛ لأن الياء في النية. وزعم أبو إسحاق أن هذا خطأ، والحق ما قال، كيف تكون الياء في النية وليس يقال: "يا أبتي"؟ وقرأ أبو جعفر والأعرج وعبدالله بن عامر "يا أبت" بفتح التاء؛ قال البصريون: أرادوا "يا أبتي" بالياء، ثم أبدلت الياء ألفا فصارت "يا أبتا" فحذفت الألف وبقيت الفتحة على التاء. وقيل: الأصل الكسر، ثم أبدل من الكسرة فتحة، كما يبدل من الياء ألف فيقال: يا غلاما أقبل. وأجاز الفراء "يا أبت" بضم التاء. "إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر" ليس بين النحويين اختلاف أنه يقال: جاءني أحد عشر، ورأيت ومررت بأحد عشر، وكذلك ثلاثة عشر وتسعة عشر وما بينهما؛ جعلوا الاسمين اسما واحدا وأعربوهما بأخف الحركات. قال السهيلي: أسماء هذه الكواكب جاء ذكرها مسندا؛ رواه الحارث بن أبي أسامة قال: جاء بستانة - وهو رجل من أهل الكتاب - فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأحد عشر كوكبا الذي رأى يوسف فقال: (الحرثان والطارق والذيال وقابس والمصبح والضروح وذو الكنفات وذو القرع والفليق ووثاب والعمودان؛ رآها يوسف عليه السلام تسجد له). قال ابن عباس وقتادة: الكواكب إخوته، والشمس أمه، والقمر أبوه. وقال قتادة أيضا: الشمس خالته، لأن أمه كانت قد ماتت، وكانت خالته تحت أبيه. "رأيتهم" توكيد. وقال: "رأيتهم لي ساجدين" فجاء مذكرا؛ فالقول عند الخليل وسيبويه أنه لما أخبر عن هذه الأشياء بالطاعة والسجود وهما من أفعال من يعقل أخبر عنها كما يخبر عمن يعقل. وقد تقدم هذا المعنى في قوله: "وتراهم ينظرون إليك" [الأعراف: 198]. والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته، وإن كان خارجا عن الأصل.
الصفحة رقم 235 من المصحف تحميل و استماع mp3