تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 297 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 297

297- تفسير الصفحة رقم297 من المصحف
الآية: 28 {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرط}
قوله تعالى: "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي" هذا مثل قوله: "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي" [الأنعام: 52] في سورة "الأنعام" وقد مضى الكلام فيه. وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: عيينة بن حصن والأقرع بن حابس فقالوا: يا رسول الله؛ إنك لو جلست في صدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم - يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين، وكانت عليهم جباب الصوف لم يكن عليهم غيرها - جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك، فأنزل الله تعالى "واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا. واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه - حتى بلغ - إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها". يتهددهم بالنار. فقام النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسهم حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله قال: (الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات). "يريدون وجهه" أي طاعته. وقرأ نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبو عبدالرحمن "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي" وحجتهم أنها في السواد بالواو. وقال أبو جعفر النحاس: وهذا لا يلزم لكتبهم الحياة والصلاة بالواو، ولا تكاد العرب تقول الغدوة لأنها معروفة. وروي عن الحسن أي لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم من أبناء الدنيا طلبا لزينتها؛ حكاه اليزيدي. وقيل: لا تحتقرهم عيناك؛ كما يقال فلان تنبو عنه العين؛ أي مستحقرا.
قوله تعالى: "تريد زينة الحياة الدنيا" أي تتزين بمجالسة هؤلاء الرؤساء الذين اقترحوا إبعاد الفقراء من مجلسك؛ ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك، ولكن الله نهاه عن أن يفعله، وليس هذا بأكثر من قوله "لئن أشركت ليحبطن عملك" [الزمر: 65]. وإن كان الله أعاذه من الشرك. و"تريد" فعل مضارع في موضع الحال؛ أي لا تعد عيناك مريدا؛ كقول امرئ القيس:
فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
وزعم بعضهم أن حق الكلام: لا تعد عينيك عنهم؛ لأن "تعد" متعد بنفسه. قيل له: والذي وردت به التلاوة من رفع العينين يؤول إلى معنى النصب فيها، إذا كان لا تعد عيناك عنهم بمنزلة لا تنصرف عيناك عنهم، ومعنى لا تنصرف عيناك عنهم لا تصرف عينيك عنهم؛ فالفعل مسند إلى العينين وهو في الحقيقة موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: "فلا تعجبك أموالهم" فأسند الإعجاب إلى الأموال، والمعنى: لا تعجبك يا محمد أموالهم. ويزيدك وضوحا قول الزجاج: إن المعنى لا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة.
قوله تعالى: "ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا" روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: "ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا" قال: نزلت في أمية بن خلف الجمحي، وذلك أنه دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمر كرهه من تجرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة؛ فأنزل الله تعالى: "ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا" يعني من ختمنا على قلبه عن التوحيد. "واتبع هواه" يعني الشرك. "وكان أمره فرطا" قيل هو من التفريط الذي هو التقصير وتقديم العجز بترك الإيمان. وقيل: من الإفراط ومجاوزة الحد، وكان القوم قالوا: نحن أشراف مضر إن أسلمنا أسلم الناس؛ وكان هذا من التكبر والإفراط ف في القول. وقيل: "فرطا" أي قدما في الشر؛ من قولهم: فرط منه أمر أي سبق. وقيل: معنى "أغفلنا قلبه" وجدناه غافلا؛ كما تقول: لقيت فلانا فأحمدته؛ أي وجدته محمودا. وقال عمرو بن معد يكرب لبني الحارث بن كعب: والله لقد سألناكم فما أبخلناكم، وقاتلناكم فما أجبناكم، وهاجيناكم فما أفحمناكم؛ أي ما وجدناكم بخلاء ولا جبناء ولا مفحمين. وقيل: نزلت "ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا" في عيينة بن حصن الفزاري؛ ذكره عبدالرزاق، وحكاه النحاس عن سفيان الثوري. والله اعلم.
الآية: 29 {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفق}
قوله تعالى: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" "الحق" رفع على خبر الابتداء المضمر؛ أي قل هو الحق. وقيل: هو رفع على الابتداء، وخبره في قوله "من ربكم". ومعنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا: أيها الناس من ربكم الحق فإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال، يهدي من يشاء فيؤمن، ويضل من يشاء فيكفر؛ ليس إلي من ذلك شيء، فالله يؤتي الحق من يشاء وإن كان ضعيفا، ويحرمه من يشاء وإن كان قويا غنيا، ولست بطارد المؤمنين لهواكم؛ فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا. وليس هذا بترخيص وتخيير بين الإيمان والكفر، وإنما هو وعيد وتهديد. أي إن كفرتم فقد أعد لكم النار، وإن آمنتم فلكم الجنة.
قوله تعالى: "إنا أعتدنا" أي أعددنا. "للظالمين" أي للكافرين الجاحدين. "نارا أحاط بهم سرادقها" قال الجوهري: السرادق واحد السرادقات التي تمد فوق صحن الدار. وكل بيت من كرسف فهو سرادق. قال رؤبة:
يا حكم بن المنذر بن الجارود سرادق المجد عليك ممدود
يقال: بيت مسردق. وقال سلامة بن جندل يذكر أبرويز وقتله النعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة:
هو المدخل النعمان بيتا سماؤه صدور الفيول بعد بيت مسردق
وقال ابن الأعرابي: "سرادقها" سورها. وعن ابن عباس: حائط من نار. الكلبي: وقال ابن الأعرابي: "سرادقها" سورها. وعن ابن عباس: حائط من نار. الكلبي: عنق تخرج من النار فتحيط بالكفار كالحظيرة. القتبي: السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط. وقال ابن عزيز. وقيل: هو دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الذي ذكره الله تعالى في سورة "والمرسلات". حيث يقول: "انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب" [المرسلات: 30] وقوله: "وظل من يحموم" [الواقعة: 43] قاله قتادة. وقيل: إنه البحر المحيط بالدنيا. وروي يعلي بن أمية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البحر هو جهنم - ثم تلا - نارا أحاط بهم سرادقها - ثم قال - والله لا أدخلها أبدا ما دمت حيا ولا يصيبني منها قطرة) ذكره الماوردي. وخرج ابن المبارك من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لسرادق النار أربع جدر كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة). وخرجه أبو عيسى الترمذي، وقال فيه: حديث حسن صحيح غريب.
قلت: وهذا يدل على أن السرادق ما يعلو الكفار من دخان أو نار، وجدره ما وصف.
قوله تعالى: "وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه" قال ابن عباس: المهل ماء غليظ مثل دردي الزيت. مجاهد: القيح والدم. الضحاك: ماء أسود، وإن جهنم لسوداء، وماؤها أسود وشجرها أسود وأهلها سود. وقال أبو عبيدة: هو كل ما أذيب من جواهر الأرض من حديد ورصاص ونحاس وقصدير، فتموج بالغليان، فذلك المهل. ونحوه عن ابن مسعود قال سعيد بن جبير: هو الذي قد انتهى حره. وقال: المهل ضرب من القطران؛ يقال: مهلت البعير فهو ممهول. وقيل: هو السم. والمعنى في هذه الأقوال متقارب. وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "كالمهل" قال: (كعكر الزيت فإذا قربه إلى وجهه سقطت فروة وجهه) قال أبو عيسى: هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد ورشدين قد تكلم فيه من قبل حفظه. وخرج عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "ويسقى من ماء صديد يتجرعه" قال: (يقرب إلى فيه فكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه إذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره. يقول الله تعالى "وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم" [محمد: 15] يقول "وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا" قال: حديث غريب.
قلت: وهذا يدل على صحة تلك الأقوال، وأنها مرادة، والله اعلم. وكذلك نص عليها أهل اللغة. في الصحاح "المهل" النحاس المذاب. ابن الأعرابي: المهل المذاب من الرصاص. وقال أبو عمرو. المهل دردي الزيت. والمهل أيضا القيح والصديد. وفي حديث أبي بكر: ادفنوني في ثوبي هذين فإنهما للمهل والتراب. و"مرتفقا" قال مجاهد: معناه مجتمعا، كأنه ذهب إلى معنى المرافقة. ابن عباس: منزلا. عطاء: مقرا. وقيل مهادا. وقال القتبي: مجلسا، والمعنى متقارب؛ وأصله من المتكأ، يقال منه: ارتفقت أي اتكأت على المرفق. قال الشاعر:
قالت له وارتفقت ألا فتى يسوق بالقوم غزالات الضحى
ويقال: ارتفق الرجل إذا نام على مرفقه لا يأتيه نوم. قال أبو ذؤيب الهذلي:
نام الخلي وبت الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصاب مدبوح
الصاب: عصارة شجر مر.
الآيتان: 30 - 31 {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا، أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفق}
لما ذكر ما أعد للكافرين من الهوان ذكر أيضا ما للمؤمنين من الثواب. وفي الكلام إضمار؛ أي لا نضيع أجر من أحسن منهم عملا، فأما من أحسن عملا من غير المؤمنين فعمله محبط. و"عملا" نصب على التمييز، وإن شئت بإيقاع "أحسن" عليه. وقيل: "إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا" كلام معترض، والخبر قوله "أولئك لهم جنات عدن". و"جنات عدن" سرة الجنة، أي وسطها وسائر الجنات محدقة بها وذكرت بلفظ الجمع لسعتها؛ لأن كل بقعة منها تصلح أن تكون جنة وقيل: العدن الإقامة، يقال: عدن بالمكان إذا أقام به وعدنت البلد توطنته وعدنت الإبل بمكان كذا لزمته فلم تبرح منه؛ ومنه "جنات عدن" أي جنات إقامة ومنه سمي المعدن (بكسر الدال)؛ لأن الناس يقيمون فيه بالصيف والشتاء ومركز كل شيء معدنه والعادن: الناقة المقيمة في المرعى. وعدن بلد؛ قاله الجوهري. "تجري من تحتهم الأنهار" تقدم. "يحلون فيها من أساور من ذهب" وهو جمع سوار. قال سعيد بن جبير: على كل واحد منهم ثلاثة أسورة: واحد من ذهب، وواحد من ورق، وواحد من لؤلؤ.
قلت: هذا منصوص في القرآن، قال هنا "من ذهب" وقال في الحج وفاطر "من ذهب ولؤلؤا" [الحج: 23] وفي الإنسان "من فضة" [الإنسان: 21]. وقال أبو هريرة: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء) خرجه مسلم. وحكى الفراء: "يحلون" بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام خفيفة؛ يقال: حليت المرأة تحلى فهي حالية إذا لبست الحلي. وحلي الشيء بعيني يحلى؛ ذكره النحاس. والسوار سوار المرأة، والجمع أسورة، وجمع الجمع أساورة. وقرئ "فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب" [الزخرف: وقد يكون الجمع أساور. وقال الله تعالى "يحلون فيها من أساور من ذهب" قاله الجوهري. وقال ابن عزيز: أساور جمع أسورة، وأسورة جمع سوار وسوار، وهو الذي يلبس في الذراع من ذهب، فإن كان من فضة فهو قلب وجمعه قلبة؛ فإن كان من قرن أو عاج فهي مسكة وجمعه مسك. قال النحاس: وحكى قطرب في واحد الأساور إسوار، وقطرب صاحب شذوذ، قد تركه يعقوب وغيره فلم يذكره.
قلت: قد جاء في الصحاح وقال أبو عمرو بن العلاء: وأحدها إسوار. وقال المفسرون: لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور. والتيجان جعل الله تعالى ذلك لأهل الجنة.
قوله تعالى: "ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق" السندس: الرفيق النحيف، واحده سندسة؛ قال الكسائي. والإستبرق: ما ثخن منه - عن عكرمة - وهو الحرير. قال الشاعر:
تراهن يلبسن المشاعر مرة وإستبرق الديباج طورا لباسها
فالإستبرق الديباج. ابن بحر: المنسوج بالذهب. القتبي: فارسي معرب. الجوهري: وتصغيره أبيرق. وقيل: هو استفعل من البريق. والصحيح أنه وفاق بين اللغتين؛ إذ ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب، على ما تقدم، والله اعلم." وخص الأخضر بالذكر لأنه الموافق للبصر؛ لأن البياض يبدد النظر ويؤلم، والسواد يذم، والخضرة بين البياض والسواد، وذلك يجمع الشعاع. والله اعلم. روى النسائي عن عبدالله بن عمرو بن العاص فال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، أخبرنا عن ثياب الجنة، أخلق يخلق أم نسج ينسج؟ فضحك بعض القوم. فقال لهم: (مم تضحكون من جاهل يسأل عالما) فجلس يسيرا أو قليلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أين السائل عن ثياب الجنة)؟ فقال: ها هو ذا يا رسول الله؛ قال (لا بل تشقق عنها ثمر الحنة) قالها ثلاثا. وقال أبو هريرة: دار المؤمن درة مجوفة في وسطها شجرة تنبت الحلل ويأخذ بأصبعه أو قال بأصبعيه سبعين حلة منظمة بالدر والمرجان. ذكره يحيى بن سلام في تفسيره وابن المبارك في رقائقه. وقد ذكرنا إسناده في كتاب التذكرة. وذكر في الحديث أنه يكون على كل واحد منهم الحلة لها وجهان لكل وجه لون، يتكلمان به بصوت يستحسنه سامعه، يقول أحد الوجهين للآخر: أنا أكرم على ولي الله منك، أنا ألي جسده وأنت لا تلي. ويقول الآخر: أنا أكرم على ولي الله منك، أنا أبصر وجهه وأنت لا تبصر.
قوله تعالى: "متكئين فيها على الأرائك" "الأرائك" جمع أريكة، وهي السرر في الحجال. وقيل الفرش في الحجال؛ قاله الزجاج. ابن عباس: هي الأسرة من ذهب، وهي مكللة بالدر والياقوت عليها الحجال، الأريكة ما بين صنعاء إلى أيلة وما بين عدن إلى الجابية. وأصل متكئين موتكئين، وكذلك اتكأ أصله أو تكأ، وأصل التكأة وكأة؛ ومنه التوكأ للتحامل على الشيء، فقلبت الواو تاء وأدغمت. ورجل وكأة كثير الاتكاء. "نعم الثواب وحسنت مرتفقا" يعني الجنات، عكس "وساءت مرتفقا". وقد تقدم. ولو كان "نعمت" لجاز لأنه اسم للجنة. وعلى هذا "وحسنت مرتفقا". وروى البراء بن عازب أن أعرابيا قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء فقال: إني رجل مسلم فأخبرني عن هذه الآية "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات" الآية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنت منهم ببعيد ولا هم ببعيد منك هم هؤلاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فأعلم قومك أن هذه الآية نزلت فيهم) ذكره الماوردي، وأسنده النحاس في كتاب معاني القرآن، قال: حدثنا أبو عبدالله أحمد بن علي بن سهل قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا يحيى بن الضريس عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال: قام أعرابي...؛ فذكره. وأسنده السهيلي في كتاب الأعلام. وقد روينا جميع ذلك بالإجازة، والحمد لله.
الآيات: 32 - 34 {واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا، كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا، وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفر}
قوله تعالى: "واضرب لهم مثلا رجلين" هذا مثل لمن يتعزز بالدنيا ويستنكف عن مجالسة المؤمنين، وهو متصل بقوله "واصبر نفسك" [الكهف: 28]. واختلف في اسم هذين الرجلين وتعيينهما؛ فقال الكلبي: نزلت في أخوين من أهل مكة مخزوميين، أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبدالله بن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم. والآخر كافر وهو الأسود بن عبدالأسد، وهما الأخوان المذكوران في سورة "الصافات" في قوله "قال قائل منهم إني كان لي قرين" [الصافات: 51]، ورث كل واحد منهما أربعة آلاف دينار، فأنفق أحدهما مال في سبيل الله وطلب من أخيه شيئا فقال ما قال...؛ ذكره الثعلبي والقشيري. وقيل: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مكة. وقيل: هو مثل لجميع من آمن بالله وجميع من كفر. وقيل: هو مثل لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وصهيب وأصحابه؛ شبههم الله برجلين من بني إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهوذا؛ في قول ابن عباس. وقال مقاتل: اسمه تمليخا. والآخر كافر واسمه قرطوش. وهما اللذان وصفهما الله تعالى في سورة الصافات. وكذا ذكر محمد بن الحسن المقرئ قال: اسم الخير منهما تمليخا، والآخر قرطوش، وأنهما كانا شريكين ثم اقتسما المال فصار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فاشترى المؤمن منهما عبيدا بألف وأعتقهم، وبالألف الثانية ثيابا فكسا العراة، وبالألف الثالثة طعاما فأطعم الجوع، وبنى أيضا مساجد، وفعل خيرا. وأما الآخر فنكح بماله نساء ذوات يسار، واشترى دواب وبقرا فاستنتجها فنمت له نماء مفرطا، وأتجر بباقيها فربح حتى فاق أهل زمانه غنى؛ وأدركت الأول الحاجة، فأراد أن يستخدم نفسه في جنة يخدمها فقال: لو ذهبت لشريكي وصاحبي فسألته أن يستخدمني في بعض جناته رجوت أن يكون ذلك أصلح بي، فجاءه فلم يكد يصل إليه من غلظ الحجاب، فلما دخل عليه وعرفه وسأله حاجته قال له: ألم أكن قاسمتك المال نصفين فما صنعت بمالك؟. قال: اشتريت به من الله تعالى ما هو خير منه وأبقى. فقال. أإنك لمن المصدقين، ما أظن الساعة قائمة وما أراك إلا سفيها، وما جزاؤك عندي على سفاهتك إلا الحرمان، أو ما ترى ما صنعت أنا بمالي حتى آل إلى ما تراه من الثروة وحسن الحال، وذلك أني كسبت وسفهت أنت، اخرج عني. ثم كان من قصة هذا الغني ما ذكره الله تعالى في القرآن من الإحاطة بثمره وذهابها أصلا بما أرسل عليها من السماء من الحسبان. وقد ذكر الثعلبي هذه القصة بلفظ آخر، والمعنى متقارب.
قال عطاء: كانا شريكين لهما ثمانية آلاف دينار. وقيل: ورثاه من أبيهما وكانا أخوين فاقتسماها، فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار، فقال صاحبه: اللهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار وإني اشتريت منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال: اللهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار وإني اشتري منك دارا في الجنة بألف دينار، فتصدق بها، ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار، فقال: اللهم إن فلانا تزوج امرأة بألف دينار وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار، وإني أشتري منك خدما ومتاعا من الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم أصابته حاجة شديدة فقال: لعل صاحبي ينالني معروفه فأتاه فقال: ما فعل مالك؟ فأخبره قصته فقال: وإنك لمن المصدقين بهذا الحديث والله لا أعطيك شيئا ثم قال له: أنت تعبد إله السماء، وأنا لا أعبد إلا صنما؛ فقال صاحبه: والله لأعظنه، فوعظه وذكره وخوفه. فقال: سر بنا نصطد السمك، فمن صاد أكثر فهو على حق؛ فقال له: يا أخي إن الدنيا أحقر عند الله من أن يجعلها ثوابا لمحسن أو عقابا لكافر. قال: فأكرهه على الخروج معه، فابتلاهما الله، فجعل الكافر يرمي شبكته ويسمي باسم صنمه، فتطلع متدفقه سمكا. وجعل المؤمن يرمي شبكته ويسمي باسم الله فلا يطلع له فيها شيء؛ فقال له: كيف ترى أنا أكثر منك في الدنيا نصيبا ومنزلة ونفرا، كذلك أكون أفضل منك في الآخرة إن كان ما تقول بزعمك حقا. قال: فضج الملك الموكل بهما، فأمر الله تعالى جبريل أن يأخذه فيذهب به إلى الجنان فيريه منازل المؤمن فيها، فلما رأى ما أعد الله له قال: وعزتك لا يضره ما ناله من الدنيا بعد ما يكون مصيره إلى هذا؛ وأراه منازل الكافر في جهنم فقال: وعزتك لا ينفعه ما أصابه من الدنيا بعد أن يكون مصيره إلى هذا. ثم إن الله تعالى توفى المؤمن وأهلك الكافر بعذاب من عنده، فلما استقر المؤمن في الجنة ورأى ما أعد الله له أقبل هو وأصحابه يتساءلون، فقال: "إني كان لي قرين. يقول أإنك لمن المصدقين" [الصافات: 51] الآية؛ فنادى مناد: يا أهل الجنة هل أنتم مطلعون فاطلع إلى جهنم فرآه في سواء الجحيم؛ فنزلت "واضرب لهم مثلا".
بين الله تعالى حال الأخوين في الدنيا في هذه السورة، وبين حالهما في الآخرة في سورة "الصافات" في قول "إني كان لي قرين. يقول أإنك لمن المصدقين - إلى قوله - لمثل هذا فليعمل العاملون" [الصافات: 51]. قال ابن عطية: وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين، وكانتا لأخوين فباع أحدهما نصيبه من الآخر فأنفق في طاعة الله حتى عيره الآخر، وجرت بينهما المحاورة فغرقها الله تعالى في ليلة، وإياها عني بهذه الآية. وقد قيل: إن هذا مثل ضربه الله تعالى لهذه الأمة، وليس بخبر عن حال متقدمة، لتزهد في الدنيا وترغب في الآخرة، وجعله زجرا وإنذارا؛ ذكره الماوردي. وسياق الآية يدل على خلاف هذا، والله اعلم.
قوله تعالى: "وحففناهما بنخل" أي أطفناهما من جوانبهما بنخل. والحفاف الجانب، وجمعه أحفة؛ ويقال: حف القوم بفلان يحفون حفا، أي طافوا به؛ ومنه "حافين من حول العرش" [الزمر: 75]. "وجعلنا بينهما زرعا" أي جعلنا حول الأعناب النخل، ووسط الأعناب الزرع.
قوله تعالى: "كلتا الجنتين" أي كل واحدة من الجنتين، واختلف في لفظ "كلتا وكلا" هل هو مفرد أو مثنى؛ فقال أهل البصرة: هو مفرد؛ لأن كلا وكلتا في توكيد الاثنين نظير "كل" في المجموع، وهو اسم مفرد غير مثنى؛ فإذا ولي اسما ظاهرا كان في الرفع والنصب والخفض على حالة واحدة، تقول: رأيت كلا الرجلين وجاءني كلا الرجلين ومررت بكلا الرجلين؛ فإذا اتصل بمضمر قلبت الألف ياء في موضع الجر والنصب، تقول: رأيت كليهما ومررت بكليهما، كما تقول عليهما. وقال الفراء: هو مثنى، وهو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الألف للتثنية. وكذلك كلتا للمؤنث، ولا يكونان إلا مضافين ولا يتكلم بواحد، ولو تكلم به لقيل: كل وكلت وكلان وكلتان. واحتج بقول الشاعر:
في كلت رجليها سلامى واحده كلتاهما مقرونة بزائده
أراد في إحدى رجليها فأفرد. وهذا القول ضعيف عند أهل البصرة؛ لأنه لو كان مثنى لوجب أن تكون ألفه في النصب والجر ياء مع الاسم الظاهر، ولأن معنى "كلا" مخالف لمعنى "كل" لأن "كلا" للإحاطة و"كلا" يدل على شيء مخصوص، وأما هذا الشاعر فإما حذف الألف للضرورة وقدر أنها زائدة، وما يكون ضرورة لا يجوز أن يجعل حجة، فثبت أنه اسم مفرد كمعى، إلا أنه وضع ليدل على التثنية، كما أن قولهم "نحن" اسم مفرد يدل على اثنين فما فوقهما، يدل على ذلك قول جرير:
كلا يومي أمامة يوم صد وإن لم نأتها إلا لماما
فأخبر عن "كلا" بيوم مفرد، كما أفرد الخبر بقوله "آتت" ولو كان مثنى لقال آتتا، ويوما. واختلف أيضا في ألف "كلتا"؛ فقال سيبويه: ألف "وكلتا" للتأنيث والتاء بدل من لام الفعل وهي واو والأصل كلوا، وإنما أبدلت تاء لأن في التاء علم التأنيث، والألف "في كلتا" قد تصير ياء مع المضمر فتخرج عن علم التأنيث، فصار في إبدال الواو تاء تأكيد للتأنيث. وقال أبو عمر الجرمي: التاء ملحقة والألف لام الفعل، وتقديرها عنده: فعتل، ولو كان الأمر على ما زعم الجرمي: التاء ملحقة والألف لام الفعل، وتقديرها عنده: فعتل، ولو كان الأمر على ما زعم لقالوا في النسبة إليها كلتوي، فلما قالوا كلوي وأسقطوا التاء دل على أنهم أجروها مجرى التاء في أخت إذا نسبت إليها قلت أخوي؛ ذكره الجوهري. قال أبو جعفر النحاس: وأجاز النحويون في غير القرآن الحمل على المعنى، وأن تقول: كلتا الجنتين آتتا أكلهما؛ لأن المعنى المختار كلتاهما آتتا. وأجاز الفراء: كلتا الجنتين آتى أكله، قال: لأن المعنى كل الجنتين. قال: وفي قراءة عبدالله "كل الجنتين أتى أكله". والمعنى على هذا عند الفراء: كل شيء من الجنتين آتي أكله. والأكل (بضم الهمزة) ثمر النخل والشجر. وكل ما يؤكل فهو أكل؛ ومنه قوله تعالى: "أكلها دائم" [الرعد: 35] وقد تقدم. "آتت أكلها" تاما ولذلك لم يقل آتتا. "ولم تظلم منه شيئا" أي لم تنقص.
قوله تعالى: "وفجرنا خلالهما نهرا" أي أجرينا وشققنا وسط الجنتين بنهر. "وكان له ثمر" قرأ أبو جعفر وشيبة وعاصم ويعقوب وابن أبي إسحاق "ثمر" بفتح الثاء والميم، وكذلك قوله "وأحيط بثمره" [الكهف: 42] جمع ثمرة. قال الجوهري: الثمرة واحدة الثمر والثمرات، وجمع الثمر ثمار؛ مثل جبل وجبال. قال الفراء: وجمع الثمار ثمر؛ مثل كتاب وكتب، وجمع الثمر أثمار؛ مثل أعناق وعنق. والثمر أيضا المال المثمر؛ يخفف ويثقل. وقرأ أبو عمرو "وكان له ثمر" بضم الثاء وإسكان الميم، وفسره بأنواع المال. والباقون بضمها في الحرفين. قال ابن عباس: ذهب وفضة وأموال. وقد مضى في "الأنعام" نحو هذا مبينا. ذكر النحاس: حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرني عمران بن بكار قال حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي قال حدثنا شعيب بن إسحاق قال هارون قال حدثني أبان عن ثعلب عن الأعمش أن الحجاج قال: لو سمعت أحدا يقرأ "وكان له ثمر" لقطعت لسانه؛ فقلت للأعمش: أتأخذ بذلك؟ فقال: لا؟ ولا نعمة عين. فكان يقرأ "ثمر" ويأخذه من جمع الثمر. قال النحاس: فالتقدير على هذا القول أنه جمع ثمرة على ثمار، ثم جمع ثمار على ثمر؛ وهو حسن في العربية إلا أن القول الأول أشبه والله اعلم؛ لأن قوله "كلتا الجنتين آتت أكلها" يدل على أن له ثمرا.
قوله تعالى: "فقال لصاحبه وهو يحاوره" أي يراجعه في الكلام ويجاوبه. والمحاورة المجاوبة، والتحاور التجاوب. ويقال: كلمته فما أحار إلي جوابا، وما رجع إلي حويرا ولا حويرة ولا محورة ولا حوارا؛ أي ما رد جوابا. "أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا" النفر: الرهط وهو ما دون العشرة. وأراد ههنا الاتباع والخدم والولد، حسبما تقدم بيانه.