تفسير الطبري تفسير الصفحة 297 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 297
298
296
 الآية : 28
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وَاصْبِرْ يا مـحمد نَفْسَكَ مَعَ أصحابك الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بـالغَدَاةِ والعَشِيّ بذكرهم إياه بـالتسبـيح والتـحميد والتهلـيـل والدعاء والأعمال الصالـحة من الصلوات الـمفروضة وغيرها يُرِيدُونَ بفعلهم ذلك وَجْهَهُ لا يريدون عرضا من عرض الدنـيا.
وقد ذكرنا اختلاف الـمختلفـين فـي قوله يَدْعُونَ رَبّهُمْ بـالغَدَاةِ والعَشِيّ فـي سورة الأنعام, والصواب من
القول فـي ذلك عندنا, فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع. والقرّاء علـى قراءة ذلك: بـالغَدَاة والعَشِيّ, وقد ذُكر عن عبد الله بن عامر وأبـي عبد الرحمن السلـمي أنهما كانا يقرآنه: «بـالغدوة والعشيّ», وذلك قراءة عند أهل العلـم بـالعربـية مكروهة, لأن غدوة معرّفة, ولا ألف ولا لام فـيها, وإنـما يعرّف بـالألف واللام ما لـم يكن معرفة فأما الـمعارف فلا تعرّف بهما. وبعد, فإن غدوة لا تضاف إلـى شيء, وامتناعها من الإضافة دلـيـل واضح علـى امتناع الألف واللام من الدخول علـيها, لأن ما دخـلته الألف واللام من الأسماء صلـحت فـيه الإضافة وإنـما تقول العرب: أتـيتك غداة الـجمعة, ولا تقول: أتـيتك غدوة الـجمعة, والقراءة عندنا فـي ذلك ما علـيه القرّاء فـي الأمصار لا نستـجيز غيرها لإجماعها علـى ذلك, وللعلة التـي بـيّنا من جهة العربـية.
وقوله: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ يقول جلّ ثناؤه لنبـيه صلى الله عليه وسلم: ولا تصرف عيناك عن هؤلاء الذين أمرتك يا مـحمد أن تصبر نفسك معهم إلـى غيرهم من الكفـار, ولا تـجاوزهم إلـيه وأصله من قولهم: عدوت ذلك, فأنا أعدوه: إذا جاوزته. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17354ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس, فـي قوله: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ قال: لا تـجاوزهم إلـى غيرهم.
حدثنـي علـيّ, قال: ثنـي عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ يقول: لا تتعدّهم إلـى غيرهم.
17355ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: واصْبِرْ نَفْسِكَ... الاَية, قال: قال القوم للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: إنا نستـحيـي أن نـجالس فلانا وفلانا وفلانا, فجانبهم يا مـحمد, وجالس أشراف العرب, فنزل القرآن وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بـالغَدَاة والعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ ولا تـحقرهم, قال: قد أمرونـي بذلك, قال: وَلا تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتّبَعَ هَوَاهُ وكانَ أمْرُهُ فُرُطا.
17356ـ حدثنا الربـيع بن سلـيـمان, قال: حدثنا ابن وهب, قال: أخبرنـي أسامة بن زيد, عن أبـي حازم, عن عبد الرحمن بن سهل بن حنـيف, أن هذه الاَية لـما نزلت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فـي بضع أبـياته وَاصْبْر نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بـالغَدَاةِ والعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ فخرج يـلتـمس, فوجد قوما يذكرون الله, منهم ثائر الرأس, وجافّ الـجلد, وذو الثوب الواحد, فلـما رآهم جلس معهم, فقال: «الـحَمْدُ لِلّهِ الّذِي جَعَلَ لِـي فِـي أُمّتـي مَنْ أمرنـي أنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُ» ورُفعت العينان بـالفعل, وهو لا تعد.
وقوله: تُرِيدُ زِينَة الـحَياةَ الدّنـيْا يقول تعالـى ذكره لنبـيه صلى الله عليه وسلم: لا تعدُ عيناك عن هؤلاء الـمؤمنـين الذين يدعون ربهم إلـى أشراف الـمشركين, تبغي بـمـجالستهم الشرف والفخر وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فـيـما ذكر قوم من عظماء أهل الشرك, وقال بعضهم: بل من عظماء قبـائل العرب مـمن لا بصيرة لهم بـالإسلام, فرأوه جالسا مع خبـاب وصهيب وبلال, فسألوه أن يقـيـمهم عنه إذا حضروا, قالوا: فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله علـيه: وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بـالغَدَاةِ وَالعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ثم كان يقوم إذا أراد القـيام, ويتركهم قعودا, فأنزل الله علـيه وَاصْبِرْ نَفسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بـالغَدَاةِ والعَشِيّ... الاَية وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الـحَياةِ الدّنـيْا يريد زينة الـحياة الدنـيا: مـجالسة أولئك العظماء الأشراف, وفد ذكرت الرواية بذلك فـيـما مضى قبل فـي سورة الأنعام.
17357ـ حدثنـي الـحسين بن عمرو العنقزي, قال: حدثنا أبـي, قال: حدثنا أسبـاط بن نصر, عن السدي, عن أبـي سعيد الأزدي, وكان قارىء الأزد عن أبـي الكنود, عن خبـاب فـي قصة ذكرها عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, ذكر فـيها هذا الكلام مدرجا فـي الـخبر وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الـحَياةِ الدّنـيْا قال: تـجالس الأشراف.
17358ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرت أن عيـينة بن حصن قال للنبـيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلـم: لقد آذانـي ريح سلـمان الفـارسي, فـاجعل لنا مـجلسا منك لا يجامعوننا فـيه, واجعل لهم مـجلسا لا نـجامعهم فـيه, فنزلت الاَية.
17359ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذُكر لنا أنه لـما نزلت هذه الاَية قال نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم: «الـحَمْدِ لِلّهِ الّذِي جَعَلَ فِـي أُمّتـي مَنْ أُمرْتُ أنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُ».
17360ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله تُرِيدُ زِينَةَ الـحَياةِ الدّنـيْا قال: تريد أشراف الدنـيا.
17361ـ حدثنا صالـح بن مسمار, قال: حدثنا الولـيد بن عبد الـملك, قال: سلـيـمان بن عطاء, عن مسلـمة بن عبد الله الـجهنـيّ, عن عمه أبـي مشجعة بن ربعي, عن سلـمان الفـارسي, قال: جاءت الـمؤلفة قلوبهم إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم: عيـينة بن حصن, والأقرع بن حابس وذووهم, فقالوا: يا نبـيّ الله, إنك لو جلست فـي صدر الـمسجد, ونفـيت عنا هؤلاء وأرواح جبـابهم يعنون سلـمان وأبـا ذرّ وفقراء الـمسلـمين, وكانت علـيهم جبـاب الصوف, ولـم يكن علـيهم غيرها جلسنا إلـيك وحادثناك, وأخذنا عنك فأنزل الله: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إلَـيْكَ مِنْ كِتابِ رَبّكَ لا مُبَدّلَ لِكَلِـماتِهِ وَلَنْ تَـجدَ مِنْ دُونهِ مُلْتَـحَدا, حتـى بلغ إنّا أعْتَدْنا للظّالِـمِينَ نارا يتهدّدهم بـالنار فقام نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم يـلتـمسهم حتـى أصابهم فـي مؤخر الـمسجد يذكرون الله, فقال: «الـحَمْدُ لِلّهِ الّذِي لَـمْ يُـمتْنِـي حتـى أمَرَنِـي أنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَ رجِالٍ مِنْ أُمّتِـي, مَعَكُمُ الـمَـحيْا وَمَعَكُمُ الـمَـماتُ».
وقوله: وَلا تُطعْ مَنْ أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتّبَعَ هَوَاهُ يقول تعالـى ذكره لنبـيه صلى الله عليه وسلم: ولا تطع يا مـحمد من شغلنا قلبه من الكفـار الذين سألوك طرد الرهط الذين يدعون ربهم بـالغداة والعشيّ عنك, عن ذكرنا, بـالكفر وغلبة الشقاء علـيه, واتبع هواه, وترك اتبـاع أمر الله ونهيه, وآثر هوى نفسه علـى طاعة ربه, وهم فـيـما ذُكر: عيـينة بن حصن, والأقرع بن حابس وذووهم.
17362ـ حدثنـي الـحسين بن عمرو بن مـحمد العنقزي, قال: حدثنا أبـي, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, عن أبـي سعيد الأزدي, عن أبـي الكنود, عن خبـاب وَلا تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا قال: عيُـينة, والأقرع.
وأما قوله: وكانَ أمْرُهُ فُرُطا فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله, فقال بعضهم: معناه: وكان أمره ضياعا. ذكر من قال ذلك:
17363ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث, قال: حدثنا الـحسن, قال حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وكانَ أمْرُهُ فُرُطا قال ابن عمرو فـي حديثه قال: ضائعا. وقال الـحرث فـي حديثه: ضياعا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قال: ضياعا.
وقال آخرون: بل معناه: وكان أمره ندما. ذكر من قال ذلك:
17364ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا بدل بن الـمـحبر, قال: حدثنا عبـاد بن راشد, عن داود فُرُطا قال: ندامة.
وقال آخرون: بل معناه: هلاكا. ذكر من قال ذلك:
17365ـ حدثنـي الـحسين بن عمرو, قال: حدثنا أبـي, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, عن أبـي سعيد الأزدي, عن أبـي الكنود, عن خبـاب وكانَ أمْرُهُ فُرُطا قال: هلاكا.
وقال آخرون: بل معناه: خلافـا للـحق. ذكر من قال ذلك:
17366ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وكانَ أمْرُهُ فُرُطا قال: مخالفـا للـحقّ, ذلك الفُرُط.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب, قول من قال: معناه: ضياعا وهلاكا, من قولهم: أفرط فلان فـي هذا الأمر إفراطا: إذا أسرف فـيه وتـجاوز قدره, وكذلك قوله: وكانَ أمْرُهُ فُرُطا معناه: وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا فـي الرياء والكبر, واحتقار أهل الإيـمان, سرفـا قد تـجاوز حدّه, فَضَيّع بذلك الـحقّ وهلك. وقد:
17367ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, قال: قـيـل له: كيف قرأ عاصم؟ فقال كانَ أمْرُهُ فُرُطا قال أبو كريب: قال أبو بكر: كان عُيـينة بن حصن يفخر بقول أنا وأنا.
الآية : 29
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا مـحمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا, واتبعوا أهواءهم: الـحقّ أيها الناس من عند ربكم, وإلـيه التوفـيق والـحذلان, وبـيده الهدى والضلال يهدي من يشاء منكم للرشاد, فـيؤمن, ويضلّ من يشاء عن الهدى فـيكفر, لـيس إلـيّ من ذلك شيء, ولست بطارد لهواكم من كان للـحقّ متبعا, وبـالله وبـما أنزل علـيّ مؤمنا, فإن شئتـم فآمنوا, وإن شئتـم فـاكفروا, فإنكم إن كفرتـم فقد أعدّ لكم ربكم علـى كفركم به نار أحاط بكم سرادقها, وإن آمنتـم به وعملتـم بطاعته, فإن لكم ما وصف الله لأهل طاعته. وروي عن ابن عبـاس فـي ذلك ما:
17368ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: فَمَنْ شاءَ فَلْـيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْـيَكْفُرْ يقول: من شاء الله له الإيـمان آمن, ومن شاء الله له الكفر كفر, وهو قوله: وَما تَشاءُونَ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ رَبْ العَالَـمِينَ ولـيس هذا بإطلاق من الله الكفر لـمن شاء, والإيـمان لـمن أراد, وإنـما هو تهديد ووعيد.
وقد بـين أن ذلك كذلك قوله: إنّا اعْتَدْنا للظّالِـمينَ نارا والاَيات بعدها. كما:
17369ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن عمر بن حبـيب, عن داود, عن مـجاهد, فـي قوله: فَمَنْ شاءَ فَلْـيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْـيَكْفُرْ. قال: وعيد من الله, فلـيس بـمعجزي.
17370ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: فَمَنْ شاءَ فَلْـيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْـيَكْفُرْ, وقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُـمْ قال: هذا كله وعيد لـيس مصانعة ولا مراشاة ولا تفويضا. وقوله: إنّا أعْتَدْنا للظّالِـمينَ نارا يقول تعالـى ذكره: إنا أعددنا, وهو من العُدّة. للظالـمين: الذين كفروا بربهم. كما:
17371ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, فـي قوله: إنّا أعْتَدْنا للظّالِـمِينَ نارا أحاطَ بِهمْ سُرَادِقُها قال: للكافرين.
وقوله: أحاطَ بِهمْ سُرَادِقُها يقول: أحاط سرادق النار التـي أعدّها الله للكافرين بربهم, وذلك فـيـما قـيـل: حائط من نار يطيف بهم كسرادق الفسطاط, وهي الـحجرة التـي تطيف بـالفسطاط, كما قال رؤبة:
يا حَكَمَ بنَ الـمُنْذِرِ بْنَ الـجارُودْسُرادِقُ الفَضْلِ عَلَـيْكَ مَـمْدُودْ
وكما قال سلامة بن جندل:
هُوَ الـمُوِلـجُ النّعْمانَ بـيْتا سَماؤُهُصُدُورُ الفُـيُولِ بعدَ بَـيْتٍ مُسَرْدَق
يعنـي: بـيتا له سرادق. ذكر من قال ذلك:
17372ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس, فـي قوله: إنّا أعْتَدْنا للظّالِـمِينَ نارا أحاطَ بِهمْ سُرَادِقُها قال: هي حائط من نار.
17373ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عمن أخبره, قال أحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا قال: دخان يحيط بـالكفـار يوم القـيامة, وهو الذي قال الله: ظلّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ.
وقد رُوي عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي ذلك خبر يدلّ علـى أن معنى قوله أحاطَ بِهمْ سرادِقُها أحاط بهم ذلك فـي الدنـيا, وأن ذلك السرادق هو البحر. ذكر من قال ذلك:
17374ـ حدثنـي العبـاس بن مـحمد والـحسين بن نصر, قالا: حدثنا أبو عاصم, عن عبد الله بن أمية, قال: ثنـي مـحمد بن حيـي بن يعلـى, عن صفوان بن يعلـى, عن يعلـى بن أمية, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البَحْرُ هُوَ جَهَنّـمُ» قال: فقـيـل له: كيف ذلك, فتلا هذه الاَية, أو قرأ هذه الاَية: نارا أحاطَ بِهمْ سُرَادِقُها ثم قال: واللّهِ لا أدْخُـلُها أبَدا أوْ ما دُمْتُ حَيّا, وَلا تُصِيبُنـي مِنْها قَطْرَة.
17375ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا يعمر بن بشر, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, قال: أخبرنا رشدين بن سعد, قال: ثنـي عمرو بن الـحارث, عن أبـي السمـح, عن أبـي الهيثم, عن أبـي سعيد الـخدري, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «سُرَادِقُ النّارِ أرْبَعَةُ جُدُرٍ, كِثْفُ كُلّ وَاحِدٍ مِثْلُ مَسِيرَةِ أرْبعِينَ سَنَةً».
حدثنا بشر, قال: حدثنا ابن وهب, قال: أخبرنـي عمرو بن الـحارث, عن درّاج, عن أبـي الهيثم, عن أبـي سعيد, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ لِسُرَادِقِ النّارِ أرْبَعَةَ جُدُرٍ, كِثْفُ كُلّ وَاحِدَة مِثْلُ مَسِيرةِ أرْبَعِينَ سَنَةً».
17376ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا ابن وهب, قال: أخبرنـي عمرو, عن دراج, عن أبـي الهيثم, عن أبـي سعيد, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ماءٌ كالـمُهْلِ», قالَ: «كَعَكَرِ الزّيْتِ, فإذَا قَرّبَهُ إلَـيْه سقط فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِـيهِ».
وقوله: وَإن يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِـمَاءٍ كالـمُهْلِ يقول تعالـى ذكره: وإن يستغث هؤلاء الظالـمون يوم القـيامة فـي النار من شدّة ما بهم من العطش, فـيطلبونَ الـماء يُغاثوا بـماء الـمُهْل.
واختلف أهل التأويـل فـي الـمهل, فقال بعضهم: هو كلّ شيء أذيب وإنـماع. ذكر من قال ذلك:
17377ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذُكر لنا أن ابن مسعود أهديت إلـيه سِقاية من ذهب وفضة, فأمر بأخدود فخدّ فـي الأرض, ثم قذف فـيه من جزل حطب, ثم قذف فـيه تلك السقاية, حتـى إذا أزبدت وانـماعت قال لغلامه: ادع من يحضُرنا من أهل الكوفة, فدعا رهطا, فلـما دخـلوا علـيه قال: أترون هذا؟ قالوا: نعم, قال: ما رأينا فـي الدنـيا شبـيها للـمهل أدنى من هذا الذهب والفضة, حين أزبد وإنـماع.
وقال آخرون: هو القـيح والدم الأسود. ذكر من قال ذلك:
17378ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام عن عنبسة, عن مـحمد بن عبد الرحمن, عن القاسم, عن أبـي بَزّة, عن مـجاهد فـي قوله: وَإنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثوا بِـمَاءٍ كالـمُهْلِ قال: القـيح والدم.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد بـمَاءٍ كالـمُهْلِ قال: القـيح والدم الأسود, كعكر الزيت. قال الـحرث فـي حديثه: يعنـي درديّة.
17379ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: كالـمُهْلِ قال: يقول: أسود كهيئة الزيت.
17380ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: بِـمَاءٍ كالـمَهْلِ ماء جهنـم أسود, وهي سوداء, وشجرها أسود, وأهلها سود.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله وَإنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِـمَاءٍ كالـمُهْلِ قال: هو ماء غلـيظ مثل دردي الزيت.
وقال آخرون: هو الشيء الذي قد انتهى حرّة. ذكر من قال ذلك:
17381ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر وهارون بن عنترة, عن سعيد بن جبـير, قال: الـمهل: هو الذي قد انتهى حرّة.
وهذه الأقوال وإن اختلفت بها ألفـاظ قائلـيها, فمتقاربـات الـمعنى, وذلك أن كلّ ما أذيب من رصاص أو ذهب أو فضة فقد انتهى حرّة, وأن ما أوقدت علـيه من ذلك النار حتـى صار كدردي الزيت, فقد انتهى أيضا حرّة. وقد:
17382ـ حُدثت عن معمر بن الـمثنى, أنه قال: سمعت الـمنتـجع بن نبهان يقول: والله لفلان أبغض إلـيّ من الطلـياء والـمهل, قال: فقلنا له: وما هما؟ فقال: الـجربـاء, والـملة التـي تنـحدر عن جوانب الـخبزة إذا ملت فـي النار من النار, كأنها سهلة حمراء مدققة, فهي أحمره, فـالـمهل إذا هو كلّ مائع قد أوقد علـيه حتـى بلغ غاية حرّة, أو لـم يكن مائعا, فإنـماع بـالوقود علـيه, وبلغ أقصى الغاية فـي شدّة الـحرّ.
وقوله: يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ يقول جلّ ثناؤه: يشوي ذلك الـماء الذي يغاثون به وجوههم. كما:
17383ـ حدثنـي مـحمد بن خـلف العسقلانـي, قال: حدثنا حيوة بن شريح, قال: حدثنا بقـية, عن صفوان بن عمرو, عن عبد الله بن بُسْر هكذا قال ابن خـلف عن أبـي أمامة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فـي قوله ويُسْقَـى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَـجَرّعُهُ قال: «يقرب إلـيه فـيتكرّهه, فإذا قرب منه, شوى وجهه, ووقعت فَرْوة رأسه, فإذا شربه قطع أمعاءه», يقول الله: وَإنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِـمَاءٍ كالـمُهْلِ يَشوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا إبراهيـم بن إسحاق الطالَقانـي ويعمر بن بشر, قالا: حدثنا ابن الـمبـارك, عن صفوان, عن عبد الله بن بُسْر, عن أبـي أمامة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بـمثله.
17384ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر وهارون بن عنترة, عن سعيد بن جبـير, قال هارون: إذا جاع أهل النار. وقال جعفر: إذا جاء أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم, فأكلوا منها, فـاختلست جلود وجوههم, فلو أن مارّا مارّ بهم يعرفهم, لعرف جلود وجوههم فـيها, ثم يصبّ علـيهم العطش, فـيستغيثون, فـيغاثون بـماء كالـمهل, وهو الذي قد انتهى حرّة, فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حرّة لـحوم وجوههم التـي قد سقطت عنها الـجلود.
وقوله: بِئْسَ الشّرابُ يقول تعالـى ذكره: بئس الشراب, هذا الـماء الذي يغاث به هؤلاء الظالـمون فـي جهنـم الذي صفته ما وصف فـي هذه الاَية. وقوله: وَساءَتْ مُرْتَفَقا يقول تعالـى ذكره: وساءت هذه النار التـي أعتدناها لهؤلاء الظالـمين مرتفقا والـمرتفَق فـي كلام العرب: الـمتكأ, يقال منه: ارتفقت إذا اتكأت, كما قال الشاعر:
قالَتْ لَهُ وَارْتَفَقَتْ ألا فَتَـىيَسُوقُ بـالقَوْمِ غَزَالاتِ الضّحَى
أراد: واتكأت علـى مرفقها وقد ارتفق الرجل: إذا بـات علـى مرفقه لا يأتـيه نوم, وهو مرتفق, كما قال أبو ذؤيب الهذلـيّ:
نامَ الـخَـلِـيّ وَبِتّ اللّـيْـلَ مُرْتَفِقاكأنّ عَيْنِـيَ فِـيها الصّابُ مَذْبُوحُ
وأما من الرفق فإنه يقال: قد ارتفقت بك مرتفقا, وكان مـجاهد يتأوّل قوله: وَساءَتْ مُرْتَفَقا يعنـي الـمـجتـمع. ذكر الرواية بذلك:
17385ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مُرْتَفَقا: أي مـجتـمعا.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا معتـمر, عن لـيث, عن مـجاهد وَساءَتْ مُرْتَفَقَا قال: مـجتـمعا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد مثله.
ولست أعرف الارتفـاق بـمعنى الاجتـماع فـي كلام العرب, وإنـما الارتفـاق: افتعال, إما من الـمرفق, وإما من الرفق.

الآية : 30
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ إِنّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً }.
يقول تعالـى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله, وعملوا بطاعة الله, وانتهوا إلـى أمره ونهيه, إنا لا نضيع ثواب من أحسن عملاً, فأطاع الله, واتبع أمره ونهيه, بل نـجازيه بطاعته وعمله الـحسن جنات عدن تـجري من تـحتها الأنهار.
فإن قال قائل: وأين خَبَر «إنّ» الأولـى؟ قـيـل: جائز أن يكون خبرها قوله: إنّا لا نُضِيعُ أجْرَ مَنْ أحْسَنَ عَمَلاً فـيكون معنى الكلام: إنا لا نضيع أجر من عمل صالـحا, فترك الكلام الأوّل, واعتـمد علـى الثانـي بنـية التكرير, كما قـيـل: يَسْألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ بـمعنى: عن قتال فـيه علـى التكرير, وكما قال الشاعر:
إنّ الـخَـلِـيفَةَ إنّ اللّهَ سَرْبَلَهُسِرْبـالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الـخَواتِـيـمُ
ويروى: تُرْخَى وجائز أن يكون: إنّ الّذِينَ آمَنُوا جزاءً, فـيكون معنى الكلام: إن من عمل صالـحا فإنا لا نضيع أجره, فتضمر الفـاء فـي قوله «إنّا» وجائز أن يكون خبرها: أولئك لهم جنات عدن, فـيكون معنى الكلام: إن الذين آمنوا وعملوا الصالـحات, أولئك لهم جنات عدن.

الآية : 31
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مّتّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَآئِكِ نِعْمَ الثّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً }.
يقول تعالـى ذكره: لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالـحات جناتُ عدن, يعنـي بساتـين إقامة فـي الاَخرة. تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِهِمُ الأنهَارُ يقول: تـجري من دونهم ومن أيديهم الأنهار. وقال جلّ ثناؤه: من تـحتهم, ومعناه: من دونهم وبـين أيديهم, يُحَلّوْنَ فِـيها مِنْ أساوِرَ يقول: يـلبسون فـيها من الـحلـيّ أساور من ذهب, والأساور: جمع إسوار.
وقوله: يَـلْبَسُونَ ثِـيابـا خُضْرا مِنْ سُنْدُسٍ والسندس: جمع واحدها سندسة, وهي ما رقّ من الديبـاج: والاستبرق: ما غلظ منه وَثـخُن وقـيـل: إن الاستبرق: هو الـحرير ومنه قول الـمرَقّش:
تَرَاهُنّ يَـلْبَسْنَ الـمَشاعِرَ مَرّةًواسْتَبْرَقَ الدّيبـاجِ طَوْرا لِبـاسُها
يعنـي: وغلـيظ الديبـاج.
وقوله: مُتّكِيئنَ فِـيها علـى الأرَائِكِ يقول: متكئين فـي جنات عدن علـى الأرائك, وهي السّرُر فـي الـحِجال, واحدتها: أريكة ومنه قول الشاعر:
خُدُودا جَفَتْ فـي السّيْرِ حتـى كأنّـمايُبـاشِرْنَ بـالـمَعْزاءِ مَسّ الأرَائِك
ومنه قول الأعشى:
بـينَ الرّوَاقِ وجانِبٍ مِنْ سِتْرِهامِنْها وبـينَ أرِيكَةٍ الأنْضادِ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17386ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله عَلَـى الأرَائِكِ قال: هي الـحجال. قال معمر, وقال غيره: السرر فـي الـحجال.
وقوله: نِعْمَ الثّوَابُ يقول: نعم الثواب جنات عدن, وما وصف جلّ ثناؤه أنه جعل لهؤلاء الذين آمنوا وعلـموا الصالـحات وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقا يقول: وحسُنت هذه الأرائك فـي هذه الـجنان التـي وصف تعالـى ذكره فـي هذه الاَية متكأ. وقال جلّ ثناؤه: وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقا فأنث الفعل بـمعنى: وحسنت هذه الأرائك مرتَفَقا, ولو ذكر لتذكير الـمرتفق كان صوابـا, لأن نِعْم وبِئْس إنـما تدخـلهما العرب فـي الكلام لتدلا علـى الـمدح والذمّ لا للفعل, فلذلك تذكرهما مع الـمؤنث, وتوحّدهما مع الاثنـين والـجماعة.
الآية : 32 -34
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاضْرِبْ لهُمْ مّثَلاً رّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئاً وَفَجّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لَصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ نَفَراً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: واضرب يا مـحمد لهؤلاء الـمشركين بـالله, الذين سألوك أن تطرُد الذين يدعون ربهم بـالغداة والعشيّ يريدون وجهه, مَثلاً مثل رَجُلَـينِ جَعَلْنا لأَحَدهِما جَنّتَـيْنِ أي جعلنا له بساتـين من كروم وحَفَفْناهُمَا بنَـخْـلٍ يقول: وأطفنا هذين البساتـين بنـخـل. وقوله: وَجَعَلْنا بَـيْنَهُما زَرْعا يقول: وجعلنا وسط هذين البساتـين زرعا. وقوله: كِلْتا الـجَنّتَـيْنِ آتَتْ أُكُلَها يقول: كلا البستانـين أطعم ثمره وما فـيه من الغروس من النـخـل والكرم وصنوف الزرع. وقال: كلتا الـجنتـين, ثم قال: آتت, فوحّد الـخبر, لأن كلتا لا يفرد واحدتها, وأصله كلّ, وقد تفرد العرب كلتا أحيانا, ويذهبون بها وهي مفردة إلـى التثنـية قال بعض الرّجاز فـي ذلك:
فِـي كِلْتَ رِجْلَـيْها سُلاَمي وَاحدَهكِلْتاهُما مَقْرُونَةٌ بِزَائِدَهْ
يريد بكلت: كلتا, وكذلك تفعل بكلتا وكلا وكل إذا أضيفت إلـى معرفة, وجاء الفعل بعدهن ويجمع ويوحد. وقوله: ولَـمْ تَظْلِـمْ مِنْهُ شَيْئا يقول: ولـم تنقص من الأكل شيئا, بل آتت ذلك تاما كاملاً, ومنه قولهم: ظلـم فلان فلانا حقّه: إذا بخَسَهُ ونقصه, كما قال الشاعر:
تَظّلَـمَنِـي ما لـي كَذَا وَلَوى يَدِيلَوَى يَدَهُ اللّهُ الّذِي هُوَ غالِبُهْ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17387ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ولَـمْ تَظْلِـمْ مِنْهُ شَيْئا: أي لـم تنقص منه شيئا.
وقوله: وَفَجّرْنا خِلاَلهُما نَهَرا يقول تعالـى ذكره: وَسيّـلنا خلال هذين البستانـين نهرا, يعنـي بـينها وبـين أشجارهما نهرا. وقـيـل: وفَجّرْنا فثقل الـجيـم منه, لأن التفجير فـي النهر كله, وذلك أنه يـميد ماء فـيُسيـل بعضه بعضا.
وقوله: وكانَ لَهُ ثَمَرٌ اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـحجاز والعراق: «وكانَ لَهُ ثُمُرٌ» بضمّ الثاء والـميـم. واختلف قارئو ذلك كذلك, فقال بعضهم: كان له ذهب وفضة, وقالوا: ذلك هو الثمر, لأنها أموال مثمرة, يعنـي مكّثرة. ذكر من قال ذلك:
17388ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ: وكانَ لَهُ ثَمَرٌ قال: ذهب وفضة, وفـي قول الله عزّ وجلّ: بِثُمُرِهِ قال: هي أيضا ذهب وفضة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, فـي قوله ثَمَرٌ قال: ذهب وفضة. قال: وقوله: وأُحِيطَ بِثُمُرِهِ هي هي أيضا.
وقال آخرون: بل عُنِـي به: الـمال الكثـير من صنوف الأموال. ذكر من قال ذلك:
17389ـ حدثنا أحمد بن يوسف, قال: حدثنا القاسم, قال: ثنـي حجاج, عن هارون, عن سعيد بن أبـي عَروبة, عن قتادة, قال: قرأها ابن عبـاس: «وكانَ لَهُ ثُمُرُ» بـالضمّ, وقال: يعنـي أنواع الـمال.
حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: «وكانَ لَهُ ثُمُرٌ» يقول: مال.
17382حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد. قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, فـي قوله: «وكانَ لَهُ ثُمُرٌ» يقول: من كلّ الـمال.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله وأُحِيطَ بِثُمُرِهِ قال: الثمر من الـمال كله يعنـي الثمر, وغيره من الـمال كله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن قتادة, قال: «الثّمُر» الـمال كله, قال: وكلّ مال إذا اجتـمع فهو ثُمُر إذا كان من لون الثمرة وغيرها من الـمال كله.
وقال آخرون: بل عنى به الأصل. ذكر من قال ذلك:
17390ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: «وكانَ لَهُ ثُمُرٌ» الثمر الأصل. قال وأُحيطَ بثُمُرِهِ قال: بأصله.
وكأنّ الذين وجّهوا معناها إلـى أنها أنواع من الـمال, أرادوا أنها جمع ثمار جمع ثمر, كما يجمع الكتاب كتبـا, والـحمار حمرا. وقد قرأ بعض من وافق هؤلاء فـي هذه القراءة «ثُمْرٌ» بضمّ الثاء وسكون الـميـم, وهو يريد الضمّ فـيها غير أنه سكنها طلب التـخفـيف. وقد يحتـمل أن يكون أراد بها جمع ثمرة, كما تـجمع الـخَشبة خَشَبـا. وقرأ ذلك بعض الـمدنـيـين: وكانَ لَهُ ثَمَرٌ بفتـح الثاء والـميـم, بـمعنى جمع الثّمرة, كما تـجمع الـخشبة خَشبـا. والقَصبة قَصبـا.
وأولـى القراءات فـي ذلك عندي بـالصواب قراءة من قرأ وكانَ لَهُ ثُمُرٌ بضمّ الثاء والـميـم لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه وإن كانت جمع ثمار, كما الكتب جمع كتاب.
ومعنى الكلام: وَفَجّرْنا خِلاَلُهِما نَهَرا وكانَ لَهُ منهما ثُمُرٌ بـمعنى من جنتـيه أنواع من الثمار. وقد بـين ذلك لـمن وفق لفهمه, قوله: جَعَلْنا لأحَدِهِما جَنّتَـيْنِ مِنْ أعْنابٍ وحَفَفْناهُما بنَـخْـلٍ وَجَعَلْنا بَـيْنَهُما زَرْعا ثم قال: وكان له من هذه الكروم والنـخـل والزرع ثمر.
وقوله: فَقالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ يقول عزّ وجلّ: فقال هذا الذي جعلنا له جنتـين من أعناب, لصاحبه الذي لا مال له وهو يخاطبه: أنا أكْثَرُ مِنْكَ مالاً وأعَزّ نَفَرا يقول: وأعزّ عشيرة ورَهْطِا, كما قال عُيـينة والأقرع لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نـحن سادات العرب, وأربـاب الأموال, فنـحّ عنا سلـمان وَخّبـابـا وصُهيبـا, احتقارا لهم, وتكبرا علـيهم, كما:
17391ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أنا أكْثَرُ مِنْك مالاً وأعَزّ نَفَرا وتلك والله أمنـية الفـاجر: كثرة الـمال, وعزّة النفر