تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 314 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 314

314- تفسير الصفحة رقم314 من المصحف
وقوله: "إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى" قيل: "أوحينا" ألهمنا وقيل: أوحى إليها في النوم. وقال ابن عباس: أوحى إليها كما أوحى إلى النبيين. "أن اقذفيه في التابوت" قال مقاتل: مؤمن آل فرعون هو الذي صنع التابوت ونجره وكان اسمه حزقيل. وكان التابوت من جميز. "فاقذفيه في اليم" أي اطرحيه في البحر: نهر النيل. "فاقذفيه" قال الفراء: "فاقذفيه في اليم" أمر وفيه معنى المجازاة. أي اقذفيه يلقه اليم. وكذا قوله: "اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم" [العنكبوت: 12]. "يأخذه عدو لي وعدو له" يعني فرعون؛ فاتخذت تابوتا، وجعلت فيه نطعا ووضعت فيه موسى، وقيرت رأسه وخصاصه يعني شقوقه ثم ألقته في النيل، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فساقه الله في ذلك النهر إلى دار فرعون. وروي أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا، فوضعته فيه وقيرته وجصصته، ثم ألقته في اليم. وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير، فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية، إذا بالتابوت، فأمر به فأخرج، ففتح فإذا صبي أصبح الناس، فأحبه عدو الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر القرآن يدل على أن البحر ألقاه بساحله وهو شاطئه، فرأى فرعون التابوت بالساحل فأمر بأخذه. ويحتمل أن يكون إلقاء اليم بموضع من الساحل، فيه فوهة نهر فرعون، ثم أداه النهر إلى حيث البركة. والله أعلم. وقيل: وجدته ابنة فرعون وكان بها برص، فلما فتحت التابوت شفيت. وروي أنهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه فلم يقدروا عليه، وعالجوا كسره فأعياهم، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا فعالجته ففتحته، فإذا صبي نوره بين عينيه، وهو يمص إبهامه لبنا فأحبوه. وكانت لفرعون بنت برصاء، وقال له الأطباء: لا تبرأ إلا من قبل البحر يوجد فيه شبه إنسان دواؤها ريقه؛ فلطخت البرصاء برصها بريقه فبرئت. وقيل: لما نظرت إلى وجهه برئت. والله أعلم. وقيل: وجدته جوار لامرأة فرعون، فلما نظر إليه فرعون فرأى صبيا من أصبح الناس وجها، فأحبه فرعون. فذلك قوله تعالى: "وألقيت عليك محبة مني" قال ابن عباس: أحبه الله وحببه إلى خلقه. وقال ابن عطية: جعل عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه. وقال قتادة: كانت في عيني موسى ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه. وقال عكرمة: المعنى جعلت في حسنا وملاحة فلا يراك أحد إلا أحبك. وقال الطبري: المعنى ألقيت عليك رحمتي. وقال ابن زيد: جعلت من رآك أحبك حتى أحبك فرعون فسلمت من شره، وأحبتك آسية بنت مزاحم فتبنتك. "ولتصنع على عيني" قال ابن عباس: يريد أن ذلك بعيني حيث جعلت في التابوت، وحيث ألقي التابوت في البحر، وحيث التقطك جواري امرأة فرعون؛ فأردن أن يفتحن التابوت لينظرن ما فيه، فقالت منهن واحدة: لا تفتحنه حتى تأتين به سيدتكن فهو أحظى لكن عندها، وأجدر بألا تتهمكن بأنكن وجدتن فيه شيئا فأخذتموه لأنفسكن. وكانت امرأة فرعون لا تشرب من الماء إلا ما استقينه أولئك الجواري فذهبن بالتابوت إليها مغلقا، فلما فتحته رأت صبيا لم ير مثله قط؛ وألقي عليها محبته فأخذته فدخلت به على فرعون، فقالت له: [القصص: 9] "قرة عين لي ولك" قال لها فرعون: أما لك فنعم، وأما لي فلا. فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن فرعون قال نعم هو قرة عين لي ولك لآمن وصدق) فقالت: هبه لي ولا تقتله؛ فوهبه لها. وقيل: "ولتصنع على عيني" أي تربى وتغذى على مرأى مني؛ قاله قتادة. قال النحاس: وذلك معروف في اللغة؛ يقال: صنعت الفرس وأصنعت إذا أحسنت القيام عليه. والمعنى "ولتصنع على عيني" فعلت ذلك. وقيل: اللام متعلقة بما بعدها من قوله: "إذ تمشي أختك" على التقديم والتأخير فـ "إذ" ظرف "لتصنع". وقيل: الواو في "ولتصنع" زائدة. وقرأ ابن القعقاع "ولتصنع" بإسكان اللام على الأمر، وظاهره للمخاطب والمأمور غائب. وقرأ أبو نهيك "ولتصنع" بفتح التاء. والمعنى ولتكون حركتك وتصرفك بمشيئي وعلى عين مني. ذكره المهدوي.
الآيتان: 40 - 41 {إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى، واصطنعتك لنفسي}
قوله تعالى: "إذ تمشي أختك" العامل في "إذ تمشي" "ألقيت" أو "تصنع". ويجوز أن يكون بدلا من "إذ أوحينا" وأخته اسمها مريم "فتقول هل أدلكم على من يكفله" وذلك أنها خرجت متعرفة خبره، وكان موسى لما وهبه فرعون من امرأته طلبت له المراضع، كان لا يأخذ من أحد حتى أقبلت أخته، فأخذته ووضعته في حجرها وناولته ثديها فمصه وفرح به. فقالوا لها: تقيمين عندنا؛ فقالت: إنه لا لبن لي ولكن أدلكم على من يكفله وهم له ناصحون. قالوا: ومن هي؟. قالت: أمي. فقالوا: لها لبن؟ قالت: لبن أخي هارون. وكان هارون أكبر من موسى بسنة. وقيل بثلاث. وقيل بأربع. وذلك أن فرعون رحم بني إسرائيل فرفع عنهم القتل أربع سنين، فولد هارون فيها؛ قال ابن عباس: فجاءت الأم فقبل ثديها. فذلك قوله تعالى: "فرجعناك إلى أمك" وفي مصحف أبي "فرددناك" "كي تقر عينها ولا تحزن" وروى عبدالحميد عن ابن عامر "كي تَقِر عينها" بكسر القاف. قال الجوهري: وقررت به عينا وقررت به قرة وقرورا فيهما. رجل قرير العين؛ وقد قرت عينه تقر وتقر نقيض سخنت. وأقر الله عينه أي أعطاه حتى تقر فلا تطمح إلى من هو فوقه، ويقال: حتى تبرد ولا تسخن. وللسرور دمعة باردة، وللحزن دمعة حارة. وقد تقدم هذا المعنى في "مريم". "ولا تحزن" أي على فقدك. "وقتلت نفسا" قال ابن عباس: قتل قبطيا كافرا. قال كعب: وكان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة. في صحيح مسلم: وكان قتله خطأ؛ على ما يأتي. "فنجيناك من الغم" أي آمناك من الخوف والقتل والحبس. "وفتناك فتونا" أي اختبرناك اختبارا حتى صلحت للرسالة، وقال قتادة: بلوناك بلاء. مجاهد: أخلصنا إخلاصا. وقال ابن عباس: اختبرناك بأشياء قبل الرسالة، أولها حملته أمه في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال، ثم إلقاؤه في اليم، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم جره بلحية فرعون، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، فدرأ ذلك عنه قتل فرعون، ثم قتله القبطي وخروجه خائفا يترقب، ثم رعايته الغنم ليتدرب بها على رعاية الخلق. فيقال: إنه ند له من الغنم جدي فاتبعه أكثر النهار، وأتعبه، ثم أخذه فقبله وضمه إلى صدره، وقال له أتعبتني وأتعبت نفسك؛ ولم يغضب عليه. قال وهب بن منبه: ولهذا اتخذه الله كليما. وقد مضى في "النساء".
قوله تعالى: "فلبثت سنين في أهل مدين" يريد عشر سنين أتم الأجلين. وقال وهب: لبث عند شعيب ثماني وعشرين سنة، منها عشرة مهر امرأته صفورا ابنة شعيب، وثماني عشرة أقامها عنده حتى ولد له عنده. وقوله: "ثم جئت على قدر يا موسى" قال ابن عباس وقتادة وعبدالرحمن بن كيسان: يريد موافقا للنبوة والرسالة؛ لأن الأنبياء لا يبعثون إلا أبناء أربعين سنة. وقال مجاهد ومقاتل: "على قدر" على وعد. وقال محمد بن كعب: ثم جئت على القدر الذي قدرت لك أنك تجيء فيه. والمعنى واحد. أي جئت الوقت الذي أردنا إرسالك فيه. وقال الشاعر:
نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر
قوله تعالى: "واصطنعتك لنفسي" قال ابن عباس: أي اصطفيتك لوحي ورسالتي. وقيل: "اصطنعتك" خلقتك؛ مأخوذ من الصنعة. وقيل قويتك وعلمتك لتبلغ عبادي أمري ونهي.
الآيات: 42 - 44 {اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري، اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}
قوله تعالى: "اذهب أنت وأخوك بآياتي" قال ابن عباس يريد التسع الآيات التي أنزلت عليه. "ولا تنيا في ذكري" قال ابن عباس: تضعفا أي في أمر الرسالة؛ وقاله قتادة. وقيل: تفترا. قال الشاعر:
فما ونى محمد مذ أن غفر له الإله ما مضى وما غبر
والونى الضعف والفتور، والكلال والإعياء. وقال امرؤ القيس:
مسح إذا ما السابحات على الونى أثرن غبارا بالكديد المركل
ويقال: ونيت في الأمر أني ونى ونيا أي ضعفت فأنا وان وناقة وانية وأونيتها أنا أضعفتها وأتعبتها: وفلان لا يني كذا، أي لا يزال، وبه فسر أبان معنى الآية واستشهد بقول طرفة:
كأن القدور الراسيات أمامهم قباب بنوها لا تني أبدا تغلي
وعن ابن عباس أيضا: لا تبطئا. وفي قراءة ابن مسعود "ولا تهنا في ذكري" وتحميدي وتمجيدي وتبليغ رسالتي.
قوله تعالى: "اذهبا" قال في أول الآية: "اذهب أنت وأخوك بآياتي" وقال هناك "اذهبا" فقيل أمر الله تعالى موسى وهارون في هذه الآية بالنفوذ إلى دعوة فرعون، وخاطب أولا موسى وحده تشريفا له؛ ثم كرر للتأكيد. وقيل بين بهذا أنه لا يكفي ذهاب أحدهما. وقيل: الأول أمر بالذهاب إلى كل الناس، والثاني بالذهاب إلى فرعون.
قوله تعالى: "فقولا له قولا لينا" دليل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن ذلك يكون باللين من القول لمن معه القوة، وضمنت له العصمة، ألا تراه قال: "فقولا له قولا لينا" وقال: "لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى" [طه: 46] فكيف بنا فنحن أولى بذلك. وحينئذ يحصل الآمر والناهي على مرغوبه، ويظفر بمطلوبه؛ وهذا واضح.
واختلف الناس في معنى قوله (لينا) فقالت فرقة منهم الكلبي وعكرمة: معناه كنياه؛ وقاله ابن عباس ومجاهد والسدي. ثم قيل: وكنيته أبو العباس. وقيل: أبو الوليد. وقيل: أبو مرة؛ فعلى هذا القول تكنية الكافر جائزة إذا كان وجيها ذا شرف وطمع بإسلامه. وقد يجوز ذلك وإن لم يطمع بإسلامه، لأن الطمع ليس بحقيقة توجب عملا. وقد قال صلى الله عليه وسلم (إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه) ولم يقل وإن طمعتم في إسلامه، ومن الإكرام دعاؤه بالكنية. وقد قال صلى الله عليه وسلم لصفوان بن أمية: (أنزل أبا وهب) فكناه. وقال لسعد: (ألم تسمع ما يقول أبو حباب) يعني عبدالله بن أبي. وروي في الإسرائيليات أن موسى عليه السلام قام على باب فرعون سنة، لا يجد رسولا يبلغ كلاما حتى خرج. فجرى له ما قضى الله من ذلك، وكان ذلك تسلية لمن جاء بعده من المؤمنين في سيرتهم مع الظالمين، وربك أعلم بالمهتدين. وقيل قال له موسى تؤمن بما جئت به، وتعبد رب العالمين؛ على أن لك شبابا لا يهرم إلى الموت، وملكا لا ينزع منك إلى الموت، وينسأ في أجلك أربعمائة سنة، فإذا مت دخلت الجنة. فهذا القول اللين. وقال ابن مسعود: القول اللين قوله تعالى "فقل هل لك إلى أن تزكى. وأهديك إلى ربك فتخشى" [النازعات: 18 - 19]. وقد قيل أن القول اللين قول موسى: يا فرعون إنا رسولا ربك رب العالمين. فسماه بهذا الاسم لأنه أحب إليه مما سواه مما قيل له، كما يسمى عندنا الملك ونحوه.
قلت: القول اللين هو القول الذي لا خشونة فيه؛ يقال: لان الشيء يلين لينا؛ وشيء لين ولين مخفف منه؛ والجمع أليناء. فإذا كان موسى أمر بأن يقول لفرعون قولا لينا، فمن دونه أحرى بأن يقتدى بذلك في خطابه، وأمره بالمعروف في كلامه. وقد قال تعالى "وقولوا للناس حسنا" [البقرة: 83]. على ما تقدم في "البقرة" بيانه والحمد لله.
قوله تعالى: "لعله يتذكر أو يخشى" معناه: على رجائكما وطمعكما؛ فالتوقع فيها إنما هو راجع إلى جهة البشر؛ قال كبراء النحويين: سيبويه وغيره. وقد تقدم. قال الزجاج: "لعل" لفظة طمع وترج فخاطبهم بما يعقلون. وقيل "لعل" ها هنا بمعنى الاستفهام، والمعنى فانظر هل يتذكر. وقيل: هل يتذكر. وقيل: هو إخبار من الله تعالى عن قول هارون لموسى لعله يتذكر أو يخشى؛ قاله الحسن. وقيل: إن لعل وعسى في جميع القرآن لما قد وقع. وقد تذكر فرعون حين أدركه الغرق وخشي فقال: "آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين" [يونس: 90] ولكن لم ينفعه ذلك؛ قاله أبو بكر الوراق وغيره وقال يحيي بن معاذ في هذه الآية: هذا رفقك بمن يقول أنا الإله فكيف رفقك بمن يقول أنت الإله؟ !. وقد قيل: إن فرعون ركن إلى قول موسى لما دعاه، وشاور امرأته فآمنت وأشارت عليه بالإيمان، فشاور هامان فقال: لا تفعل؛ بعد أن كنت مالكا تصير مملوكا، وبعد أن كنت ربا تصير مربوبا. وقال له: أنا أردك شابا فخضب لحيته بالسواد فهو أول من خضب.
الآية: 45 {قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى}
قوله تعالى: "قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى" قال الضحاك: "يفرط" يعجل. قال: و"يطغى" يعتدي. النحاس: التقدير نخاف أن يفرط علينا منه أمر، قال الفراء: فرط منه أمر أي بدر؛ قال: وأفرط أسرف. قال: وفرط وقراءة الجمهور "يفرط" بفتح الياء وضم الراء، ومعناه يعجل ويبادر بعقوبتنا. يقال: فرط أمر أي بدر؛ ومنه الفارط في الماء الذي يتقدم القوم إلى الماء. أي يعذبنا عذاب الفارط في الذنب وهو المتقدم فيه؛ قاله المبرد. وقرأت فرقة منهم ابن محيصن "يفرط" بفتح الياء والراء؛ قال المهدوي: ولعلها لغة. وعنه أيضا بضم الياء وفتح الراء ومعناها أن يحمله حامل التسرع إلينا. وقرأت طائفة "يفرط" بضم الياء وكسر الراء؛ وبها قرأ ابن عباس ومجاهد عكرمة وابن محيصن أيضا. ومعناه يشطط في أذيننا؛ قال الراجز:
قد أفرط العلج علينا وعجل
الآية: 46 {قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى}
قال العلماء: لما لحقهما ما يلحق البشر من الخوف على أنفسهما عرفهما الله سبحانه أن فرعون لا يصل إليهما ولا قومه. وهذه الآية ترد على من قال: إنه لا يخاف؛ والخوف من الأعداء سنة الله في أنبيائه وأوليائه مع معرفتهم به وثقتهم. ولقد أحسن البصري رحمه الله حين قال للمخبر عن عامر بن عبدالله - أنه نزل مع أصحابه في طريق الشام على ماء، فحال الأسد بينهم وبين الماء، فجاء عامر إلى الماء فأخذ منه حاجته، فقيل له: فقد خاطرت بنفسك. فقال: لأن تختلف الأسنة في جوفي أحب إلي من أن يعلم الله أني أخاف شيئا سواه - قد خاف من كان خيرا من عامر؛ موسى صلى الله عليه وسلم حين قال له: "إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يرتقب قال رب نجني من القوم الظالمين" [القصص: 20 - 21] وقال: "فأصبح في المدينة خائفا يترقب" [القصص: 18] وقال حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم: "فأوجس في نفسه خيفة موسى. قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى" [طه: 67 - 68].
قلت ومنه حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق حول المدينة تحصينا للمسلمين وأموالهم، مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لم يبلغه أحدا؛ ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم، مرة إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة؛ تخوفا على أنفسهم من مشركي مكة؛ وهربا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم. وقد قالت أسماء بنت عميس لعمر لما قال لها سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم كذبت يا عمر، كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار - أو أرض - البعداء البغضاء في الحبشة؛ وذلك في الله ورسوله؛ وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن كنا نؤذي ونخاف. الحديث بطوله خرجه مسلم. قال العلماء: فالمخبر عن نفسه بخلاف ما طبع الله نفوس بني آدم [عليه] كاذب؛ وقد طبعهم على الهرب مما يضرها ويؤلمها أو يتلفها. قالوا: ولا ضار أضر من سبع عاد في فلاة من الأرض على من لا آلة معه يدفعه بها عن نفسه، من سيف أو رمح أو نبل أو قوس وما أشبه ذلك.
قوله تعالى: "إنني معكما" يريد بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون. وهذا كما تقول: الأمير مع فلان إذا أردت أنه يحميه. وقول: "أسمع وأرى" عبارة عن الإدراك الذي لا تخفى معه خافية، تبارك الله رب العالمين.
الآيتان: 47 - 48 {فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى، إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى}
قوله تعالى: "فأتياه فقولا إنا رسولا ربك" في الكلام حذف، والمعنى: فأتياه فقالا له ذلك. "فأرسل معنا بني إسرائيل" أي خل عنهم. "ولا تعذبهم" أي بالسخرة والتعب في العمل، وكانت بنو إسرائيل عند فرعون في عذاب شديد؛ يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، ويكلفهم من العمل في الطين واللبن وبناء المدائن مالا يطيقونه. "قد جئناك بآية من ربك" قال ابن عباس: يريد العصا واليد. وقيل: إن فرعون قال له: وما هي؟ فأدخل يده في جيب قميصه، ثم أخرجها بيضاء لها شعاع مثل شعاع الشمس، غلب نورها على نور الشمس فعجب منها ولم يره العصا إلا يوم الزينة. "والسلام على من اتبع الهدى" قال الزجاج: أي من اتبع الهدى سلم من سخط الله عز وجل وعذابه. قال: وليس بتحية، والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب. الفراء: السلام على من اتبع الهدى ولمن اتبع الهدى سواء. "إنا قد أوحي إلينا أن العذاب" يعني الهلاك والدمار في الدنيا والخلود في جهنم في الآخرة. "على من كذب" أنبياء الله "وتولى" أعرض عن الإيمان. وقال ابن عباس: هذه أرجى آية للموحدين لأنهم لم يكذبوا ولم يتولوا.
الآيتان: 49 - 50 {قال فمن ربكما يا موسى، قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}
قوله تعالى: "قال فمن ربكما يا موسى" ذكر فرعون موسى دون هارون لرؤوس الآي. وقيل: خصصه بالذكر لأنه صاحب الرسالة والكلام والآية. وقيل إنهما جميعا بلغا الرسالة وإن كان ساكتا؛ لأنه في وقت الكلام إنما يتكلم واحد، فإذا انقطع وازره الآخر وأيده. فصار لنا في هذا البناء فائدة علم؛ أن الاثنين إذا قلدا أمرا فقام به أحدهما، والآخر شخصه هناك موجود مستغنى عنه في وقت دون وقت أنهما أديا الأمر الذي قلدا وقاما به واستوجبا الثواب؛ لأن الله تعالى قال: "أذهبا إلى فرعون" وقال: "اذهب أنت وأخوك" وقال: "فقولا له" فأمرهما جميعا بالذهاب وبالقول، ثم أعلمنا في وقت الخطاب بقوله: "فمن ربكما" أنه كان حاضرا مع موسى. "قال" موسى: "ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه" أي أنه يعرف بصفاته، وليس له اسم علم حتى يقال فلان بل هو خالق العالم، والذي خص كل مخلوق بهيئة وصورة، ولو كان الخطاب معهما لقالا: قالا ربنا "وخلقه" أول مفعولي أعطى، أي أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، أو ثانيهما أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به؛ على قول الضحاك على ما يأتي. "ثم هدى" قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي: أعطى كل شيء زوجه من جنسه، ثم هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه، وعن ابن عباس ثم هداه إلى الألفة والاجتماع والمناكحة. وقال الحسن وقتادة: أعطى كل شيء صلاحه، وهداه لما يصلحه. وقال مجاهد: أعطى كل شيء صورة؛ ويجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا. وقال الشاعر:
وله في كل شيء خلقه وكذاك الله ما شاء فعل
يعني بالخلقة الصورة؛ وهو قول عطية ومقتل. وقال الضحاك أعطى كل شيء خلقه من المنفعة النوطة به المطابقة له. يعني اليد للبطش، والرجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع. وقيل: أعطى كل شيء ما ألهمه من علم أو صناعة. وقال الفراء: خلق الرجل للمرأة ولكل ذكر ما يوافقه من الإناث ثم هدى الذكر للأنثى. فالتقدير على هذا أعطى كل شيء مثل خلقه.
قلت وهذا معنى قول ابن عباس. الآية بعمومها تتناول جميع الأقوال. وروى زائدة عن الأعمش أنه قرأ "الذي أعطى كل شيء خلقه" بفتح اللام؛ وهي قراءة ابن إسحاق. ورواها نصير عن الكسائي وغيره؛ أي أعطى بني آدم كل شيء خلقه مما يحتاجون إليه. فالقراءتان متفقتان في المعنى.
الآيتان: 51 - 52 {قال فما بال القرون الأولى، قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى}
قوله تعالى: "قال فما بال" البال الحال؛ أي وما حالها وما شأنها، فأعلمه أن علمها عند الله تعالى، أي إن هذا من علم الغيب الذي سألت عنه، وهو مما استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم إلا ما أخبرني به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوبة عند الله في اللوح المحفوظ. وقيل: المعنى فما بال القرون الأولى لم يقروا بذلك. أي فما بالهم ذهبوا وقد عبدوا غير ربك. وقيل: إنما سأل عن أعمال القرون الأولى فأعلمه أنها محصاة عند الله تعالى، ومحفوظة عنده في كتاب. أي هي مكتوبة فسيجازيهم غدا بها وعليها. وعنى بالكتاب اللوح المحفوظ. وقيل: هو كتاب مع بعض الملائكة.
هذه الآية ونظائرها مما تقدم ويأتي تدل على تدوين العلوم وكتبها لئلا تنسى. فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنسيان. وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع فيقيده لئلا يذهب عنه. وروينا بالإسناد المتصل عن قتادة أنه قيل له: أنكتب ما نسمع منك؟ قال: وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب؛ فقال: "علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى". وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي). وأسند الخطيب أبو بكر عن أبي هريرة قال: (كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستمع منه الحديث ويعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أسمع منك الحديث يعجبني ولا أحفظه؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (استعن بيمينك) وأومأ إلى الخط وهذا نص. وعلى جواز كتب العلم وتدوينه جمهور الصحابة والتابعين؛ وقد أمر صلى الله عليه وسلم بكتب الخطبة التي خطب بها في الحج لأبي شاه - رجل من اليمن - لما سأله كتبها. أخرجه مسلم. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قيدوا العلم بالكتابة). وقال معاوية بن قرة: من لم يكتب العلم لم يعد علمه علما. وقد ذهب قوم إلى المنع من الكتب؛ فروى أبو نصرة قال قيل لأبي سعيد: أنكتب حديثكم هذا؟ قال: لم تجعلونه قرآنا؟ ولكن احفظوا كما حفظنا. وممن كان لا يكتب الشعبي ويونس بن عبيد وخالد الحذاء - قال خالد ما كتبت شيئا قط إلا حديثا واحدا، فلما حفظته محوته - وابن عون والزهري. وقد كان بعضهم يكتب فإذا حفظ محاه؛ منهم محمد بن سيرين وعاصم بن ضمرة. وقال هشام بن حسان: ما كتبت حديثا قط إلا حديث الأعماق فلما حفظته محوته.
قلت: وقد ذكرنا عن خالد الحذاء مثل هذا. وحديث الأعماق خرجه مسلم في آخر الكتاب: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق - أو - بدابق) الحديث ذكره في كتاب الفتن. وكان بعضهم يحفظ ثم يكتب ما يحفظ منهم الأعمش وعبدالله بن أدريس وهشيم وغيرهم. وهذا احتياط على الحفظ. والكتب أولى على الجملة، وبه وردت الآي والأحاديث؛ وهو مروي عن عمر وعلي وجابر وأنس رضي الله عنهم، ومن يليهم من كبراء التابعين كالحسن وعطاء وطاوس وعروة بن الزبير، ومن بعدهم من أهل العلم؛ قال الله تعالى "وكتبنا له في الألواح من كل شيء" [الأعراف: 145]. وقال تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" [الأنبياء: 105]. وقال تعالى: "واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة" [الأعراف: 156] الآية. وقال تعالى: "وكل شيء فعلوه في الزبر. وكل صغير وكبير مستطر" [القمر: 52 - 53]. "قال علمها عند ربي في كتاب" إلى غير هذا من الآي. وأيضا فإن العلم لا يضبط إلا بالكتاب، ثم بالمقابلة والمدارسة والتعهد والتحفظ والمذاكرة والسؤال والفحص عن الناقلين والثقة بما نقلوا، وإنما كره الكتب من كره من الصدر الأول لقرب العهد، وتقارب الإسناد لئلا يعتمده الكاتب فيهمله، أو يرغب عن حفظه والعمل به؛ فأما والوقت متباعد، والإسناد غير متقارب، والطرق مختلفة، والنقلة متشابهون، وآفة النسيان معترضة، والوهم غير مأمون؛ فإن تقييد العلم بالكتاب أولى وأشفى، والدليل على وجوبه أقوى؛ فإن احتج محتج بحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تكتبوا عني ومن كتب غير القرآن فليمحه) خرجه مسلم؛ فالجواب أن ذلك كان متقدما؛ فهو منسوخ بأمره بالكتاب، وإباحتها لأبي شاه وغيره. وأيضا كان ذلك لئلا يخلط بالقرآن ما ليس منه. وكذا ما روي عن أبي سعيد أيضا - حرصنا أن يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة فأبى - إن كان محفوظا فهو قبل الهجرة، وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن.
قال أبو بكر الخطيب: ينبغي أن يكتب الحديث بالسواد؛ ثم الحبر خاصة دون المداد لأن السواد أصبغ الألوان، والحبر أبقاها على مر الدهور. وهو آلة ذوي العلم، وعدة أهل المعرفة. ذكر عبدالله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال: رآني الشافعي وأنا في مجلسه وعلى قميصي حبر وأنا أخفيه؛ فقال لم تخفيه وتستره؟ إن الحبر على الثوب من المروءة لأن صورته في الأبصار سواد، وفي البصائر بياض. وقال خالد بن زيد: الحبر في ثوب صاحب الحديث مثل الخلوق في ثوب العروس. وأخذ هذا أبو عبدالله البلوى فقال:
مداد المحابر طيب الرجال وطيب النساء من الزعفران
فهذا يليق بأثواب ذا وهذا يليق بثوب الحصان
وذكر الماوردي أن عبدالله بن سليمان حكى؛ رأى على بعض ثيابه أثر صفرة؛ فأخذ من مداد الدواة وطلاه به، ثم قال: المداد بنا أحسن من الزعفران؛ وأنشد:
إنما الزعفران عطر العذارى ومداد الدوي عطر الرجال
قوله تعالى: "لا يضل ربي ولا ينسى" اختلف في معناه على أقوال خمسة: الأول: إنه ابتداء كلام، تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين وقد كان الكلام تم في قوله: "في كتاب". وكذا قال الزجاج، وأن معنى "لا يضل" لا يهلك من قوله: "أئذا ضللنا في الأرض" [السجدة: 10]. "ولا ينسى" شيئا؛ نزهه عن الهلاك والنسيان. القول الثاني "لا يضل" لا يخطئ؛ قاله ابن عباس؛ أي لا يخطئ في التدبير، فمن أنظره فلحكمة أنظره، ومن عاجله فلحكمة عاجله. القول الثالث "لا يضل" لا يغيب. قال ابن الأعرابي: أصل الضلال الغيبوبة؛ يقال: ضل الناسي إذا غاب عنه حفظ الشيء. قال: ومعنى "لا يضل ربي ولا ينسى" أي لا يغيب عنه شيء ولا يغيب عن شيء. القول الرابع: قاله الزجاج أيضا وقال النحاس أشبهها بالمعنى - أخبر الله عز وجل أنه لا يحتاج إلى كتاب؛ والمعنى لا يضل عنه علم شيء من الأشياء ولا معرفتها، ولا ينسى ما علمه منها.
قلت: وهذا القول راجع إلى معنى قول ابن الأعرابي. وقول خامس: إن "لا يضل ربي ولا ينس" في موضع الصفة لـ "كتاب" أي الكتاب غير ضال عن الله عز وجل؛ أي غير ذاهب عنه.
"ولا ينسى" أي غير ناس له فهما نعتان لـ "كتاب". وعلى هذا يكون الكلام متصلا، ولا يوقف على "كتاب". تقول العرب. ضلني الشيء إذا لم أجده، وأضللته أنا إذا تركته في موضع فلم تجده فيه. وقرأ الحسن وقتادة وعيسى بن عمر وابن محيصن وعاصم الجحدري وابن كثير فيما روى شبل عنه "لا يضل" بضم الياء على معنى لا يضيعه ربي ولا ينساه. قال ابن عرفة: الضلالة عند العرب سلوك سبيل غير القصد؛ يقال: ضل عن الطريق، وأضل الشيء إذا أضاعه. ومنه قرأ من قرأ "لا يضل ربي" أي لا يضيع؛ هذا مذهب العرب.