تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 374 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 374

374- تفسير الصفحة رقم374 من المصحف
الآيات: 160 - 175 {كذبت قوم لوط المرسلين، إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين، أتأتون الذكران من العالمين، وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون، قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين، قال إني لعملكم من القالين، رب نجني وأهلي مما يعملون، فنجيناه وأهله أجمعين، إلا عجوزا في الغابرين، ثم دمرنا الآخرين، وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم}
قوله تعالى: "كذبت قوم لوط المرسلين" مضى معناه.
قوله تعالى: "أتأتون الذكران من العالمين" كانوا ينكحونهم في أدبارهم وكانوا يفعلون ذلك بالغرباء على ما تقدم "في الأعراف". "وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم" يعني فروج النساء فإن الله خلقها للنكاح. قال إبراهيم بن مهاجر: قال لي مجاهد كيف يقرأ عبدالله: "وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم" قلت: "وتذرون ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم" قال: الفرج؛ كما قال: "فأتوهن من حيث أمركم الله" [البقرة: 222]. "بل أنتم قوم عادون" أي متجاوزون لحدود الله. "قالوا لئن لم تنته يالوط" عن قولك هذا. "لتكونن من المخرجين" أي من بلدنا وقريتنا. " قال إني لعملكم" يعني اللواط "من القالين" أي المبغضين والقلى البغض؛ قليته أقليه قلى وقلاء. قال:
فلست بمقلي الخلال ولا قالي
وقال آخر:
عليك السلام لا مللت قريبة ومالك عندي إن نأيت قلاء
"رب نجني وأهلي مما يعملون" من عذاب عملهم. دعا الله لما أيس من إيمانهم ألا يصيبه من عذابهم.
قوله تعالى: "فنجيناه وأهله أجمعين" ولم يكن إلا ابنتاه على ما تقدم في "هود". "إلا عجوزا في الغابرين" روى سعيد عن قتادة قال: غبرت في عذاب الله عز وجل أي بقيت. وأبو عبيدة يذهب إلى أن المعنى من الباقين في الهرم أي بقيت حتى هرمت. قال النحاس: يقال للذاهب غابر والباقي غابر كما قال:
لا تكسع الشَّول بأغبارها إنك لا تدري من الناتج
وكما قال:
فما ونى محمد مذ ان غفر له الإله ما مضى وما غبر
أي ما بقي. والأغبار بقيات الألبان. "ثم دمرنا الآخرين" أي أهلكناهم بالسخف والحصب؛ قال مقاتل: خسف الله بقوم لوط وأرسل الحجارة على من كان خارجا من القرية. "وأمطرنا عليهم مطرا" يعني الحجارة "فساء مطر المنذرين" وقيل: إن جبريل خسف بقريتهم وجعل عاليها سافلها، ثم أتبعها الله بالحجارة. "فساء مطر المنذرين" لم يكن فيها مؤمن إلا بيت لوط وابنتاه.
الآيات: 176 - 191 {كذب أصحاب الأيكة المرسلين، إذ قال لهم شعيب ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين، أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين، وزنوا بالقسطاس المستقيم، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين، واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين، قالوا إنما أنت من المسحرين، وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين، فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين، قال ربي أعلم بما تعملون، فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم}
قوله تعالى: "كذب أصحاب الأيكة المرسلين" الأيك الشجر المتلف الكثير الواحدة أيكة. ومن قرأ: "أصحاب الأيكة" فهي الغيضة. ومن قرأ: "لَيكة" فهو اسم القرية. ويقال: هما مثل بكة ومكة؛ قال الجوهري. وقال النحاس: وقرأ أبو جعفر ونافع: "كذب أصحاب ليكة المرسلين" وكذا قرأ: في "ص". وأجمع القراء على الخفض في التي في سورة "الحجر" والتي في سورة "ق" فيجب أن يرد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه إذ كان المعنى واحدا. وأما ما حكاه أبو عبيد من أن "ليكة" هي اسم القرية التي كانوا فيها وأن "الأيكة" اسم البلد فشيء لا يثبت ولا يعرف من قاله فيثبت علمه، ولو عرف من قاله لكان فيه نظر؛ لأن أهل العلم جميعا من أهل التفسير والعلم بكلام العرب على خلافه. وروى عبدالله بن وهب عن جرير بن حازم عن قتادة قال: أرسل شعيب عليه السلام إلى أمتين: إلى قومه من أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة؛ قال: والأيكة غيضة من شجر متلف. وروى سعيد عن قتادة قال: كان أصحاب الأيكة أهل غيضة وشجر وكانت عامة شجرهم الدوم وهو شجر المقل. وروى ابن جبير عن الضحاك قال: خرج أصحاب الأيكة - يعني حين أصابهم الحر - فانضموا إلى الغيضة والشجر، فأرسل الله عليهم سحابة فاستظلوا تحتها، فلما تكاملوا تحتها أحرقوا. ولو لم يكن هذا إلا ما روي عن ابن عباس قال: و"الأيكة" الشجر. ولا نعلم بين أهل اللغة اختلافا أن الأيكة الشجر الملتف، فأما احتجاج بعض من احتج بقراءة من قرأ في هذين الموضعين بالفتح أنه في السواد "ليكة" فلا حجة له؛ والقول فيه: إن أصله الأيكة ثم خففت الهمزة فألقيت حركتها على اللام فسقطت واستغنت عن ألف الوصل؛ لأن اللام قد تحركت فلا يجوز عل هذا إلا الخفض؛ كما تقول بالأحمر تحقق الهمزة ثم تخفضها بلحمر؛ فإن شئت كتبته في الخط على ما كتبته أولا، وإن شئت كتبته بالحذف؛ ولم يجز إلا الخفض؛ قال سيبويه: وأعلم أن ما لا ينصرف إذا دخلت عليه الألف واللام أو أضيف أنصرف؛ ولا نعلم أحدا خالف سيبويه في هذا. وقال الخليل: "الأيكة" غيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر. "إذ قال لهم شعيب" ولم يقل أخوهم شعيب؛ لأنه لم يكن أخا لأصحاب الأيكة في النسب، فلما ذكر مدين قال: "أخاهم شعيبا" [الأعراف: 85] ؛ لأنه كان منهم. وقد مضى في "الأعراف" القول في نسبه. قال ابن زيد: أرسل الله شعيبا رسولا إلى قومه أهل مدين، وإلى أهل البادية وهم أصحاب الأيكة؛ وقال قتادة. وقد ذكرناه. "ألا تتقون" تخافون الله "إني لكم رسول أمين. فاتقوا الله وأطيعون" الآية. وإنما كان جواب هؤلاء الرسل واحدا على صيغة واحدة؛ لأنهم متفقون على الأمر بالتقوى، والطاعة والإخلاص في العبادة، والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة. "أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين" الناقصين للكيل والوزن. "وزنوا بالقسطاس المستقيم" أي أعطوا الحق. وقد مضى في "سبحان" وغيرها. "ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين" تقدم في "سبحان" وغيرها.
قوله تعالى: "واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين" قال مجاهد: الجبلة هي الخليقة. وجبل فلان على كذا أي خلق؛ فالخُلُق جِبِلَّة وجُبُلَّة وجِبْلة وجُبْلة وجَبْلة ذكره النحاس في "معاني القرآن". "والجبلة" عطف على الكاف والميم. قال الهروي: الجِبِلَّة والجُبْلَة والجِبِلّ والجُبُلّ والجَبْلُ لغات؛ وهو الجمع ذو العدد الكثير من الناس؛ ومنه قوله تعالى: "جبلا كثيرا" [يس: 62]. قال النحاس في كتاب "إعراب القرآن" له: ويقال جُبُلَّة والجمع فيهما جَبَّال، وتحذف الضمة والكسرة من الباء، وكذلك التشديد من اللام؛ فيقال: جُبْلة وجُبَل، ويقال: جِبْلة وجِبال؛ وتحذف الهاء من هذا كله. وقرأ الحسن باختلاف عنه: "والجُبُلَّة الأولين" بضم الجيم والباء؛ وروي عن شيبة والأعرج. الباقون بالكسر. قال:
والموت أعظم حادث فيما يمر على الجِبِلّه
"قالوا إنما أنت من المسحرين" الذين يأكلون الطعام والشراب على ما تقدم. "وإن نظنك لمن الكاذبين" أي ما نظنك إلا من الكاذبين في أنك رسول الله تعالى. "فأسقط علينا كِسْفا من السماء" أي جانبا من السماء وقطعة منه، فننظر إليه؛ كما قال: "وإن يروا كِسْفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم" [الطور: 44]. وقيل: أرادوا أنزل علينا العذاب. وهو مبالغة في التكذيب. قال أبو عبيدة: الكسف جمع كسفة مثل سدر وسدرة. وقرأ السلمي وحفص: "كِسَفا" جمع كسْفة أيضا وهي القطعة والجانب تقديره كِسْرة وكسَر. قال الجوهري: الكسفة القطعة من الشيء، يقال أعطني كسفة من ثوبك والجمع كسَف وكسْف. ويقال: الكسف والكسفة واحد. وقال الأخفش: من قرأ: "كسفا" جعله واحدا ومن قرأ: "كسفا" جعله جمعا. وقد مضى هذا في سورة "سبحان" وقال الهروي: ومن قرأ: "كسفا" على التوحيد فجمعه أكساف وكسوف، كأنه قال أو تسقطه علينا طبقا واحدا، وهو من كسفت الشيء كسفا إذا غطيته. "إن كنت من الصادقين، قال ربي أعلم بما تعملون" تهديد؛ أي إنما علي التبليغ وليس العذاب الذي سألتم وهو يجازيكم. "فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة " قال ابن عباس: أصابهم حر شديد، فأرسل الله سبحانه سحابة فهربوا إليها ليستظلوا بها، فلما صاروا تحتها صيح بهم فهلكوا. وقيل: أقامها الله فوق رؤوسهم، وألهبها حرا حتى ماتوا من الرمد. وكان من أعظم يوم في الدنيا عذابا. وقيل: بعث الله عليهم سموما فخرجوا إلى الأيكة يستظلون بها فأضرمها الله عليهم نارا فاحترقوا. وعن ابن عباس أيضا وغيره: إن الله تعالى فتح عليهم بابا من أبواب جهنم، وأرسل عليهم هدة وحرا شديدا فأخذ بأنفاسهم، فدخلوا بيوتهم فلم ينفعهم ظل ولا ماء فأنضجهم الحر، فخرجوا هربا إلى البرية، فبعث الله عز وجل سحابة فأظلتهم فوجدوا لها بردا وروحا وريحا طيبة، فنادى بعضهم بعضا، فلما اجتمعوا تحت السحابة ألهبها الله تعالى عليهم نارا، ورجفت بهم الأرض، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى، فصاروا رمادا؛ فذلك قوله: "فأصبحوا في ديارهم جاثمين. كأن لم يغنوا فيها" [هود: 68] وقوله: "فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم". وقيل: إن الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام، وسلط عليهم الحر حتى أخذ بأنفاسهم، ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون الأسراب، ليتبردوا فيها فيجدوها أشد حرا من الظاهر. فهربوا إلى البرية، فأظلتهم سحابة وهي الظلة، فوجدوا لها بردا ونسيما، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. وقال يزيد الجريري: سلط الله عليهم الحر سبعة أيام ولياليهن ثم رفع لهم جبل من بعيد" فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون وشجر وماء بارد، فاجتمعوا كلهم تحته، فوقع عليهم الجبل وهو الظلة. وقال قتادة: بعث الله شعيبا إلى أمتين: أصحاب مدين وأصحاب الأيكة فأهلك الله أصحاب الأيكة بالظلة، وأما أصحاب مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا أجمعين." إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين" قيل: آمن بشعيب من الفئتين تسعمائة نفر.