سورة سبأ | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 430 من المصحف
الآية: 15 {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور}
قوله تعالى: "لقد كان لسبأ في مسكنهم آية" قرأ نافع وغيره بالصرف والتنوين على أنه اسم حي، وهو في الأصل اسم رجل؛ جاء بذلك التوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم روى الترمذي قال: حدثنا أبو كريب وعبد بن حميد قالا حدثنا أبو أسامة عن الحسن بن الحكم النخعي قال حدثنا أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك المرادي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم؛ فأذن لي في قتالهم وأمر؛ فلما خرجت من عنده سأل عني: (ما فعل الغطيفي)؟ فأخبر أني قد سرت، قال: فأرسل في أثري فردني فأتيته وهو في نفر من أصحابه فقال: (ادع القوم فمن أسلم منهم فاقبل منه ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك؛ قال: وأنزل في سبأ ما أنزل؛ فقال رجل: يا رسول الله، وما سبأ؟ أرض أو امرأة؟ قال: ليس بأرض ولا بامرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة. فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسان وعاملة. وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار. فقال رجل: يا رسول الله وما أنمار؟ قال: (الذين منهم خثعم وبجيلة). وروي هذا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو "لسبأَ" بغير صرف، جعله اسما للقبيلة، وهو اختيار أبي عبيد، واستدل على أنه اسم قبيلة بأن بعده "في مساكنهم". النحاس: ولو كان كما قال لكان في مساكنها. وقد مضى في "النمل" زيادة بيان لهذا المعنى. وقال الشاعر في الصرف:
الواردون وتم في ذرى سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وقال آخر في غير الصرف:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ يبنون من دون سيلها العرما
وقرأ قنبل وأبو حيوة والجحدري "لسبأْ" بإسكان الهمزة. "في مساكنهم" قراءة العامة على الجمع، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ لأن لهم مساكن كثيرة وليس بمسكن واحد. وقرأ إبراهيم وحمزة وحفص "مسكنهم" موحدا، إلا أنهم فتحوا الكاف. وقرأ يحيى والأعمش والكسائي موحدا كذلك، إلا أنهم كسروا الكاف. قال النحاس: والساكن في هذا أبين؛ لأنه يجمع اللفظ والمعنى، فإذا قلت "مسكنهم" كان فيه تقديران: أحدهما: أن يكون واحدا يؤدي عن الجمع. والأخر: أن يكون مصدرا لا يثني ولا يجمع؛ كما قال الله تعالى: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم" [البقرة: 7] فجاء بالسمع موحدا. وكذا "مقعد صدق" [القمر: 55] و"مسكن" مثل مسجد، خارج عن القياس، ولا يوجد مثله إلا سماعا. "آية" اسم كان، أي علامة دالة على قدرة الله تعالى على أن لهم خالقا خلقهم، وأن كل الخلائق لو اجتمعوا على أن يخرجوا من الخشبة ثمرة لم يمكنهم ذلك، ولم يهتدوا إلى اختلاف أجناس الثمار وألوانها وطعومها وروائحها وأزهارها، وفي ذلك ما يدل على أنها لا تكون إلا من عالم قادر. "جنتان عن يمين وشمال" يجوز أن يكون بدلا من "آية"، ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف،فوقف على هذا الوجه على "آية" وليس بتمام. قال الزجاج: أي الآية جنتان، فجنتان رفع لأنه خبر ابتداء محذوف. وقال الفراء: رفع تفسيرا للآية، ويجوز أن تنصب "آية" على أنها خبر كان، ويجوز أن تنصب الجنتين على الخبر أيضا في غير القرآن. وقال عبدالرحمن بن زيد: إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا فيها بعوضة قط ولا ذبابا ولا برغوثا ولا قملة ولا عقربا ولا حية ولا غيرها من الهوام، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل والدواب فإذا نظروا إلى بيوتهم ماتت الدواب. وقيل: إن الآية هي الجنتان، كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها مكتل فيمتلئ من أنواع الفواكه من غير أن تمسها بيدها؛ قال قتادة. وروى أن الجنتين كانتا بين جبلين باليمن. قال سفيان: وجد فيهما قصران مكتوب على أحدهما: نحن بنينا سلحين في سبعين خريفا دائبين، وعلى الآخر مكتوب: نحن بنينا صروح، مقيل ومراح؛ فكانت إحدى الجنتين عن يمين الوادي والأخرى عن شماله قال القشيري: ولم يرد جنتين اثنين بل أراد من الجنتين يمنة ويسرة؛ أي كانت بلادهم ذات بساتين وأشجار وثمار؛ تستتر الناس بظلالها."كلوا من رزق ربكم"أي قيل لهم كلوا، ولم يكن ثم أمر، ولكنهم تمكنوا من تلك النعم. وقيل: أي قالت الرسل لهم قد أباح الله تعالى لهم ذلك؛ أي أباح لكم هذه النعم فاشكروه بالطاعة. "كلوا من رزق ربكم" أي من ثمار الجنتين. "واشكروا له" يعني على ما رزقكم. "بلدة طيبة" هذا كلام مستأنف؛ أي هذه بلدة طيبة أي كثيرة الثمار. وقيل: غير سبخة. وقيل: طيبة ليس فيها هوام لطيب هوائها. قال مجاهد: هي صنعاء. "ورب غفور" أي والمنعم بها عليكم رب غفور يستر ذنوبكم، فجمع لهم بين مغفرة ذنوبهم وطيب بلدهم ولم يجمع ذلك لجميع خلقه. وقيل: إنما ذكر المغفرة مشيرا إلى أن الرزق قد. يكون فيه حرام. وقد. مضى القول في هذا في أول "البقرة". وقيل: إنما امتن عليهم بعفوه عن عذاب الاستئصال بتكذيب من كذبوه من سالف الأنبياء إلى أن استداموا الإصرار فاستؤصلوا.
الآية: 16 {فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل}
قوله تعالى: "فأعرضوا" يعني عن أمره واتباع رسله بعد أن كانوا مسلمين قال السدي ووهب: بعث إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم. قال القشيري: وكان لهم رئيس يلقب بالحمار، وكانوا في زمن الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وقيل: كان له ولد فمات فرفع رأسه إلى، السماء فبزق وكفر؛ ولهذا يقال: أكفر من حمار. وقال الجوهري: وقولهم "أكفر من حمار" هو رجل، من عاد مات له أولاد فكفر كفرا عظيما، فلا يمر بأرضه أحد إلا دعاه إلى الكفر، فإن أجابه وإلا قتله. ثم لما سال السيل بجنتيهم تفرقوا في البلاد؛ على ما يأتي بيانه. ولهذا قيل في المثل: "تفرقوا أيادي سبا". وقيل: الأوس والخزرج منهم. "فأرسلنا عليهم سيل العرم" والعرم فيما روي عن ابن عباس: السد فالتقدير: سيل السد العرم. وقال عطاء: العرم اسم الوادي. قتادة: العرم وادي سبأ؛ كانت تجتمع إليه مسايل من الأودية، قيل من البحر وأودية اليمن؛ فردموا ردما بين جبلين وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، فكانوا يسقون من الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث على قدر حاجاتهم؛ فأخصبوا وكثرت أموالهم، فلما كذبوا الرسل سلط الله عليهم الفأر فنقب الردم. قال وهب: كانوا يزعمون أنهم يجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة فلم يتركوا فرجة بين صخرتين إلا ربطوا إلى جانبها هرة؛ فلما جاء ما أراد الله تعالى بهم أقبلت فأرة حمراء إلى بعض تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عن الصخرة ودخلت في الفرجة التي كانت عندها ونقبت السد حتى أوهنته للسيل وهم لا يدرون؛ فلما جاء السيل دخل تلك الخلل حتى بلغ السد وفاض الماء على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم. وقال الزجاج: العرم اسم الجرذ الذي نقب السكر عليهم، وهو الذي يقال له الخلد - وقال قتادة أيضا - فنسب السيل إليه لأنه بسببه. وقد قال ابن الأعرابي أيضا: العرم من أسماء الفأر. وقال مجاهد وابن أبي: العرم ماء أحمر أرسله الله تعالى في العد فشقه وهدمه. وعن ابن عباس أيضا أن العرم المطر الشديد. وقيل العرم بسكون الراء. وعن الضحاك كانوا في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام. وقال عمرو بن شرحبيل: العرم المسناة؛ وقاله الجوهري، قال: ولا واحد لها من لفظها، ويقال واحدها عرمة. وقال محمد بن يزيد: العرم كل شيء حاجز بين شيئين، وهو الذي يسمى السكر، وهو جمع عرمة. النحاس: وما يجتمع من مطر بين جبلين وفي وجهه مسناة فهو العرم، والمسناة هي التي يسميها أهل مصر الجسر؛ فكانوا يفتحونها إذا شاؤوا فإذا رويت جنتاهم سدوها. قال الهروي: المسناة الضفيرة تبني للسيل ترده، سميت مسناة لأن فيها مفاتح الماء. وروي أن العرم سد بنته بلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام، وهو المسناة بلغة حمير، بنته بالصخر والقار، وجعلت له أبوابا ثلاثة ببعضها فوق بعض، وهو مشتق من العرامة وهي الشدة، ومنه: رجل عارم، أي شديد، وعرمت العظم أعرمه وأعرمه عرما إذا عرقته، وكذلك عرمت الإبل الشجر أي نالت منه. والعرام بالضم: العراق من العظم والشجر. وتعرمت العظم تعرقته. وصبي عارم بين العرام (بالضم) أي شرس. وقد عرم يعرم ويعرم عرامة (بالفتح). والعرم العارم؛ عن الجوهري.
قوله تعالى: "وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتى أكل خمط" وقرأ أبو عمرو (أكل خمط) بغير تنوين مضافا. قال أهل التفسير والخليل: الخمط الأراك. الجوهري: الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل. وقال أبو عبيدة: هو كل ذي شوك فيه مرارة. الزجاج: كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله. المبرد: الخمط كل ما تغير إلى ما لا يشتهي. واللبن خمط إذا حمض. والأولى عنده في القراءة "ذواتي أكل خمط" بالتنوين على أنه نعت لـ "أكل" أو بدل منه؛ لأن الأكل هو الخمط بعينه عنده، فأما الإضافة فباب جوازها أن يكون تقديرها ذواتي أكل حموضة أو أكل مرارة. وقال الأخفش: والإضافة أحسن في كلام العرب؛ نحو قولهم: ثوب خز والخمط: اللبن الحامض وذكر أبو عبيد أن اللبن إذا ذهب عنه حلاوة الحلب ولم يتغير طعمه فهو سامط؛ وإن أخذ شيئا من الريح فهو خامط وخميط، فإن أخذ شيئا من طعم فهو ممحل، فإذا كان فيه طعم الحلاوة فهو فوهة. وتخمط الفحل: هدر. وتخمط فلان أي غضب وتكبر. وتخمط البحر أي التطم. وخمطت الشاة أخمطها خمطا: إذا نزعت جلدها وشويتها فهي خميط، فإن نزعت شعرها وشويتها فهي سميط. والخمطة: الخمر التي قد أخذت ريح الإدراك كريح التفاح ولم تدرك بعد. ويقال هي الحامضة؛ قاله الجوهري. وقال القتبي في أدب الكاتب. يقال للحامضة خمطة، ويقال: الخمطة التي قد أخذت شيئا من الريح؛ وأنشد:
عقار كماء النيء ليست بخمطة ولا خلة يكوي الشروب شهابها
قوله تعالى: "وأثل" قال الفراء: هو شبيه بالطرفاء إلا أنه أعظم منه طولا؛ (منه اتخذ منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وللأثل أصول غليظة يتخذ منه الأبواب، وورقه كورق الطرفاء، الواحدة أثلة والجمع أثلاث. وقال الحسن: الأثل الخشب. قتادة: هو ضرب من الخشب يشبه الطرفاء رأيته بفيد. وقيل هو السمر. وقال أبو عبيدة: هو شجر النضار. النضار: الذهب. والنضار: خشب يعمل منه قصاع، ومنه: قدح نضار. "وشيء من سدر قليل" قال الفراء: هو السمر؛ ذكره النحاس. وقال الأزهري: السدر من الشجر سدران: بري لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول وله ثمر عفص لا يؤكل، وهو الذي يسمى الضال. والثاني: سدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقه غسول يشبه شجر العناب. قال قتادة: بينما شجر القوم من خير شجر إذ صيره الله تعالى من شر الشجر بأعمالهم، فأهلك أشجارهم المثمرة وأنبت بدلها الأراك والطرفاء والسدر. القشري: وأشجار البوادي لا تسمى جنة وبستانا ولكن لما وقعت الثانية في مقابلة الأولى أطلق لفظ الجنة، وهو كقوله تعالى: "وجزاء سيئة سيئة مثلها" [الشورى: 40]. ويحتمل أن يرجع قوله "قليل" إلى جملة ما ذكر من الخمط والأثل والسدر.
الآية: 17 {ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور}
قوله تعالى: "ذلك جزيناهم بما كفروا" أي هذا التبديل جزاء كفرهم. وموضع "ذلك" نصب؛ أي جزيناهم ذلك بكفرهم. "وهل يجازى إلا الكفور" قراءة العامة "يجازى بياء مضمومة وزاي مفتوحة، "الكفور" رفعا على ما لم يسم فاعله. وقرأ يعقوب وحفص وحمزة والكسائي: "نجازي" بالنون وكسر الزاي، "الكفور" بالنصب، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لأن قبله "جزيناهم" ولم يقل جوزوا. النحاس: والأمر في هذا واسع، والمعنى فيه بين، ولو قال قائل: خلق الله تعالى آدم صلى الله عليه وسلم من طين، وقال آخر: خلق آدم من طين، لكان المعنى واحدا.
مسألة: في هذه الآية سؤال ليس في هذه السورة أشد منه، وهو أن يقال: لم خص الله تعالى المجازاة بالكفور ولم يذكر أصحاب المعاصي؟ فتكلم العلماء في هذا؛ فقال قوم: ليس يجازى بهذا الجزاء الذي هو الإصطلام والإهلاك إلا من كفر. وقال مجاهد: يجازى بمعنى يعاقب؛ وذلك أن المؤمن يكفر الله تعالى عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل سوء عمله؛ فالمؤمن يجزى ولا يجازى لأنه يئاب. وقال طاوس: هو المناقشة في الحساب، وأما المؤمن فلا يناقش الحساب. وقال قطرب خلاف هذا، فجهلها في أهل المعاصي غير الكفار، وقال: المعنى على من كفر بالنعم وعمل بالكبائر. النحاس: وأولى ما قيل في هذه الآية وأجل ما روي فيها: أن الحسن قال مثلا بمثل. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حوسب هلك) فقلت: يا نبي الله، فأين قوله جل وعز: "فسوف يحاسب حسابا يسيرا" [الإنشقاق: 8]؟ قال:(إنما ذلك العرض ومن نوقش الحساب هلك). وهذا إسناد صحيح، وشرحه: أن الكافر يكافأ على أعماله ويحاسب عليها ويحبط ما عمل من خير؛ ويبين هذا قوله تعالى في الأول: "ذلك جزيناهم بما كفروا" وفي الثاني: وهل يجازى إلا الكفور" ومعنى "يجازى": يكافأ بكل عمل عمله، ومعنى "جزيناهم". وفيناهم؛ فهذا حقيقة اللغة، وإن كان "جازى" يقع بمعنى "جزى". مجازا.
الآية: 18 {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين}
قوله تعالى: "وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة" قال الحسن: يعني بين اليمن والشأم. والقرى التي بورك فيها: الشام والأردن وفلسطين. والبركة: قيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية بورك فيها بالشجر والثمر والماء. ويحتمل أن يكون "باركنا فيها" بكثرة العدد. "قرى ظاهرة" قال ابن عباس: يريد بين المدينة والشام. وقال قتادة: معنى "ظاهرة": متصلة على طريق، يغدون فيقيلون في قرية ويروحون فيبيتون في قرية. وقيل: كان على كل ميل قرية بسوق، وهو سبب أمن الطريق. قال الحسن: كانت المرأة تخرج معها مغزلها وعلى رأسها مكتلها ثم تلتهي بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من كل الثمار، فكان ما بين الشام واليمن كذلك. وقيل "ظاهرة" أي مرتفعة، قال المبرد. وقيل: إنما قيل لها "ظاهرة" لظهورها، أي إذا خرجت عن هذه ظهرت لك الأخرى، فكانت قرى ظاهرة أي معروفة، يقال: هذا أمر ظاهر أي معروف. "وقدرنا فيها السير" أي جعلنا السير بين قراهم وبين القرى التي باركنا فيها سيرا مقدرا من منزل إلى منزل، ومن قرية إلى قرية، أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في قرية أخرى. وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والهاء ولخوف الطريق، فإذا وجد الزاد والأمن لم يحمل على نفسه المشقة ونزل أينما أراد. "سيروا فيها" أي وقلنا لهم سيروا فيها، أي في هذه المسافة فهو أمر تمكين، أي كانوا يسيرون فيها إلى مقاصدهم إذا أرادوا آمنين، فهو أمر بمعنى الخبر، وفيه إضمار القول. "ليالي وأياما آمنين" ظرفان "آمنين" نصب على الحال. وقال: "ليالي وأياما" بلفظ النكرة تنبيها على قصر أسفارهم؛ أي كانوا لا يحتاجون إلى طول السفر لوجود ما يحتاجون إليه. قال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين ولا جياع ولا ظلماء، وكانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضا، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحركه.
الآية: 19 {فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}
قوله تعالى: "فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا" لما بطروا وطغوا وسئموا الراحة ولم يصبروا على العافية تمنوا طول الأسفار والكدح في المعيشة؛ كقول بني إسرائيل،: "فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها" [البقرة: 61] الآية. وكالنضر بن الحارث حين قال: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء" [الأنفال: 32] فأجابه الله تبارك وتعالى، وقتل يوم بدر بالسيف صبرا؛ فكذلك هؤلاء تبددوا في الدنيا ومزقوا كل ممزق، وجعل بينهم وبين الشام فلوات ومفاوز يركبون فيها الرواحل ويتزودون الأزواد. وقراءة العامة "ربنا" بالنصب على أنه نداء مضاف، وهو منصوب لأنه مفعول به، لأن معناه: ناديت ودعوت. "باعد" سألوا المباعدة في أسفارهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وهشام عن ابن عامر: "ربنا" كذلك على الدعاء "بعد" من التبعيد. النحاس: وباعد وبعد واحد في المعنى، كما تقول: قارب وقرب. وقرأ أبو صالح ومحمد ابن الحنفية وأبو العالية ونصر بن عاصم ويعقوب، ويروى عن ابن عباس: "ربنا" رفعا "باعد" بفتح العين والدال على الخبر، تقديره: لقد باعد ربنا بين أسفارنا، كأن الله تعالى يقول: قربنا لهم أسفارهم فقالوا أشرا وبطرا: لقد بوعدت علينا أسفارنا. واختار هذه القراءة أبو حاتم قال: لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب بطرا وعجبا مع كفرهم. وقراءة يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر وتروى عن ابن عباس "ربنا بعد بين أسفارنا" بشد العين من غير ألف، وفسرها ابن عباس قال: شكوا أن ربهم باعد بين أسفارهم. وقراءة سعيد بن أبي الحسن أخى الحسن البصري "ربنا بعد بن أسفارنا. "ربنا" نداء مضاف، ثم أخبروا بعد ذلك فقالوا: "بعد بين أسفارنا" ورفع "بين" بالفعل، أي، بعدما يتصل بأسفارنا. وروى الفراء وأبو إسحاق قراءة سادسة مثل التي قبلها في ضم العين إلا أنك تنصب "بين" على ظرف، وتقديره في العربية: بعد سيرنا بين أسفارنا. النحاس: وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى، كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها، ولكن خبر عنهم أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم بطرا وأشرا، وخبر عنهم أنهم لما فعل ذلك بهم خبروا به وشكوا، كما قال ابن عباس. "وظلموا أنفسهم" أي بكفرهم "فجعلناهم أحاديث" أي يتحدث بأخبارهم، وتقديره في العربية: ذوي أحاديث. "ومزقناهم كل ممزق" أي لما لحقهم ما لحقهم تفرقوا. وتمزقوا. قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب، وغسان بالشام، والأسد بعمان، وخزاعة بتهامة، وكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول: تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ، أي مذاهب سبأ وطرقها. "إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور" الصبار الذي يصبر عن المعاصي، وهو تكثير صابر يمدح بهذا الاسم. فإن أردت أنه صبر عن المعصية لم يستعمل فيه إلا صبار عن كذا. "شكور" لنعمه؛ وقد مضى هذا المعنى في "البقرة".
الآية: 20 {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين}
قوله تعالى: "ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه" فيه أربع قراءات: قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر ويروى عن مجاهد، "ولقد صدق عليهم" بالتخفيف "إبليس" بالرفع "ظنه" بالنصب؛ أي في ظنه. قال الزجاج: وهو على المصدر أي "صدق عليهم ظنا ظنه إذ صدق في ظنه؛ فنصب على المصدر أو على الظرف. وقال أبو علي: "ظنه" نصب لأنه مفعول به؛ أي صدق الظن الذي ظنه إذ قال: "لأقعدن لهم صراطك المستقيم" [الأعراف: 16] وقال: "لأغوينهم أجمعين" [الحجر: 39]؛ ويجوز تعدية الصدق إلى المفعول به، ويقال: صدق الحديث، أي في الحديث. وقرأ ابن عباس يحيى بن وثاب والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي: "صدق" بالتشديد "ظنه" بالنصب بوقوع الفعل عليه. قال مجاهد: ظن ظنا فكان كما ظن فصدق ظنه. وقرأ جعفر بن محمد وأبو الهجهاج "صدق عليهم" بالتخفيف "إبليس" بالنصب "ظنه" بالرفع. قال أبو حاتم: لا وجه لهذه القراءة عندي، والله تعالى أعلم. وقد أجاز هذه القراءة الفراء وذكرها الزجاج وجعل الظن فاعل "صدق" "إبليس" مفعول به؛ والمعنى: أن إبليس سول له ظنه فيهم شيئا فصدق ظنه، فكأنه قال: ولقد صدق عليهم ظن إبليس. و"على" متعلقة بـ "صدق"، كما تقول: صدقت عليك فيما ظننته بك، ولا تتعلق بالظن لاستحالة تقدم شيء. من الصلة على الموصول. والقراءة الرابعة: "ولقد صدق عليهم إبليس ظنه" برفع إبليس والظن، مع التخفيف في "صدق" على أن يكون ظنه بدلا من إبليس وهو بدل الاشتمال. ثم قيل: هذا في أهل سبأ، أي كفروا وغيروا وبدلوا بعد أن كانوا مسلمين إلا قوما منهم آمنوا برسلهم. وقيل: هذا عالم، أي صدق إبليس ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله تعالى؛ قال مجاهد. وقال الحسن: لما أهبط آدم عليه السلام من الجنة ومعه حواء وهبط إبليس قال إبليس: أما إذ أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف! فكان ذلك ظنا من إبليس، فأنزل الله تعالى: "ولقد صدق عليهم إبليس ظنه". وقال ابن عباس: إن إبليس قال: خلقت من نار وخلق آدم من طين والنار تحرق كل شيء "لأحتنكن ذريته إلا قليلا" [الإسراء: 62] فصدق ظنه عليهم. وقال زيد بن أسلم: إن إبليس قال يا رب أرأيت هؤلاء الذين كرمتهم وشرفتهم وفضلتهم علي لا تجد أكثرهم شاكرين، ظنا منه فصدق عليهم إبليس ظنه. وقال الكلبي: إنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه وإن أضلهم أطاعوه، فصدق ظنه. "فاتبعوه" قال الحسن: ما ضربهم بسوء ولا بعصا وإنما ظن ظنا فكان كما ظن بوسوسته. "إلا فريقا من المؤمنين" نصب على الاستثناء، وفيه قولان: أحدهما أنه يراد به بعض المؤمنين، لأن كثيرا من المؤمنين من يذنب وينقاد لإبليس في بعض المعاصي، أي ما سلم من المؤمنين أيضا إلا فريق وهو المعنى بقوله تعالى: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" [الحجر: 42]. فأما ابن عباس فعنه أنه قال: هم المؤمنون كلهم، فـ "من" على هذا للتبيين لا للتبعيض، فإن قيل: كيف علم إبليس صدق ظنه وهو لا يعلم الغيب؟ قيل ل: لما نفذ له في آدم ما نفذ غلب على ظنه أنه ينفذ له مثل ذلك في ذريته، وقد وقع له تحقيق ما ظن. وجواب آخر وهو ما أجيب من قوله تعالى "واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك" [الإسراء: 64] فأعطي القوة والاستطاعة، فظن أنه يملكهم كلهم بذلك، فلما رأى أنه تأب على آدم وأنه سيكون له نسل. يتبعونه إلى الجنة وقال: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين" [الحجر: 42] علم أن له تبعا ولآدم تبعا؛ فظن أن تبعه أكثر من تبع آدم، لما وضع في يديه من سلطان الشهوات، ووضعت الشهوات في أجواف الآدميين، فخرج على ما ظن حيث نفخ فيهم وزين في أعينهم تلك الشهوات، ومدهم إليها بالأماني والخدائع، فصدق عليهم الذي ظنه، والله أعلم.
الآية: 21 {وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ}
قوله تعالى: "وما كان له عليهم من سلطان" أي لم يقهرهم إبليس على الكفر، وإنما كان منه الدعاء والتزيين. والسلطان: القوة. وقيل الحجة، أي لم تكن له حجة يستتبعهم بها، وإنما اتبعوه بشهوة وتقليد وهوى نفس؛ لا عن حجة ودليل. "إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك" يريد علم الشهادة الذي يقع به الثواب والعقاب، فأما الغيب فقد علمه تبارك وتعالى. ومذهب الفراء أن يكون المعنى: إلا لنعلم ذلك عندكم؛ كما قال: "أين شركائي" [النحل: 27]، على قولكم وعندكم، وليس قوله: "إلا لنعلم" جواب "وما كان له عليهم من سلطان" في ظاهره إنما هو محمول على المعنى؛ أي وما جعلنا له سلطانا إلا لنعلم، فالاستثناء منقطع، أي لا سلطان له عليهم ولكنا ابتليناهم بوسوسته لنعلم، فـ "إلا" بمعنى لكن. وقيل هو متصل، أي ما كان له عليهم من سلطان، غير أنا سلطناه عليهم ليتم الابتلاء. وقيل: "كان" زائدة؛ أي وماله عليهم من سلطان، كقوله: "كنتم خير أمة" [آل عمران: 110] أي أنتم خير أمة. وقيل: لما اتصل طرف منه بقصة سبأ قال: وما كان لإبليس على أولئك الكفار من سلطان. وقيل: وما كان له في قضائنا السابق سلطان عليهم. وقيل: "إلا لنعلم" إلا لنظهر، وهو كما تقول: النار تحرق الحطب، فيقول آخر لا بل الحطب يحرق النار؛ فيقول الأول تعال حتى نجرب النار والحطب لنعلم أيهما يحرق صاحبه، أي لنظهر ذلك وإن كان معلوما لهم ذلك. وقيل: إلا لتعلموا أنتم. وقيل: أي ليعلم أولياؤنا والملائكة؛ كقوله: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسول" [المائدة: 33] أي يحاربون أولياء الله ورسوله. وقيل: أي ليميز؛ كقوله: "ليميز الله الخبيث من الطيب" [الأنفال: 37] وقد مضى هذا المعنى في "البقرة" وغيرها. وقرأ الزهري "إلا ليعلم" على ما لم يسم فاعله. "وربك على كل شيء حفيظ" أي أنه عالم بكل شيء. وقيل: يحفظ كل شيء على العبد حتى يجازيه عليه.
الآية: 22 {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير}
قوله تعالى: "قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله" أي هذا الذي مضى ذكره من أمر داود وسليمان وقصة سبأ من آثار قدرتي، فقل يا محمد لهؤلاء المشركين هل عند. شركائكم قدرة على شيء من ذلك. وهذا خطاب توبيخ، وفيه إضمار: أي ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة لكم من دون الله لتنفعكم أو لتدفع عنكم ما قضاه الله تبارك وتعالى عليكم، فإنهم لا يملكون ذلك، "وما له منهم من ظهير" أي ما لله من هؤلاء من معين على خلق شيء، بل الله المنفرد بالإيجاد؛ فهو الذي يعبد، وعبادة غيره محال.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 430
430- تفسير الصفحة رقم430 من المصحفالآية: 15 {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور}
قوله تعالى: "لقد كان لسبأ في مسكنهم آية" قرأ نافع وغيره بالصرف والتنوين على أنه اسم حي، وهو في الأصل اسم رجل؛ جاء بذلك التوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم روى الترمذي قال: حدثنا أبو كريب وعبد بن حميد قالا حدثنا أبو أسامة عن الحسن بن الحكم النخعي قال حدثنا أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك المرادي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم؛ فأذن لي في قتالهم وأمر؛ فلما خرجت من عنده سأل عني: (ما فعل الغطيفي)؟ فأخبر أني قد سرت، قال: فأرسل في أثري فردني فأتيته وهو في نفر من أصحابه فقال: (ادع القوم فمن أسلم منهم فاقبل منه ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك؛ قال: وأنزل في سبأ ما أنزل؛ فقال رجل: يا رسول الله، وما سبأ؟ أرض أو امرأة؟ قال: ليس بأرض ولا بامرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة. فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسان وعاملة. وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار. فقال رجل: يا رسول الله وما أنمار؟ قال: (الذين منهم خثعم وبجيلة). وروي هذا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو "لسبأَ" بغير صرف، جعله اسما للقبيلة، وهو اختيار أبي عبيد، واستدل على أنه اسم قبيلة بأن بعده "في مساكنهم". النحاس: ولو كان كما قال لكان في مساكنها. وقد مضى في "النمل" زيادة بيان لهذا المعنى. وقال الشاعر في الصرف:
الواردون وتم في ذرى سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وقال آخر في غير الصرف:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ يبنون من دون سيلها العرما
وقرأ قنبل وأبو حيوة والجحدري "لسبأْ" بإسكان الهمزة. "في مساكنهم" قراءة العامة على الجمع، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ لأن لهم مساكن كثيرة وليس بمسكن واحد. وقرأ إبراهيم وحمزة وحفص "مسكنهم" موحدا، إلا أنهم فتحوا الكاف. وقرأ يحيى والأعمش والكسائي موحدا كذلك، إلا أنهم كسروا الكاف. قال النحاس: والساكن في هذا أبين؛ لأنه يجمع اللفظ والمعنى، فإذا قلت "مسكنهم" كان فيه تقديران: أحدهما: أن يكون واحدا يؤدي عن الجمع. والأخر: أن يكون مصدرا لا يثني ولا يجمع؛ كما قال الله تعالى: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم" [البقرة: 7] فجاء بالسمع موحدا. وكذا "مقعد صدق" [القمر: 55] و"مسكن" مثل مسجد، خارج عن القياس، ولا يوجد مثله إلا سماعا. "آية" اسم كان، أي علامة دالة على قدرة الله تعالى على أن لهم خالقا خلقهم، وأن كل الخلائق لو اجتمعوا على أن يخرجوا من الخشبة ثمرة لم يمكنهم ذلك، ولم يهتدوا إلى اختلاف أجناس الثمار وألوانها وطعومها وروائحها وأزهارها، وفي ذلك ما يدل على أنها لا تكون إلا من عالم قادر. "جنتان عن يمين وشمال" يجوز أن يكون بدلا من "آية"، ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف،فوقف على هذا الوجه على "آية" وليس بتمام. قال الزجاج: أي الآية جنتان، فجنتان رفع لأنه خبر ابتداء محذوف. وقال الفراء: رفع تفسيرا للآية، ويجوز أن تنصب "آية" على أنها خبر كان، ويجوز أن تنصب الجنتين على الخبر أيضا في غير القرآن. وقال عبدالرحمن بن زيد: إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا فيها بعوضة قط ولا ذبابا ولا برغوثا ولا قملة ولا عقربا ولا حية ولا غيرها من الهوام، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل والدواب فإذا نظروا إلى بيوتهم ماتت الدواب. وقيل: إن الآية هي الجنتان، كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها مكتل فيمتلئ من أنواع الفواكه من غير أن تمسها بيدها؛ قال قتادة. وروى أن الجنتين كانتا بين جبلين باليمن. قال سفيان: وجد فيهما قصران مكتوب على أحدهما: نحن بنينا سلحين في سبعين خريفا دائبين، وعلى الآخر مكتوب: نحن بنينا صروح، مقيل ومراح؛ فكانت إحدى الجنتين عن يمين الوادي والأخرى عن شماله قال القشيري: ولم يرد جنتين اثنين بل أراد من الجنتين يمنة ويسرة؛ أي كانت بلادهم ذات بساتين وأشجار وثمار؛ تستتر الناس بظلالها."كلوا من رزق ربكم"أي قيل لهم كلوا، ولم يكن ثم أمر، ولكنهم تمكنوا من تلك النعم. وقيل: أي قالت الرسل لهم قد أباح الله تعالى لهم ذلك؛ أي أباح لكم هذه النعم فاشكروه بالطاعة. "كلوا من رزق ربكم" أي من ثمار الجنتين. "واشكروا له" يعني على ما رزقكم. "بلدة طيبة" هذا كلام مستأنف؛ أي هذه بلدة طيبة أي كثيرة الثمار. وقيل: غير سبخة. وقيل: طيبة ليس فيها هوام لطيب هوائها. قال مجاهد: هي صنعاء. "ورب غفور" أي والمنعم بها عليكم رب غفور يستر ذنوبكم، فجمع لهم بين مغفرة ذنوبهم وطيب بلدهم ولم يجمع ذلك لجميع خلقه. وقيل: إنما ذكر المغفرة مشيرا إلى أن الرزق قد. يكون فيه حرام. وقد. مضى القول في هذا في أول "البقرة". وقيل: إنما امتن عليهم بعفوه عن عذاب الاستئصال بتكذيب من كذبوه من سالف الأنبياء إلى أن استداموا الإصرار فاستؤصلوا.
الآية: 16 {فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل}
قوله تعالى: "فأعرضوا" يعني عن أمره واتباع رسله بعد أن كانوا مسلمين قال السدي ووهب: بعث إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم. قال القشيري: وكان لهم رئيس يلقب بالحمار، وكانوا في زمن الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وقيل: كان له ولد فمات فرفع رأسه إلى، السماء فبزق وكفر؛ ولهذا يقال: أكفر من حمار. وقال الجوهري: وقولهم "أكفر من حمار" هو رجل، من عاد مات له أولاد فكفر كفرا عظيما، فلا يمر بأرضه أحد إلا دعاه إلى الكفر، فإن أجابه وإلا قتله. ثم لما سال السيل بجنتيهم تفرقوا في البلاد؛ على ما يأتي بيانه. ولهذا قيل في المثل: "تفرقوا أيادي سبا". وقيل: الأوس والخزرج منهم. "فأرسلنا عليهم سيل العرم" والعرم فيما روي عن ابن عباس: السد فالتقدير: سيل السد العرم. وقال عطاء: العرم اسم الوادي. قتادة: العرم وادي سبأ؛ كانت تجتمع إليه مسايل من الأودية، قيل من البحر وأودية اليمن؛ فردموا ردما بين جبلين وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، فكانوا يسقون من الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث على قدر حاجاتهم؛ فأخصبوا وكثرت أموالهم، فلما كذبوا الرسل سلط الله عليهم الفأر فنقب الردم. قال وهب: كانوا يزعمون أنهم يجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة فلم يتركوا فرجة بين صخرتين إلا ربطوا إلى جانبها هرة؛ فلما جاء ما أراد الله تعالى بهم أقبلت فأرة حمراء إلى بعض تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عن الصخرة ودخلت في الفرجة التي كانت عندها ونقبت السد حتى أوهنته للسيل وهم لا يدرون؛ فلما جاء السيل دخل تلك الخلل حتى بلغ السد وفاض الماء على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم. وقال الزجاج: العرم اسم الجرذ الذي نقب السكر عليهم، وهو الذي يقال له الخلد - وقال قتادة أيضا - فنسب السيل إليه لأنه بسببه. وقد قال ابن الأعرابي أيضا: العرم من أسماء الفأر. وقال مجاهد وابن أبي: العرم ماء أحمر أرسله الله تعالى في العد فشقه وهدمه. وعن ابن عباس أيضا أن العرم المطر الشديد. وقيل العرم بسكون الراء. وعن الضحاك كانوا في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام. وقال عمرو بن شرحبيل: العرم المسناة؛ وقاله الجوهري، قال: ولا واحد لها من لفظها، ويقال واحدها عرمة. وقال محمد بن يزيد: العرم كل شيء حاجز بين شيئين، وهو الذي يسمى السكر، وهو جمع عرمة. النحاس: وما يجتمع من مطر بين جبلين وفي وجهه مسناة فهو العرم، والمسناة هي التي يسميها أهل مصر الجسر؛ فكانوا يفتحونها إذا شاؤوا فإذا رويت جنتاهم سدوها. قال الهروي: المسناة الضفيرة تبني للسيل ترده، سميت مسناة لأن فيها مفاتح الماء. وروي أن العرم سد بنته بلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام، وهو المسناة بلغة حمير، بنته بالصخر والقار، وجعلت له أبوابا ثلاثة ببعضها فوق بعض، وهو مشتق من العرامة وهي الشدة، ومنه: رجل عارم، أي شديد، وعرمت العظم أعرمه وأعرمه عرما إذا عرقته، وكذلك عرمت الإبل الشجر أي نالت منه. والعرام بالضم: العراق من العظم والشجر. وتعرمت العظم تعرقته. وصبي عارم بين العرام (بالضم) أي شرس. وقد عرم يعرم ويعرم عرامة (بالفتح). والعرم العارم؛ عن الجوهري.
قوله تعالى: "وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتى أكل خمط" وقرأ أبو عمرو (أكل خمط) بغير تنوين مضافا. قال أهل التفسير والخليل: الخمط الأراك. الجوهري: الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل. وقال أبو عبيدة: هو كل ذي شوك فيه مرارة. الزجاج: كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله. المبرد: الخمط كل ما تغير إلى ما لا يشتهي. واللبن خمط إذا حمض. والأولى عنده في القراءة "ذواتي أكل خمط" بالتنوين على أنه نعت لـ "أكل" أو بدل منه؛ لأن الأكل هو الخمط بعينه عنده، فأما الإضافة فباب جوازها أن يكون تقديرها ذواتي أكل حموضة أو أكل مرارة. وقال الأخفش: والإضافة أحسن في كلام العرب؛ نحو قولهم: ثوب خز والخمط: اللبن الحامض وذكر أبو عبيد أن اللبن إذا ذهب عنه حلاوة الحلب ولم يتغير طعمه فهو سامط؛ وإن أخذ شيئا من الريح فهو خامط وخميط، فإن أخذ شيئا من طعم فهو ممحل، فإذا كان فيه طعم الحلاوة فهو فوهة. وتخمط الفحل: هدر. وتخمط فلان أي غضب وتكبر. وتخمط البحر أي التطم. وخمطت الشاة أخمطها خمطا: إذا نزعت جلدها وشويتها فهي خميط، فإن نزعت شعرها وشويتها فهي سميط. والخمطة: الخمر التي قد أخذت ريح الإدراك كريح التفاح ولم تدرك بعد. ويقال هي الحامضة؛ قاله الجوهري. وقال القتبي في أدب الكاتب. يقال للحامضة خمطة، ويقال: الخمطة التي قد أخذت شيئا من الريح؛ وأنشد:
عقار كماء النيء ليست بخمطة ولا خلة يكوي الشروب شهابها
قوله تعالى: "وأثل" قال الفراء: هو شبيه بالطرفاء إلا أنه أعظم منه طولا؛ (منه اتخذ منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وللأثل أصول غليظة يتخذ منه الأبواب، وورقه كورق الطرفاء، الواحدة أثلة والجمع أثلاث. وقال الحسن: الأثل الخشب. قتادة: هو ضرب من الخشب يشبه الطرفاء رأيته بفيد. وقيل هو السمر. وقال أبو عبيدة: هو شجر النضار. النضار: الذهب. والنضار: خشب يعمل منه قصاع، ومنه: قدح نضار. "وشيء من سدر قليل" قال الفراء: هو السمر؛ ذكره النحاس. وقال الأزهري: السدر من الشجر سدران: بري لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول وله ثمر عفص لا يؤكل، وهو الذي يسمى الضال. والثاني: سدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقه غسول يشبه شجر العناب. قال قتادة: بينما شجر القوم من خير شجر إذ صيره الله تعالى من شر الشجر بأعمالهم، فأهلك أشجارهم المثمرة وأنبت بدلها الأراك والطرفاء والسدر. القشري: وأشجار البوادي لا تسمى جنة وبستانا ولكن لما وقعت الثانية في مقابلة الأولى أطلق لفظ الجنة، وهو كقوله تعالى: "وجزاء سيئة سيئة مثلها" [الشورى: 40]. ويحتمل أن يرجع قوله "قليل" إلى جملة ما ذكر من الخمط والأثل والسدر.
الآية: 17 {ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور}
قوله تعالى: "ذلك جزيناهم بما كفروا" أي هذا التبديل جزاء كفرهم. وموضع "ذلك" نصب؛ أي جزيناهم ذلك بكفرهم. "وهل يجازى إلا الكفور" قراءة العامة "يجازى بياء مضمومة وزاي مفتوحة، "الكفور" رفعا على ما لم يسم فاعله. وقرأ يعقوب وحفص وحمزة والكسائي: "نجازي" بالنون وكسر الزاي، "الكفور" بالنصب، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لأن قبله "جزيناهم" ولم يقل جوزوا. النحاس: والأمر في هذا واسع، والمعنى فيه بين، ولو قال قائل: خلق الله تعالى آدم صلى الله عليه وسلم من طين، وقال آخر: خلق آدم من طين، لكان المعنى واحدا.
مسألة: في هذه الآية سؤال ليس في هذه السورة أشد منه، وهو أن يقال: لم خص الله تعالى المجازاة بالكفور ولم يذكر أصحاب المعاصي؟ فتكلم العلماء في هذا؛ فقال قوم: ليس يجازى بهذا الجزاء الذي هو الإصطلام والإهلاك إلا من كفر. وقال مجاهد: يجازى بمعنى يعاقب؛ وذلك أن المؤمن يكفر الله تعالى عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل سوء عمله؛ فالمؤمن يجزى ولا يجازى لأنه يئاب. وقال طاوس: هو المناقشة في الحساب، وأما المؤمن فلا يناقش الحساب. وقال قطرب خلاف هذا، فجهلها في أهل المعاصي غير الكفار، وقال: المعنى على من كفر بالنعم وعمل بالكبائر. النحاس: وأولى ما قيل في هذه الآية وأجل ما روي فيها: أن الحسن قال مثلا بمثل. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حوسب هلك) فقلت: يا نبي الله، فأين قوله جل وعز: "فسوف يحاسب حسابا يسيرا" [الإنشقاق: 8]؟ قال:(إنما ذلك العرض ومن نوقش الحساب هلك). وهذا إسناد صحيح، وشرحه: أن الكافر يكافأ على أعماله ويحاسب عليها ويحبط ما عمل من خير؛ ويبين هذا قوله تعالى في الأول: "ذلك جزيناهم بما كفروا" وفي الثاني: وهل يجازى إلا الكفور" ومعنى "يجازى": يكافأ بكل عمل عمله، ومعنى "جزيناهم". وفيناهم؛ فهذا حقيقة اللغة، وإن كان "جازى" يقع بمعنى "جزى". مجازا.
الآية: 18 {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين}
قوله تعالى: "وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة" قال الحسن: يعني بين اليمن والشأم. والقرى التي بورك فيها: الشام والأردن وفلسطين. والبركة: قيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية بورك فيها بالشجر والثمر والماء. ويحتمل أن يكون "باركنا فيها" بكثرة العدد. "قرى ظاهرة" قال ابن عباس: يريد بين المدينة والشام. وقال قتادة: معنى "ظاهرة": متصلة على طريق، يغدون فيقيلون في قرية ويروحون فيبيتون في قرية. وقيل: كان على كل ميل قرية بسوق، وهو سبب أمن الطريق. قال الحسن: كانت المرأة تخرج معها مغزلها وعلى رأسها مكتلها ثم تلتهي بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من كل الثمار، فكان ما بين الشام واليمن كذلك. وقيل "ظاهرة" أي مرتفعة، قال المبرد. وقيل: إنما قيل لها "ظاهرة" لظهورها، أي إذا خرجت عن هذه ظهرت لك الأخرى، فكانت قرى ظاهرة أي معروفة، يقال: هذا أمر ظاهر أي معروف. "وقدرنا فيها السير" أي جعلنا السير بين قراهم وبين القرى التي باركنا فيها سيرا مقدرا من منزل إلى منزل، ومن قرية إلى قرية، أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في قرية أخرى. وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والهاء ولخوف الطريق، فإذا وجد الزاد والأمن لم يحمل على نفسه المشقة ونزل أينما أراد. "سيروا فيها" أي وقلنا لهم سيروا فيها، أي في هذه المسافة فهو أمر تمكين، أي كانوا يسيرون فيها إلى مقاصدهم إذا أرادوا آمنين، فهو أمر بمعنى الخبر، وفيه إضمار القول. "ليالي وأياما آمنين" ظرفان "آمنين" نصب على الحال. وقال: "ليالي وأياما" بلفظ النكرة تنبيها على قصر أسفارهم؛ أي كانوا لا يحتاجون إلى طول السفر لوجود ما يحتاجون إليه. قال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين ولا جياع ولا ظلماء، وكانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضا، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحركه.
الآية: 19 {فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}
قوله تعالى: "فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا" لما بطروا وطغوا وسئموا الراحة ولم يصبروا على العافية تمنوا طول الأسفار والكدح في المعيشة؛ كقول بني إسرائيل،: "فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها" [البقرة: 61] الآية. وكالنضر بن الحارث حين قال: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء" [الأنفال: 32] فأجابه الله تبارك وتعالى، وقتل يوم بدر بالسيف صبرا؛ فكذلك هؤلاء تبددوا في الدنيا ومزقوا كل ممزق، وجعل بينهم وبين الشام فلوات ومفاوز يركبون فيها الرواحل ويتزودون الأزواد. وقراءة العامة "ربنا" بالنصب على أنه نداء مضاف، وهو منصوب لأنه مفعول به، لأن معناه: ناديت ودعوت. "باعد" سألوا المباعدة في أسفارهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وهشام عن ابن عامر: "ربنا" كذلك على الدعاء "بعد" من التبعيد. النحاس: وباعد وبعد واحد في المعنى، كما تقول: قارب وقرب. وقرأ أبو صالح ومحمد ابن الحنفية وأبو العالية ونصر بن عاصم ويعقوب، ويروى عن ابن عباس: "ربنا" رفعا "باعد" بفتح العين والدال على الخبر، تقديره: لقد باعد ربنا بين أسفارنا، كأن الله تعالى يقول: قربنا لهم أسفارهم فقالوا أشرا وبطرا: لقد بوعدت علينا أسفارنا. واختار هذه القراءة أبو حاتم قال: لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب بطرا وعجبا مع كفرهم. وقراءة يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر وتروى عن ابن عباس "ربنا بعد بين أسفارنا" بشد العين من غير ألف، وفسرها ابن عباس قال: شكوا أن ربهم باعد بين أسفارهم. وقراءة سعيد بن أبي الحسن أخى الحسن البصري "ربنا بعد بن أسفارنا. "ربنا" نداء مضاف، ثم أخبروا بعد ذلك فقالوا: "بعد بين أسفارنا" ورفع "بين" بالفعل، أي، بعدما يتصل بأسفارنا. وروى الفراء وأبو إسحاق قراءة سادسة مثل التي قبلها في ضم العين إلا أنك تنصب "بين" على ظرف، وتقديره في العربية: بعد سيرنا بين أسفارنا. النحاس: وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى، كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها، ولكن خبر عنهم أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم بطرا وأشرا، وخبر عنهم أنهم لما فعل ذلك بهم خبروا به وشكوا، كما قال ابن عباس. "وظلموا أنفسهم" أي بكفرهم "فجعلناهم أحاديث" أي يتحدث بأخبارهم، وتقديره في العربية: ذوي أحاديث. "ومزقناهم كل ممزق" أي لما لحقهم ما لحقهم تفرقوا. وتمزقوا. قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب، وغسان بالشام، والأسد بعمان، وخزاعة بتهامة، وكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول: تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ، أي مذاهب سبأ وطرقها. "إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور" الصبار الذي يصبر عن المعاصي، وهو تكثير صابر يمدح بهذا الاسم. فإن أردت أنه صبر عن المعصية لم يستعمل فيه إلا صبار عن كذا. "شكور" لنعمه؛ وقد مضى هذا المعنى في "البقرة".
الآية: 20 {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين}
قوله تعالى: "ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه" فيه أربع قراءات: قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر ويروى عن مجاهد، "ولقد صدق عليهم" بالتخفيف "إبليس" بالرفع "ظنه" بالنصب؛ أي في ظنه. قال الزجاج: وهو على المصدر أي "صدق عليهم ظنا ظنه إذ صدق في ظنه؛ فنصب على المصدر أو على الظرف. وقال أبو علي: "ظنه" نصب لأنه مفعول به؛ أي صدق الظن الذي ظنه إذ قال: "لأقعدن لهم صراطك المستقيم" [الأعراف: 16] وقال: "لأغوينهم أجمعين" [الحجر: 39]؛ ويجوز تعدية الصدق إلى المفعول به، ويقال: صدق الحديث، أي في الحديث. وقرأ ابن عباس يحيى بن وثاب والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي: "صدق" بالتشديد "ظنه" بالنصب بوقوع الفعل عليه. قال مجاهد: ظن ظنا فكان كما ظن فصدق ظنه. وقرأ جعفر بن محمد وأبو الهجهاج "صدق عليهم" بالتخفيف "إبليس" بالنصب "ظنه" بالرفع. قال أبو حاتم: لا وجه لهذه القراءة عندي، والله تعالى أعلم. وقد أجاز هذه القراءة الفراء وذكرها الزجاج وجعل الظن فاعل "صدق" "إبليس" مفعول به؛ والمعنى: أن إبليس سول له ظنه فيهم شيئا فصدق ظنه، فكأنه قال: ولقد صدق عليهم ظن إبليس. و"على" متعلقة بـ "صدق"، كما تقول: صدقت عليك فيما ظننته بك، ولا تتعلق بالظن لاستحالة تقدم شيء. من الصلة على الموصول. والقراءة الرابعة: "ولقد صدق عليهم إبليس ظنه" برفع إبليس والظن، مع التخفيف في "صدق" على أن يكون ظنه بدلا من إبليس وهو بدل الاشتمال. ثم قيل: هذا في أهل سبأ، أي كفروا وغيروا وبدلوا بعد أن كانوا مسلمين إلا قوما منهم آمنوا برسلهم. وقيل: هذا عالم، أي صدق إبليس ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله تعالى؛ قال مجاهد. وقال الحسن: لما أهبط آدم عليه السلام من الجنة ومعه حواء وهبط إبليس قال إبليس: أما إذ أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف! فكان ذلك ظنا من إبليس، فأنزل الله تعالى: "ولقد صدق عليهم إبليس ظنه". وقال ابن عباس: إن إبليس قال: خلقت من نار وخلق آدم من طين والنار تحرق كل شيء "لأحتنكن ذريته إلا قليلا" [الإسراء: 62] فصدق ظنه عليهم. وقال زيد بن أسلم: إن إبليس قال يا رب أرأيت هؤلاء الذين كرمتهم وشرفتهم وفضلتهم علي لا تجد أكثرهم شاكرين، ظنا منه فصدق عليهم إبليس ظنه. وقال الكلبي: إنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه وإن أضلهم أطاعوه، فصدق ظنه. "فاتبعوه" قال الحسن: ما ضربهم بسوء ولا بعصا وإنما ظن ظنا فكان كما ظن بوسوسته. "إلا فريقا من المؤمنين" نصب على الاستثناء، وفيه قولان: أحدهما أنه يراد به بعض المؤمنين، لأن كثيرا من المؤمنين من يذنب وينقاد لإبليس في بعض المعاصي، أي ما سلم من المؤمنين أيضا إلا فريق وهو المعنى بقوله تعالى: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" [الحجر: 42]. فأما ابن عباس فعنه أنه قال: هم المؤمنون كلهم، فـ "من" على هذا للتبيين لا للتبعيض، فإن قيل: كيف علم إبليس صدق ظنه وهو لا يعلم الغيب؟ قيل ل: لما نفذ له في آدم ما نفذ غلب على ظنه أنه ينفذ له مثل ذلك في ذريته، وقد وقع له تحقيق ما ظن. وجواب آخر وهو ما أجيب من قوله تعالى "واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك" [الإسراء: 64] فأعطي القوة والاستطاعة، فظن أنه يملكهم كلهم بذلك، فلما رأى أنه تأب على آدم وأنه سيكون له نسل. يتبعونه إلى الجنة وقال: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين" [الحجر: 42] علم أن له تبعا ولآدم تبعا؛ فظن أن تبعه أكثر من تبع آدم، لما وضع في يديه من سلطان الشهوات، ووضعت الشهوات في أجواف الآدميين، فخرج على ما ظن حيث نفخ فيهم وزين في أعينهم تلك الشهوات، ومدهم إليها بالأماني والخدائع، فصدق عليهم الذي ظنه، والله أعلم.
الآية: 21 {وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ}
قوله تعالى: "وما كان له عليهم من سلطان" أي لم يقهرهم إبليس على الكفر، وإنما كان منه الدعاء والتزيين. والسلطان: القوة. وقيل الحجة، أي لم تكن له حجة يستتبعهم بها، وإنما اتبعوه بشهوة وتقليد وهوى نفس؛ لا عن حجة ودليل. "إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك" يريد علم الشهادة الذي يقع به الثواب والعقاب، فأما الغيب فقد علمه تبارك وتعالى. ومذهب الفراء أن يكون المعنى: إلا لنعلم ذلك عندكم؛ كما قال: "أين شركائي" [النحل: 27]، على قولكم وعندكم، وليس قوله: "إلا لنعلم" جواب "وما كان له عليهم من سلطان" في ظاهره إنما هو محمول على المعنى؛ أي وما جعلنا له سلطانا إلا لنعلم، فالاستثناء منقطع، أي لا سلطان له عليهم ولكنا ابتليناهم بوسوسته لنعلم، فـ "إلا" بمعنى لكن. وقيل هو متصل، أي ما كان له عليهم من سلطان، غير أنا سلطناه عليهم ليتم الابتلاء. وقيل: "كان" زائدة؛ أي وماله عليهم من سلطان، كقوله: "كنتم خير أمة" [آل عمران: 110] أي أنتم خير أمة. وقيل: لما اتصل طرف منه بقصة سبأ قال: وما كان لإبليس على أولئك الكفار من سلطان. وقيل: وما كان له في قضائنا السابق سلطان عليهم. وقيل: "إلا لنعلم" إلا لنظهر، وهو كما تقول: النار تحرق الحطب، فيقول آخر لا بل الحطب يحرق النار؛ فيقول الأول تعال حتى نجرب النار والحطب لنعلم أيهما يحرق صاحبه، أي لنظهر ذلك وإن كان معلوما لهم ذلك. وقيل: إلا لتعلموا أنتم. وقيل: أي ليعلم أولياؤنا والملائكة؛ كقوله: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسول" [المائدة: 33] أي يحاربون أولياء الله ورسوله. وقيل: أي ليميز؛ كقوله: "ليميز الله الخبيث من الطيب" [الأنفال: 37] وقد مضى هذا المعنى في "البقرة" وغيرها. وقرأ الزهري "إلا ليعلم" على ما لم يسم فاعله. "وربك على كل شيء حفيظ" أي أنه عالم بكل شيء. وقيل: يحفظ كل شيء على العبد حتى يجازيه عليه.
الآية: 22 {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير}
قوله تعالى: "قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله" أي هذا الذي مضى ذكره من أمر داود وسليمان وقصة سبأ من آثار قدرتي، فقل يا محمد لهؤلاء المشركين هل عند. شركائكم قدرة على شيء من ذلك. وهذا خطاب توبيخ، وفيه إضمار: أي ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة لكم من دون الله لتنفعكم أو لتدفع عنكم ما قضاه الله تبارك وتعالى عليكم، فإنهم لا يملكون ذلك، "وما له منهم من ظهير" أي ما لله من هؤلاء من معين على خلق شيء، بل الله المنفرد بالإيجاد؛ فهو الذي يعبد، وعبادة غيره محال.
الصفحة رقم 430 من المصحف تحميل و استماع mp3