سورة يس | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 445 من المصحف
الآية: 71 - 73 {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون، وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون، ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون}
قوله تعالى: "أولم يروا أنا خلقنا لهم" هذه رؤية القلب؛ أي أو لم ينظروا ويعتبروا ويتفكروا. "مما عملت أيدينا" أي مما أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا وكالة ولا شركة. و"ما" بمعنى الذي وحذفت الهاء لطول الاسم. وإن جعلت "ما" مصدرية لم تحتج إلى إضمار الهاء. "أنعاما" جمع نعم والنعم مذكر. "فهم لها مالكون" ضابطون قاهرون. "وذللناها لهم" أي سخرناها لهم حتى يقود الصبي الجمل العظيم ويضربه ويصرفه كيف شاء لا يخرج من طاعته. "فمنها ركوبهم" قراءة العامة بفتح الراء؛ أي مركوبهم، كما يقال: ناقة حلوب أي محلوب. وقرأ الأعمش والحسن وابن السميقع: "فمنها ركوبهم" بضم الراء على المصدر. وروى عن عائشة أنها قرأت: "فمنها ركوبتهم" وكذا في مصحفها. والركوب والركوبة واحد، مثل الحلوب والحلوبة، والحمول والحمولة. وحكى النحويون الكوفيون: أن العرب تقول: امرأة صبور وشكور بغير هاء. ويقولون: شاة حلوبة وناقة ركوبة؛ لأنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان له الفعل وبين ما كان الفعل واقعا عليه، فحذفوا الهاء مما كان فاعلا وأثبتوها فيما كان مفعولا؛ كما قال:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة سودا كخافية الغراب الأسحم
فيجب أن يكون على هذا ركوبتهم. فأما البصريون فيقولون: حذفت الهاء على النسب. والحجة للقول الأول ما رواه الجرمي عن أبي عبيدة قال: الركوبة تكون للواحد والجماعة، والركوب لا يكون إلا للجماعة. فعلى هذا يكون لتذكير الجمع. وزعم أبو حاتم: أنه لا يجوز "فمنها ركوبهم" بضم الراء لأنه مصدر؛ والركوب ما يركب. وأجاز الفراء "فمنها ركوبهم" بضم الراء، كما تقول فمنها أكلهم ومنها شربهم. "ومنها يأكلون" من لحمانها "ولهم فيها منافع" من أصوافها وأوبارها وأشعارها وشحومها ولحومها وغير ذلك. "ومشارب" يعني ألبانها؛ ولم ينصرفا لأنهما من الجموع التي لا نظير لها في الواحد. "أفلا يشكرون" الله على نعمه.
الآية: 74 - 76 {واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون، لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون، فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون}
قوله تعالى: "واتخذوا من دون الله آلهة" أي قد رأوا هذه الآيات من قدوتنا، ثم اتخذوا من دوننا آلهة لا قدرة لها على فعل. "لعلهم ينصرون" أي لما يرجون من نصرتها لهم إن نزل بهم عذاب. ومن العرب من يقول: لعله أن يفعل. "لا يستطيعون نصرهم" يعني الآلهة. وجمعوا بالواو والنون؛ لأنه أخبر عنهم بخبر الآدميين. "وهم" يعني الكفار "لهم" أي للآلهة "جند محضرون" قال الحسن: يمنعون منهم ويدفعون عنهم. وقال قتادة: أي يغضبون لهم في الدنيا. وقيل: المعنى أنهم يعبدون الآلهة ويقومون بها؛ فهم لها بمنزلة الجند وهي لا تستطيع أن تنصرهم. وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. وقيل: إن الآلهة جند للعابدين محضرون معهم في النار. فلا يدفع بعضهم عن بعض. وقيل: معناه وهذه الأصنام لهؤلاء الكفار جند الله عليهم في جهنم؛ لأنهم يلعنونهم ويتبرؤون من عبادتهم. وقيل: الآلهة جند لهم محضرون يوم القيامة لإعانتهم في ظنونهم. وفي الخبر: (إنه يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدونه في الدنيا من دون الله فيتبعونه إلى النار؛ فهم لهم جند محضرون)
قلت: ومعنى هذا الخبر ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، وفي الترمذي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع عليهم رب العالمين فيقول ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون ويبقى المسلمون...) وذكر الحديث بطوله.
قوله تعالى: "فلا يحزنك قولهم" هذه اللغة الفصيحة. ومن العرب من يقول يحزنك. والمراد تسلية نبيه عليه السلام؛ أي لا يحزنك قولهم شاعر ساحر. وتم الكلام. ثم استأنف فقال: "إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون" من القول والعمل وما يظهرون فنجازيهم بذلك.
الآية: 77 {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين}
قوله تعالى: "أولم ير الإنسان" قال ابن عباس: الإنسان هو عبدالله بن أبي. وقال سعيد بن جبير: هو العاص بن وائل السهمي. وقال الحسن: هو أبي بن خلف الجمحي. وقاله ابن إسحاق، ورواه ابن وهب عن مالك. "أنا خلقناه من نطفة" وهو اليسير من الماء؛ نطف إذا قطر. "فإذا هو خصيم مبين" أي مجادل في الخصومة مبين للحجة. يريد بذلك أنه صار به بعد أن لم يكن شيئا مذكورا خصيما مبينا. وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل فقال: يا محمد أترى أن الله يحيي هذا بعد ما رم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم (نعم ويبعثك الله ويدخلك النار) فنزلت هذه الآية.
الآية: 78 - 79 {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم}
قوله تعالى: "وضرب لنا مثلا ونسي خلقه" أي ونسي أنا أنشأناه من نطفة ميتة فركبنا فيه الحياة. أي جوابه من نفسه حاضر؛ ولهذا قال عليه السلام: (نعم ويبعثك الله ويدخلك النار) ففي هذا دليل على صحة القياس؛ لأن الله جل وعز احتج على منكري البعث بالنشأة الأولى. "قال من يحي العظام وهي رميم" أي بالية. رم العظم فهو رميم ورمام. وإنما قال رميم ولم يقل رميمة؛ لأنها معدولة عن فاعلة، وما كان معدولا عن وجهه ووزنه كان مصروفا عن إعرابه؛ كقول: "وما كانت أمك بغيا" [مريم: 28] أسقط الهاء؛ لأنها مصروفة عن باغية. "قل يحييها الذي أنشأها أول مرة" قيل: إن هذا الكافر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن سحقتها وأذريتها في الريح أيعيدها الله! فنزلت: "قل يحييها الذي أنشأها أول مرة"أي من غير شيء فهو قادر على إعادتها في النشأة الثانية من شيء وهو عجم الذنب. ويقال عجب الذنب بالباء. "وهو بكل خلق عليم" عليم كيف يبدئ ويعيد.
في هذه الآية دليل على أن في العظام حياة وأنها تنجس بالموت. وهو قول أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي. وقال الشافعي رضي الله عنه: لا حياة فيها. وقد تقدم هذا في "النحل". فإن قيل: أراد بقوله "من يحي العظام" أصحاب العظام وإقامة المضاف مقام المضاف إليه كثير في اللغة، موجود في الشريعة. قلنا: إنما يكون إذ احتيج لضرورة وليس ها هنا ضرورة تدعو إلى هذا الإضمار، ولا يفتقر إلى هذا التقدير، إذا الباري سبحانه قد أخبر به وهو قادر عليه والحقيقة تشهد له؛ فإن الإحساس الذي هو علامة الحياة موجود فيه؛ قاله ابن العربي.
الآية: 80 - 83 {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون، أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون}
قوله تعالى: "الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا" نبه تعالى على وحدانيته، ودل على كمال قدرته في إحياء الموتى بما يشاهدونه من إخراج المحرق اليابس من العود الندي الرطب. وذلك أن الكافر قال: النطفة حارة رطبة بطبع حياة فخرج منها الحياة، والعظم بارد يابس بطبع الموت فكيف تخرج منه الحياة! فأنزل الله تعالى: "الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا" أي إن الشجر الأخضر من الماء والماء بارد رطب ضد النار وهما لا يجتمعان، فأخرج الله منه النار؛ فهو القادر على إخراج الضد من الضد، وهو على كل شيء قدير. معني بالآية ما في المرخ والعفار، وهي زنادة العرب؛ ومنه قولهم: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار؛ فالعفار الزند وهو الأعلى، والمرخ الزندة وهي الأسفل؛ يؤخذ منهما غصنان مثل المسواكين يقطران ماء فيحك بعضهما إلى بعض فتخرج منهما النار. وقال: "من الشجر الأخضر" ولم يقل الخضراء وهو جمع، لأن رده إلى اللفظ. ومن العرب من يقول: الشجر الخضراء؛ كما قال عز وجل: "من شجر من زقوم فمالئون منها البطون" [الواقعة: 52]. ثم قال تعالى محتجا: "أو ليس الذي خلق السموات والأرض بفادر على أن يخلق مثلهم" أي أمثال المنكرين للبعث. وقرأ سلام أبو المنذر ويعقوب الحضرمي: "يقدر على أن يخلق مثلهم" على أنه فعل. "بلى" أي إن خلق السموات والأرض أعظم من خلقهم؛ فالذي خلق السموات والأرض يقدر على أن يبعثهم. "وهو الخلاق العليم" وقرأ الحسن باختلاف عنه "الخالق".
قوله تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" قرأ الكسائي "فيكون" بالنصب عطفا على "يقول" أي إذا أراد خلق شيء لا يحتاج إلى تعب ومعالجة. وقد مضى هذا في غير موضع. "فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء" نزه نفسه تعالى عن العجز والشرك. وملكوت وملكوتي في كلام العرب بمعنى ملك. والعرب تقول: جبروتي خير من رحموتي. وقال سعيد عن قتادة: "ملكوت كل شيء" مفاتح كل شيء. وقرأ طلحة بن مصرف وإبراهيم التيمي والأعمش "ملكة"، وهو بمعنى ملكوت إلا أنه خلاف المصحف. "وإليه ترجعون" أي تردون وتصيرون بعد مماتكم. وقراءة العامة بالتاء على الخطاب. وقرأ السلمي وزر بن حبيش وأصحاب عبدالله "يرجعون" بالياء على الخبر.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 445
445- تفسير الصفحة رقم445 من المصحفالآية: 71 - 73 {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون، وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون، ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون}
قوله تعالى: "أولم يروا أنا خلقنا لهم" هذه رؤية القلب؛ أي أو لم ينظروا ويعتبروا ويتفكروا. "مما عملت أيدينا" أي مما أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا وكالة ولا شركة. و"ما" بمعنى الذي وحذفت الهاء لطول الاسم. وإن جعلت "ما" مصدرية لم تحتج إلى إضمار الهاء. "أنعاما" جمع نعم والنعم مذكر. "فهم لها مالكون" ضابطون قاهرون. "وذللناها لهم" أي سخرناها لهم حتى يقود الصبي الجمل العظيم ويضربه ويصرفه كيف شاء لا يخرج من طاعته. "فمنها ركوبهم" قراءة العامة بفتح الراء؛ أي مركوبهم، كما يقال: ناقة حلوب أي محلوب. وقرأ الأعمش والحسن وابن السميقع: "فمنها ركوبهم" بضم الراء على المصدر. وروى عن عائشة أنها قرأت: "فمنها ركوبتهم" وكذا في مصحفها. والركوب والركوبة واحد، مثل الحلوب والحلوبة، والحمول والحمولة. وحكى النحويون الكوفيون: أن العرب تقول: امرأة صبور وشكور بغير هاء. ويقولون: شاة حلوبة وناقة ركوبة؛ لأنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان له الفعل وبين ما كان الفعل واقعا عليه، فحذفوا الهاء مما كان فاعلا وأثبتوها فيما كان مفعولا؛ كما قال:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة سودا كخافية الغراب الأسحم
فيجب أن يكون على هذا ركوبتهم. فأما البصريون فيقولون: حذفت الهاء على النسب. والحجة للقول الأول ما رواه الجرمي عن أبي عبيدة قال: الركوبة تكون للواحد والجماعة، والركوب لا يكون إلا للجماعة. فعلى هذا يكون لتذكير الجمع. وزعم أبو حاتم: أنه لا يجوز "فمنها ركوبهم" بضم الراء لأنه مصدر؛ والركوب ما يركب. وأجاز الفراء "فمنها ركوبهم" بضم الراء، كما تقول فمنها أكلهم ومنها شربهم. "ومنها يأكلون" من لحمانها "ولهم فيها منافع" من أصوافها وأوبارها وأشعارها وشحومها ولحومها وغير ذلك. "ومشارب" يعني ألبانها؛ ولم ينصرفا لأنهما من الجموع التي لا نظير لها في الواحد. "أفلا يشكرون" الله على نعمه.
الآية: 74 - 76 {واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون، لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون، فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون}
قوله تعالى: "واتخذوا من دون الله آلهة" أي قد رأوا هذه الآيات من قدوتنا، ثم اتخذوا من دوننا آلهة لا قدرة لها على فعل. "لعلهم ينصرون" أي لما يرجون من نصرتها لهم إن نزل بهم عذاب. ومن العرب من يقول: لعله أن يفعل. "لا يستطيعون نصرهم" يعني الآلهة. وجمعوا بالواو والنون؛ لأنه أخبر عنهم بخبر الآدميين. "وهم" يعني الكفار "لهم" أي للآلهة "جند محضرون" قال الحسن: يمنعون منهم ويدفعون عنهم. وقال قتادة: أي يغضبون لهم في الدنيا. وقيل: المعنى أنهم يعبدون الآلهة ويقومون بها؛ فهم لها بمنزلة الجند وهي لا تستطيع أن تنصرهم. وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. وقيل: إن الآلهة جند للعابدين محضرون معهم في النار. فلا يدفع بعضهم عن بعض. وقيل: معناه وهذه الأصنام لهؤلاء الكفار جند الله عليهم في جهنم؛ لأنهم يلعنونهم ويتبرؤون من عبادتهم. وقيل: الآلهة جند لهم محضرون يوم القيامة لإعانتهم في ظنونهم. وفي الخبر: (إنه يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدونه في الدنيا من دون الله فيتبعونه إلى النار؛ فهم لهم جند محضرون)
قلت: ومعنى هذا الخبر ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، وفي الترمذي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع عليهم رب العالمين فيقول ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون ويبقى المسلمون...) وذكر الحديث بطوله.
قوله تعالى: "فلا يحزنك قولهم" هذه اللغة الفصيحة. ومن العرب من يقول يحزنك. والمراد تسلية نبيه عليه السلام؛ أي لا يحزنك قولهم شاعر ساحر. وتم الكلام. ثم استأنف فقال: "إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون" من القول والعمل وما يظهرون فنجازيهم بذلك.
الآية: 77 {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين}
قوله تعالى: "أولم ير الإنسان" قال ابن عباس: الإنسان هو عبدالله بن أبي. وقال سعيد بن جبير: هو العاص بن وائل السهمي. وقال الحسن: هو أبي بن خلف الجمحي. وقاله ابن إسحاق، ورواه ابن وهب عن مالك. "أنا خلقناه من نطفة" وهو اليسير من الماء؛ نطف إذا قطر. "فإذا هو خصيم مبين" أي مجادل في الخصومة مبين للحجة. يريد بذلك أنه صار به بعد أن لم يكن شيئا مذكورا خصيما مبينا. وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل فقال: يا محمد أترى أن الله يحيي هذا بعد ما رم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم (نعم ويبعثك الله ويدخلك النار) فنزلت هذه الآية.
الآية: 78 - 79 {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم}
قوله تعالى: "وضرب لنا مثلا ونسي خلقه" أي ونسي أنا أنشأناه من نطفة ميتة فركبنا فيه الحياة. أي جوابه من نفسه حاضر؛ ولهذا قال عليه السلام: (نعم ويبعثك الله ويدخلك النار) ففي هذا دليل على صحة القياس؛ لأن الله جل وعز احتج على منكري البعث بالنشأة الأولى. "قال من يحي العظام وهي رميم" أي بالية. رم العظم فهو رميم ورمام. وإنما قال رميم ولم يقل رميمة؛ لأنها معدولة عن فاعلة، وما كان معدولا عن وجهه ووزنه كان مصروفا عن إعرابه؛ كقول: "وما كانت أمك بغيا" [مريم: 28] أسقط الهاء؛ لأنها مصروفة عن باغية. "قل يحييها الذي أنشأها أول مرة" قيل: إن هذا الكافر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن سحقتها وأذريتها في الريح أيعيدها الله! فنزلت: "قل يحييها الذي أنشأها أول مرة"أي من غير شيء فهو قادر على إعادتها في النشأة الثانية من شيء وهو عجم الذنب. ويقال عجب الذنب بالباء. "وهو بكل خلق عليم" عليم كيف يبدئ ويعيد.
في هذه الآية دليل على أن في العظام حياة وأنها تنجس بالموت. وهو قول أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي. وقال الشافعي رضي الله عنه: لا حياة فيها. وقد تقدم هذا في "النحل". فإن قيل: أراد بقوله "من يحي العظام" أصحاب العظام وإقامة المضاف مقام المضاف إليه كثير في اللغة، موجود في الشريعة. قلنا: إنما يكون إذ احتيج لضرورة وليس ها هنا ضرورة تدعو إلى هذا الإضمار، ولا يفتقر إلى هذا التقدير، إذا الباري سبحانه قد أخبر به وهو قادر عليه والحقيقة تشهد له؛ فإن الإحساس الذي هو علامة الحياة موجود فيه؛ قاله ابن العربي.
الآية: 80 - 83 {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون، أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون}
قوله تعالى: "الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا" نبه تعالى على وحدانيته، ودل على كمال قدرته في إحياء الموتى بما يشاهدونه من إخراج المحرق اليابس من العود الندي الرطب. وذلك أن الكافر قال: النطفة حارة رطبة بطبع حياة فخرج منها الحياة، والعظم بارد يابس بطبع الموت فكيف تخرج منه الحياة! فأنزل الله تعالى: "الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا" أي إن الشجر الأخضر من الماء والماء بارد رطب ضد النار وهما لا يجتمعان، فأخرج الله منه النار؛ فهو القادر على إخراج الضد من الضد، وهو على كل شيء قدير. معني بالآية ما في المرخ والعفار، وهي زنادة العرب؛ ومنه قولهم: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار؛ فالعفار الزند وهو الأعلى، والمرخ الزندة وهي الأسفل؛ يؤخذ منهما غصنان مثل المسواكين يقطران ماء فيحك بعضهما إلى بعض فتخرج منهما النار. وقال: "من الشجر الأخضر" ولم يقل الخضراء وهو جمع، لأن رده إلى اللفظ. ومن العرب من يقول: الشجر الخضراء؛ كما قال عز وجل: "من شجر من زقوم فمالئون منها البطون" [الواقعة: 52]. ثم قال تعالى محتجا: "أو ليس الذي خلق السموات والأرض بفادر على أن يخلق مثلهم" أي أمثال المنكرين للبعث. وقرأ سلام أبو المنذر ويعقوب الحضرمي: "يقدر على أن يخلق مثلهم" على أنه فعل. "بلى" أي إن خلق السموات والأرض أعظم من خلقهم؛ فالذي خلق السموات والأرض يقدر على أن يبعثهم. "وهو الخلاق العليم" وقرأ الحسن باختلاف عنه "الخالق".
قوله تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" قرأ الكسائي "فيكون" بالنصب عطفا على "يقول" أي إذا أراد خلق شيء لا يحتاج إلى تعب ومعالجة. وقد مضى هذا في غير موضع. "فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء" نزه نفسه تعالى عن العجز والشرك. وملكوت وملكوتي في كلام العرب بمعنى ملك. والعرب تقول: جبروتي خير من رحموتي. وقال سعيد عن قتادة: "ملكوت كل شيء" مفاتح كل شيء. وقرأ طلحة بن مصرف وإبراهيم التيمي والأعمش "ملكة"، وهو بمعنى ملكوت إلا أنه خلاف المصحف. "وإليه ترجعون" أي تردون وتصيرون بعد مماتكم. وقراءة العامة بالتاء على الخطاب. وقرأ السلمي وزر بن حبيش وأصحاب عبدالله "يرجعون" بالياء على الخبر.
الصفحة رقم 445 من المصحف تحميل و استماع mp3