تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 476 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 476

476- تفسير الصفحة رقم476 من المصحف
قوله تعالى: "ولقد أرسلنا رسلا من قبلك" عزاه أيضا بما لقيت الرسل من قبل. "منهم من قصصنا عليك" أي أنبأناك بأخبارهم وما لقوا من قومهم. "ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية" أي من قبل نفسه "إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله" أي إذا جاء الوقت المسمى لعذابهم أهلكهم الله، وإنما التأخير لإسلام من علم الله إسلامه منهم، ولمن في أصلابهم من المؤمنين. وقيل: أشار بهذا إلى القتل ببدر. "قضي بينهم؟؟ بالحق وخسر هنالك المبطلون" أي الذين يتبعون الباطل والشرك.
الآية: 79 - 81 {الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون، ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون، ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون}
قوله تعالى: "الله الذي جعل لكم الأنعام" قال أبو إسحاق الزجاج: الأنعام ها هنا الإبل. "لتركبوا منها ومنها تأكلون" فاحتج من منع أكل الخيل وأباح أكل الجمال بأن الله عز وجل قال في الأنعام: "ومنها تأكلون" وقال في الخيل: "والخيل والبغال والحمير لتركبوها" [النحل: 8] ولم يذكر إباحة أكلها. وقد مضى هذا في "النحل" مستوفى.
قوله تعالى: "ولكم فيها منافع" في الوبر والصوف والشعر واللبن والزبد والسمن والجبن وغير ذلك. "ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم" أي تحمل الأثقال والأسفار. وقد مضى في "النحل" بيان هذا كله فلا معنى لإعادته. ثم قال: "وعليها" يعني الأنعام في البر "وعلى الفلك تحملون" في البحر "ويريكم آياته" أي آياته الدالة على وحدانيته وقدرته فيما ذكر. "فأي آيات الله تنكرون" نصب "أيا" بـ "تنكرون"، لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يعمل فيه ما قبله، ولو كان مع الفعل هاء لكان الاختيار في "أي" الرفع، ولو كان الاستفهام بألف أو هل وكان بعدهما اسم بعده فعل معه هاء لكان الاختيار النصب، أي إذا كنتم لا تنكرون أن هذه الأشياء من الله فلم تنكرون قدرته على البعث والنشر.
الآية: 82 - 85 {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون}
قوله تعالى: "أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم" حتى يشاهدوا آثار الأمم السالفة "كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض" كانوا أكثر منهم عددا وقوة "فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون" من الأبنية والأموال وما أدالوا به من الأولاد والأتباع؛ يقال: دلوت بفلان، إليك أي استشفعت به إليك. وعلى هذا "ما" للجحد أي فلم يغن عنهم ذلك شيئا. وقيل: "ما" للاستفهام أي أي شيء أغنى عنهم كسبهم حين هلكوا ولم ينصرف "أكثر"؛ لأنه على وزن أفعل. وزعم الكوفيون أن كل ما لا ينصرف فإنه يجوز أن ينصرف إلا أفعل من كذا فإنه لا يجوز صرفه بوجه في شعر ولا غيره إذا كانت معه من. قال أبو العباس: ولو كانت من المانعة من صرفه لوجب ألا يقال: مررت بخير منك وشر منك ومن عمرو.
قوله تعالى: "فلما جاءتهم رسلهم بالبينات" أي بالآيات الواضحات. "فرحوا بما عندهم من العلم" في معناه ثلاثة أقوال. قال مجاهد: إن الكفار الذين فرحوا بما عندهم من العلم قالوا: نحن أعلم منهم لن نعذب ولن نبعث. وقيل: فرح الكفار بما عندهم من علم الدنيا نحو "يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا" [الروم: 7]. وقيل: الذين فرحوا الرسل لما كذبهم قومهم أعلمهم الله عز وجل أنه مهلك الكافرين ومنجيهم والمؤمنين فـ " فرحوا بما عندهم من العلم" بنجاة المؤمنين "وحاق بهم" أي بالكفار "ما كانوا به يستهزئون" أي عقاب استهزائهم بما جاء به الرسل صلوات الله عليهم.
قوله تعالى: "فلما رأوا بأسنا" أي عاينوا العذاب. "قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين" أي آمنا بالله وكفرنا بالأوثان التي أشركناهم في العبادة "فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا" فلم ينفعهم إيمانهم بالله عند معاينة العذاب وحين رأوا البأس. "سنة الله التي قد خلت في عباده" "سنة الله" مصدر؛ لأن العرب تقول: سن يسن سنا وسنة؛ أي سن الله عز وجل في الكفار أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب. وقد مضى هذا مبينا في "النساء" و"يونس" وأن التوبة لا تقبل بعد رؤية العذاب وحصول العلم الضروري. وقيل: أي احذروا يا أهل مكة سنة الله في إهلاك الكفرة فـ "سنة الله" منصوب على التحذير والإغراء. "وخسر هنالك الكافرون" قال الزجاج: وقد كانوا خاسرين من قبل ذلك إلا أنه بين لنا الخسران لما رأوا العذاب. وقيل: فيه تقديم وتأخير؛ أي "لم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا" "وخسر هنالك الكافرون" كسنتنا في جميع الكافرين فـ "سنة" نصب بنزع الخافض أي كسنة الله في الأمم كلها. والله أعلم.