تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 541 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 541

541- تفسير الصفحة رقم541 من المصحف
الآية: 25 - 26 {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز، ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون}
قوله تعالى: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات" أي بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة. وقيل: الإخلاص لله تعالى في العبادة، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، بذلك دعت الرسل: نوح فمن دونه إلى محمد صلى الله عليه وسلم. "وأنزلنا معهم الكتاب" أي الكتب، أي أوحينا إليهم خبر ما كان قبلهم "والميزان" قال ابن زيد: هو ما يوزن به ومتعامل "ليقوم الناس بالقسط" أي بالعدل في معاملاتهم. وقوله: "بالقسط" يدل على أنه أراد الميزان المعروف وقال قوم: أراد به العدل. قال القشيري: وإذا حملناه على الميزان المعروف، فالمعنى أنزلنا الكتاب ووضعنا الميزان فهو من باب:
علفتها تبنا وماء باردا
ويدل على هذا قوله تعالى: "والسماء رفعها ووضع الميزان" [الرحمن: 7] ثم قال: "وأقيموا الوزن بالقسط" [الرحمن: 9] وقد مضى القول فيه. "وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد" روى عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: الحديد والنار والماء والملح). وروى عكرمة عن ابن عباس قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم عليه السلام: الحجر الأسود وكان أشد بياضا من الثلج، وعصا موسى وكانت من آس الجنة، طولها عشرة أذرع مع طول موسى، والحديد أنزل معه ثلاثة أشياء: السندان والكلبتان والميقعة وهي المطرقة، ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: قال ابن عباس نزل آدم من الجنة ومعه من الحديد خمسة أشياء من آلة الحدادين: السندان، والكلبتان، والميقعة، والمطرقة، والإبرة. وحكاه القشيري قال: والميقعة ما يحدد به، يقال وقعت الحديدة أقعها أي حددتها. وفي الصحاح: والميقعة الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه، وخشية القصار التي يدق عليها، والمطرقة والمسن الطويل. وروي أن الحديد أنزل في يوم الثلاثاء. "فيه بأس شديد" أي لإهراق الدماء. ولذلك نهى عن الفصد والحجامة في يوم الثلاثاء؛ لأنه يوم جرى فيه الدم. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (في يوم الثلاثاء ساعة لا يرقأ فيها الدم). وقيل: "أنزلنا الحديد" أي أنشأناه وخلقناه، كقوله تعالى: "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" [الزمر: 6] وهذا قول الحسن. فيكون من الأرض غير منزل من السماء. وقال أهل المعاني: أي أخرج الحديد من المعادن وعلمهم صنعته بوحيه. "فيه بأس شديد" يعني السلاح والكراع والجنة. وقيل: أي فيه من خشية القتل خوف شديد. "ومنافع للناس" قال مجاهد: يعني جنة. وقيل: يعني انتفاع الناس بالماعون من الحديد، مثل السكين والفأس والإبرة ونحوه. "وليعلم الله من ينصره" أي أنزل الحديد ليعلم من ينصره. وقيل: هو عطف على قوله تعالى: "ليقوم الناس بالقسط" أي أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب، وهذه الأشياء، ليتعامل الناس بالحق، "وليعلم الله من ينصره" وليرى الله من ينصر دينه وينصر رسله "ورسله بالغيب" قال ابن عباس: ينصرونهم لا يكذبونهم، ويؤمنون بهم "بالغيب" أي وهم لا يرونهم. "إن الله قوي" "قوي" في أخذه "عزيز" أي منيع غالب. وقد تقدم. وقيل: "بالغيب" بالإخلاص.
قوله تعالى: "ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم" فصل ما أجمل من إرسال الرسل بالكتب، وأخبر أنه أرسل نوحا وإبراهيم وجعل النبوة في نسلهما "وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب" أي جعلنا بعض ذريتهما الأنبياء، وبعضهم أمما يتلون الكتب المنزلة من السماء: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. وقال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم "فمنهم" أي من ائتم بإبراهيم ونوح "مهتد" وقيل: "فمنهم مهتد" أي من ذريتهما مهتدون. "وكثير منهم فاسقون" كافرون خارجون عن الطاعة.
الآية: 27 {ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون}
قوله تعالى: "ثم قفينا" أي اتبعنا "على آثارهم" أي على آثار الذرية. وقيل: على أثار نوح وإبراهيم "برسلنا" موسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم "وقفينا بعيسى ابن مريم" فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه "وآتيناه الإنجيل" وهو الكتاب المنزل عليه. وتقدم اشتقاقه في أول سورة "آل عمران".
قوله تعالى: "وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه" على دينه يعني الحواريين وأتباعهم "رأفة ورحمة" أي مودة فكان يواد بعضهم بعضا. وقيل: هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترل إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم وحرفوا الكلم عن مواضعه. والرأفة اللين، والرحمة الشفقة. وقيل: الرأفة تخفيف الكل، والرحمة تحمل الثقل. وقيل: الرأفة أشد الرحمة. وتم الكلام. ثم قال: "ورهبانية ابتدعوها" أي من قبل أنفسهم. والأحسن أن تكون الرهبانية منصوبة بإضمار فعل، قال أبو علي: وابتدعوها رهبانية ابتدعوها. وقال الزجاج: أي ابتدعوها رهبانية، كما تقول رأيت زيدا وعمرا كلمت. وقيل: إنه معطوف على الرأفة والرحمة، والمعنى على هذا أن الله تعالى أعطاهم إياها فغيروا وابتدعوا فيها. قال الماوردي: وفيها قراءتان، إحداهما بفتح الراء وهي الخوف من الرهب. الثانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان كالرضوانية من الرضوان، وذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح والتعلق بالكهوف والصوامع، وذلك أن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا. قال الضحاك: إن ملوكا بعد عيسى عليه السلام أرتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة، فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم، فقال قوم بقوا بعدهم: نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع. وقال قتادة: الرهبانية التي ابتدعوها رفض النساء واتخاذ الصوامع. وفي خبر مرفوع: (هي لحوقهم بالبراري والجبال).
قوله تعالى: "ما كتبناها عليهم" أي ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها، قاله ابن زيد. "إلا ابتغاء رضوان الله" أي ما أمرناهم إلا بما يرضي الله، قاله ابن مسلم. وقال الزجاج: "ما كتبناها عليهم" معناه لم نكتب عليهم شيئا البتة. ويكون "ابتغاء رضوان الله" بدلا من الهاء والألف في "كتبناها" والمعنى: ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله. وقيل: "إلا ابتغاء" الاستئناء منقطع، والتقدير ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله. "فما رعوها حق رعايتها" أي فما قاموا بها حق القيام. وهذا خصوص، لأن الذين لم يرعوها بعض القوم، وإنما تسببوا بالترهب إلى طلب الرياسة على الناس وأكل أموالهم، كما قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله" [التوبة: 34] وهذا في قوم أداهم الترهب إلى طلب الرياسة في آخر الأمر. وروى سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: "ورهبانية ابتدعوها" قال: كانت ملوك بعد عيسى بدلوا التوراة والإنجيل، وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والأنجيل ويدعون إلى دين الله تعالى، فقال أناس لملكهم: لو قتلت هذه الطائفة. فقال المؤمنون: نحن نكفيكم أنفسنا. فطائفة قالت: ابنوا لنا أسطوانة ارفعونا فيها، وأعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم. وقالت طائفة: دعونا نهيم في الأرض ونسيح، ونشرب كما تشرب الوحوش في البرية، فإذا قدرتم علينا فاقتلونا. وطائفة قالت: ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحفر الآبار ونحرث البقول فلا تروننا. وليس أحد من هؤلاء إلا وله حميم منهم ففعلوا، فمضى أولئك على منهاج عيسى، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب فقالوا: نسيح ونتعبد كما تعبد أولئك، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان من تقدم من الذين اقتدوا بهم، فذلك قوله تعالى: "ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله" الآية. يقول: أبتدعها هؤلاء الصالحون "فما رعوها" المتأخرون "حق رعايتها" "فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم" يعني الذين ابتدعوها أولا ورعوها "وكثير منهم فاسقون" يعني المتأخرين، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل، جاؤوا من الكهوف والصوامع والغيران فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وهذه الآية دالة على أن كل محدثة بدعة، فينبغي لمن أبتدع خيرا أن يدوم عليه، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية. وعن أبي أمامة الباهلي - واسمه صدي بن عجلان - قال: أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم، إنما كتب عليكم الصيام، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه، فإن ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها، فعابهم الله بتركها فقال: "ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها".
وفي الآية دليل على العزلة عن الناس في الصوامع والبيوت، وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان وتغير الأصدقاء والإخوان. وقد مضى بيان هذا في سورة "الكهف" مستوفى والحمد لله. وفي مسند أحمد بن حنبل من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه فقال: مر رجل بغار فيه شيء من ماء، فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار، فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا. قال: لو أني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت إلا لم أفعل، فأتاه فقال: يا نبي الله! إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف الأول خير من صلاته ستين سنة). وروى الكوفيون عن ابن مسعود، قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدري أي الناس أعلم) قال قلت: الله ورسول أعلم. قال: (أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فيه وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على استه هل تدري من أين اتخذ بنو إسرائيل الرهبانية ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا إن أفنونا فلم يبق للدين أحد يدعن إليه فتعالوا نفترق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الأمي الذي وعدنا عيسى - يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم - فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر - وتلا "ورهبانية" الآية - أتدري ما رهبانية أمتي الهجرة والجهاد والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم من اليهود على إحدى وسبعين فرقة فنجا منهم فرقة وهلك سائرها واختلف من كان من قبلكم من النصارى على اثنين وسبعين فرقة فنجا منهم ثلاثة وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى - عليه السلام - حتى قتلوا وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك أقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فأخذتهم الملوك وقتلتهم وقطعتهم بالمناشير وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك - ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهي التي قال الله تعالى فيهم: "ورهبانية ابتدعوها" - الآية - فمن أمن بي واتبعني وصدقني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الفاسقون) يعني الذي تهودوا وتنصروا. وقيل: هؤلاء الذين أدركوا محد صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا به فأولئك هم الفاسقون. وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، أي إن الأولين أصروا على الكفر أيضا فلا تعجب من أهل عصرك إن أصروا على الكفر. والله أعلم.
الآية: 28 - 29 {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم، لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا" أي آمنوا بموسى وعيسى "اتقوا الله وآمنوا برسوله" بمحمد صلى الله عليه وسلم "يؤتكم كفلين من رحمته" أي مثلين من الأجر على إيمانكم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا مثل قوله تعالى: "أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا" [القصص: 54] وقد تقدم القول فيه. والكفل الحظ والنصيب وقد مضى في "النساء" وهو في الأصل كساء يكتفل به الراكب فيحفظه من السقوط، قاله ابن جريج. ونحوه قال الأزهري، قال: أشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه إذا ارتدفه لئلا يسقط، فتأويله يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي كما يحفظ الكفل الراكب. وقال أبو موسى الأشعري: "كفلين" ضعفين بلسان الحبشة. وعن ابن زيد: "كفلين" أجر الدنيا والآخرة. وقيل: لما نزلت "أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا" [القصص: 54] افتخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.
وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الحسنة إنما لها من الأجر مثل واحد، فقال: الحسنة اسم عام ينطلق على كل نوع من الإيمان، وينطلق على عمومه، فإذا انطلقت الحسنة على نوع واحد فليس له عليها من الثواب إلا مثل واحد. وإن انطلقت على حسنة تشتمل على نوعين كان الثواب عليها مثلين، بدليل هذه الآلة فإنه قال: "كفلين من رحمته" والكفل النصيب كالمثل، فجعل لمن اتقى الله وآمن برسوله نصيبينا، نصيبا لتقوى الله ونصيبا لإيمانه برسوله. فدل على أن الحسنة التي جعل لها عشر هي التي جمعت عشرة أنواع من الحسنات، وهو الإيمان الذي جمع الله تعالى في صفته عشرة أنواع، لقوله تعالى: "إن المسلمين والمسلمات" [الأحزاب: 35] الآية بكمالها. فكانت هذه الأنواع العشرة التي هي ثوابها أمثالها فيكون لكل نوع منها مثل. وهذا تأويل فاسد، لخروجه عن عموم الظاهر، في قوله تعالى: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" [الأنعام: 160] بما لا يحتمله تخصيص العموم، لأن ما جمع عشر حسنات فليس يجزى عن كل حسنة إلا بمثلها. وبطل أن يكون جزاء الحسنة عشر أمثالها والأخبار دالة عليه. وقد تقدم ذكرها. ولو كان كما ذكر لما كان بين الحسنة والسيئة فرق.
قوله تعالى: "ويجعل لكم نورا" أي بيانا وهدى، عن مجاهد. وقال ابن عباس: هو القرآن. وقيل: ضياء "تمشون به" في الآخرة على الصراط،وفي القيامة إلى الجنة. وقيل تمشون به في الناس تدعونهم إلى الإسلام فتكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رياسة كنتم فيها. وذلك أنهم خافوا أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد عليه السلام. وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله، لا الرياسة الحقيقية في الدين. "ويغفر لكم" ذنوبكم "والله غفور رحيم".
قوله تعالى: "لئلا يعلم أهل الكتاب" أي ليعلم، و"أن لا" صلة زائدة مؤكدة، قاله الأخفش. وقال الفراء: معناه لأن يعلم و"لا" صلة زائدة في كل كلام دخل عليه جحد. قال قتادة: حسد أهل الكتاب المسلمين فنزلت: "لئلا يعلم أهل الكتاب" أي لأن يعلم أهل الكتاب أنهم "لا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله" وقال مجاهد: قالت اليهود يوشك أن يخرج منا نبي يقطع الأيدي والأرجل. فلما خرج من العرب كفروا فنزلت: "لئلا يعلم" أي ليعلم أهل الكتاب "أن لا يقدرون" أي أنهم يقدرون، كقوله تعالى: "ألا يرجع إليهم قولا" [طه: 89]. وعن الحسن: "ليلا يعلم أهل الكتاب" وروي ذلك عن ابن مجاهد. وروى قطرب بكسر اللام وإسكان الياء. وفتح لام الجر لغة معروفة. ووجه إسكان الياء أن همزة "أن" حذفت فصارت "لن" فأدغمت النون في اللام فصار "للا" فلما اجتمعت اللامات أبدلت الوسطى منها ياء، كما قالوا في أما: أيما. وكذلك القول في قراءة من قرأ "ليلا" بكسر اللام إلا أنه أبقى اللام على اللغة المشهورة فيها فهو أقوى من هذه الجهة. وعن ابن مسعود "لكيلا يعلم" وعن حطان بن عبدالله "لأن يعلم". وعن عكرمة "ليعلم" وهو خلاف المرسوم. "من فضل الله" قيل: الإسلام. وقيل: الثواب. وقال الكلبي: من رزق الله. وقيل: نعم الله التي لا تحصى. "وأن الفضل بيد الله" ليس بأيديهم فيصرفون النبوة عن محمد صلى الله عليه وسلم إلى من يحبون. وقيل: "وأن الفضل بيد الله" أي هو له "يؤتيه من يشاء" وفي البخاري: حدثنا الحكم بن نافع، قال حدثنا شعيب عن الزهري، قال أخبرني سالم بن عبدالله، أن عبدالله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو قائم على المنبر: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى أنتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى غروب الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين قال أهل التوراة ربنا هؤلاء أقل عملا وأكثر أجرا قال هل ظلمتكم من أجركم من شيء قالوا لا فقال فذلك فضلي أوتيه من أشاء) في رواية: (فغضبت اليهود والنصارى وقالوا ربنا...) الحديث. "والله ذو الفضل العظيم". تم تفسير سورة الحديد والحمد لله.