تفسير الطبري تفسير الصفحة 541 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 541
542
540
 الآية : 25
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنّ اللّهَ قَوِيّ عَزِيزٌ }.
يقول تعالى ذكره: لقد أرسلنا رسلنا بالمفصّلات من البيان والدلائل, وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع, والميزان بالعدل. كما:
26053ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة الكِتابَ وَالمِيزَانَ قال: الميزان: العدل.
26054ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وأنْزَلْنا مَعَهُمْ الكِتابَ والميزان بالحق قال: الميزان: ما يعمل الناس, ويتعاطون عليه في الدنيا من معايشهم التي يأخذون ويعطون, يأخذون بميزان, ويعطون بميزان, يعرف ما يأخذ وما يعطي. قال: والكتاب فيه دين الناس الذي يعملون ويتركون, فالكتاب للاَخرة, والميزان للدنيا.
وقوله: لِيَقُومَ النّاسُ بالقِسْطِ يقول تعالى ذكره: ليعمل الناس بينهم بالعدل.
وقوله: وأنْزَلْنا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ يقول تعالى ذكره: وأنزلنا لهم الحديد فيه بأس شديد: يقول: فيه قوّة شديدة, ومنافع للناس, وذلك ما ينتفعون به منه عند لقائهم العدوّ, وغير ذلك من منافعه. وقد:
26055ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا الحسين, عن علباء بن أحمر, عن عكرِمة عن ابن عباس, قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم صلوات الله عليه: السندان والكلبتان, والميقعة, والمطرقة.
26056ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وأنْزَلْنا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ قال: البأس الشديد: السيوف والسلاح الذي يقاتل الناس بها وَمَنافِعُ للنّاسَ بعد, يحفرون بها الأرض والجبال وغير ذلك.
26057ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: قوله: وأنْزَلْنا الْحْدَيدَ فِيهِ بأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ وجُنَة وسلاح, وأنزله ليعلم الله من ينصره.
وقوله: وَلِيَعْلَمَ اللّهَ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغَيْبِ يقول تعالى ذكره: أرسلنا رسلنا إلى خلقنا وأنزلنا معهم هذه الأشياء ليعدلوا بينهم, وليعلم حزب الله من ينصر دين الله ورسله بالغيب منه عنهم.
وقوله: إنّ اللّهَ قَويّ عَزيزٌ يقول تعالى ذكره: إن الله قويّ على الانتصار ممن بارزه بالمعاداة, وخالف أمره ونهيه, عزيز ف انتقامه منهم, لا يقدر أحد على الانتصار منه مما أحلّ به من العقوبة.
الآية : 26
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرّيّتِهِمَا النّبُوّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا أيها الناس نوحا إلى خلقنا, وإبراهيم خليله إليهم رسولاً وَجَعَلْنا فِي ذُرّيّتِهِما النُبُوّةَ وَالكِتابَ وكذلك كانت النبوّة في ذرّيتهما, وعليهم أنزلت الكتب: التوراة, والإنجيل, والزبور, والفرقان, وسائر الكتب المعروفة فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ يقول: فمن ذرّيتهما مهتدٍ إلى الحقّ مستبصر وكَثِيرٌ مِنْهُمْ يعني من ذرّيتهما فاسِقُونَ يعني ضُلاّل, خارجون عن طاعة الله إلى معصيته.
الآية : 27
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {ثُمّ قَفّيْنَا عَلَىَ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ثم أتبعنا على آثارهم برسلنا الذين أرسلناهم بالبيّنات على آثار نوح إبراهيم برسلنا, وأتبعنا بعيسى ابن مريم وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ يعني: الذين اتبعوا عيسى على منهاجه وشريعته رأَفَةً وهو أشدّ الرحمة وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها يقول: أحدثوها ما كَتَبَناها عَلَيْهِمْ يقول: ما افترضنا تلك الرهبانية عليهم إلاّ ابْتِغاءِ رِضْوَانِ اللّهِ يقول: لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فَمَا رَعَوْها حَقّ رِعايَتِها.
واختلف أهل التأويل في الذين لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها, فقال بعضهم: هم الذين ابتدعوها, لم يقوموا بها, ولكنهم بدّلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى: فتنصّروا وتهوّدوا.
وقال آخرون: بل هم قوم جاؤوا من بعد الذين ابتدعوها فلم يرعوها حقّ رعايتها, لأنهم كانوا كفارا ولكنهم قالوا: نفعل كالذي كانوا يفعلون من ذلك أوّليا, فهم الذين وصف الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها.
وبنحو الذي قلنا في تأويل هذه الأحرف إلى الموضع الذي ذكرنا أن أهل التأويل فيه مختلفون في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26058ـ حدثني بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الّذِينَ اتّبَعُوه رأفَةً ورحْمَةً فهاتان من الله, والرهبانية ابتدعها قوم من أنفسهم, ولم تُكتب عليهم, ولكن ابتغوا بذلك وأرادوا رضوان الله, فما رعوها حقّ رعايتها, ذُكر لنا أنهم رفضوا النساء, واتخذوا الصوامع.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وَرهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها قال: لم تُكتب عليهم, ابتدعوها ابتغاء رضوان الله.
26059ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ قال فلم؟ قال: ابتدعوها ابتغاء رضوان الله تطوّعا, فما رَعوْها حقّ رعايتها. ذكر من قال: الذين لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها كانوا غير الذين ابتدعوها. ولكنهم كانوا المريدي الاقتداء بهم.
حدثنا الحسين بن الحريث (أبو عمار المَرْوَزِيّ) قال: حدثنا الفضل بن موسى, عن سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس, قال: كانت ملوك بعد عيسى بدّلوا التوراة والإنجيل, وكان فيهم مؤمنون يقرأون التوراة والإنجيل, فقيل لملكهم: ما نجد شيئا أشدّ علينا من شتم يشتُمناه هؤلاء أنهم يقرأون وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهَ فأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ هؤلاء الاَيات مع ما يعببوننا به في قراءتهم, فادعهم فليقرأوا كما نقرأ, وليؤمنوا كما آمنا به, قال: فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل, أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل, إلا ما بدّلوا منها, فقالوا: ما تريدون إلى ذلك فدعونا قال: فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانة, ثم ارفعونا إليها, ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا, فلا نردّ عليكم, وقالت طائفة منهم: دعونا نسيح في الأرض, ونهيم ونشرب كما تشرب الوحوش, فإن قدرتم علينا بأرضكم فاقتلونا, وقالت طائفة: ابنوا لنا دورا في الفيافي, ونحتفر الاَبار, ونحترث البقول, فلا نردّ عليكم, ولا نمرّ بكم, وليس أحد من أولئك إلا وله حميم فيهم قال: ففعلوا ذلك, فأنزل الله جلّ ثناؤه وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إلاّ ابْتِغاءَ رِضْوَانِ اللّهِ فَما رَعَوْها حَق رِعايَتِها الاَخرون قالوا: نتعبد كما تعبد فلان, ونسيح كما ساح فلان. ونتخذ دورا كما اتخذ فلان, وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم قال: فلما بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل, انحطّ رجل من صومعته, وجاء سائح من سياحته, وجاء صاحب الدار من داره, وآمنوا به وصدّقوه, فقال الله جلّ ثناؤه يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا الله وآمَنُوا برسوله يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْن مِنْ رَحْمَتِهِ قال: أجرين لإيمانهم بعيسى, وتصديقهم بالتوراة والإنجيل, وإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقهم به. قال وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورا تَمْشُونَ بِهِ القرآن, واتباعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: لِئَلاّ يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ ألاّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللّهِ وأنّ الفَضْلَ بِيَدٍ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ.
26060ـ حدثنا يحيى بن أبي طالب, قال: حدثنا داود بن المحبر, قال: حدثنا الصعق بن حزن, قال: حدثنا عقيل الجعديّ, عن أبي إسحاق الهمدانيّ, عن سويد بن غفلة, عن عبد الله بن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اخْتَلَفَ مَنْ كانَ قَبْلَنا على إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً, نَجا مِنْهُمْ ثَلاثٌ وَهَلَكَ سائِرُهُمْ: فِرْقَةٌ مِنَ الثّلاثِ وَازَتِ المُلُوكَ وَقاتَلَتْهُمْ على دِينِ اللّهِ وَدِينِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِمْ, فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِموَازَاة المُلُوكِ, فأقامُوا بَينَ ظَهْرَانيْ قَوْمِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إلى دِينِ اللّهِ وَدِينِ عِيَسى ابن مَرْيَم صَلَوَاتُ اللّهُ عَلَيْهِ, فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ, وَنَشَرْتهُمْ بالمِناشِير وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِمُوَازَاةِ المُلُوكِ, وَلا بالمُقام بَينَ ظَهْرَانِي قَوْمِهِمْ يَدْعُوَنَهُمْ إلى دِينِ اللّه وَدِينِ عِيسَى صَلَواتُ اللّهُ عَلَيْهِ, فَلَحِقُوا بالبَرَارِي والجِبالِ, فَتَرَهّبُوا فِيها» فَهُوَ قَوْلُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ قال: «ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله» فَمَا رَعَوْها حَقّ رِعايَتِها قال: «ما رعاها الذين من بعدهم حقّ رعايتها» فآتَيْنا الّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ قال: «وهم الذين آمنوا بي, وصدّقوني». قال وكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ قال: «فهم الذين جحدوني وكذّبوني».
حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها قال الاَخرون ممن تعبد من أهل الشرك, وفني من فني منهم, يقولون: نتعبّد كما تعبد فلان, ونسيح كما ساح فلان, وهم في شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم. ذكر من قال: الذين لم يرعوها حقّ رعايتها: الذين ابتدعوها.
26061ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَجَعَلْنا فِي قُلُوب الّذِينَ اتّبَعُوهُ رأفَةً وَرَحْمَةً... إلى قوله: حَقّ رِعايِتها يقول: ما أطاعوني فيها, وتكلّموا فيها بمعصية الله, وذلك أن الله عزّ وجلّ كتب عليهم القتال قبل أن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم, فلما استخرج أهل الإيمان, ولم يبق منهم إلا قليل, وكثر أهل الشرك وذهب الرسل وقهروا, اعتزلوا في الغيران, فلم يزل بهم ذلك حتى كفرت طائفة منهم, وتركوا أمر الله عزّ وجلّ ودينه, وأخذوا بالبدعة وبالنصرانية وباليهودية, فلم يرعوها حقّ رعايتها وثبتت طائفة على دين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه, حين جاءهم بالبينات وبعث الله عزّ وجلّ محمدا رسولاً صلى الله عليه وسلم وهم كذلك فذلك قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْن مِنْ رَحْمَتِهِ. إلى وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
26062ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُواها ما كَتَبْناها عَلَيْهمْ كان الله عزّ وجل كتب عليهم القتال قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم فلما استخرج أهل الإيمان, ولم يبق منهم إلا القليل, وكثر أهل الشرك, وانقطعت الرسل, اعتزلوا الناس, فصاروا في الغيران, فلم يزالوا كذلك حتى غيرت طائفة منهم, فتركوا دين الله وأمره وعهده الذي عهده إليهم, وأخذوا بالبدع, فابتدعوا النصرانية واليهودية, فقال الله عزّ وجلّ لهم: ما رَعَوْها حَقّ رِعايَتِها وثبتت طائفة منهم على دين عيسى صلوات الله عليه, حتى بَعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم, فآمنوا به.
26063ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا زكريا بن أبي مريم, قال: سمعت أبا أمامة الباهليّ يقول: إن الله كتب عليكم صيام رمضان, ولم يكتب عليكم قيامه, وإنما القيام شيء ابتدعتموه, وإن قوما ابتدعوا بدعة لم يكتبها الله عليهم, ابتغوا بها رضوان الله, فلم يرعوها حقّ رعايتها, فعابهم الله بتركها, فقال: وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إلاّ ابْتِغاءَ رِضْوَانِ اللّهِ فَما رَعَوْها حَقّ رِعايتِها.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها, بعض الطوائف التي ابتدعتها, وذلك أن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم قال: فدلّ بذلك على أن منهم من قد رعاها حقّ رعايتها, فلو لم يكن منهم من كان كذلك لم يكن مستحقّ الأجر الذي قال جلّ ثناؤه: فآتَيْنا الّذِينَ آمَنوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ إلا أن الذين لم يرعوها حقّ رعايتها ممكن أن يكونوا كانوا على عهد الذين ابتدعوها, وممكن أن يكونوا كانوا بعدهم, لأن الذين هم من أبنائهم إذا لم يكونوا رعوها, فجائز في كلام العرب أن يقال: لم يرعها القوم على العموم. والمراد منهم البعض الحاضر, وقد مضى نظير ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب.
وقوله: فآتَيْنا الّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ يقول تعالى ذكره: فأعطينا الذين آمنوا بالله ورسله من هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية ثوابهم على ابتغائهم رضوان الله, وإيمانهم به وبرسوله في الاَخرة, وكثير منهم أهل معاص, وخروج عن طاعته, والإيمان به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26064ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فآتَيْنا الّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ قال: الذين رعوا ذلك الحقّ.
الآية : 28
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله من أهل الكتابين التوراة والإنجيل, خافوا الله بأداء طاعته, واجتناب معاصيه, وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم. كما:
26065ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَآمِنُوا بِرُسُولِهِ يعني الذين آمنوا من أهل الكتاب.
26066ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول, في قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يعني: الذين آمنوا من أهل الكتاب.
وقوله: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ يُعطكم ضعفين من الأجر لإيمانكم بعيسى صلى الله عليه وسلم, والأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم, ثم إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم حين بعث نبيا. وأصل الكِفل: الحظّ, وأصله: ما يكتفل به الراكبُ, فيحبسه ويحفظه عن السقوط يقول: يُحَصّنكم هذا الكِفْل من العذاب, كما يُحَصّن الكِفْل الراكب من السقوط. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26067ـ حدثنا أبو عمار المَرْوَزِيّ, قال: حدثنا الفضل بن موسى, عن سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ قال: أجرين, لإيمانهم بعيسى صلى الله عليه وسلم, وتصديقهم بالتوراة والإنجيل, وإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم, وتصديقهم به.
قال: ثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ قال: أجْرَين: إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم, وإيمانهم بعيسى صلى الله عليه وسلم, والتوراة والإنجيل.
وبه عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس وهارون بن عنترة, عن أبيه, عن ابن عباس يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ قال: أجرين.
26068ـ حدثنا عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثنا معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ يقول: ضعفين.
26069ـ قال: ثنا مهران, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جُبَير, قال: بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم جعفرا في سبعين راكبا إلى النجاشيّ يدعوه, فقدم عليه, فدعاه فاستجاب له وآمن به فلما كان انصرافه, قال ناس ممن قد آمن به من أهل مملكته, وهم أربعون رجلاً: ائذن لنا, فنأتي هذا النبيّ, فنسلم به, ونساعد هؤلاء في البحر, فإنّا أعلم بالبحر منهم, فقدموا مع جعفر على النبي صلى الله عليه وسلم, وقد تهيأ النبيّ صلى الله عليه وسلم لوقعة أُحُدُ فلما رأوا ما بالمسلمين من الخَصاصة وشدّة الحال, استأذنوا النبيّ صلى الله عليه وسلم, قالوا: يا نبيّ الله إن لنا أموالاً, ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة, فإن أذِنت لنا انصرفنا, فجئنا بأموالنا, وواسينا المسلمين بها. فَأَذنَ لهم, فانصرفوا, فأتوا بأموالهم, فواسوا بها المسلمين, فأنزل الله فيهم الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ... إلى قوله: ومِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فكانت النفقة التي واسَوْا بها المسلمين فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن بقوله: يُؤْتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا فَخَروا على المسلمين, فقالوا: يا معشر المسلمين, أما من آمن منا بكتابكم وكتابنا فله أجره مرّتين, ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم, فما فضلكم علينا, فأنزل الله يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ فجعل لهم أجرهم, وزادهم النورَ والمغفرة, ثم قال: لِكَيْلا يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ. وهكذا قرأها سعيد بن جُبَير لِكَيْلا يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ ألاّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ.
26070ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْن مِنْ رَحَمَتِهِ قال: ضعفين.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ قال والكفلان أجران بإيمانهم الأوّل, وبالكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
26071ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول, في قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يعني الذين آمنوا من أهل الكتاب يُؤْتِكُم كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ يقول: أجرين بإيمانكم بالكتاب الأوّل, والذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
26072ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَحْمَتِهِ قال: أجرين: أجر الدنيا, وأجر الاَخرة.
26073ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا حكام, عن سفيان, قال: حدثنا عنبسة, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص عن أبي موسى يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ قال: الكفلان: ضعفان من الأجر بلسان الحَبَشة.
26074ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الشعبيّ, قال: إن الناس يوم القيامة على أربع منازل: رجل كان مؤمنا بعيسى, فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم, فله أجران. ورجل كان كافرا بعيسى, فأمن بمحمد صلى الله عليه وسلم, فله أجر. ورجل كان كافرا بعيسى, فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم, فباء بغضب على غضب. ورجل كان كافرا بعيسى من مشركي العرب, فمات بكفره قبل محمد فباء بغضب.
26075ـ حدثني العباس بن الوليد, قال: أخبرني أبي, قال: سألت سعيد بن عبد العزيز, عن الكفل كم هو؟ قال: ثلاث مئة وخمسون حسنة, والكفلان: سبع مئة حسنة. قال سعيد: سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حبرا من أحبار اليهود: كم أفضل ما ضعفت لكم الحسنة؟ قال: كفل ثلاث مئة وخمسون حسنة قال: فحمد الله عمر على أنه أعطانا كفلين, ثم ذكر سعيد قول الله عزّ وجل في سورة الحديد يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ فقلت له: الكفلان في الجمعة مثل هذا؟ قال: نعم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك صحّ الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
26076ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن علية, قال: حدثنا معمر بن راشد, عن فراس, عن الشعبيّ, عن أبي بردة بن أبي موسى, عن أبيه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرّتَيْن: رَجُلٌ آمَنَ بالكِتابِ الأوّلِ والكِتابِ الاَخِرِ, وَرَجُلٌ كانَت لَهُ أمّةٌ فأدّبَها وأحْسَنَ تَأدِيبَهَا, ثُمّ أعْتَقَها فَتزَوّجَها, وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أحْسَنَ عِبادَةَ رَبّهِ, وَنَصَحَ لِسَيّدِهِ».
حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن أبي زائدة, قال: ثني صالح بن صالح الهمداني, عن عامر, عن أبي بردة بن أبي موسى, عن أبي موسى, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, بنحوه.
حدثنا محمد بن المثنى, قال: ثني عبد الصمد, قال: حدثنا شعبة, عن صالح بن صالح, سمع الشعبيّ يحدّث, عن أبي بردة, عن أبي موسى الأشعري, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, بنحوه.
26077ـ حدثني محمد بن عبد الحكم, قال: أخبرنا إسحاق بن الفرات, عن يحيى بن أيوب, قال: قال يحيى بن سعيد أخبرنا نافع, أن عبد الله بن عمر, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّمَا آجالُكُم فِي آجالِ مَن خَلا مِنَ الأُمَم, كمَا بَينَ صَلاةِ العَصْرِ إلى مَغْرِبِ الشّمْس, وإنما مَثَلُكُم وَمَثَلُ اليَهُودِ والنّصَارَى كمَثَلِ رَجُلٍ اسْتأجَرَ عُمّالاً, فَقالَ: مَن يَعْمَل مِن بُكْرَةٍ إلى نِصفِ النّهارِ على قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ, ألا فَعَمِلَت اليَهُودُ ثُمّ قالَ: مَن يَعْمَلُ مِنْ نِصفِ النّهارِ إلى صَلاةِ العَصْر على قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ, ألا فَعَمِلَتِ النّصَارَى ثُمّ قالَ: مَن يعْمَل مِن صَلاةِ العَصْر إلى مَغارِبِ الشّمْس على قِيرَاطَيْن قِيرَاطَيْن, ألا فَعَمِلْتُم».
26078ـ حدثني عليّ بن سهل, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفيان, عن عبد الله بن دينار, أنه سمع ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ هَذهِ الأُمّةِ», أو قال «أُمّتِي وَمَثَلُ اليَهُودِ والنّصَارَى, كمَثَلِ رَجُلٍ قالَ: مَنْ يَعْمَلُ لي مِن غَدوَةٍ إلى نِصْفِ النّهارِ على قِيرَاط» قالَتِ اليَهودُ: نَحْنُ, فَعَملُوا قال: «فَمَن يَعْمَلُ مِن نِصفِ النّهارِ إلى صَلاة العَصْر على قِيرَاطٍ؟» قالَتِ النّصَارَى: نَحْنُ, فَعَمِلُوا, «وأنْتُم المُسْلِمُونَ تَعْمَلُونَ مِن صَلاةِ العَصْر إلى اللّيْلِ على قِيرَاطَيْن», فَغَضِبَتِ اليَهُودُ والنّصَارَى وقالُوا: نَحْنُ أكْثَرُ عَمَلاً, وأقَلّ أجْرا, قالَ «هَل ظَلَمْتُكُمْ مِن أُجُورِكُمْ شَيْئا؟» قالُوا: لا, قال: «فَذَاكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أشاءُ».
26079ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني الليث وابن لهيعة, عن سليمان بن عبد الرحمن, عن القاسم بن عبد الرحمن, عن أبي أُمامة الباهليّ, أنه قال: شهدت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع, فقال قولاً كثيرا حسنا جميلاً, وكان فيها: «مَن أسْلَمَ مِن أهْلِ الكِتابَيْنِ فَلَهُ أجْرُهُ مَرّتَيْنِ, وَلَهُ مِثْلُ الّذِي لَنَا, وَعَلَيْهِ مِثْلُ الّذِي عَلَيْنَا وَمَن أسْلَمَ مِنَ المُشْركينَ فَلَهُ أجْرُهُ, وَلَهُ مِثْلُ الذِي لَنا, وَعَلَيْهِ مِثْلُ الّذِي عَلَيْنا».
وقوله: ويَجْعَلْ لَكُم نُورا تَمْشُونَ بِهِ اختلف أهل التأويل في الذي عنى به النور في هذا الموضع, فقال بعضهم: عنى به القرآن. ذكر من قال ذلك:
26080ـ حدثنا أبو عمار المروزي, قال: حدثنا الفضل بن موسى, عن سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس ويَجْعَل لَكُم نُورا تَمْشُونَ بِهِ قال: الفرقان واتباعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس ويَجْعَلْ لَكُمْ نُورا تَمْشُونَ بِهِ قال: الفرقان, واتباعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم. حدثنا أبو كُرَيب, وأبو هشام, قالا: حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس ويَجْعَلْ لَكُمْ نُورا تَمْشُونَ بِهِ قال: القرآن.
26081ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن عطاء, عن سعيد, مثله.
وقال آخرون: عُنِي بالنور في هذا الموضع: الهدى. ذكر من قال ذلك:
26082ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: تَمْشُونَ بِهِ قال: هدى.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره وعد هؤلاء القوم أن يجعل لهم نورا يمشون به, والقرآن, مع اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم نور لمن آمن بهما وصدّقهما وهدى, لأن من آمن بذلك, فقد اهتدى.
وقوله: وَيَغْفِرْ لَكُمْ يقول: ويصفح لكم عن ذنوبكم فيسترها عليكم وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول تعالى ذكره: والله ذو مغفرة ورحمة.
الآية : 29
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {لّئَلاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاّ يَقْدِرُونَ عَلَىَ شَيْءٍ مّن فَضْلِ اللّهِ وَأَنّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب, يفعل بكم ربكم هذا لكي يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله الذي آتاكم وخصّكم به, لأنهم كانوا يرون أن الله قد فضّلهم على جميع الخلق, فأعلمهم الله جلّ ثناؤه أنه قد آتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل والكرامة, ما لم يؤتهم, وأن أهل الكتاب حسدوا المؤمنين لما نزل قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا الله وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ويَجْعَلْ لَكُمْ نُورا تَمْشُون بِهِ وَيَغْفِرْ بَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فقال الله عزّ وجلّ: فعلت ذلك ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26083ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ... الآية, قال: لما نزلت هذه الآية, حَسدَ أهل الكتاب المسلمين عليها, فأنزل الله عزّ وجلّ لِئَلاّ يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ ألاّ يَقْدِرُونَ... الآية, قال: ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إنّمَا مَثَلُنا وَمَثَلُ أهْلِ الكِتابَيْنِ قَبْلَنا, كمَثَلِ رَجُلٍ اسْتأْجَرَ أُجَرَاءَ يَعْمَلُونَ إلى اللّيْلِ على قِيرَاطٍ, فَلَمّا انْتَصَفَ النّهارُ سَئِمُوا عَمَلَهُ وَمَلّوا, فحاسَبَهُمْ, فأَعطَاهُمْ عَلى قَدْرِ ذَلكَ, ثُمّ اسْتأْجَرَ أُجُرَاءَ إلى اللّيْلِ عَلى قِيرَاطَيْنِ, يَعْمَلُونَ لَهُ بَقِيّةَ عَمَلِهِ, فَقِيلَ لَهُ: ما شأْنُ هَؤُلاءِ أقَلّهُمْ عَمَلاً, وأكْثَرُهُمْ أجْرا؟ قال: مالي أُعْطي مَنْ شِئْتُ, فأرْجُوا أنْ نَكُونَ نَحْنُ أصحَابَ القِيرَاطَينِ».
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة كِفْلَينِ مِنْ رَحْمَتِهِ قال: بلغنا أنها حين نزلت حسد أهل الكتاب المسلمين, فأنزل الله لِئَلاّ يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ ألاّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللّهِ.
26084ـ حدثنا أبو عمار, قال: حدثنا الفضل بن موسى, عن سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس لِئَلاّ يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ الذين يتسمعون ألاّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللّهِ.
حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس, مثله.
وقيل: لِئَلاّ يَعْلَمَ إنما هو ليعلم. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله «لِكَيْ يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ ألاّ يَقْدِرُونَ» لأن العرب تجعل «لا» صلة في كلّ كلام دخل في أوّله أو آخره جحد غير مصرّح, كقوله في الجحد السابق, الذي لم يصرّح به ما مَنَعَكَ ألاّ تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ, وقوله: وَما يَشْعِرُكُمْ أنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ, وقوله: وَحَرَامٌ عَلى قَرْيَةٍ أهْلَكْناها... الآية, ومعنى ذلك: أهلكناها أنهم يرجعون. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26085ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُلَية, قال: أخبرنا أبو هارون الغَنويّ, قال: قال: خطاب بن عبد الله لِئَلاّ يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ ألاّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللّهِ.
26086ـ قال: ثنا ابن عُلَية, عن أبي المعلىّ, قال: كان سعيد بن جُبَير يقول «لِكَيْلا يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ».
وقوله: وأنّ الفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يقول تعالى ذكره: وليعلموا أن الفضل بيد الله دونهم, ودون غيرهم من الخلق يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يقول: يعطي فضله ذلك من يشاء من خلقه, ليس ذلك إلى أحد سواه وَالله ذُو الفَضْل العَظِيم يقول تعالى ذكره: والله ذو الفضل على خلقه, العظيم فضله.

نهاية تفسير الإمام الطبرى لسورة الحديد