تفسير السعدي تفسير الصفحة 521 من المصحف


وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ( 7 ) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ( 8 ) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ( 9 ) .
أي: والسماء ذات الطرائق الحسنة، التي تشبه حبك الرمال، ومياه الغدران، حين يحركها النسيم.
( إِنَّكُمْ ) أيها المكذبون لمحمد صلى الله عليه وسلم، ( لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ) منكم، من يقول ساحر، ومنكم من يقول كاهن، ومنكم من يقول: مجنون، إلى غير ذلك من الأقوال المختلفة، الدالة على حيرتهم وشكهم، وأن ما هم عليه باطل.
( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) أي: يصرف عنه من صرف عن الإيمان، وانصرف قلبه عن أدلة الله اليقينية وبراهينه، واختلاف قولهم، دليل على فساده وبطلانه، كما أن الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، متفق [ يصدق بعضه بعضًا ] ، لا تناقض فيه، ولا اختلاف، وذلك، دليل على صحته، وأنه من عند الله وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ( 10 ) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ( 11 ) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ( 12 ) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ( 13 ) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ( 14 ) .
يقول تعالى: ( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ) أي: قاتل الله الذين كذبوا على الله، وجحدوا آياته، وخاضوا بالباطل، ليدحضوا به الحق، الذين يقولون على الله ما لا يعلمون.
( الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ) أي: في لجة من الكفر، والجهل، والضلال، ( سَاهُونَ )
( يَسْأَلُونَ ) على وجه الشك والتكذيب أيان يبعثون أي: متى يبعثون، مستبعدين لذلك، فلا تسأل عن حالهم وسوء مآلهم
( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) أي: يعذبون بسبب ما انطووا عليه من خبث الباطن والظاهر، ويقال [ لهم ] : ( ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ) أي: العذاب والنار، الذي هو أثر ما افتتنوا به، من الابتلاء الذي صيرهم إلى الكفر، والضلال، ( هَذَا ) العذاب، الذي وصلتم إليه، [ هو ] ( الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) فالآن، تمتعوا بأنواع العقاب والنكال والسلاسل والأغلال، والسخط والوبال.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( 15 ) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ( 16 ) كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ( 17 ) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( 18 ) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( 19 ) .
يقول تعالى في ذكر ثواب المتقين وأعمالهم، التي أوصلتهم إلى ذلك الجزاء: ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ ) أي: الذين كانت التقوى شعارهم، وطاعة الله دثارهم، ( فِي جَنَّاتِ ) مشتملات على جميع [ أصناف ] الأشجار، والفواكه، التي يوجد لها نظير في الدنيا، والتي لا يوجد لها نظير، مما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان، ولم يخطر على قلوب العباد ( وَعُيُونٍ ) سارحة، تشرب منها تلك البساتين، ويشرب بها عباد الله، يفجرونها تفجيرًا.
( آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ) يحتمل أن المعنى أن أهل الجنة قد أعطاهم مولاهم جميع مناهم، من جميع أصناف النعيم، فأخذوا ذلك، راضين به، قد قرت به أعينهم، وفرحت به نفوسهم، ولم يطلبوا منه بدلا ولا يبغون عنه حولا وكل قد ناله من النعيم، ما لا يطلب عليه المزيد، ويحتمل أن هذا وصف المتقين في الدنيا، وأنهم آخذون ما آتاهم الله، من الأوامر والنواهي، أي: قد تلقوها بالرحب، وانشراح الصدر، منقادين لما أمر الله به، بالامتثال على أكمل الوجوه، ولما نهى عنه، بالانزجار عنه لله، على أكمل وجه، فإن الذي أعطاهم الله من الأوامر والنواهي، هو أفضل العطايا، التي حقها، أن تتلقى بالشكر [ لله ] عليها، والانقياد.
والمعنى الأول، ألصق بسياق الكلام، لأنه ذكر وصفهم في الدنيا، وأعمالهم بقوله: ( إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ ) الوقت الذي وصلوا به إلى النعيم ( مُحْسِنِينَ ) وهذا شامل لإحسانهم بعبادة ربهم، بأن يعبدوه كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه، فإنه يراهم، وللإحسان إلى عباد الله ببذل النفع والإحسان، من مال، أو علم، أو جاه أو نصيحة، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو غير ذلك من وجوه الإحسان وطرق الخيرات.
حتى إنه يدخل في ذلك، الإحسان بالقول، والكلام اللين، والإحسان إلى المماليك، والبهائم المملوكة، وغير المملوكة ومن أفضل أنواع الإحسان في عبادة الخالق، صلاة الليل، الدالة على الإخلاص، وتواطؤ القلب واللسان، ولهذا قال: ( كَانُوا ) أي: المحسنون ( قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) أي: كان هجوعهم أي: نومهم بالليل، قليلا وأما أكثر الليل، فإنهم قانتون لربهم، ما بين صلاة، وقراءة، وذكر، ودعاء، وتضرع.
( وَبِالأسْحَارِ ) التي هي قبيل الفجر ( هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) الله تعالى، فمدوا صلاتهم إلى السحر، ثم جلسوا في خاتمة قيامهم بالليل، يستغفرون الله تعالى، استغفار المذنب لذنبه، وللاستغفار بالأسحار، فضيلة وخصيصة، ليست لغيره، كما قال تعالى في وصف أهل الإيمان والطاعة: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ
( وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ ) واجب ومستحب ( لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) أي: للمحتاجين الذين يطلبون من الناس، والذين لا يطلبون منهم .
وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ( 20 ) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ( 21 ) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ( 22 ) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ( 23 ) .
يقول تعالى - داعيًا عباده إلى التفكر والاعتبار- : ( وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ )
وذلك شامل لنفس الأرض، وما فيها، من جبال وبحار، وأنهار، وأشجار، ونبات تدل المتفكر فيها، المتأمل لمعانيها، على عظمة خالقها، وسعة سلطانه، وعميم إحسانه، وإحاطة علمه، بالظواهر والبواطن. وكذلك في نفس العبد من العبر والحكمة والرحمة ما يدل على أن الله وحده الأحد الفرد الصمد، وأنه لم يخلق الخلق سدى.
وقوله: ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ) أي مادة رزقكم، من الأمطار، وصنوف الأقدار، الرزق الديني والدنيوي، ( وَمَا تُوعَدُونَ ) من الجزاء في الدنيا والآخرة، فإنه ينزل من عند الله، كسائر الأقدار.
فلما بين الآيات ونبه عليها تنبيهًا، ينتبه به الذكي اللبيب، أقسم تعالى على أن وعده وجزاءه حق، وشبه ذلك، بأظهر الأشياء [ لنا ] وهو النطق، فقال: ( فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ) فكما لا تشكون في نطقكم، فكذلك لا ينبغي الشك في البعث بعد الموت .
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ( 24 ) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ( 25 ) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ( 26 ) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ( 27 ) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ( 28 ) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ( 29 ) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ( 30 ) .
يقول تعالى: ( هَلْ أَتَاكَ ) أي: أما جاءك ( حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ) ونبأهم الغريب العجيب، وهم: الملائكة، الذين أرسلهم الله، لإهلاك قوم لوط، وأمرهم بالمرور على إبراهيم، فجاؤوه في صورة أضياف.
( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ ) مجيبًا لهم ( سَلامٌ ) أي: عليكم ( قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) أي: أنتم قوم منكرون، فأحب أن تعرفوني بأنفسكم، ولم يعرفهم إلا بعد ذلك.
ولهذا راغ إلى أهله أي: ذهب سريعًا في خفية، ليحضر لهم قراهم، ( فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ) وعرض عليهم الأكل، فـ ( قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ) حين رأى أيديهم لا تصل إليه، ( قَالُوا لا تَخَفْ ) وأخبروه بما جاؤوا له ( وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) وهو: إسحاق عليه السلام.
فلما سمعت المرأة البشارة ( أقبلت ) فرحة مستبشرة ( فِي صَرَّةٍ ) أي: صيحة ( فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ) وهذا من جنس ما يجري من النساء عند السرور [ ونحوه ] من الأقوال والأفعال المخالفة للطبيعة والعادة، ( وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ) أي: أنى لي الولد، وأنا عجوز، قد بلغت من السن، ما لا تلد معه النساء، ومع ذلك، فأنا عقيم، غير صالح رحمي للولادة أصلا فثم مانعان، كل منهما مانع من الولد، وقد ذكرت المانع الثالث في سورة هود بقولها: وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ
( قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ) أي: الله الذي قدر ذلك وأمضاه، فلا عجب في قدرة الله تعالى ( إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) أي: الذي يضع الأشياء مواضعها، وقد وسع كل شيء علمًا فسلموا لحكمه، واشكروه على نعمته.