تفسير السعدي تفسير الصفحة 549 من المصحف

تفسير سورة الممتحنة
[ وهي ] مدنية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ( 1 ) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ( 2 ) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 3 ) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( 4 ) رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 5 ) .
ذكر كثير من المفسرين، [ رحمهم الله ] ، أن سبب نزول هذه الآيات الكريمات في قصة حاطب بن أبي بلتعة، حين غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح، فكتب حاطب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ليتخذ بذلك يدا عندهم لا [ شكا و ] نفاقا، وأرسله مع امرأة، فأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشأنه، فأرسل إلى المرأة قبل وصولها وأخذ منها الكتاب.
وعاتب حاطبا، فاعتذر رضي الله عنه بعذر قبله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الآيات فيها النهي الشديد عن موالاة الكفار من المشركين وغيرهم، وإلقاء المودة إليهم، وأن ذلك مناف للإيمان، ومخالف لملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، ومناقض للعقل الذي يوجب الحذر كل الحذر من العدو، الذي لا يبقي من مجهوده في العداوة شيئا، وينتهز الفرصة في إيصال الضرر إلى عدوه، فقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) اعملوا بمقتضى إيمانكم، من ولاية من قام بالإيمان، ومعاداة من عاداه، فإنه عدو لله، وعدو للمؤمنين.
فلا تتخذوا عدو الله ( وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) أي: تسارعون في مودتهم وفي السعي بأسبابها، فإن المودة إذا حصلت، تبعتها النصرة والموالاة، فخرج العبد من الإيمان، وصار من جملة أهل الكفران، وانفصل عن أهل الإيمان.
وهذا المتخذ للكافر وليا، عادم المروءة أيضا، فإنه كيف يوالي أعدى أعدائه الذي لا يريد له إلا الشر، ويخالف ربه ووليه الذي يريد به الخير، ويأمره به، ويحثه عليه؟! ومما يدعو المؤمن أيضا إلى معاداة الكفار، أنهم قد كفروا بما جاء المؤمنين من الحق، ولا أعظم من هذه المخالفة والمشاقة، فإنهم قد كفروا بأصل دينكم، وزعموا أنكم ضلال على غير هدى.
والحال أنهم كفروا بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية، ومن رد الحق فمحال أن يوجد له دليل أو حجة تدل على صحة قوله، بل مجرد العلم بالحق يدل على بطلان قول من رده وفساده.
ومن عداوتهم البليغة أنهم ( يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ) أيها المؤمنون من دياركم، ويشردونكم من أوطانكم، ولا ذنب لكم في ذلك عندهم، إلا أنكم تؤمنون بالله ربكم الذي يتعين على الخلق كلهم القيام بعبوديته، لأنه رباهم، وأنعم عليهم، بالنعم الظاهرة والباطنة، وهو الله تعالى.
فلما أعرضوا عن هذا الأمر، الذي هو أوجب الواجبات، وقمتم به، عادوكم، وأخرجوكم - من أجله - من دياركم، فأي دين، وأي مروءة وعقل، يبقى مع العبد إذا والى الكفار الذين هذا وصفهم في كل زمان أو مكان؟!! ولا يمنعهم منه إلا خوف، أو مانع قوي.
( إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ) أي: إن كان خروجكم مقصودكم به الجهاد في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، وابتغاء مرضاة الله فاعملوا بمقتضى هذا، من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه، فإن هذا هو الجهاد في سبيله وهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون إلى ربهم ويبتغون به رضاه.
( تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ ) أي: كيف تسرون المودة للكافرين وتخفونها، مع علمكم أن الله عالم بما تخفون وما تعلنون؟!، فهو وإن خفي على المؤمنين، فلا يخفى على الله تعالى، وسيجازي العباد بما يعلمه منهم من الخير والشر، ( وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ ) أي: موالاة الكافرين بعد ما حذركم الله منها ( فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) لأنه سلك مسلكا مخالفا للشرع وللعقل والمروءة الإنسانية.
ثم بين تعالى شدة عداوتهم، تهييجا للمؤمنين على عداوتهم، ( إِنْ يَثْقَفُوكُمْ ) أي: يجدوكم، وتسنح لهم الفرصة في أذاكم، ( يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً ) ظاهرين ( وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ) بالقتل والضرب، ونحو ذلك.
( وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ ) أي: بالقول الذي يسوء، من شتم وغيره، ( وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ) فإن هذا غاية ما يريدون منكم.
فإن احتججتم وقلتم: نوالي الكفار لأجل القرابة والأموال، فلن تغني عنكم أموالكم ولا أولادكم من الله شيئا. ( والله بما تعملون بصير ) فلذلك حذركم من موالاة الكافرين الذين تضركم موالاتهم، قد كان لكم يا معشر المؤمنين ( أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) أي: قدوة صالحة وائتمام ينفعكم، ( فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) من المؤمنين، لأنكم قد أمرتم أن تتبعوا ملة إبراهيم حنيفا، ( إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) أي: إذ تبرأ إبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين، من قومهم المشركين ومما يعبدون من دون الله.
ثم صرحوا بعداوتهم غاية التصريح، فقالوا: ( كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا ) أي: ظهر وبان ( بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ ) أي: البغض بالقلوب، وزوال مودتها، والعداوة بالأبدان، وليس لتلك العداوة والبغضاء وقت ولا حد، بل ذلك ( أَبَدًا ) ما دمتم مستمرين على كفركم ( حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ) أي: فإذا آمنتم بالله وحده، زالت العداوة والبغضاء، وانقلبت مودة وولاية، فلكم أيها المؤمنون أسوة [ حسنة ] في إبراهيم ومن معه في القيام بالإيمان والتوحيد، والقيام بلوازم ذلك ومقتضياته، وفي كل شيء تعبدوا به لله وحده، ( إِلا ) في خصلة واحدة وهي ( قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ ) آزر المشرك، الكافر المعاند، حين دعاه إلى الإيمان والتوحيد، فامتنع، فقال إبراهيم : ( لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ و ) الحال أني لا ( أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) لكني أدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا، فليس لكم أن تقتدوا بإبراهيم في هذه الحالة التي دعا بها للمشرك، فليس لكم أن تدعوا للمشركين، وتقولوا: إنا في ذلك متبعون لملة إبراهيم، فإن الله ذكر عذر إبراهيم في ذلك بقوله: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ
ولكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه، حين دعوا الله وتوكلوا عليه وأنابوا إليه، واعترفوا بالعجز والتقصير، فقالوا: ( رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا ) أي: اعتمدنا عليك في جلب ما ينفعنا ودفع ما يضرنا، ووثقنا بك يا ربنا في ذلك.
( وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا ) أي: رجعنا إلى طاعتك ومرضاتك وجميع ما يقرب إليك، فنحن في ذلك ساعون، وبفعل الخيرات مجتهدون، ونعلم أنا إليك نصير، فسنستعد للقدوم عليك، ونعمل ما يقربنا الزلفى إليك .
( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) أي: لا تسلطهم علينا بذنوبنا، فيفتنونا ويمنعونا مما يقدرون عليه من أمور الإيمان، ويفتنون أيضا بأنفسهم، فإنهم إذا رأوا لهم الغلبة، ظنوا أنهم على الحق وأنا على الباطل، فازدادوا كفرا وطغيانا، ( وَاغْفِرْ لَنَا ) ما اقترفنا من الذنوب والسيئات، وما قصرنا به من المأمورات، ( رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ ) القاهر لكل شيء، ( الْحَكِيمُ ) الذي يضع الأشياء مواضعها، فبعزتك وحكمتك انصرنا على أعدائنا، واغفر لنا ذنوبنا، وأصلح عيوبنا.