تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 549 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 549

549 : تفسير الصفحة رقم 549 من القرآن الكريم

سورة الممتحنة
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرّسُولَ وَإِيّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ * إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوَاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسّوَءِ وَوَدّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ * لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
كان سبب نزول صدر هذه السورة الكريمة قصة حاطب بن أبي بلتعة, وذلك أن حاطباً هذا كان رجلاً من المهاجرين, وكان من أهل بدر أيضاً, وكان له بمكة أولاد ومال ولم يكن من قريش أنفسهم, بل كان حليفاً لعثمان, فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها العهد, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم وقال «اللهم عم عليهم خبرنا» فعمد حاطب هذا فكتب كتاباً وبعثه مع قريش إلى أهل مكة, يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم, ليتخذ بذلك عندهم يداً فأطلع الله تعالى على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم استجابة لدعائه, فبعث في أثر المرأة فأخذ الكتاب منها, وهذا بين في هذا الحديث المتفق على صحته.
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمه, أخبرني حسن بن محمد بن علي, أخبرني عبد الله بن أبي رافع وقال مرة إن عبيد الله بن أبي رافع أخبره أنه سمع علياً رضي الله عنه يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها, فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة, فإذا نحن بالظعينة قلنا أخرجي الكتاب, قالت: ما معي كتاب, قلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب, قال: فأخرجت الكتاب من عقاصها, فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة, يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا حاطب ما هذا ؟» قال: لا تعجل علي إني كنت امرأً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسهم, وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة, فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم, أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي, وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه صدقكم».
فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر, فقال: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وهكذا أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه من غير وجه عن سفيان بن عيينة به, وزاد البخاري في كتاب المغازي: فأنزل الله السورة {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} وقال في كتاب التفسير: قال عمرو ونزلت فيه {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} وقال لا أدري الاَية في الحديث أو قال عمرو. قال البخاري قال علي يعني ابن المديني قيل لسفيان في هذا نزلت {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} فقال سفيان: هذا في حديث الناس حفظته من عمرو, ما تركت منه حرفاً ولا أدري أحداً حفظه غيري.
وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث حصين بن عبد الرحمن عن سعد بن عبيدة, عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير بن العوام وكلنا فارس, وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين, فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: الكتاب ؟ فقالت: ما معي كتاب, فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً, فقلنا ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردنك فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته, فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حملك على ما صنعت ؟» قال حاطب: والله ما بي إلا أن أكون مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم, أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله, فقال: «صدق لا تقولوا له إلا خيراً».
فقال عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه, فقال: «أليس من أهل بدر ؟ ـ فقال ـ لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة ـ أو قد غفرت لكم ـ» فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم, هذا لفظ البخاري في المغازي في غزوة بدر, وقد روي من وجه آخر عن علي قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن الهسنجاني, حدثنا عبيد بن يعيش, حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي عن أبي سنان هو سعيد بن سنان عن عمرو بن مرة الجملي عن أبي البحتري الطائي, عن الحارث عن علي قال: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي مكة أسر إلى أناس من أصحابه أنه يريد مكة منهم حاطب بن أبي بلتعة, وأفشى في الناس أنه يريد خيبر, قال: فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم, فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد وليس منا رجل إلا وعنده فرس فقال: «ائتوا روضة خاخ فإنكم ستلقون بها امرأة معها كتاب فخذوه منها».
فانطلقنا حتى رأيناها بالمكان الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا لها هات الكتاب فقالت ما معي كتاب, فوضعنا متاعها وفتشناها فلم نجده في متاعها, فقال أبو مرثد لعله أن لا يكون معها, فقلت ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا فقلنا لها لتخرجنه أو لنعرينك. فقالت أما تتقون الله! ألستم مسلمين! فقلنا لتخرجنه أو لنعرينك. قال عمرو بن مرة. فأخرجته من حجزتها. وقال حبيب بن أبي ثابت: أخرجته من قبلها, فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة, فقام عمر فقال يا رسول الله خان الله ورسوله فائذن لي فلأضرب عنقه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس قد شهد بدراً ؟ قالوا: بلى, وقال عمر: بلى ولكنه قد نكث وظاهر أعداءك عليك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم إني بما تعملون بصير» ففاضت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حاطب فقال: «يا حاطب ما حملك على ما صنعت ؟» فقال: يا رسول الله إني كنت امرأً ملصقاً في قريش, وكان لي بها مال وأهل ولم يكن من أصحابك أحد إلا وله بمكة من يمنع أهله وماله, فكتبت بذلك إليهم والله يا رسول الله إني لمؤمن بالله ورسوله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق حاطب فلا تقولوا لحاطب إلا خيراً» قال حبيب بن أبي ثابت: فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} الاَية. وهكذا رواه ابن جرير عن ابن حميد عن مهران, عن أبي سنان سعيد بن سنان بإسناده مثله.
وقد ذكر ذلك أصحاب المغاري والسير فقال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا قال: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة, كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم ثم أعطاه امرأة, زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة, وزعم غيره أنها سارة مولاة لبني عبد المطلب وجعل لها جعلاً على أن تبلغه لقريش, فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها, ثم خرجت به, وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب, فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام فقال: «أدركا امرأة قد كتب معها حاطب كتاباً إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له من أمرهم».
فخرجا حتى أدركاها بالحليفة, حليفة بني أبي أحمد, فاستنزلاها بالحليفة فالتمسا في رحلها فلم يجدا شيئاً, فقال لها علي بن أبي طالب: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله وما كذبنا, ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض, فأعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه, فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً فقال: «يا حاطب ما حملك على هذا ؟ فقال: يا رسول الله أما والله إني لمؤمن بالله وبرسوله ما غيرت ولا بدلت ولكني كنت امرأً ليس لي في القوم من أهل ولا عشيرة, وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم, فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك يا عمر ؟ لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
فأنزل الله عز وجل في حاطب {ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ـ إلى قوله ـ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده} إلى آخر القصة, وروى معمر عن الزهري عن عروة نحو ذلك, وهكذا ذكر مقاتل بن حيان أن هذه الاَيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة أنه بعث سارة مولاة بني هاشم, وأنه أعطاها عشرة دراهم, وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث في أثرها عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما فأدركاها بالجحفة وذكر تمام القصة كنحو ما تقدم, وعن السدي قريباً منه, وهكذا قال العوفي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغير واحد أن هذه الاَيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة.
فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق} يعني المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً ؟} وقال تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه} ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر حاطب, لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد.
ويذكر ههنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا مصعب بن سلام, حدثنا الأجلح عن قيس بن أبي مسلم عن ربعي بن حراش سمعت حذيفة يقول: ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثالاً واحداً وثلاثة وخمسة وسبعة وتسعة وأحد عشر, قال فضرب لنا منها مثلاً وترك سائرها قال: «إن قوماً كانوا أهل ضعف ومسكنة قاتلهم أهل تجبر وعداء فأظهر الله أهل الضعف عليهم فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلطوهم, فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه» وقوله تعالى: {يخرجون الرسول وإياكم} هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده, ولهذا قال تعالى: {أن تؤمنوا بالله ربكم} أي لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين كقوله تعالى: {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} وكقوله تعالى: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله}.
وقوله تعالى: {إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي} أي إن كنتم كذلك فلا تتخذوهم أولياء, إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي باغين لمرضاتي عنكم, فلا توالوا أعدائي وأعداءكم وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم حنقاً عليكم وسخطاً لدينكم. وقوله تعالى: {تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم} أي تفعلون ذلك وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر {ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل * إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء} أي لو قدروا عليكم لما اتقوا فيكم من أذى ينالونكم به بالمقال والفعال {وودوا لو تكفرون} أي ويحرصون على أن لا تنالوا خيراً فهم عداوتهم لكم كامنة وظاهرة فكيف توالون مثل هؤلاء ؟ وهذا تهييج على عداوتهم أيضاً.
وقوله تعالى: {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير} أي قراباتكم لا تنفعكم عند الله إذا أراد الله بكم سوءاً, ونفعهم لا يصل إليكم إذا أرضيتموهم بما يسخط الله, ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم فقد خاب وخسر وضل عمله ولا ينفعه عند الله قرابته من أحد, ولو كان قريباً إلى نبي من الأنبياء. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد عن ثابت عن أنس أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي ؟ قال «في النار» فلما قفى دعاه فقال «إن أبي وأباك في النار» ورواه مسلم وأبو داود من حديث حماد بن سلمة به.

** قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيَ إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَءآؤاْ مّنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتّىَ تُؤْمِنُواْ بِاللّهِ وَحْدَهُ إِلاّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ رّبّنَا عَلَيْكَ تَوَكّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ لَنَا رَبّنَآ إِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الاَخِرَ وَمَن يَتَوَلّ فَإِنّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ
يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه} أي وأتباعه الذين آمنوا معه {إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم} أي تبرأنا منكم {ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم} أي بدينكم وطريقكم {وبدا بيننا وبينكم, العداوة والبغضاء أبد} يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الاَن بيننا وبينكم, مادمتم على كفركم فنحن أبداً نتبرأ منكم ونبغضكم {حتى تؤمنوا بالله وحده} أي إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد. وقوله تعالى: {إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك} أي لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها إلا في استغفار إبراهيم لأبيه, فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه, فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه, وذلك أن بعض المؤمنين كانوا يدعون لاَبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم ويقولون إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه, فأنزل الله عز وجل {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم * وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه, فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم}.
وقال تعالى في هذه الاَية: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم: إنا برآء منكم ـ إلى قوله ـ إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء} أي ليس لكم في ذلك أسوة أي في الاستغفار للمشركين هكذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان والضحاك وغير واحد.
ثم قال تعالى مخبراً عن قول إبراهيم والذين معه حين فارقوا قومهم وتبرءوا منهم, فلجأوا إلى الله وتضرعوا إليه فقالوا {ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} أي توكلنا عليك في جميع الأمور وسلمنا أمورنا إليك وفوضناها إليك وإليك المصير أي المعاد في الدار الاَخرة {ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفرو} قال مجاهد: معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا, وكذا قال الضحاك, وقال قتادة: لا تظهرهم علينا فيفتنونا بذلك يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه, واختاره ابن جرير, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لا تسلطهم علينا فيفتنونا.
وقوله تعالى: {واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم} أي واستر ذنوبنا عن غيرك واعف عنها فيما بيننا وبينك {إنك أنت العزيز} أي الذي لا يضام من لاذ بجنابك {الحكيم} في أقوالك وأفعالك وشرعك وقدرك ثم قال تعالى: {لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاَخر} وهذا تأكيد لما تقدم ومستثنى منه ما تقدم أيضاً لأن هذه الأسوة المثبتة ههنا هي الأولى بعينها, وقوله تعالى: {لمن كان يرجو الله واليوم الاَخر} تهييج إلى ذلك لكل مؤمن بالله والمعاد, وقوله تعالى: {ومن يتول} أي عما أمر الله به {فإن الله هو الغني الحميد} كقوله تعالى: {إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الغني الذي قد كمل في غناه وهو الله, هذه صفته لا تنبغي إلا له ليس له كفء وليس كمثله شيء سبحان الله الواحد القهار الحميد المستحمد إلى خلقه أي هو المحمود في جميع أقواله وأفعاله لا إله غيره ولا رب سواه.