تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 107 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 107

107 : تفسير الصفحة رقم 107 من القرآن الكريم

** حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدّيَةُ وَالنّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السّبُعُ إِلاّ مَا ذَكّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ
يخبر تعالى عباده خبراً متضمناً النهي عن تعاطي هذه المحرمات من الميتة, وهي ما مات من الحيوانات حتف أنفه من غير ذكاة ولا اصطياد, وما ذاك إلا لما فيها من المضرة لما فيها من الدم المحتقن فهي ضارة للدين وللبدن, فلهذا حرمها الله عز وجل, ويستثنى من الميتة السمك, فإنه حلال سواء مات بتذكية أو غيرها, لما رواه مالك في موطئه, والشافعي وأحمد في مسنديهما, وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم, وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر, فقال «هو الطهور ماؤه الحل ميتته», وهكذا الجراد, لما سيأتي من الحديث وقوله: {والدم} يعني به المسفوح, كقوله {أو دماً مسفوح} قاله ابن عباس وسعيد بن جبير, قال ابن أبي حاتم: حدثنا كثير بن شهاب المذحجي, حدثنا محمد بن سعيد بن سابق, حدثنا عمرو يعني ابن قيس عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس أنه سئل عن الطحال فقال: كلوه, فقالوا: أنه دم, فقال: إنما حرم عليكم الدم المسفوح, وكذا رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد, عن القاسم! عن عائشة , قالت: إنما نهى عن الدم السافح, وقد قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه, عن ابن عمر مرفوعاً, قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أحل لنا ميتتان ودمان, فأما الميتتان. فالسمك والجراد, وأما الدمان فالكبد والطحال», وكذا رواه أحمد بن حنبل وابن ماجه والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وهو ضعيف, قال الحافظ البيهقي: ورواه إسماعيل بن أبي إدريس عن أسامة, وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن ابن عمر مرفوعاً, قلت: وثلاثتهم كلهم ضعفاء, ولكن بعضهم أصلح من بعض, وقد رواه سليمان بن بلال أحد الأثبات عن زيد بن أسلم, عن ابن عمر فوقفه بعضهم عليه, قال الحافظ أبو زرعة الرازي: وهو أصح, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن, حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب, حدثنا بشير بن شريح عن أبي غالب, عن أبي أمامة وهو صدي بن عجلان, قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله, وأعرض عليهم شرائع الإسلام, فأتيتهم فبينما نحن كذلك, إذ جاؤوا بقصعة من دم فاجتمعوا عليها يأكلونها فقالوا: هلم يا صدي فكل, قال: قلت: ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم فأقبلوا عليه, قالوا: وماذاك ؟ فتلوت عليهم هذه الاَية {حرمت عليكم الميتة والدم} الاَية, ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث ابن أبي الشوارب بإسناده مثله, وزاد بعده هذا السياق قال: فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ويأبون عليّ, فقلت: ويحكم اسقوني شربة من ماء, فإني شديد العطش, قال: وعليّ عباءتي, فقالوا: لا, ولكن ندعك حتى تموت عطشاً, قال: فاغتممت وضربت برأسي في العباء, ونمت على الرمضاء في حر شديد, قال: فأتاني آت في منامي بقدح من زجاج لم ير الناس أحسن منه, وفيه شراب لم ير الناس ألذ منه, فأمكنني منه فشربته, فلما فرغت من شرابي استيقظت فلا والله ما عطشت, ولا عريت بعد تيك الشربة. ورواه الحاكم في مستدركه عن علي بن حماد, عن عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثني عبد الله بن سلمة بن عياش العامري, حدثنا صدقة بن هرم عن أبي غالب, عن أبي أمامة وذكر نحوه, وزاد بعد قوله: بعد تيك الشربة, فسمعتهم يقولون: أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تمجعوه بمذقة, فأتوني بمذقة فقلت: لا حاجة لي فيها, إن الله أطعمني وسقاني, وأريتهم بطني, فأسلموا عن آخرهم, وما أحسن ما أنشد الأعشى في قصيدته التي ذكرها ابن إسحاق:
وإياك والميتات لا تقربنهاولا تأخذن عظماً حديداً فتفصدا
أي لا تفعل فعل الجاهلية, وذلك أن أحدهم كان إذا جاع يأخذ شيئاً محدداً من عظم ونحوه, فيفصد به بعيره أو حيواناً من أي صنف كان, فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه, ولهذا حرم الله الدم على هذه الأمة, ثم قال الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تأتينهولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
وقوله: {ولحم الخنزير} يعني إنسيه ووحشيه, واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم, ولا يحتاج إلى تحذلق الظاهرية في جمودهم ههنا, وتعسفهم في الاحتجاج بقوله: {فإنه رجس أو فسق} يعنون قوله تعالى: {إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير حتى يعم جميع أجزائه, وهذا بعيد من حيث اللغة, فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه, والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء كما هو المفهوم من لغة العرب, ومن العرف المطرد, وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من لعب بالنردشير, فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه» فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس, فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به, وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره ؟ وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس ؟ فقال «لا, هو حرام». وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان أنه قال لهرقل ملك الروم: نهانا عن الميتة والدم.
وقوله {وما أهل لغير الله به} أي ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله فهو حرام لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم, فمتى عدل بها عن ذلك وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات فإنها حرام بالإجماع. وإنما اختلف العلماء في متروك التسمية إما عمداً أو نسياناً كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسن السنجاني حدثنا نعيم بن حماد حدثنا ابن فضيل عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال: نزل آدم بتحريم أربع {الميتة والدم ولحم الخنزير, وما أهلّ لغير الله به}, وإن هذه الأربعة الأشياء لم تحل قط, ولم تزل حراماً منذ خلق الله السموات والأرض, فلما كانت بنو إسرائيل حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم بذنوبهم, فلما بعث الله عيسى ابن مريم عليه السلام نزل بالأمر الأول الذي جاء به آدم وأحل لهم ما سوى ذلك, فكذبوه وعصوه, وهذا أثر غريب, وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن يونس, حدثنا ربعي عن عبد الله, قال: سمعت الجارود بن أبي سبرة, قال: هو جدي, قال: كان رجل من بني رباح يقال له ابن وائل, وكان شاعراً, نافر غالباً أبا الفرزدق بماء بظهر الكوفة على أن يعقر هذا مائة من إبله وهذا مائة من إبله إذا وردت الماء, فلما وردت الماء قاما إليها بسيفيهما فجعلا يكشفان عراقيبها, قال: فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم, قال: وعلي بالكوفة, قال: فخرج علي على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء وهو ينادي: يا أيها الناس لا تأكلوا من لحومها, فإنها أهل بها لغير الله, هذا أثر غريب, ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله, حدثنا ابن حماد بن مسعدة عن عوف, عن أبي ريحانة, عن ابن عباس, قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب, ثم قال أبو داود محمد بن جعفر هو غندر: أوقفه على ابن عباس, تفرد به أبو داود, وقال أبو داود أيضاً: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء, حدثنا أبي, حدثنا جرير بن حازم عن الزبير بن حريث, قال: سمعت عكرمة يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل, ثم قال أبو داود: أكثر من رواه غير ابن جرير لا يذكر فيه ابن عباس, تفرد به أيضاً.
قوله: {والمنخنقة} وهي التي تموت بالخنق, إما قصداً وإما اتفاقاً بأن تتخبل في وثاقتها, فتموت به فهي حرام, وأما {الموقوذة} فهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت, كما قال ابن عباس وغير واحد: هي التي تضرب بالخشبة حتى يوقذها فتموت, قال قتادة: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصي حتى إذا ماتت أكلوها. وفي الصحيح أن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله, إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب, قال «إذا رميت بالمعراض فخزق فكله, وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله» ففرق بين ما أصابه بالسهم أو بالمعراض ونحوه بحده, فأحله, وما أصاب بعرضه فجعله وقيذاً لم يحله, وهذا مجمع عليه عند الفقهاء, واختلفوا فيما إذا صدم الجارحة الصيد فقتله بثقله, ولم يجرحه على قولين, هما قولان للشافعي رحمه الله (أحدهما) لا يحل كما في السهم والجامع أن كلاً منهما ميت بغير جرح فهو وقيذ. (والثاني) إنه يحل لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب ولم يستفصل, فدل على إباحة ما ذكرناه, لأنه قد دخل في العموم, وقد قررت لهذه المسألة فصلاً فليكتب ههنا.
(فصل) ـ اختلف العلماء رحمهم الله تعالى فيما إذا أرسل كلباً على صيد فقتله بثقله ولم يجرحه, أوصدمه: هل يحل أم لا ؟ على قولين (أحدهما) أن ذلك حلال لعموم قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم}, وكذا عمومات حديث عدي بن حاتم, وهذا قول حكاه الأصحاب عن الشافعي رحمه الله, وصححه بعض المتأخرين منهم كالنووي والرافعي. (قلت): وليس ذلك بظاهر من كلام الشافعي في الأم والمختصر, فإنه قال في كلا الموضعين: يحتمل معنيين, ثم وجه كلاً منهما فحمل ذلك الأصحاب منه, فأطلقوا في المسألة قولين عنه, اللهم إلا أنه في بحثه للقول بالحل رشحه قليلاً, ولم يصرح بواحد منهما, ولا جزم به, والقول بذلك ـ أعني الحل ـ نقله ابن الصباغ عن أبي حنيفة من رواية الحسن بن زياد عنه, ولم يذكر غير ذلك. وأما أبو جعفر بن جرير فحكاه في تفسيره عن سلمان الفارسي وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وابن عمر, وهذا غريب جداً, وليس يوجد ذلك مصرحاً به عنهم, إلا أنه من تصرفه رحمه الله ورضي عنه.
(والقول الثاني) ـ أن ذلك لا يحل, وهو أحد القولين عن الشافعي رحمه الله واختاره المزني, ويظهر من كلام ابن الصباغ ترجيحه أيضاً, والله أعلم. ورواه أبو يوسف ومحمد عن أبي حنيفة, وهو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه, وهذا القول أشبه بالصواب, والله أعلم, لأنه أجري على القواعد الأصولية, وأمس بالأصول الشرعية, واحتج ابن الصباغ له بحديث رافع بن خديج, قلت: يا رسول الله, إنا ملاقوا العدو غداً, وليس معنا مدى, أفنذبح بالقصب ؟ قال «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه» الحديث بتمامه, وهو في الصحيحين. وهذا وإن كان وارداً على سبب خاص, فالعبرة بعموم اللفظ عند جمهور من العلماء في الأصول والفروع, كما سئل عليه السلام عن البتع, وهو نبيذ العسل, فقال «كل شراب أسكر فهو حرام»,أفيقول فقيه: إن هذا اللفظ مخصوص بشراب العسل, وهكذا هذا, كما سألوه عن شيء من الذكاة, فقال لهم كلاماً عاماً يشمل ذاك المسؤول عنه وغيره لأنه عليه السلام كان قد أوتي جوامع الكلم, إذا تقرر هذا, فما صدمه الكلب أو غمه بثقله ليس مما أنهر دمه, فلا يحل لمفهوم هذا الحديث, فإن قيل: هذا الحديث ليس من هذا القبيل بشيء, لأنهم إنما سألوه عن الاَلة التي يذكى بها, ولم يسألوه عن الشيء الذي يذكى, ولهذا استثنى من ذلك السن والظفر حيث قال: «ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك, أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة» والمستثنى يدل على جنس المستثنى منه, وإلا لم يكن متصلاً, فدل على أن المسؤول عنه هو الاَلة, فلا يبقى فيه دلالة لما ذكرتم, فالجواب عن هذا بأن في الكلام ما يشكل عليكم أيضاً, حيث يقول «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه», ولم يقل: فاذبحوا به, فهذا يؤخذ منه الحكمان معاً, يؤخذ حكم الاَلة التي يذكى بها, وحكم المذكى وأنه لا بد من إنهار دمه بآلة ليست سناً ولا ظفراً, هذا مسلك.
(والمسلك الثاني): طريقة المزني, وهي أن السهم جاء التصريح فيه بأنه إن قتل بعرضه فلا تأكل, وإن خزق فكل, والكلب جاء مطلقاً, فيحمل على ما قيد هناك من الخزق لأنهما اشتركا في الموجب وهو الصيد فيجب الحمل هنا وإن اختلف السبب كما وجب حمل مطلق الإعتاق في الظهار على تقييده بالإيمان في القتل, بل هذا أولى, وهذا يتوجه له على من يسلم له أصل هذه القاعدة من حيث هي, وليس فيها خلاف بين الأصحاب قاطبة, فلا بد لهم من جواب عن هذا, وله أن يقول: هذا قتله الكلب بثقله, فلم يحل قياساً على ما قتله السهم بعرضه, والجامع أن كلاً منهما آلة للصيد, وقد مات بثقله فيهما, ولا يعارض ذلك بعموم الاَية, لأن القياس مقدم على العموم, كما هو مذهب الأئمة الأربعة والجمهور, وهذا مسلك حسن أيضاً.
(مسلك آخر) ـ وهو أن قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} عام فيما قتلن بجرح أو غيره, لكن هذا المقتول على هذه الصورة المتنازع فيها لا يخلو إما أن يكون نطيحاً أو في حكمه, أو منخنقاً أو في حكمه, وأياً ما كان, فيجب تقديم هذه الاَية على تلك الوجوه: (أحدها) أن الشارع قد اعتبر حكم هذه الاَية حالة الصيد حيث يقول لعدي بن حاتم: وإن أصابه بعرضه, فإنما هو وقيذ فلا تأكله, ولم نعلم أحداً من العلماء فصل بين حكم وحكم من هذه الاَية, فقال: إن الوقيذ معتبر حالة الصيد, والنطيح ليس معتبراً, فيكون القول بحل المتنازع فيه خرقاً للإجماع لا قائل به, وهو محظور عند كثير من العلماء. (الثاني) أن تلك الاَية {فكلوا مما أمسكن عليكم} ليست على عمومها بالإجماع بل مخصوصة بما صدن من الحيوان المأكول, وخرج من عموم لفظها الحيوان غير المأكول بالاتفاق, والعموم المحفوظ مقدم على غير المحفوظ.
(المسلك الاَخر) ـ أن هذا الصيد والحالة هذه في حكم الميتة سواء, لأنه قد احتقن فيه الدماء وما يتبعها من الرطوبات, فلا تحل قياساً على الميتة.
(المسلك الاَخر) ـ أن آية التحريم, أعني قوله: {حرمت عليكم الميتة} إلى آخرها, محكمة لم يدخلها نسخ ولا تخصيص وكذا ينبغي أن تكون آية التحليل محكمة, أعني قوله تعالى: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات} الاَية, فينبغي أن لا يكون بينهما تعارض أصلاً, وتكون السنة جاءت لبيان ذلك, وشاهد ذلك قصة السهم, فإنه ذكر حكم ما دخل في هذه الاَية, وهو ما إذا خزقه المعراض فيكون حلالاً, لأنه من الطيبات, وما دخل في حكم تلك الاَية, آية التحريم, وهو ما إذا أصابه بعرض فلا يؤكل, لأنه وقيذ, فيكون أحد أفراد آية التحريم, وهكذا يجب أن يكون حكم هذا سواء إن كان قد جرحه الكلب, فهو داخل في حكم آية التحليل, وإن لم يجرحه بل صدمه أو قتله بثقله, فهو نطيح أو في حكمه, فلا يكون حلالاً, (فإن قيل): فلم لا فصل في حكم الكلب, فقال: ما ذكرتم إن جرحه فهو حلال, وإن لم يجرحه فهو حرام.
(فالجواب) أن ذلك نادر, لأن من شأن الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما معاً, وأما اصطدامه هو والصيد فنادر, وكذا قتله إياه بثقله, فلم يحتج إلى الاحتراز من ذلك لندوره أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة. وأما السهم والمعراض فتارة يخطىء لسوء رمي راميه, أو للهو أو لنحو ذلك, بل خطؤه أكثر من إصابته, فلهذا ذكر كلاً من حكميه مفصلاً, والله أعلم, ولهذا لما كان الكلب, من شأنه أنه قد يأكل من الصيد ذكر حكم ما إذا أكل من الصيد فقال «إن أكل فلا تأكل, فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه» وهذا صحيح ثابت في الصحيحين, وهو أيضاً مخصوص من عموم آية التحليل عند كثيرين, فقالوا: لا يحل ما أكل منه الكلب, حكي ذلك عن أبي هريرة وابن عباس, وبه قال الحسن والشعبي والنخعي, وإليه ذهب أبو حنيفة وصاحباه, وأحمد بن حنبل والشافعي في المشهور عنه, وروى ابن جرير في تفسيره عن علي وسعيد وسلمان وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس: إن الصيد يؤكل وإن أكل منه الكلب, حتى قال سعيد وسلمان وأبو هريرة وغيرهم: يؤكل ولو لم يبق منه إلا بضعة, وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي في قوله القديم, وأومأ في الجديد إلى قولين, قال ذلك الإمام أبو نصر بن الصباغ وغيره من الأصحاب عنه.
وقد روى أبو داود بإسناد جيد قوي عن أبي ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صيد الكلب «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله, فكل وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يدك» ورواه أيضاً النسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه, عن جده: أن أعرابياً يقال له أبو ثعلبة قال: يا رسول الله, فذكر نحوه, وقال محمد بن جرير في تفسيره: حدثنا عمران بن بكار الكلاعي, حدثنا عبد العزيز بن موسى هو اللاحوني, حدثنا محمد بن دينار هو الطاحي عن أبي إياس وهو معاوية بن قرة, عن سعيد بن المسيب, عن سلمان الفارسي, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه, فليأكل ما بقي» ثم إن ابن جرير علله بأنه قد رواه أبو قتادة وغيره عن سعيد بن المسيب, عن سلمان موقوفاً.
وأما الجمهور فقدّموا حديث عدي على ذلك, وراموا تضعيف حديث أبي ثعلبة وغيره, وقد حمله بعض العلماء على أنه إن أكل بعد ما انتظر صاحبه فطال عليه الفصل ولم يجىء, فأكل منه لجوعه ونحوه فإنه لا بأس بذلك, لأنه والحالة هذه لا يخشى أنه إنما أمسك على نفسه بخلاف ما إذا أكل منه أول وهلة, فإنه يظهر منه أنه أمسك على نفسه, والله أعلم.
فأما الجوارح من الطيور فنص الشافعي على أنها كالكلب, فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور, ولا يحرم عند الاَخرين, واختار المزني من أصحابنا أنه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطيور والجوارح, وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد, قالوا: لأنه لا يمكن تعليمها كما يعلم الكلب بالضرب ونحوه, وأيضاً فإنها لا تعلم إلا بأكلها من الصيد فيعفى عن ذلك, وأيضاً فالنص إنما ورد في الكلب لا في الطير. وقال الشيخ أبو علي في «الإفصاح»: إذا قلنا: يحرم ما أكل منه الكلب, ففي تحريم ما أكل منه الطير وجهان, وأنكر القاضي أبو الطيب هذا التفريع والترتيب لنص الشافعي رحمه الله, على التسوية بينهما, والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما المتردّية: فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال, فتموت بذلك, فلا تحل, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: المتردّية التي تسقط من جبل. وقال قتادة: هي التي تتردى في بئر. وقال السدي: هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر.
وأما النطيحة: فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها, فهي حرام وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها, والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة, أي منطوحة, وأكثر ما ترد هذه البنية في كلام العرب بدون تاء التأنيث, فيقولون: عين كحيل, وكف خضيب, ولا يقولون: كف خضيبة, ولا عين كحيلة, وأما هذه فقال بعض النحاة: إنما استعمل فيها تاء التأنيث, لأنها أجريت مجرى الأسماء كما في قولهم: طريقة طويلة, وقال بعضهم: إنما أتي بتاء التأنيث فيها لتدل على التأنيث من أول وهلة بخلاف عين كحيل وكف خضيب لأن التأنيث مستفاد من أول الكلام.
وقوله تعالى: {وما أكل السبع} أي ما عدا عليها أسد أو فهد أو نمر أو ذئب أو كلب, فأكل بعضها فماتت بذلك, فهي حرام وإن كان قد سال منها الدم ولو من مذبحها, فلا تحل بالإجماع, وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة أو نحو ذلك, فحرم الله ذلك على المؤمنين.
وقوله {إلا ما ذكيتم} عائد على ما يمكن عوده عليه مما انعقد سبب موته, فأمكن تداركه بذكاة وفيه حياة مستقرة, وذلك إنما يعود على قوله {والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وما أكل السبع} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {إلا ما ذكيتم} يقول: إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح فكلوه, فهو ذكي, وكذا روي عن سعيد بن جبير والحسن البصري والسدي, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا حفص بن غياث, حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه, عن علي في الاَية قال: إن مصعت بذنبها أو ركضت برجلها أو طرفت بعينها, فكل. وقال ابن جرير: حدثنا القاسم: حدثنا الحسين, حدثنا هشيم وعباد, قالا: حدثنا حجاج عن حصين, عن الشعبي, عن الحارث, عن علي قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردّية والنطيحة, وهي تحرك يداً أو رجلاً فكلها, وهكذا روي عن طاوس والحسن وقتادة وعبيد بن عمير والضحاك وغير واحد: أن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح , فهي حلال, وهذا مذهب جمهور الفقهاء, وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل. قال ابن وهب: سئل مالك عن الشاة التي يخرق جوفها السبع حتى تخرج أمعاؤها, فقال مالك: لا أرى أن تذكى, أي شيء يذكى منها ؟ وقال أشهب: سئل مالك عن الضبع يعدو على الكبش فيدق ظهره, أترى أن يذكى قبل أن يموت فيؤكل ؟ فقال: إن كان قد بلغ السّحْرة فلا أرى أن يؤكل, وإن كان أصاب أطرافه فلا أرى بذلك بأساً, قيل له: وثب عليه فدق ظهره ؟ فقال: لا يعجبني هذا لا يعيش منه. قيل له: فالذئب يعدو على الشاة فيثقب بطنها ولا يثقب الأمعاء ؟ فقال: إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل, هذا مذهب مالك رحمه الله. وظاهر الاَية عام فيما استثناه مالك رحمه الله من الصور التي بلغ الحيوان فيها إلى حالة لا يعيش بعدها فيحتاج إلى دليل مخصص للاَية, والله أعلم.
وفي الصحيحين عن رافع بن خديج أنه قال: قلت: يا رسول الله, إنا لاقو العدو غداً وليس معنا مدى, أفنذبح بالقصب ؟ فقال «ما أنهر الدم, وذكر اسم الله عليه, فكلوه, ليس السن والظفر, وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم, وأما الظفر فمدى الحبشة». وفي الحديث الذي رواه الدارقطني مرفوعاً, وفيه نظر, وروي عن عمر موقوفاً وهو أصح «ألا إن الذكاة في الحلق واللبة, ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق». وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من رواية حماد بن سلمة عن أبي العشراء الدارمي عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله, أما تكون الذكاة إلا من اللبة والحلق ؟ فقال «لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك», وهو حديث صحيح, ولكنه محمول على ما لا يقدر على ذبحه في الحلق واللبة.
وقوله {وما ذبح على النصب} قال مجاهد وابن جريج: كانت النصب حجارة حول الكعبة, قال ابن جريج: وهي ثلاثمائة وستون نصباً, كانت العرب في جاهليتها يذبحون عندها, وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح, ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب, وكذا ذكره غير واحد, فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع, وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله, وينبغي أن يحمل هذا على هذا, لأنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله.
وقوله تعالى: {وأن تستقسموا بالأزلام} أي حرّم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام, واحدها زلم وقد تفتح الزاي, فيقال: زلم, وقد كانت العرب في جاهليتها يتعاطون ذلك, وهي عبارة عن قداح ثلاثة, على أحدها مكتوب: افعل, وعلى الاَخر: لا تفعل, والثالث غفل ليس عليه شيء, ومن الناس من قال: مكتوب على الواحد: أمرني ربي, وعلى الاَخر: نهاني ربي, والثالث غفل ليس عليه شيء, فإذا أجالها فطلع سهم الأمر فعله, أو النهي تركه, وإن طلع الفارغ أعاد, والاستقسام مأخوذ من طلب القسم من هذه الأزلام, هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح, حدثنا الحجاج بن محمد, أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء, عن ابن عباس {وأن تستقسموا بالأزلام} قال: والأزلام قداح كانوا يستقسمون بها في الأمور, وكذا روي عن مجاهد وإبراهيم النخعي والحسن البصري ومقاتل بن حيان. وقال ابن عباس: هي قداح كانوا يستقسمون بها الأمور. وذكر محمد بن إسحاق وغيره: إن أعظم أصنام قريش صنم كان يقال له هبل منصوب على بئر داخل الكعبة, فيها توضع الهدايا, وأموال الكعبة فيه, وكان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه مما أشكل عليهم, فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة, وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها, وفي أيديهما الأزلام فقال «قاتلهم الله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبداً».
وفي الصحيح: أن سراقة بن مالك بن جعشم, لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر, وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين, قال: فاستقسمت بالأزلام, هل أضرهم أم لا ؟ فخرج الذي أكره لا تضرهم. قال: فعصيت الأزلام واتبعتهم, ثم إنه استقسم بها ثانية وثالثة, كل ذلك يخرج الذي يكره لا تضرهم, وكان كذلك, وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك ثم أسلم بعد ذلك, وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن يزيد عن رقية, عن عبد الملك بن عمير, عن رجاء بن حيوة, عن أبي الدرداء, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لن يلج الدرجات من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر طائراً». وقال مجاهد في قوله {وأن تستقسموا بالأزلام} قال: هي سهام العرب, وكعاب فارس والروم, كانوا يتقامرون. وهذا الذي ذكر عن مجاهد في الأزلام أنها موضوعة للقمار, فيه نظر, اللهم إلا أن يقال: إنهم كانوا يستعملونها في الاستخارة تارة وفي القمار أخرى, والله أعلم. فإن الله سبحانه قد قرن بينها وبين القمار وهو الميسر فقال في آخر السورة: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء ـ إلى قوله ـ منتهون}. وهكذا قال ههنا {وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق} أي تعاطيه فسق وغي وضلالة وجهالة وشرك. وقد أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يستخيروه بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه.
كما روى الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن من طريق عبد الرحمن بن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر, عن جابر بن عبد الله, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن, ويقول «إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة, ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك, وأستقدرك بقدرتك, وأسألك من فضلك العظيم, فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم, وأنت علام الغيوب, اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ـ ويسميه باسمه ـ خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري ـ أوقال: عاجل أمري وآجله ـ فاقدره لي, ويسره لي, ثم بارك لي فيه, اللهم وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري, فاصرفني عنه, واصرفه عني, واقدر لي الخير حيث كان, ثم رضني به» لفظ أحمد, وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب, لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي.
وقوله {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني يئسوا أن يراجعوا دينهم, وكذا روي عن عطاء بن أبي رباح والسدي ومقاتل بن حيان, وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب, ولكن بالتحريش بينهم», ويحتمل أن يكون المراد أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين لما تميز به المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله, ولهذا قال تعالى آمراً لعباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار ولا يخافوا أحداً إلا الله, فقال {فلا تخشوهم واخشون} أي لا تخافوهم في مخالفتكم إياهم, واخشوني أنصركم عليهم وأبيدهم, وأظفركم بهم, وأشف صدوركم منهم, وأجعلكم فوقهم في الدنيا والاَخرة.
وقوله {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دين} هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم, فلا يحتاجون إلى دين غيره, ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه, ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن, فلا حلال إلا ما أحله, ولا حرام إلا ما حرمه, ولا دين إلا ما شرعه, وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف كما قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدل} أي صدقاً في الأخبار, وعدلاً في الأوامر والنواهي, فلما أكمل لهم الدين, تمت عليهم النعمة, ولهذا قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دين} أي فارضوه أنتم لأنفسكم, فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه, وبعث به أفضل الرسل الكرام, وأنزل به أشرف كتبه.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله {اليوم أكملت لكم دينكم} وهو الإسلام, أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان, فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً, وقد أتمه الله فلا ينقصه أبداً, وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً. وقال أسباط عن السدي: نزلت هذه الاَية يوم عرفة, ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام, ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات قالت أسماء بنت عميس: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبريل, فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة, فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن, فبركت, فأتيته فسجيت عليه برداً كان علي. وقال ابن جرير وغير واحد: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً, رواهما ابن جرير, ثم قال: حدثنا سفيان بن وكيع, حدثنا ابن فضيل عن هارون بن عنترة, عن أبيه, قال: لما نزلت {اليوم أكملت لكم دينكم} وذلك يوم الحج الأكبر, بكى عمر, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «ما يبكيك ؟» قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا, فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص, فقال «صدقت» ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت «إن الإسلام بدأ غريباً, وسيعود غريباً, فطوبى للغرباء».
وقال الإمام أحمد: حدثنا جعفر بن عون, حدثنا أبو العميس عن قيس بن مسلم, عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين, إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت, لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: وأي آية ؟ قال: قوله {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم, والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشية عرفة في يوم جمعة, ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون به. ورواه أيضاً مسلم والترمذي والنسائي أيضاً من طرق عن قيس بن مسلم به. ولفظ البخاري عند تفسير هذه الاَية من طريق سفيان الثوري, عن قيس, عن طارق قال: قالت اليهود لعمر: و الله إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً. فقال عمر: إني لأعلم حين أنزلت, وأين أنزلت, وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت: يوم عرفة, وأنا والله بعرفة, قال سفيان: وأشك, كان يوم الجمعة أم لا {اليوم أكملت لكم دينكم} الاَية, وشك سفيان رحمه الله إن كان في الرواية, فهو تورع حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا, وإن كان شكاً في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة, فهذا ما أخاله يصدر عن الثوري رحمه الله, فإن هذا أمر معلوم مقطوع به, لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير, ولا من الفقهاء وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها, والله أعلم, وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية, أخبرنا رجاء بن أبي سلمة, أخبرنا عبادة بن نسي, أخبرنا أميرنا إسحاق, قال أبو جعفر بن جرير وهو إسحاق بن حرشة عن قبيصة يعني ابن أبي ذئب, قال: قال كعب: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الاَية, لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم, فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه, فقال عمر: أي آية يا كعب ؟ فقال {اليوم أكملت لكم دينكم}, فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت, والمكان الذي أنزلت فيه: نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة, وكلاهما بحمد الله لنا عيد. وقال ابن جرير: حدثنا أبو بكر, حدثنا قبيصة, حدثنا حماد بن سلمة عن عمار هو مولى بني هاشم: أن ابن عباس قرأ {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دين} فقال يهودي: لو نزلت هذه الاَية علينا, لاتخذنا يومها عيداً, فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين: يوم عيد, ويوم جمعة. وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن كامل, حدثنا موسى بن هارون, حدثنا يحيى بن الحماني, حدثنا قيس بن الربيع عن إسماعيل بن سليمان, عن أبي عمر البزار, عن أبي الحنفية, عن علي قال: نزلت هذه الاَية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم عشية عرفة {اليوم أكملت لكم دينكم}.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا ابن عياش حدثنا عمرو بن قيس السكوني, أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الاَية {اليوم أكملت لكم دينكم} حتى ختمها, فقال: نزلت في يوم عرفة في يوم جمعة. وروى ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق عن عمرو بن موسى بن دحية, عن قتادة عن الحسن, عن سمرة قال: نزلت هذه الاَية {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دين} يوم عرفة, ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على الموقف, فأما ما رواه ابن جرير وابن مردويه والطبراني من طريق ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران, عن حنش بن عبد الله الصغاني, عن ابن عباس قال: ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين, وخرج من مكة يوم الاثنين, ودخل المدينة يوم الاثنين, وفتح بدراً يوم الاثنين, وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين ـ {اليوم أكملت لكم دينكم}. ورفع الذكر يوم الاثنين. فإنه أثر غريب, وإسناده ضعيف, وقد رواه الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود, حدثنا ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران, عن حنش الصغاني, عن ابن عباس قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين, واستنبىء يوم الاثنين, وخرج مهاجراً من مكة إلى المدينة يوم الاثنين, وقدم المدينة يوم الاثنين, وتوفي يوم الاثنين, ووضع الحجر الأسود يوم الاثنين, هذا لفظ أحمد, ولم يذكر نزول المائدة يوم الاثنين, فالله أعلم, ولعل ابن عباس أراد أنها نزلت يوم عيدين اثنين, كما تقدم فاشتبه على الراوي, والله أعلم.
وقال ابن جرير: وقد قيل: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس, ثم روي من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله {اليوم أكملت لكم دينكم} يقول: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس, قال: وقد قيل: إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى حجة الوداع, ثم رواه من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس. قلت: وقد روى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري: أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم حين قال لعلي «من كنت مولاه فعلي مولاه». ثم رواه عن أبي هريرة, وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة يعني مرجعه عليه السلام من حجة الوداع, ولا يصح هذا ولا هذا بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية أنها أنزلت يوم عرفة, وكان يوم جمعة كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب, وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان, وترجمان القرآن عبد الله بن عباس, وسمرة بن جندب رضي الله عنهم, وأرسله الشعبي وقتادة بن دعامة وشهر بن حوشب وغير واحد من الأئمة والعلماء, واختاره ابن جرير الطبري رحمه الله.
وقوله {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} أي فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها الله تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك, فله تناوله, و الله غفور رحيم له لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك, فيتجاوز عنه, ويغفر له, وفي المسند وصحيح ابن حبان عن ابن عمر مرفوعاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله يحب أن تؤتى رخصته كما يكره أن تؤتى معصيته» لفظ ابن حبان, وفي لفظ لأحمد «من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة» ولهذا قال الفقهاء: قد يكون تناول الميتة واجباً في بعض الأحيان وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها, وقد يكون مندوباً, وقد يكون مباحاً بحسب الأحوال, واختلفوا هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق, أو له أن يشبع أو يشبع ويتزود ؟ على أقوال كما هو مقرر في كتاب الأحكام, وفيما إذا وجد ميتة وطعام الغير أو صيداً وهو محرم, هل يتناول الميتة أو ذلك الصيد ويلزمه الجزاء أو ذلك الطعام ويضمن بدله, على قولين هما قولان للشافعي رحمه الله. وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاماً كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم, بل متى اضطر إلى ذلك جاز له.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم, حدثنا الأوزاعي, حدثنا حسان بن عطية عن أبي واقد الليثي, أنهم قالوا: يا رسول الله, إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة, فمتى تحل لنا بها الميتة ؟ فقال «إذا لم تصطبحوا, ولم تغتبقوا, ولم تحتفئوا بها بقلاً فشأنكم بها» تفرد به أحمد من هذا الوجه, وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين, وكذا رواه ابن جرير عن عبد الأعلى بن واصل عن محمد بن القاسم الأسدي عن الأوزاعي به, لكن رواه بعضهم عن الأوزاعي, عن حسان بن عطية, عن مسلم بن يزيد, عن أبي واقد به. ومنهم من رواه عن الأوزاعي, عن حسان, عن مرثد أو أبي مرثد عن أبي واقد به. ورواه ابن جرير عن هناد بن السري, عن عيسى بن يونس, عن حسان, عن رجل قد سمي له فذكره, ورواه أيضاً عن هناد, عن ابن المبارك, عن الأوزاعي, عن حسان مرسلاً, وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية عن ابن عون, قال: وجدت عند الحسن كتاب سمرة فقرأته عليه, فكان فيه: ويجزىء من الاضطرار غبوق أو صبوح.
حدثنا أبو كريب, حدثنا هشيم عن الخصيب بن زيد التميمي, حدثنا الحسن: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: متى يحل الحرام ؟ قال: فقال «إلى متى يروى أهلك من اللبن أو تجيء ميرتهم». حدثنا ابن حميد, حدثنا سلمة عن ابن إسحاق, حدثني عمر بن عبد الله بن عروة, عن جده عروة بن الزبير, عن جدته: أن رجلاً من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرم الله عليه, والذي أحل له, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «يحل لك الطيبات, ويحرم عليك الخبائث, إلا أن تفتقر إلى طعام لك, فتأكل منه حتى تستغني عنه». فقال الرجل: وما فقري الذي يحل لي وما غنائي الذي يغنيني عن ذلك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إذا كنت ترجو غناء تطلبه فتبلغ من ذلك شيئاً فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه» فقال الأعرابي: ما غنائي الذي أدعه إذا وجدته, فقال صلى الله عليه وسلم «إذا أرويت أهلك غبوقاً من الليل, فاجتنب ما حرم الله عليك من طعام مالك, فإنه ميسور كله فليس فيه حرام».
ومعنى قوله «ما لم تصطبحوا» يعني به الغداء «وما لم تغتبقوا» يعني به العشاء «أو تحتفئوا بقلا فشأنكم بها» فكلوا منها. وقال ابن جرير: يروى هذا الحرف, يعني قوله «أو تحتفئوا» على أربعة أوجه: تحفؤا بالهمزة, وتحتفيوا: بتخفيف الياء والحاء, وتحتفوا بتشديد, وتحتفوا بالحاء وبالتخفيف, ويحتمل الهمز, كذا رواه في التفسير.
(حديث آخر) ـ قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله, حدثنا الفضل بن دكين, حدثنا وهب بن عقبة العامري, سمعت أبي يحدث عن النجيع العامري أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما يحل لنا من الميتة ؟ قال «ما طعامكم» ؟ قلنا: نصطبح ونغتبق. قال أبو نعيم: فسره لي عقبة, قدح غدوة وقدح عشية, قال: ذاك وأبي الجوع, وأحل لهم الميتة على هذه الحال. تفرد به أبو داود وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئاً لا يكفيهم, فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع, ولا يتقيد ذلك بسد الرمق, والله أعلم.
(حديث آخر) ـ قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد, حدثنا سماك عن جابر عن سمرة: أن رجلاً نزل الحرة ومعه أهله وولده, فقال له رجل: إن ناقتي ضلت, فإن وجدتها فأمسكها, فوجدها ولم يجد صاحبها, فمرضت, فقالت له امرأته: انحرها فأبى, فنفقت فقالت له امرأته: اسلخها حتى تقدد شحمها ولحمها فنأكله, قال: لا حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فسأله, فقال «هل عندك غنى يغنيك ؟» قال: لا, قال «فكلوها» قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر, فقال: هلا كنت نحرتها ؟ قال استحييت منك, تفرد به, وقد يحتج به من يجوز الأكل والشبع والتزود منها مدة يغلب على ظنه الاحتياج إليها و الله أعلم.
وقوله: {غير متجانف لإثم} أي متعاط لمعصية الله, فإن الله قد أباح ذلك له وسكت عن الاَخر, كما قال في سورة البقرة {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم} وقد استدل بهذه الاَية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر, لأن الرخص لا تنال بالمعاصي, والله أعلم.

** يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلّ لَهُمْ قُلْ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَمَا عَلّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
لما ذكر تعالى ما حرمه في الاَية المتقدمة من الخبائث الضارة لمتناولها إما في بدنه أو في دينه أو فيهما, واستثنى ما استثناه في حالة الضرورة كما قال تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} قال بعدها {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات} كما في سورة الأعراف في صفة محمد صلى الله عليه وسلم أنه يحل لهم الطيبات, ويحرم عليهم الخبائث, قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا يحيى بن عبد الله بن أبي بكير, حدثني عبد الله بن لهيعة, حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير, عن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين, سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله قد حرم الله الميتة, فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات} قال سعيد: يعني الذبائح الحلال الطيبة لهم. وقال مقاتل: الطيبات ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه وهو الحلال من الرزق, وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي فقال: ليس هو من الطيبات, رواه ابن أبي حاتم, وقال ابن وهب: سئل مالك عن بيع الطير الذي يأكله الناس, فقال: ليس هو من الطيبات.
وقوله تعالى: {وما علمتم من الجوارح مكلبين} أي أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها, والطيبات من الرزق, وأحل لكم ما صدتموه بالجوارح, وهي الكلاب والفهود والصقور وأشباهها, كما هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة, وممن قال ذلك علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وما علمتم من الجوارح مكلبين} وهن الكلاب المعلمة, والبازي, وكل طير يعلم للصيد والجوارح, يعني الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها. رواه ابن أبي حاتم, ثم قال: وروي عن خيثمة وطاوس ومجاهد ومكحول ويحيى بن أبي كثير نحو ذلك, وروي عن الحسن أنه قال: الباز والصقر من الجوارح, وروي عن علي بن الحسين مثله, ثم روي عن مجاهد أنه كره صيد الطير كله, وقرأ قوله {وما علمتم من الجوارح مكلبين} قال: وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك, ونقله ابن جرير عن الضحاك والسدي, ثم قال: حدثنا هناد, حدثنا ابن أبي زائدة, أخبرنا ابن جريج عن نافع, عن ابن عمر, قال: أما ما صاد من الطير البازات وغيرها من الطير, فما أدركت فهو لك وإلا فلا تطعمه, قلت: والمحكي عن الجمهور إن الصيد بالطيور كالصيد بالكلاب لأنه تكلب الصيد بمخالبها كما تكلبه الكلاب, فلا فرق, وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم واختاره ابن جرير, واحتج في ذلك بما رواه عن هناد, حدثنا عيسى بن يونس عن مجالد, عن الشعبي, عن عدي بن حاتم, قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال: «ما أمسك عليك فكل» واستثنى الإمام أحمد صيد الكلب الأسود, لأنه عنده مما يجب قتله ولا يحل اقتناؤه لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يقطع الصلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود» فقلت: ما بال الكلب الأسود من الأحمر ؟ فقال: «الكلب الأسود شيطان». وفي الحديث الاَخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب, ثم قال «ما بالهم وبال الكلاب, اقتلوا منها كل أسود بهيم» وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بهن جوارح من الجرح, وهو الكسب, كما تقول العرب: فلان جرح أهله خيراً, أي كسبهم خيراً, ويقولون: فلان لا جارح له أي لا كاسب له, وقال الله تعالى: {ويعلم ما جرحتم بالنهار} أي ما كسبتم من خير وشر, وقد ذكر في سبب نزول هذه الاَية الشريفة الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم: حدثنا حجاج بن حمزة, حدثنا زيد بن حباب, حدثني يونس بن عبيدة, حدثني أبان بن صالح عن القعقاع بن حكيم عن سلمى أم رافع, عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب, فقلت: فجاء الناس فقالوا: يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فسكت, فأنزل الله {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين} الاَية, فقال النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل الرجل كلبه وسمى, فأمسك عليه, فليأكل ما لم يأكل» وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن زيد بن الحباب بإسناده عن أبي رافع قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذن عليه, فأذن له, فقال: قد أذن لك يا رسول الله, قال: أجل «ولكنا لا ندخل بيتاً فيه كلب» قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها, فتركته رحمة لها, ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته, فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته, فجاؤوا فقالوا: يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فأنزل الله عز وجل {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين}.
ورواه الحاكم في مستدركه من طريق محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح به, وقال: صحيح, ولم يخرجاه, وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا حجاج عن ابن جريج, عن عكرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب حتى بلغ العوالي, فجاء عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة, فقالوا: ماذا أحل لنا يا رسول الله ؟ فنزلت الاَية, ورواه الحاكم من طريق سماك عن عكرمة, وكذا قال محمد بن كعب القرظي في سبب نزول هذه الاَية: أنه في قتل الكلاب.
وقوله تعالى: {مكلبين} يحتمل أن يكون حالاً من الفاعل ويحتمل أن يكون حالاً من المفعول, وهو الجوارح, أي وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلبات للصيد, وذلك أن تقتنصه بمخالبها أو أظفارها, فيستدل بذلك والحالة هذه على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته لا بمخلابه وظفره, أنه لا يحل له, كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء, ولهذا قال {تعلمونهن مما علمكم الله} وهو أنه إذا أرسله استرسل, وإذا أشلاه استشلى, وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه, ولا يمسكه لنفسه, ولهذا قال تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه} فمتى كان الجارح معلماً وأمسك على صاحبه, وكان قد ذكر اسم الله عليه وقت إرساله, حل الصيد وإن قتله بالإجماع. وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الاَية الكريمة, كما ثبت في الصحيحين عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله, إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم الله! فقال «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك». قلت: وإن قتلن ؟ قال «وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها, فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره» قلت له: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب ؟ فقال: إذا رميت بالمعراض فخزق فكله, وإن أصابه بعرض فإنه وقيذ فلا تأكله» وفي لفظ لهما «وإذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله, فإن أمسك عليك فأدركته حياً, فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله, فإن أخذ الكلب ذكاته» وفي رواية لهما «فإن أكل فلا تأكل, فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه» فهذا دليل للجمهور, وهو الصحيح من مذهب الشافعي, وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقاً, ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث, وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا: لا يحرم مطلقاً.

ذكر الاَثار بذلك
قال ابن جرير: حدثنا هناد, حدثنا وكيع عن شعبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, قال: قال سلمان الفارسي: كل وإن أكل ثلثيه ـ يعني الصيد ـ إذا أكل منه الكلب, وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة وعمر بن عامر عن قتادة, وكذا رواه محمد بن زيد عن سعيد بن المسيب عن سلمان, ورواه ابن جرير أيضاً عن مجاهد بن موسى, عن يزيد, عن حميد, عن بكر بن عبد الله المزني, والقاسم بن سلمان قال: إذا أكل الكلب فكل, وإن أكل ثلثيه, وقال ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, أخبرني مخرمة بن بكير عن أبيه, عن حميد بن مالك بن خيثم الدؤلي أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب, فقال: كل وإن لم يبق منه إلا حذية, يعني بضعة, ورواه شعبة عن عبد ربه بن سعيد, عن بكير بن الأشج, عن سعيد بن المسيب, عن سعد بن أبي وقاص, قال: كل وإن أكل ثلثيه.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا داود عن عامر, عن أبي هريرة, قال: إذا أرسلت كلبك فأكل منه, فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه فكله. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى, حدثنا المعتمر قال: سمعت عبد الله, وحدثنا هناد, حدثنا عبدة عن عبيد الله بن عمر, عن نافع, عن عبد الله بن عمر قال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك, أكل أو لم يأكل, وكذا رواه عبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب وغير واحد عن نافع, فهذه الاَثار ثابتة عن سلمان وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وابن عمر, وهو محكي عن علي وابن عباس, واختلف فيه عن عطاء والحسن البصري, وهو قول الزهري وربيعة ومالك, وإليه ذهب الشافعي في القديم وأومأ إليه في الجديد.
وقد روي من طريق سلمان الفارسي مرفوعاً, فقال ابن جرير: حدثنا عمران بن بكار الكلاعي, حدثنا عبد العزيز بن موسى اللاحوني, حدثنا محمد بن دينار وهو الطاجي عن أبي إياس معاوية بن قرة, عن سعيد بن المسيب, عن سلمان الفارسي, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه فليأكل ما بقي» ثم قال ابن جرير: وفي إسناد هذا الحديث نظر, وسعيد غير معلوم له سماع من سلمان, والثقات يروونه من كلام سلمان غير مرفوع, وهذا الذي قاله ابن جرير صحيح, لكن قد روي هذا المعنى مرفوعاً من وجوه أخر, فقال أبو داود: حدثنا محمد بن منهال الضرير, حدثنا يزيد بن زريع, حدثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده أن أعرابياً يقال له أبو ثعلبة قال: يا رسول الله, إن لي كلاباً مكلبة, فأفتني في صيدها, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إن كان لك كلاب مكلبة, فكل مما أمسكن عليك» فقال: ذكياً وغير ذكي, وإن أكل منه ؟ قال «نعم وإن أكل منه» فقال: يارسول الله أفتني في قوسي, قال «كل ما ردت عليك قوسك» قال: ذكياً وغير ذكي ؟ «وإن تغيب عنك ما لم يضلّ أو تجد فيه أثر غير سهمك» قال: أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها, قال «اغسلها وكل فيها» هكذا رواه أبو داود, وقد أخرجه النسائي, وكذا رواه أبو داود من طريق يونس بن سيف, عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه, وكل ما ردت عليك يدك» وهذان إسنادان جيدان, وقد روى الثوري عن سماك بن حرب, عن عدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما كان من كلب ضار أمسك عليك فكل» قلت: وإن أكل ؟ قال «نعم». وروى عبد الملك بن حبيب: حدثنا أسد بن موسى عن ابن أبي زائدة, عن الشعبي, عن عدي بمثله, فهذه آثار دالة على أنه يغتفر, وإن أكل منه الكلب, وقد احتج بها من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه, كما تقدم عمن حكيناه عنهم, وقد توسط آخرون فقالوا: إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث عدي بن حاتم, وللعلة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم «فإن أكل فلا تأكل, فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه» وأما إن أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه وجاع فأكل منه لجوعه, فإنه لا يؤثر في التحريم وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني. وهذا تفريق حسن, وجمع بين الحديثين صحيح.
وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجويني في كتابه «النهاية» أن لو فصل مفصل هذا التفصيل وقد حقق الله أمنيته, وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب منهم. وقال آخرون قولاً رابعاً في المسألة وهو التفرقة بين أكل الكلب فيحرم لحديث عدي, وبين أكل الصقور ونحوها فلا يحرم لأنه لا يقبل التعليم إلا بالأكل, وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا أسباط بن محمد, حدثنا أبو إسحاق الشيباني عن حماد, عن إبراهيم, عن ابن عباس أنه قال في الطير: إذا أرسلته فقتل فكل, فإن الكلب إذا ضربته لم يعد وإن تعلم الطير أن يرجع إلى صاحبه وليس يضرب, فإذا أكل من الصيد ونتف الريش فكل, وكذا قال إبراهيم النخعي والشعبي وحماد بن أبي سليمان, وقد يحتج لهؤلاء بما رواه ابن أبي حاتم, حدثنا أبو سعيد, حدثنا المحاربي, حدثنا مجالد عن الشعبي, عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله, إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة, فما يحل لنا منها ؟ قال «يحل لكم ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله, فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه ثم قال ما أرسلت من كلب وذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك» قلت: وإن قتل ؟ قال «وإن قتل مالم يأكل» قلت: يا رسول الله, وإن خالطت كلابنا كلاباً غيرها ؟ قال «فلا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو الذي أمسك». قال: قلت: إنا قوم نرمي فما يحل لنا ؟ قال «ما ذكرت اسم الله عليه وخزقت فكل». فوجه الدلالة لهم أنه اشترط في الكلب أن لا يأكل, ولم يشترط ذلك في البزاة, فدل على التفرقة بينهما في الحكم, والله أعلم.
وقوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه} أي عند إرساله له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم «إذا أرسلت كلبك المعلم, وذكرت اسم الله, فكل ما أمسك عليك» وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في الصحيحين أيضاً «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله, وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله» ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة كالإمام أحمد رحمه الله في المشهور عنه, التسمية عند إرسال الكلب, والرمي بالسهم, لهذه الاَية وهذا الحديث, وهذا القول هو المشهور عن الجمهور أن المراد بهذه الاَية الأمر بالتسمية عند الإرسال كما قال السدي وغيره, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {واذكروا اسم الله عليه} يقول: إذا أرسلت جارحك فقل: باسم الله, وإن نسيت فلا حرج, وقال بعض الناس: المراد بهذه الاَية الأمر بالتسمية عند الأكل, كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ربيبه عمر بن أبي سلمة فقال «سمّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك». وفي صحيح البخاري عن عائشة أنهم قالوا: يا رسول الله, إن قوماً يأتوننا حديث عهدهم بكفر بلحمان لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا ؟ فقال «سموا الله أنتم وكلوا».
(حديث آخر) ـ وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا هشام عن بديل, عن عبد الله بن عبيد بن عمير, عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه, فجاء أعرابي فأكله بلقمتين, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أما إنه لو كان ذكر اسم الله لكفاكم, فإذا أكل أحدكم طعاماً فليذكر اسم الله, فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله, فليقل: باسم الله أوله وآخره», وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة, عن يزيد بن هارون به, وهذا منقطع بين عبد الله بن عبيد بن عمير وعائشة فإنه لم يسمع منها هذا الحديث بدليل ما رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب, أخبرنا هشام يعني ابن أبي عبد الله الدستوائي, عن بديل, عن عبد الله بن عبيد بن عمير: أن امرأة منهم يقال لها أم كلثوم حدثته عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل طعاماً في ستة نفر من أصحابه, فجاء أعرابي جائع فأكله بلقمتين, فقال «أما إنه لو ذكر اسم الله لكفاكم, فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله, فإن نسي اسم الله في أوله, فليقل باسم الله أوله وآخره» رواه أحمد أيضاً وأبو داود والترمذي والنسائي من غير وجه عن هشام الدستوائي به, وقال الترمذي: حسن صحيح.
(حديث آخر) ـ وقال أحمد: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا جابر بن صبح, حدثني المثنى بن عبد الرحمن الخزاعي وصحبته إلى واسط, فكان يسمي في أول طعامه, وفي آخر لقمة يقول: باسم الله أوله وآخره, فقلت له: إنك تسمي في أول ما تأكل, أرأيت قولك في آخر ما تأكل باسم الله أوله وآخره, فقال: أخبرك أن جدي أمية بن مخشي وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: إن رجلاً كان يأكل والنبي ينظر فلم يسم حتى كان آخر طعامه لقمة, قال: باسم الله أوله وآخره, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «والله ما زال الشيطان يأكل معه حتى سمى, فلم يبق شيء في بطنه حتى قاءه» وهكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث جابر بن صبح الراسبي أبي بشر البصري, ووثقه ابن معين والنسائي, وقال أبو الفتح الأزدي: لا تقوم به حجة.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن خيثمة عن أبي حذيفة ـ قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد واسمه سلمة بن الهيثم بن صهيب ـ من أصحاب ابن مسعود, عن حذيفة, قال: كنا إذا حضرنا مع النبي على طعام لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله فيضع يده, وإنا حضرنا معه طعاماً, فجاءت جارية كأنما تدفع فذهبت تضع يدها في الطعام, فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها, وجاء أعرابي كأنما يدفع فذهب يضع يده في الطعام فأخذ رسول الله بيده, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه, وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها, فأخذت بيدها, وجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده, والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يديهما» يعني الشيطان, وكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي, من حديث الأعمش به.
(حديث آخر) ـ روى مسلم وأهل السنن, إلا الترمذي من طريق ابن جريج, عن أبي الزبير, عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه, قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء, وإذا دخل ولم يذكر اسم الله عند دخوله, قال الشيطان: أدركتم المبيت, فإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه, قال: أدركتم المبيت والعشاء» لفظ أبي داود.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه, حدثنا الوليد بن مسلم, عن وحشي بن حرب عن أبيه, عن جده, أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نأكل ولا نشبع. قال «فلعلكم تأكلون متفرقين اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه» ورواه أبو داود, وابن ماجه, من طريق الوليد بن مسلم.

** الْيَوْمَ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَطَعَامُ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلّ لّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلّ لّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتّخِذِيَ أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ لما ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين, من الخبائث وماأحله لهم من الطيبات. قال بعده {اليوم أحل لكم الطيبات} ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين, من اليهود والنصارى فقال {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير, وعكرمة وعطاء والحسن, ومكحول وإبراهيم النخعي, والسدي ومقاتل بن حيان: يعني ذبائحهم, وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء, أن ذبائحهم حلال للمسلمين, لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله, ولايذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله, وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه, تعالى وتقدس.
وقد ثبت في الصحيح: عن عبد الله بن مغفل, قال: أدلي بجراب من شحم يوم خيبر فحضنته وقلت: لا أعطي اليوم من هذا أحداً, والتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم, فاستدل به الفقهاء, على أنه يجوز تناول ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة, قبل القسمة, وهذا ظاهر, واستدل به الفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة, على أصحاب مالك في منعهم, أكل ما يعتقد اليهود تحريمه من ذبائحهم, كالشحوم ونحوها مما حرم عليهم, فالمالكية لا يجوزون للمسلمين أكله, لقوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قالوا: وهذا ليس من طعامهم, واستدل عليهم الجمهور بهذا الحديث, وفي ذلك نظر, لأنه قضية عين, ويحتمل أن يكون شحماً, يعتقدون حله كشحم الظهر والحوايا ونحوهما, والله أعلم, وأجود منه في الدلالة, ما ثبت في الصحيح, أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مصلية, وقد سموا ذراعها وكان يعجبه الذراع, فتناوله فنهش منه نهشة فأخبره الذراع أنه مسموم فلفظه, وأثر ذلك في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبهره, وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور فمات فقتل اليهودية التي سمتها, وكان اسمها زينب, ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه, ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا.
وفي الحديث الاَخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أضافه يهودي, على خبز شعير وإهالة سنخة, يعني ودكاً زنخاً, وقال ابن أبي حاتم: قرىء على العباس بن الوليد بن مزيد, أخبرنا محمد بن شعيب, أخبرني النعمان بن المنذر, عن مكحول قال: أنزل الله {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} ثم نسخه الرب عز وجل, ورحم المسلمين فقال {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب} فنسخها بذلك, وأحل طعام أهل الكتاب, وفي هذا الذي قاله مكحول رحمه الله نظر, فإنه لا يلزم من إباحته طعام أهل الكتاب, إباحة أكل مالم يذكر اسم الله عليه لأنهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم, وهم متعبدون بذلك, ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك, ومن شابههم, لأنهم لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم, بل ولا يتوقفون فيما يأكلونه من اللحم على ذكاة, بل يأكلون الميتة بخلاف أهل الكتابين ومن شاكلهم من السامرة والصابئة ومن يتمسك بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء, على أحد قولي العلماء ونصارى العرب, كبني تغلب وتنوخ وبهرا وجذام ولخم وعاملة ومن أشبههم, لا تؤكل ذبائحهم عند الجمهور.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية, عن أيوب, عن محمد بن عبيدة, قال: قال علي: لا تأكلوا ذبائح بني تغلب, لأنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر, وكذا قال غير واحد من الخلف والسلف. وقال سعيد بن أبي عروبة: عن قتادة, عن سعيد بن المسيب والحسن, أنهما كانا لا يريان بأساً, بذبيحة نصارى بني تغلب. وأما المجوس, فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعاً وإلحاقاً لأهل الكتاب, فإنهم لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم, خلافاً لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي, أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل. ولما قال ذلك واشتهر عنه, أنكر عليه الفقهاء ذلك, حتى قال عنه الإمام أحمد: أبو ثور كاسمه, يعني في هذه المسألة, وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ولكن لم يثبت بهذا اللفظ, وإنما الذي في صحيح البخاري, عن عبد الرحمن بن عوف, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أخذ الجزية من مجوس هجر, ولو سلم صحة هذا الحديث, فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الاَية {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} فدل بمفهومه مفهوم المخالفة على أن طعام من عداهم من أهل الأديان, لا يحل. وقوله تعالى: {وطعامكم حل لهم} أي ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم, وليس هذا إخباراً عن الحكم عندهم, اللهم إلا أن يكون خبراً عما أمروا به, من الأكل من كل طعام, ذكر اسم الله عليه, سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها, والأول أظهر في المعنى, أي ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم, وهذا من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة, كما ألبس النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه لعبد الله بن أبي ابن سلول, حين مات ودفنه فيه, قالوا: لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه, فجازاه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بذلك, فأما الحديث الذي فيه «لا تصحب إلا مؤمناً, ولا يأكل طعامك إلا تقي» فمحمول على الندب والاستحباب, والله أعلم.
وقوله: {والمحصنات من المؤمنات} أي وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات, وذكر هذا توطئة لما بعده, وهو قوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} فقيل أراد بالمحصنات الحرائر, دون الإماء, حكاه ابن جرير عن مجاهد, وإنما قال مجاهد: المحصنات الحرائر, فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه, ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة, كما قال في الرواية الأخرى عنه, وهو قول الجمهور ههنا, وهو الأشبه, لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية, وهي مع ذلك غير عفيفة, فيفسد حالها بالكلية ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل: «حشفاً وسوء كيلة» والظاهر من الاَية أن المراد من المحصنات العفيفات عن الزنا, كما قال تعالى في الاَية الأخرى {محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان} ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} هل يعم كل كتابية عفيفة, سواء كانت حرة أو أمة, حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف, ممن فسر المحصنة بالعفيفة, وقيل: المراد بأهل الكتاب ههنا الإسرائيليات, وهو مذهب الشافعي. وقيل: المراد بذلك الذميات دون الحربيات, لقوله: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاَخر} الاَية, وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية, ويقول: لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول إن ربها عيسى, وقد قال الله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} الاَية.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب, حدثنا القاسم بن مالك يعني المزني, حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي مالك الغفاري, قال نزلت هذه الاَية {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} قال فحجز الناس عنهن حتى نزلت الاَية التي بعدها {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} فنكح الناس نساء أهل الكتاب, وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى, ولم يروا بذلك بأساً أخذاً بهذه الاَية الكريمة {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها, وإلا فلا معارضة بينها وبينها, لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع, كقوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة} وكقوله: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدو} الاَية.
وقوله: {إذا آتيتموهن أجورهن} أي مهورهن, أي كما هن محصنات عفائف فابذلوا لهن المهور عن طيب نفس, وقد أفتى جابر بن عبد الله وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي والحسن البصري, بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها أنه يفرق بينهما, وترد عليه ما بذل لها من المهر, رواه ابن جرير عنهم.
وقوله: {محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان} فكما شرط الإحصان في النساء, وهي العفة عن الزنا, كذلك شرطها في الرجال, وهو أن يكون الرجل أيضاً محصناً عفيفاً, ولهذا قال: غير مسافحين, وهم الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم, ولا متخذي أخدان, أي ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلا معهن, كما تقدم في سورة النساء سواء, ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البغي حتى تتوب, وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف, وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنا لهذه الاَية وللحديث «لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله», وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا سليمان بن حرب, حدثنا أبو هلال عن قتادة, عن الحسن, قال: قال عمر بن الخطاب: لقد هممت أن لا أدع أحداً أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة, فقال له أبي بن كعب: يا أمير المؤمنين, الشرك أعظم من ذلك, وقد يقبل منه إذا تاب, وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستقصى عند قوله: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة, والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين}, ولهذا قال تعالى ههنا {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الاَخرة من الخاسرين}.