تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 146 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 146

146 : تفسير الصفحة رقم 146 من القرآن الكريم

** وَقَالُواْ هَـَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاّ يَطْعَمُهَآ إِلاّ مَن نّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الحجر الحرام مما حرموا من الوصيلة وتحريم ما حرموا, وكذلك قال مجاهد والضحاك والسدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما وقال قتادة {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر} تحريم كان عليهم من الشياطين في أموالهم وتغليظ وتشديد ولم يكن من الله تعالى, وقال ابن زيد بن أسلم {حجر} إنما احتجروها لاَلهتهم, وقال السدي {لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم} يقولون حرام أن يطعم إلا من شئنا وهذه الاَية الكريمة كقوله تعالى: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} وكقوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون} وقال السدي أما الأنعام التي حرمت ظهورها فهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام, وأما الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها لا إذا ولدوها ولا إن نحروها.
وقال أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود: قال لي أبو وائل أتدري ما في قوله {وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليه} قلت لا, قال هي البحيرة كانوا لا يحجون عليها, وقال مجاهد كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شيء من شأنها لا إن ركبوا ولا إن حلبوا ولا إن حملوا ولا إن نتجوا ولا إن عملوا شيئاً {افتراء عليه} أي على الله وكذباً منهم في إسنادهم ذلك إلى دين الله وشرعه فإنه لم يأذن لهم في ذلك ولا رضيه منهم {سيجزيهم بما كانوا يفترون} أي عليه ويسندون إليه.

** وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لّذُكُورِنَا وَمُحَرّمٌ عَلَىَ أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ
قال أبو إسحاق السبيعي عن عبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورن} الاَية قال اللبن. وقال العوفي عن ابن عباس {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورن} فهو اللبن كانوا يحرمونه على إناثهم ويشربه ذكرانهم وكانت الشاة إذا ولدت ذكراً ذبحوه وكان للرجال دون النساء وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء فنهى الله عن ذلك وكذا قال السدي.
وقال الشعبي البحيرة لا يأكل من لبنها إلا الرجال وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء وكذا قال عكرمة وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال مجاهد في قوله {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجن} قال هي السائبة والبحيرة. وقال أبو العالية ومجاهد وقتادة في قول الله: {سيجزيهم وصفهم} أي قولهم الكذب في ذلك يعني كقوله تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع} الاَية, {إنه حكيم} أي في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره {عليم} بأعمال عباده من خير وشر وسيجزيهم عليها أتم الجزاء.

** قَدْ خَسِرَ الّذِينَ قَتَلُوَاْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
يقول تعالى قد خسر الذين فعلوا هذه الأفاعيل في الدنيا والاَخرة, أما في الدنيا فخسروا أولادهم بقتلهم, وضيقوا عليهم في أموالهم فحرموا أشياء ابتدعوها من تلقاء أنفسهم, وأما في الاَخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل بكذبهم على الله وافترائهم, كقوله تعالى: {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون} وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الاَية: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا محمد بن أيوب, حدثنا عبد الرحمن بن المبارك, حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب, فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين} وهكذا رواه البخاري منفرداً في كتاب مناقب قريش من صحيحه, عن أبي النعمان محمد بن الفضل عارم, عن أبي عوانة واسمه الوضاح بن عبد الله اليشكري, عن أبي بشر واسمه جعفر بن أبي وحشية, بن إياس به.

** وَهُوَ الّذِيَ أَنشَأَ جَنّاتٍ مّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنّخْلَ وَالزّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزّيْتُونَ وَالرّمّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوَاْ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُسْرِفِينَ * وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ
يقول تعالى مبيناً أنه الخالق لكل شيء من الزروع والثمار والأنعام التي تصرف فيها هؤلاء المشركون بآرائهم الفاسدة, وقسموها وجزؤوها فجعلوا منها حراماً وحلالاً, فقال {وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: معروشات مسموكات, وفي رواية فالمعروشات ما عرش الناس, وغير معروشات ما خرج في البر والجبال من الثمرات, وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس: معروشات ما عرش من الكرم وغير معروشات ما لم يعرش من الكرم, وكذا قال السدي, وقال ابن جريج متشابهاً وغير متشابه, قال: متشابهاً في المنظر وغير متشابه في المطعم, وقال محمد بن كعب {كلوا من ثمره إذا أثمر} قال: من رطبه وعنبه, وقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} قال ابن جرير: قال بعضهم هي الزكاة المفروضة, حدثنا عمرو, حدثنا عبد الصمد, حدثنا يزيد بن درهم, قال: سمعت أنس بن مالك يقول {وآتوا حقه يوم حصاده} قال: الزكاة المفروضة.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وآتوا حقه يوم حصاده} يعني الزكاة المفروضة يوم يكال ويعلم كيله, وكذا قال سعيد بن المسيب, وقال العوفي عن ابن عباس {وآتوا حقه يوم حصاده} وذلك أن الرجل كان إذا زرع, فكان يوم حصاده لم يخرج مما حصد شيئاً فقال الله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} وذلك أن يعلم ما كيله وحقه من كل عشرة واحد, وما يلقط الناس من سنبله, وقد روى الإمام أحمد وأبو داود في سننه من حديث محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن يحيى بن حبان, عن عمه واسع بن حبان, عن جابر بن عبد الله, أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل جاذّ عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين, وهذا إسناد جيد قوي, وقال طاوس وأبو الشعثاء وقتادة والحسن والضحاك وابن جريج: هي الزكاة, وقال الحسن البصري: هي الصدقة من الحب والثمار, وكذا قال زيد بن أسلم, وقال آخرون: وهو حق آخر سوى الزكاة, وقال أشعث: عن محمد بن سيرين ونافع عن ابن عمر في قوله {وآتوا حقه يوم حصاده} قال: كانوا يعطون شيئاً سوى الزكاة رواه ابن مردويه وروى عبد الله بن المبارك وغيره عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح في قوله {وآتوا حقه يوم حصاده} قال: يعطي من حضره يومئذ ما تيسر, وليس بالزكاة, وقال مجاهد: إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه, وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد {وآتوا حقه يوم حصاده} قال: عند الزرع يعطي القبضة وعند الصرام يعطي القبضة, ويتركهم فيتبعون آثار الصرام, وقال الثوري: عن حماد عن إبراهيم النخعي قال: يعطي مثل الضغث, وقال ابن المبارك عن شريك عن سالم عن سعيد بن جبير {وآتوا حقه يوم حصاده} قال: كان هذا قبل الزكاة, للمساكين القبضة والضغث لعلف دابته, وفي حديث ابن لهيعة: عن دراج عن أبي الهيثم عن سعيد مرفوعاً, {وآتوا حقه يوم حصاده} قال {ما سقط من السنبل} رواه ابن مردويه, وقال آخرون: هذا شيء كان واجباً ثم نسخه الله بالعشر أو نصف العشر, حكاه ابن جرير عن ابن عباس ومحمد بن الحنفية وإبراهيم النخعي والحسن والسدي وعطية العوفي وغيرهم, واختاره ابن جرير رحمه الله, قلت: وفي تسمية هذا نسخاً نظر, لأنه قد كان شيئاً واجباً في الأصل ثم إنه فصل بيانه وبين مقدار المخرج وكميته, قالوا: وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة, فا لله أعلم.
وقد ذم الله سبحانه الذين يصرمون ولا يتصدقون كما ذكر عن أصحاب الجنة في سورة «ن» {إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون * فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون * فأصبحت كالصريم} أي كالليل المدلهم سوداء محترقة {فتنادوا مصبحين * أن غدوا على حرثكم إن كنتم صارمين * فانطلقوا وهم يتخافتون * أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين * وغدوا على حرد} أي قوة وجلد وهمة {قادرين * فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون * قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون * قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين * فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون * قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين * عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون * كذلك العذاب ولعذاب الاَخرة أكبر لو كانوا يعلمون}.
وقوله تعالى: {ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} قيل معناه لا تسرفوا في الإعطاء فتعطوا فوق المعروف, وقال أبو العالية: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئاً ثم تباروا فيه وأسرفوا, فأنزل الله {ولا تسرفو} وقال ابن جريج: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس, جذ نخلاً له فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة, فأنزل الله تعالى: {ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} رواه ابن جرير عنه, وقال ابن جريج عن عطاء: نهوا عن السرف في كل شيء, وقال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله فهو سرف, وقال السدي في قوله {ولا تسرفو} قال: لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء, وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب في قوله {ولا تسرفو} قال: لا تمنعوا الصدقة فتعصوا ربكم, ثم اختار ابن جرير قول عطاء, أنه نهي عن الإسراف في كل شيء ولا شك أنه صحيح, لكن الظاهر والله أعلم من سياق الاَية, حيث قال تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفو} أن يكون عائداً على الأكل, أي لا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن, كقوله تعالى: {كلوا واشربوا ولا تسرفو} الاَية.
وفي صحيح البخاري تعليقاً «كلوا واشربوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة» وهذا من هذا, والله أعلم, وقوله عز وجل {ومن الأنعام حمولة وفرش} أي وأنشأ لكم من الأنعام ما هو حمولة وما هو فرش, قيل المراد بالحمولة ما يحمل عليه من الإبل, والفرش الصغار منها, كما قال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله: حمولة ما حمل عليه من الإبل وفرشاً الصغار من الإبل, رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه, وقال ابن عباس: الحمولة هي الكبار والفرش الصغار من الإبل, وكذا قال مجاهد, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {ومن الأنعام حمولة وفرش} أما الحمولة فالإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه, وأما الفرش فالغنم, واختاره ابن جرير قال: وأحسبه إنما سمي فرشاً لدنوه من الأرض, وقال الربيع بن أنس والحسن والضحاك وقتادة وغيره: الحمولة الإبل والبقر والفرش الغنم, وقال السدي: أما الحمولة فالإبل وأما الفرش فالفصلان والعجاجيل والغنم, وما حمل عليه فهو حمولة, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الحمولة ما تركبون والفرش ما تأكلون وتحلبون, شاة لا تحمل تأكلون لحمها وتتخذون من صوفها لحافاً وفرشاً, وهذا الذي قاله عبد الرحمن: في تفسير هذه الاَية الكريمة حسن يشهد له قوله تعالى: {أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون} وقال تعالى: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} إلى أن قال {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين}.
وقال تعالى: {الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون * ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون * ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون} وقوله تعالى: {كلوا مما رزقكم الله} أي من الثمار والزروع والأنعام فكلها خلقها الله وجعلها رزقاً لكم {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} أي طريقه وأوامره كما اتبعها المشركون الذين حرموا ما رزقهم الله, أي من الثمار والزروع افتراء على الله, {إنه لكم} أي أن الشيطان أيها الناس لكم {عدو مبين} أي بين ظاهر العداوة, كما قال تعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} وقال تعالى: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهم} الاَية, وقال تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدل} والاَيات في هذا كثيرة في القرآن.