تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 195 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 195

195 : تفسير الصفحة رقم 195 من القرآن الكريم

** لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلّبُواْ لَكَ الاُمُورَ حَتّىَ جَآءَ الْحَقّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ
يقول تعالى محرضاً لنبيه عليه السلام على المنافقين: {لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور} أي لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماده مدة طويلة, وذلك أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة رمته العرب عن قوس واحدة, وحاربته يهود المدينة ومنافقوها, فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته قال عبد الله بن أبي وأصحابه: هذا أمر قد توجه فدخلوا في الإسلام ظاهراً ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم ولهذا قال تعالى: {حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون}.

** وَمِنْهُمْ مّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنّ جَهَنّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ
يقول تعالى ومن المنافقين من يقول لك: يا محمد {ائذن لي} في القعود {ولا تفتني} بالخروج معك بسبب الجواري من نساء الروم. قال الله تعالى: {ألا في الفتنة سقطو} أي قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا كما قال محمد بن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن قتادة وغيرهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلمذات يوم وهو في جهازه للجد بن قيس أخي بني سلمة: «هل لك يا جد العام في جلاد بني الأصفر ؟» فقال: يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني, فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء مني, وإنى أخشي إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «قد أذنت لك» ففي الجد بن قيس نزلت هذه: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني} الاَية, أي إن كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم. وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وغير واحد أنها نزلت في الجد بن قيس, وقد كان الجد بن قيس هذا من أشراف بني سلمة. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «من سيدكم يا بني سلمة ؟» قالوا: الجد بن قيس على أنا نبخله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وأي داء أدوأ من البخل! ولكن سيدكم الفتى الجعد الأبيض بشر بن البراء بن معرور» وقوله تعالى: {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} أي لا محيد لهم عنها ولا محيص ولا مهرب.

** إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلّواْ وّهُمْ فَرِحُونَ * قُل لّن يُصِيبَنَآ إِلاّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ
يعلم تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بعداوة هؤلاء له لأنه مهما أصابه من حسنة أي فتح وظفر على الأعداء مما يسره ويسر أصحابه ساءهم ذلك {وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل} أي قد احترزنا من متابعته من قبل هذا {ويتولوا وهم فرحون} فأرشد الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جوابهم في عداوتهم هذه التامة فقال: {قل} أي لهم {لن يصيبنا إلا ما كتب الله لن} أي نحن تحت مشيئته وقدره {هو مولان} أي سيدنا وملجؤنا {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} أي ونحن متوكلون عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل.

** قُلْ هَلْ تَرَبّصُونَ بِنَآ إِلاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبّصُوَاْ إِنّا مَعَكُمْ مّتَرَبّصُونَ * قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لّن يُتَقَبّلَ مِنكُمْ إِنّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاّ أَنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصّلاَةَ إِلاّ وَهُمْ كُسَالَىَ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاّ وَهُمْ كَارِهُونَ
يقول تعالى: {قل} لهم يا محمد {هل تربصون بن} أي تنتظرون بنا {إلا إحدى الحسنيين} شهادة أو ظفر بكم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم {ونحن نتربص بكم} أي ننتظر بكم {أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدين} أي ننتظر بكم هذا أو هذا إما {أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدين} بسبي أو بقتل {فتربصوا إنا معكم متربصون} وقوله تعالى: {قل أنفقوا طوعاً أو كره} أي مهما أنفقتم من نفقة طائعين أو مكرهين {لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوماً فاسقين} ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك وهو أنهم لا يتقبل منهم {لأنهم كفروا بالله وبرسوله} أي والأعمال إنما تصح بالإيمان {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى} أي ليس لهم قصد صحيح ولا همة في العمل {ولا ينفقون} نفقة {إلا وهم كارهون} وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن الله لا يمل حتى تملوا وأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. فلهذا لا يقبل الله من هؤلاء نفقة ولا عملاً لأنه إنما يتقبل من المتقين.