تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 195 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 195

194

قوله: 48- "لقد ابتغوا الفتنة من قبل" أي لقد طلبوا الإفساد والخبال وتفريق كلمة المؤمنين وتشتيت شملهم من قبل هذه الغزوة التي تخلفوا عنك فيها. كما وقع من عبد الله بن أبي وغيره "ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون". قوله: "وقلبوا لك الأمور" أي صرفوها من أمر إلى أمر، ودبروا لك الحيل والمكائد، ومنه قول العرب حول قلب إذا كان دائراً حول المكائد والحيل يدير الرأي فيها ويتدبره. وقرئ وقلبوا بالتخفيف "حتى جاء الحق" أي إلى غاية هي مجيء الحق، وهو النصر لك والتأييد "وظهر أمر الله" بإعزاز دينه وإعلام شرعه وقهر أعدائه، وقيل: الحق القرآن "وهم كارهون" أي والحال أنهم كارهون لمجيء الحق وظهور أمر الله، ولكن كان ذلك على رغم منهم.
49- "ومنهم" أي من المنافقين "من يقول" لرسول الله صلى الله عليه وسلم "ائذن لي" في التخلف عن الجهاد "ولا تفتني" أي لا توقعني في الفتنة: أي الإثم إذا لم تأذن لي فتخلفت بغير إذنك، وقيل معناه: لا توقعني في الهلكة بالخروج "ألا في الفتنة سقطوا" أي في نفس الفتنة سقطوا، وهي فتنة التخلف عن الجهاد، والاعتذار الباطل. والمعنى: أنهم ظنوا أنهم بالخروج أو بترك الإذن لهم يقعون في الفتنة، وهم بهذا التخلف سقطوا في الفتنة العظيمة. وفي التعبير بالسقوط ما يشعر بأنهم وقعوا فيها وقوع من يهوي من أعلى إلى أسفل، وذلك أشد من مجرد الدخول في الفتنة، ثم توعدهم على ذلك فقال: "وإن جهنم لمحيطة بالكافرين" أي مشتملة عليهم من جميع الجوانب لا يجدون عنها مخلصاً، ولا يتمكنون من الخروج منها بحال من الأحوال. وقد أخرج عبد الرزاق في المصنف وابن جرير عن عمرو بن ميمون قال: اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين، وأخذه من الأسارى، فأنزل الله: "عفا الله عنك لم أذنت لهم". وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عون بن عبد الله قال: سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة، فقال: "عفا الله عنك لم أذنت لهم". وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "عفا الله عنك" الآية قال: ناس قالوا استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا. وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس في قوله: "عفا الله عنك لم أذنت لهم" الثلاث الآيات، قال: نسخها "فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه عنه في قوله: "لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله" الآية. قال: هذا تعبير للمنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد بغير عذر، وعذر الله المؤمنين فقال: "فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم". وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عنه أيضاً في قوله: "لا يستأذنك" الآيتين قال: نسختها الآية التي في سورة النور: "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله" إلى "إن الله غفور رحيم" فجعل الله النبي صلى الله عليه وسلم بأعلى النظرين في ذلك، من غزا غزا في فضيلة، ومن قعد قعد في غير حرج إن شاء الله. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله: "ولكن كره الله انبعاثهم" قال: خروجهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فثبطهم" قال: حبسهم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: "لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً" قال: هؤلاء المنافقون في غزوة تبوك. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ولأوضعوا خلالكم" قال: لأسرعوا بينكم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ولأوضعوا خلالكم" قال: لارفضوا "يبغونكم الفتنة" يبطئونك عبد الله بن نبتل، وعبد الله بن أبي بن سلول، ورفاعة بن تابوت، وأوس بن قيظي "وفيكم سماعون لهم" محدثون لهم بأحاديثكم غير منافقين، وهم عيون للمنافقين. وأخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن ابن عباس قال: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال لجد بن قيس: يا جد بن قيس ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله إني امرؤ صاحب نساء، ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن، فأذن لي ولا تفتني، فأنزل الله: "ومنهم من يقول ائذن لي" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله نحوه. وأخرج ابن مردويه عن عائشة نحوه أيضاً. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا تفتني" قال: لا تخرجني "ألا في الفتنة سقطوا" يعني في الخروج. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "ولا تفتني" قال: لا تؤثمني "ألا في الفتنة" قال: ألا في الإثم، وقصة تبوك مذكورة في كتب الحديث والسير فلا نطول بذكرها.
قوله: 50- "إن تصبك حسنة" أي حسنة كانت بأي سبب اتفق كما يفيده وقوعها في حيز الشرط، وكذلك القول في المصيبة، وتدخل الحسنة والمصيبة الكائنة في القتال كما يفيده السياق دخولاً أولياً، فمن جملة ما تصدق عليه الحسنة الغنيمة والظفر، ومن جملة ما تصدق عليه المصيبة الخيبة والانهزام، وهذا ذكر نوع آخر من خبث ضمائر المنافقين وسوء أفعالهم، والإخبار بعظيم عداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، فإن المساءة بالحسنة، والفرح بالمصيبة من يعظم ما يدل على أنهم في العداوة قد بلغوا إلى الغاية، ومعنى "يتولوا" رجعوا إلى أهلهم عن مقامات الاجتماع ومواطن التحدث حال كونهم فرحين بالمصيبة التي أصابت المؤمنين، ومعنى قولهم: "قد أخذنا أمرنا من قبل" أي احتطنا لأنفسنا وأخذنا بالحزم، فلم نخرج إلى القتال كما خرج المؤمنون حتى نالهم ما نالهم من المصيبة.
ثم لما قالوا هذا القول أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عليهم بقوله: 51- "لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا" أي في اللوح المحفوظ، أو في كتابه المنزل علينا، وفائدة هذا الجواب أن الإنسان إذا علم أن ما قدره الله كائن، وأن كل ما ناله من خير أو شر إنما هو بقدر الله وقضائه هانت عليه المصائب، ولم يجد مرارة شماتة الأعداء وتشفي الحسدة "هو مولانا" أي ناصرنا وجاعل العاقبة لنا ومظهر دينه على جميع الأديان، والتوكل على الله تفويض الأمور إليه، والمعنى: أن من حق المؤمنين أن يجعلوا توكلهم مختصاً بالله سبحانه لا يتوكلون على غيره. وقرأ طلحة بن مصرف "يصيبنا" بتشديد الياء. وقرأ أعين قاضي الري يصيبنا بنون مشددة، وهو لحن لأن الخبر لا يؤك، ورد بمثل قوله تعالى: "هل يذهبن كيده ما يغيظ". وقال الزجاج: معناه لا يصيبنا إلا ما اختصنا الله من النصرة عليكم أو الشهادة.
وعلى هذا القول يكون قوله: 52- "قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين" تكريراً لغرض التأكيد، والأول أولى حتى يكون كل واحد من الجوابين اللذين أمر الله سبحانه رسوله بأن يجيب عليهم بهما مفيداً لفائدة غير فائدة الآخر، والتأسيس خير من التأكيد، ومعنى "هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين" هل تنتظرون بنا إلا إحدى الخصلتين الحسنيين: إما النصرة أو الشهادة، وكلاهما مما يحسن لدينا، والحسنى تأنيث الأحسن، ومعنى الاستفهام التقريع والتوبيخ "ونحن نتربص بكم" إحدى المساءتين لكم: إما "أن يصيبكم الله بعذاب من عنده" أي قارعة نازلة من السماء فيسحتكم بعذابه، "أو" بعذاب لكم "بأيدينا" أي بإظهار الله لنا عليكم بالقتل والأسر والنهب والسبي. والفاء في فتربصوا فصيحة، والأمر للتهديد كما في قوله: "ذق إنك أنت العزيز الكريم" أي تربصوا بنا ما ذكرنا من عاقبتنا فنحن معكم متربصون ما هو عاقبتكم فستنظرون عند ذلك ما يسرنا يسوءكم. وقرأ البزي وابن فليح هل تربصون بإظهار اللام وتشديد التاء. وقرأ الكوفيون بإدغام اللام في التاء. وقرأ الباقون بإظهار اللام وتخفيف التاء.
قوله: 53- "قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم" هذا الأمر معناه الشرط والجزاء، لأن الله سبحانه لا يأمرهم بما لا يتقبله منهم، والتقدير: إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يتقبل منكم، وقيل هو أمر في معنى الخبر: أي أنفقتم طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم، فهو كقوله: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم" وفيه الإشعار بتساوي الأمرين في عدم القبول، وانتصاب طوعاً أو كرهاً على الحال فهما مصدران في موقع المشتقين: أي أنفقوا طائعين في غير أمر من الله ورسوله أو مكرهين بأمر منهما. وسمي الأمر منهما إكراهاً لأنهم منافقون لا يأتمرون بالأمر، فكانوا بأمرهم الذي لا يأتمرون به كالمكرهين على الإنفاق، أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم أو مكرهين منهم، وجملة "إنكم كنتم قوماً فاسقين" تعليل لعدم قبول إنفاقهم. والفسق: التمرد والعتو، وقد سبق بيانه لغة وشرعاً.
ثم بين سبحانه السبب المانع من قبول نفقاتهم فقال: 54- "وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله" أي كفرهم بالله وبرسوله جعل المانع من القبول ثلاثة أمور: الأول: الكفر، الثاني: أنهم لا يصلون في حال من الأحوال إلا في حال الكسل والتثاقل، لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً، فصلاتهم ليست إلا رياء للناس وتظهراً بالإسلام الذي يبطنون خلافه، والثالث: أنهم لا ينفقون أموالهم إلا وهم كارهون، ولا ينفقونها طوعاً لأنهم يعدون إنفاقها وضعاً لها في مضيعة لعدم إيمانهم بما وعد الله ورسوله.