تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 299 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 299

299 : تفسير الصفحة رقم 299 من القرآن الكريم

** وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَعُرِضُواْ عَلَىَ رَبّكَ صَفّاً لّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَن لّن نّجْعَلَ لَكُمْ مّوْعِداً * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَوَيْلَتَنَا مَا لِهَـَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبّكَ أَحَداً
يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة وما يكون فيه من الأمور العظام, كما قال تعالى: {يوم تمور السماء موراً * وتسير الجبال سير} أي تذهب من أماكنها وتزول, كما قال تعالى: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب} وقال تعالى: {وتكون الجبال كالعهن المنفوش} وقال: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً* فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمت} يذكر تعالى أنه تذهب الجبال, وتتساوى المهاد, وتبقى الأرض قاعاً صفصفاً, أي سطحاً مستوياً لا عوج فيه ولا أمتاً, أي لا وادي ولا جبل, ولهذا قال تعالى: {وترى الأرض بارزة} أي بادية ظاهرة ليس فيها معلم لأحد, ولا مكان يواري أحداً, بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية. قال مجاهد وقتادة {وترى الأرض بارزة} لا خَمَر فيها ولا غيابة قال قتادة: لا بناء ولا شجر.
وقوله: {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحد} وأي وجمعناهم الأولين منهم والاَخرين, فلم نترك منهم أحداً لا صغيراً ولا كبيراً, كما قال: {قل إن الأولين والاَخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم} وقال: {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود}. وقوله: {وعرضوا على ربك صف} يحتمل أن يكون المراد أن جميع الخلائق يقومون بين يدي الله صفاً واحداً, كما قال تعالى: {يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواب} ويحتمل أنهم يقومون صفوفاً, كما قال: {وجاء ربك والملك صفاً صف} وقوله: {لقد جئتمونا فُرَادى كما خلقناكم أول مرة} هذا تقريع للمنكرين للمعاد, وتوبيخ لهم على رؤوس الأشهاد, ولهذا قال تعالى مخاطباً لهم: {بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعد} أي ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم, ولا أن هذا كائن.
وقوله: {ووضع الكتاب} أي كتاب الأعمال الذي فيه الجليل والحقير, والفتيل والقطمير, والصغير والكبير, {فترى المجرمين مشفقين مما فيه} أي من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة {ويقولون يا ويلتن} أي يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا {ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاه} أي لا يترك ذنباً صغيراً ولا كبيراً ولا عملاً وإن صغر, إلا أحصاها, أي ضبطها وحفظها. وروى الطبراني بإسناده المتقدم في الاَية قبلها إلى سعد بن جنادة قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين, نزلنا قفراً من الأرض ليس فيه شيء, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجمعوا من وجد عوداً فليأت به, ومن وجد حطباً أو شيئاً فليأت به» قال: فما كان إلا ساعة حتى جعلناه ركاماً, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أترون هذا ؟ فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا, فليتق الله رجل ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة, فإنها محصاة عليه».
وقوله: {ووجدوا ما عملوا حاضر} أي من خير وشر, كما قال تعالى: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضر} الاَية, وقال تعالى: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} وقال تعالى: {يوم تبلى السرائر} أي تظهر المخبآت والضمائر. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو الوليد, حدثنا شعبة عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به» أخرجاه في الصحيحين, وفي لفظ «يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته, يقال هذه غدرة فلان بن فلان».
وقوله: {ولا يظلم ربك أحد} أي فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعاً, ولا يظلم أحداً من خلقه بل يعفو ويصفح ويغفر ويرحم, ويعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله, ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي, ثم ينجي أصحاب المعاصي ويخلد فيها الكافرين, وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم, قال تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفه} الاَية, وقال {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً ـ إلى قوله ـ حاسبين} والاَيات في هذا كثيرة وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, أخبرنا همام بن يحيى عن القاسم بن عبد الواحد المكي, عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم, فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رحلاً, فسرت عليه شهراً حتى قدمت عليه الشام, فإذا عبد الله بن أنيس, فقلت للبواب: قل له جابر على الباب, فقال: ابن عبد الله ؟ قلت نعم, فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته, فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص, فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه, فقال سمعت رسول الله يقول: «يحشر الله عز وجل الناس يوم القيامة ـ أو قال العباد ـ عراة غرلاً بهما» قلت, وما بهما ؟ قال: ليس معهم شيء, ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك, أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه, ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند رجل من أهل النار حق حتى أقصه منه حتى اللطمة «قال: قلنا كيف وإنما نأتي الله عز وجل حفاة عراة غرلاً بهما ؟ قال: «بالحسنات والسيئات».
وعن شعبة عن العوام بن مزاحم عن أبي عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة» رواه عبد الله بن الإمام أحمد, وله شواهد من وجوه أخر, وقد ذكرناها عند قوله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئ} وعند قوله تعالى: {إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون}.

** وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ أَفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً
يقول تعالى منبهاً بني آدم على عدواة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم, ومقرعاً لمن اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه, وهو الذي أنشأه وابتداه وبألطافه رزقه وغذاه, ثم بعد هذا كله والى إبليس وعادى الله, فقال تعالى: {وإذ قلنا للملائكة} أي لجميع الملائكة كما تقدم تقريره في أول سورة البقرة {اسجدوا لاَدم} أي سجود تشريف وتكريم وتعظيم, كما قال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}. وقوله: {فسجدوا إلا إبليس كان من الجن} أي خانه أصله, فإنه خلق من مارج من نار, وأصل خلق الملائكة من نور, كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خلقت الملائكة من نور, وخلق إبليس من مارج من نار, وخلق آدم مما وصف لكم, فعند الحاجة نضح كل وعاء بما فيه, وخانه الطبع عند الحاجة وذلك أنه كان قد توسم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك, فلهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة, ونبه تعالى ههنا على أنه من الجن أي على أنه خلق من نار, كما قال: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} قال الحسن البصري: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط, وإنه لأصل الجن, كما أن آدم عليه السلام أصل البشر, رواه ابن جرير بإسناد صحيح عنه.
وقال الضحاك عن ابن عباس: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن, خلقوا من نار السموم من بين الملائكة, وكان اسمه الحارث, وكان خازناً من خزان الجنة, وخلقت الملائكة من نور غير هذا الحي, قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار, وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وقال الضحاك أيضاً عن ابن عباس: كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة, وكان خازناً على الجنان, وكان له سلطان السماء الدنيا وسلطان الأرض, وكان مما سولت له نفسه من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفاً على أهل السماء, فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله, واستخرج الله ذلك الكبر منه حين أمره بالسجود لاَدم {فاستكبر وكان من الكافرين}.
قال ابن عباس قوله: {كان من الجن} أي من خزان الجنان, كما يقال للرجل مكي ومدني وبصري وكوفي. وقال ابن جريج عن ابن عباس نحو ذلك, وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: هو من خزان الجنة, وكان يدبر أمر السماء الدنيا, رواه ابن جرير من حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد به. وقال سعيد بن المسيب: كان رئيس ملائكة سماء الدنيا, وقال ابن إسحاق عن خلاد بن عطاء عن طاوس عن ابن عباس قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل, وكان من سكان الأرض, وكان من أشد الملائكة اجتهاداً وأكثرهم علماً, فذلك دعاه إلى الكبر, وكان من حي يسمون جناً.
وقال ابن جريج عن صالح مولى التوأمة وشريك بن أبي نمر, أحدهما أو كلاهما عن ابن عباس قال: إن من الملائكة قبيلة من الجن, وكان إبليس منها وكان يسوس ما بين السماء والأرض, فعصى, فسخط الله عليه فمسخه شيطاناً رجيماً, لعنه الله ممسوخاً, قال: وإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه, وإذا كانت في معصية فارجه, وعن سعيد بن جبير أنه قال: كان من الجنانين الذين يعملون في الجنة, وقد روي في هذا آثار كثيرة عن السلف, وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها, والله أعلم بحال كثير منها, ومنها ما قد يقطع بكذبه لمخالفته للحق الذي بأيدينا, وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان, وقد وضع فيها أشياء كثيرة وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين, كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء والسادة والأتقياء والبررة والنجباء من الجهابذة النقاد والحفاظ الجياد الذين دونوا الحديث, وحرروه وبينوا صحيحه من حسنه من ضعيفه من منكره, وموضوعه ومتروكه ومكذوبه, وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين وغير ذلك من أصناف الرجال, كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي خاتم الرسل وسيد البشر صلى الله عليه وسلم أن ينسب إليه كذب أو يحدث عنه بما ليس منه, فرضي الله عنهم وأرضاهم, وجعل جنات الفردوس مأواهم وقد فعل.
وقوله: {ففسق عن أمر ربه} أي فخرج عن طاعة الله, فإن الفسق هو الخروج, يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من أكمامها, وفسقت الفأرة من جحرها إذا خرجت منه للعيث والفساد, ثم قال تعالى مقرعاً وموبخاً لمن اتبعه وأطاعه {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني} الاَية, أي بدلاً عني, ولهذا قال: {بئس للظالمين بدل} وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس {وامتازوا اليوم أيها المجرمون ـ إلى قوله ـ أفلم تكونوا تعقلون}.

** مّآ أَشْهَدتّهُمْ خَلْقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُداً
يقول تعالى: هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني عبيد أمثالكم لا يملكون شيئاً, ولا أشهدتهم خلق السموات والأرض, ولا كانوا إذ ذاك موجودين, يقول تعالى: أنا المستقل بخلق الأشياء كلها ومدبرها ومقدرها وحدي ليس معي في ذلك شريك ولا وزير ولا مشير ولا نظير, كما قال: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيها من شرك وما له منهم من ظهير* ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} الاَية, ولهذا قال: {وما كنت متخذ المضلين عضد} قال مالك: أعواناً.

** وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مّوْبِقاً * وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنّوَاْ أَنّهُمْ مّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً
يقول تعالى مخبراً عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رؤوس الأشهاد تقريعاً لهم وتوبيخاً {نادوا شركائي الذين زعمتم} أي في دار الدنيا ادعوهم اليوم ينقذوكم مما أنتم فيه قال تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون} وقوله: {فدعوهم فلم يستجيبوا لهم} كما قال: {وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم} الاَية, وقال: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له} الاَيتين, وقال تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً* كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضد} وقوله: {وجعلنا بينهم موبق} قال ابن عباس وقتادة وغير واحد: مهلكاً, وقال قتادة: ذكر لنا أن عمر البكائي حدث عن عبد الله بن عمرو قال: هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة. وقال قتادة: موبقاً وادياً في جهنم.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سنان القزاز, حدثنا عبد الصمد, حدثنا يزيد بن درهم, سمعت أنس بن مالك يقول في قول الله تعالى: {وجعلنا بينهم موبق} قال: واد في جهنم من قيح ودم, وقال الحسن البصري: موبقاً عداوة, والظاهر من السياق ههنا أنه المهلك, ويجوز أن يكون وادياً في جهنم أو غيره, والمعنى أن الله تعالى بين أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا, وأنه يفرق بينهم وبينها في الاَخرة, فلا خلاص لأحد من الفريقين إلى الاَخر, بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير. وأما إن جعل الضمير في قوله بينهم عائداً إلى المؤمنين والكافرين كما قال عبد الله بن عمرو إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به, فهو كقوله تعالى: {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون} وقال {يومئذ يصدعون}, وقال تعالى: {وامتازوا اليوم أيها المجرمون}, وقال تعالى: {ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم ـ إلى قوله ـ وضل عنهم ما كانوا يفترون}.
وقوله: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرف} أي أنهم لما عاينوا جهنم حين جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام, مع كل زمام سبعون ألف ملك {فإذا رأى المجرمون النار} تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها, ليكون ذلك من باب تعجيل الهم والحزن لهم, فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز. وقوله: {ولم يجدوا عنها مصرف} أي ليس لهم طريق يعدل بهم عنها ولا بد لهم منها. قال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعمائة سنة». وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينصب الكافر مقدار خمسين ألف سنة, كما لم يعمل في الدنيا, وإن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة».