تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 406 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 406

406 : تفسير الصفحة رقم 406 من القرآن الكريم

** فَسُبْحَانَ اللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَيُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ
هذا تسبيح منه تعالى لنفسه المقدسة, وإرشاد لعباده إلى تسبيحه وتحميده في هذه الأوقات المتعاقبة الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه عند المساء, وهو إقبال الليل بظلامه, وعند الصباح وهو إسفار النهار عن ضيائه. ثم اعترض بحمده مناسبة للتسبيح وهو التحميد, فقال تعالى: {وله الحمد في السموات والأرض} أي هو المحمود على ما خلق في السموات والأرض, ثم قال تعالى: {وعشياً وحين تظهرون} فالعشاء هو شدة الظلام, والإظهار قوة الضياء, فسبحان خالق هذا وهذا, فالق الإصباح, وجاعل الليل سكناً, كما قال تعالى: {والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاه} وقال تعالى: {والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى} وقال تعالى: {والضحى والليل إذا سجى} والاَيات في هذا كثيرة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا زبّان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون, وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون» وقال الطبراني: حدثنا مطلب بن شعيب الأزدي, حدثنا عبد الله بن صالح, حدثني الليث بن سعيد بن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه, عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ومن قال حين يصبح سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون, وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون, الاَية بكمالها أدرك ما فاته في يومه, ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته» إسناد جيد ورواه أبو داود في سننه..
وقوله تعالى: {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} هو ما نحن فيه من قدرته على خلق الأشياء المتقابلة, وهذه الاَيات المتتابعة الكريمة كلها من هذا النمط, فإنه يذكر فيها خلقه الأشياء وأضدادها, ليدل خلقه على كمال قدرته, فمن ذلك إخراج النبات من الحب والحب من النبات, والبيض من الدجاج والدجاج من البيض, والإنسان من النطفة والنطفة من الإنسان, والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن وقوله تعالى: {ويحيي الأرض بعد موته} كقوله تعالى: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون ـ إلى قوله ـ وفجرنا فيها من العيون} وقال تعالى: {وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ـ إلى قوله ـ وأن الله يبعث من في القبور} وقال تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً ـ إلى قوله ـ لعلكم تذكرون} ولهذا قال ههنا {وكذلك تخرجون}.

** وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لّتَسْكُنُوَاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مّوَدّةً وَرَحْمَةً إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ
يقول تعالى: {ومن آياته} الدالة على عظمته وكمال قدرته, أنه خلق أباكم آدم من تراب {ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} فأصلكم من تراب ثم من ماءٍ مهين, ثم تصور فكان علقة ثم مضغة, ثم صار عظاماً شكله على شكل الإنسان, ثم كسا الله تلك العظام لحماً, ثم نفخ فيه الروح فإذا هو سميع بصير, ثم خرج من بطن أمه صغيراً ضعيف القوى والحركة, ثم كلما طال عمره تكاملت قواه وحركاته حتى آل به الحال إلى أن صار يبني المدائن والحصون, ويسافر في أقطار الأقاليم, ويركب متن البحور, ويدور أقطار الأرض, ويتكسب ويجمع الأموال, وله فكرة وغور ودهاء ومكر ورأي وعلم واتساع في أمور الدنيا والاَخرة كل بحسبه, فسبحان من أقدرهم وسيرهم وسخرهم وصرفهم في فنون المعايش والمكاسب, وفاوت بينهم في العلوم والفكر, والحسن والقبح, والغنى والفقر, والسعادة والشقاوة, ولهذا قال تعالى: {ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد وغندر قالا: حدثنا عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض, فجاء بنو آدم على قدر الأرض, جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك, والخبيث والطيب, والسهل والحزن وبين ذلك» ورواه أبو داود والترمذي من طرق عن عوف الأعرابي به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقوله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواج} أي خلق لكم من جنسكم إناثاً يكن لكمأزواجاً {لتسكنوا إليه} كما قال تعالى: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليه} يعني بذلك حواء, خلقها الله من آدم من ضلعه الأقصر الأيسر, ولو أنه تعالى جعل بني آدم كلهم ذكوراً وجعل إناثهم من جنس آخر إما من جان أو حيوان, لما حصل هذا الإئتلاف بينهم وبين الأزواج, بل كانت تحصل نفرة لو كانت الأزواج من غير الجنس, ثم من تمام رحمته ببني آدم أن جعل أزواجهم من جنسهم, وجعل بينهم وبينهن مودة وهي المحبة, ورحمة وهي الرأفة, فإن الرجل يمسك المرأة إنما لمحبته لها أو لرحمة بها بأن يكون لها منه ولد, أو محتاجة إليه في الإنفاق أو للألفة بينهما وغير ذلك {إن في ذلك لاَيات لقوم يتفكرون}.

** وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّلْعَالَمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالْلّيْلِ وَالنّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مّن فَضْلِهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
يقول تعالى: {ومن آياته} الدالة على قدرته العظيمة {خلق السموات والأرض} أي خلق السموات في ارتفاعها واتساعها, وسقوف أجرامها, وزهارة كواكبها ونجومها الثوابت والسيارات, والأرض في انخفاضها وكثافتها, وما فيها من جبال وأودية وبحار, وقفار وحيوان وأشجار. وقوله تعالى: {واختلاف ألسنتكم} يعني اللغات, فهؤلاء بلغة العرب, وهؤلاء تتر لهم لغة أخرى, وهؤلاء كرج, وهؤلاء روم, وهؤلاء فرنج وهؤلاء بربر, وهؤلاء تكرور, وهؤلاء حبشة, وهؤلاء هنود, وهؤلاء عجم, وهؤلاء صقالبة, وهؤلاء خزر, وهؤلاء أرمن, وهؤلاء أكراد, إلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى من اختلاف لغات بني آدم واختلاف ألوانهم وهي حلاهم, فجميع أهل الأرض بل أهل الدنيا منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة كل له عينان وحاجبان وأنف وجبين وفم وخدان, وليس يشبه واحد منهم الاَخر, بل لا بد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو الكلام ظاهراً كان أو خفياً يظهر عند التأمل, كل وجه منهم أسلوب بذاته وهيئته لا تشبه أخرى, ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح لا بد من فارق بين كل واحد منهم وبين الاَخر {إن في ذلك لاَيات للعالمين * ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله} أي ومن الاَيات ما جعل الله من صفة النوم في الليل والنهار, فيه تحصل الراحة وسكون الحركة وذهاب الكلال والتعب. وجعل لكم الانتشار والسعي في الأسباب والأسفار في النهار وهذا ضد النوم {إن في ذلك لاَيات لقوم يسمعون} أي يعون.
قال الطبراني: حدثنا حجاج بن عمران السدوسي, حدثنا عمرو بن الحصين العقيلي, حدثنا محمد بن عبد الله بن علاثة, حدثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان, سمعت عبد الملك بن مروان يحدث عن أبيه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أصابني أرق من الليل, فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال {قل اللهم غارت النجوم, وهدأت العيون, وأنت حي قيوم يا حي يا قيوم, أنم عيني وأهدىء ليلي} فقلتها, فذهب عني.

** وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزّلُ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السّمَآءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الأرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ
يقول تعالى: {ومن آياته} الدالة على عظمته أنه {يريكم البرق خوفاً وطمع} أي تارة تخافون مما يحدث بعده من أمطار مزعجة وصواعق متلفة, وتارة ترجون وميضه وما يأتي بعده من المطر المحتاج إليه, ولهذا قال تعالى: {وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موته} أي بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء, فلما جاءها الماء {اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} وفي ذلك عبرة ودلالة واضحة على المعاد وقيام الساعة, ولهذا قال {إن في ذلك لاَيات لقوم يعقلون} ثم قال تعالى: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} كقوله تعالى: {ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه} وقوله {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزول}. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا اجتهد في اليمين يقول: لا والذي تقوم السماء والأرض بأمره, أي هي قائمة ثابتة بأمره لها وتسخيره إياها, ثم إذا كان يوم القيامة بدلت الأرض غير الأرض والسموات, وخرجت الأموات من قبورها أحياء بأمره تعالى ودعائه إياهم, ولهذا قال تعالى: {ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} كما قال تعالى: {يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليل} وقال تعالى: {فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة} وقال تعالى: {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون}.