تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 43 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 43

43 : تفسير الصفحة رقم 43 من القرآن الكريم

** اللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَالّذِينَ كَفَرُوَاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مّنَ النّورِ إِلَى الظّلُمَاتِ أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام, فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير, وأن الكافرين إنما وليهم الشيطان, يزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات, ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} ولهذا وحد تعالى لفظ النور, وجمع الظلمات, لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة ولكنها باطلة, كما قال {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه, ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} وقال تعالى {وجعل الظلمات والنور} وقال تعالى: {عن اليمين والشمآئل} إلى غير ذلك من الاَيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق وانتشار الباطل وتفرده وتشعبه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن ميسرة, حدثنا عبد العزيز بن أبي عثمان, عن موسى بن عبيدة, عن أيوب بن خالد, قال: يبعث أهل الأهواء, أو قال: تبعث أهل الفتن, فمن كان هواه الإيمان, كانت فتنته بيضاء مضيئة, ومن كان هواه الكفر, كانت فتنته سوداء مظلمة, ثم قرأ هذه الاَية {الله ولي الذي آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.

** أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّيَ الّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِالشّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ
هذا الذي حاج إبراهيم في ربه هو ملك بابل نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ويقال نمرود بن فالخ بن عبار بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح, والأول قول مجاهد وغيره, قال مجاهد: وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة: مؤمنان وكافران, فالمؤمنان سليمان بن داود, وذو القرنين, والكافران: نمرود وبختنصر, والله أعلم. ومعنى قوله: {ألم تر} أي بقلبك يا محمد {إلى الذي حاج إبراهيم في ربه}, أي وجود ربه, وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره, كما قال بعده فرعون لملئه {ما علمت لكم من إله غيري}. وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة, إلا تجبره, وطول مدته في الملك, وذلك أنه يقال: أنه مكث أربعمائة سنة في ملكه, ولهذا قال: {أن آتاه الله الملك} وكان طلب من إبراهيم دليلاً, على وجود الرب الذي يدعو إليه, فقال إبراهيم {ربي الذي يحيي ويميت} أي إنما الدليل على وجوده, حدوث هذه الأشياء, المشاهدة بعد عدمها, وعدمها بعد وجودها, وهذا دليل على وجود الفاعل المختار, ضرورة, لأنها لم تحدث بنفسها, فلا بد لها من موجد أوجدها, وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له. فعند ذلك قال المحاج ـ وهو النمرود ـ {أنا أحيي وأميت}. قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي, وغير واحد: وذلك أني أوتى بالرجلين, قد استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما ـ فيقتل, وآمر بالعفو عن الاَخر فلا يقتل, فذلك معنى الإحياء والإماتة ـ والظاهر والله أعلم ـ أنه ما أراد هذا لأنه ليس جواباً لما قال إبراهيم, ولا في معناه لأنه غير مانع لوجود الصانع, وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عناداً ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك, وأنه هو الذي يحيي ويميت, كما اقتدى به فرعون في قوله {ما علمت لكم من إله غيري} ولهذا قال له إبراهيم, لما ادعى هذه المكابرة: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} أي إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت, فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته, فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق, فإن كنت إلهاً كما ادعيت تحيي وتميت, فأت بها من المغرب ؟ فلما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام, بهت, أي أخرس, فلا يتكلم, وقامت عليه الحجة, قال الله تعالى: {والله لا يهدي القوم الظالمين} أي لا يلهمهم حجة ولا برهاناً, بل حجتهم داحضة عند ربهم, وعليهم غضب, ولهم عذاب شديد, وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين, إن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى أوضح منه, ومنهم من قد يطلق عبارة رويةً ترديه وليس كما قالوه, بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني, ويبين بطلان ما ادعاه نمرود في الأول والثاني, ولله الحمد والمنة. وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة. كانت بين إبراهيم ونمرود بعد خروج إبراهيم من النار, ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة. وروى عبد الرزاق عن معمر, عن زيد بن أسلم أن النمرود كان عنده طعام وكان الناس يغدون إليه للميرة, فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة, فكان بينهما هذه المناظرة, ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس, بل خرج وليس معه شيء من الطعام, فلما قرب من أهله, عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه, وقال: أشغل أهلي عني إذا قدمت عليهم, فلما قدم وضع رحاله, وجاء فاتكأ فنام, فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملاَنين طعاماً طيباً, فعملت طعاماً, فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه, فقال: أنى لك هذا ؟ قالت: من الذي جئت به, فعلم أنه رزق رزقهم الله عز وجل. قال زيد بن أسلم: وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكاً, يأمره بالإيمان بالله, فأبى عليه, ثم دعاه الثانية فأبى ثم الثالثة فأبى, وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي, فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس, وأرسل الله عليهم باباً من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس, وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم, وتركتهم عظاما بادية, ودخلت واحدة منها في منخري الملك, فمكثت في منخري الملك أربعمائة سنة, عذبه الله بها, فكان يضرب برأسه بالمرازب في هذه المدة, حتى أهلكه الله بها.

** أَوْ كَالّذِي مَرّ عَلَىَ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىَ عُرُوشِهَا قَالَ أَنّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَىَ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إِلَىَ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
تقدم قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين حاج إبراهيم في ربه} وهو في قوة قوله: هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه, ولهذا عطف عليه بقوله {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشه} اختلفوا في هذا المار من هو, فروى ابن أبي حاتم, عن عصام بن رواد, عن آدم بن أبي إياس, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن ناجية بن كعب, عن علي بن أبي طالب, أنه قال: هو عزير. ورواه ابن جرير عن ناجية نفسه, وحكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وسليمان بن بريدة, وهذا القول هو المشهور وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد, هو أرميا بن حلقيا. قال محمد بن إسحاق, عمن لا يتهم عن وهب بن منبه, أنه قال: هو اسم الخضر عليه السلام. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: سمعت سليمان بن محمد اليساري الجاري من أهل الجاري ابن عم مطرف, قال سمعت سلمان يقول: إن رجلاً من أهل الشام يقول: إن الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه اسمه حزقيل بن بوار. وقال مجاهد بن جبر: هو رجل من بني إسرائيل, وأما القرية فالمشهور أنها بيت المقدس, مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها {وهي خاوية} أي ليس فيها أحد, من قولهم خوت الدار تخوي خوياً.
ـ و قوله {على عروشه} أي ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها, فوقف متفكراً فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة, وقال {أنى يحيى هذه الله بعد موتها ؟} وذلك لما رآى من دثورها وشدة خرابها وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه, قال الله تعالى: {فأماته الله مائة عام ثم بعثه} قال: وعمرت البلاد بعد مضي سبعين سنة من موته, وتكامل ساكنوها, وتراجع بنو إسرائيل إليها, فلما بعثه الله عز وجل بعد موته, كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه: كيف يحي بدنه, فلما استقل سوياً (قال) الله له, أي بواسطة الملك: {كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم} قال: وذلك أنه مات أول النهار, ثم بعثه الله في آخر النهار, فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم, فقال {أو بعض يوم, قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} وذلك أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير, فوجده كما تقدم لم يتغير منه شيء, لا العصير استحال, ولا التين حمض ولا أنتن, ولا العنب نقص {وانظر إلى حمارك} أي كيف يحييه الله عز وجل, وأنت تنظر {ولنجعلك آية للناس} أي دليلاً على المعاد {وانظر إلى العظام كيف ننشزه} أي نرفعها, فيركب بعضها على بعض. وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث نافع بن أبي نعيم عن إسماعيل بن حكيم, عن خارجة بن زيد بن ثابت, عن أبيه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {كيف ننشزه} بالزاي ثم قال: صحيح الإسناد. ولم يخرجاه. وقرىء {ننشره} أي نحييها, قاله مجاهد {ثم نكسوها لحم}. وقال السدي وغيره تفرقت عظام حماره حوله يميناً ويساراً, فنظر إليها وهي تلوح من بياضها, فبعث الله ريحاً فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة, ثم ركب كل عظم في موضعه حتى صار حماراً قائماً من عظام لا لحم عليها, ثم كساها الله لحماً وعصباً وعروقاً وجلداً, وبعث الله ملكا فنفخ في منخري الحمار, فنهق بإذن الله عز وجل, وذلك كله بمرأى من العزيز, فعند ذلك لما تبين له هذا كله {قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} أي أنا عالم بهذا, وقد رأيته عيانا, فأنا أعلم أهل زماني بذلك, وقرأ آخرون «قال اعلم» على أنه أمر له بالعلم.