تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 483 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 483

483 : تفسير الصفحة رقم 483 من القرآن الكريم

سورة الشورى
وهي مكية بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** حـمَ * عَسَقَ * كَذَلِكَ يُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَلِيّ العَظِيمُ * تَكَادُ السّمَاوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِن فَوْقِهِنّ وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرْضِ أَلاَ إِنّ اللّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ * وَالّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ اللّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة. وقد روى ابن جرير ههنا أثراً غريباً عجيباً منكراً فقال: أخبرنا أحمد بن زهير حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج عن أرطأة بن المنذر قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال له وعنده حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه: أخبرني عن تفسير قول الله تعالى: {حم, عسق} قال فأطرق ثم أعرض عنه ثم كرر مقالته فأعرض عنه فلم يجبه بشيء وكره مقالته, ثم كررها الثالثة فلم يحر إليه شيئاً فقال له حذيفة رضي الله عنه: أنا أنبئك بها قد عرفت لم كرهها ونزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبد الإله أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق تبنى عليه مدينتان يشق النهر بينهما شقاً فإذا أذن الله تبارك وتعالى في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله عز وجل على إحداها ناراً ليلاً فتصبح سوداء مظلمة وقد احترقت كأنها لم تكن مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت ؟ فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ثم يخسف الله بها وهم جميعاً فذلك قوله تعالى: {حم, عسق} يعني عزيمة من الله تعالى وفتنة وقضاء حم عين يعني عدلاً منه سين: يعني سيكون ق: يعني واقع بهاتين المدينتين وأغرب منه ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في الجزء الثاني من مسند ابن عباس رضي الله عنه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ولكن إسناده ضعيف جداً ومنقطع فإنه قال: حدثنا أبو طالب عبد الجبار بن عاصم حدثنا أبو عبد الله الحسن بن يحيى الخشني الدمشقي عن أبي معاوية قال: صعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه المنبر فقال: أيها الناس هل سمع منكم أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر {حم, عسق} فوثب ابن عباس رضي الله عنه فقال أنا, قال حم اسم من أسماء الله تعالى, قال فعين ؟ قال عاين المولون عذاب يوم بدر, قال فسين ؟ قال سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون, قال فقاف ؟ فسكت فقام أبو ذر ففسر كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وقال قاف قارعة من السماء تغشى الناس. وقوله عز وجل: {كذلك يوحي إليك, وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم} أي كما أنزل إليك هذا القرآن كذلك أنزل الكتب والصحف على الأنبياء قبلك. وقوله تعالى: { الله العزيز} أي في انتقامه {الحكيم} في أقواله وأفعاله.
قال الإمام مالك رحمه الله عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال, وأحياناً يأتيني الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة رضي الله عنها فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه صلى الله عليه وسلم ليتفصد عرقاً. أخرجاه في الصحيحين ولفظه للبخاري. وقد رواه الطبراني عن عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه عن عامر بن صالح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن الحارث بن هشام أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف ينزل عليك الوحي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «في مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال ـ وقال ـ وهو أشده علي ـ قال ـ وأحياناً يأتيني الملك فيتمثل لي فيكلمني فأعي ما يقول». وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله هل تحس بالوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض» تفرد به أحمد, وقد ذكرنا كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول شرح البخاري بما أغنى عن إعادته ههناو لله الحمد والمنة. وقوله تبارك وتعالى: {له ما في السموات وما في الأرض} أي الجميع عبيد له وملك له تحت قهره وتصريفه {وهو العلي العظيم} كقوله تعالى: {الكبير المتعال} {وهو العلي الكبير} والاَيات في هذا كثيرة. وقوله عز وجل: {تكاد السموات يتفطرن من فوقهن} وقال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك وقتادة والسدي وكعب الأحبار أي فرقاً من العظمة {والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض} كقوله جل وعلا: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلم} وقوله جل جلاله: {ألا إن الله هو الغفور الرحيم} إعلام بذلك وتنويه به, وقوله سبحانه وتعالى: {والذين اتخذوا من دونه أولياء} يعني المشركين {الله حفيظ عليهم} أي شهيد على أعمالهم يحصيها ويعدها عداً, وسيجزيهم بها أوفر الجزاء {وما أنت عليهم بوكيل} أي إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل.

** وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّتُنذِرَ أُمّ الْقُرَىَ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنّةِ وَفَرِيقٌ فِي السّعِيرِ * وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَـَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظّالِمُونَ مَا لَهُمْ مّن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ
يقول تعالى وكما أوحينا إلى الأنبياء قبلك {أوحينا إليك قرآناً عربي} أي واضحاً جلياً بيناً {لتنذر أم القرى} وهي مكة {ومن حوله} أي من سائر البلاد شرقاً وغرباً, وسميت مكة أم القرى لأنها أشرف من سائر البلاد لأدلة كثيرة مذكورة في مواضعها, ومن أوجز ذلك وأدله ما قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: إن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف بالحزورة في سوق مكة «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» هكذا رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث الزهري به وقال الترمذي حسن صحيح. وقوله عز وجل: {وتنذر يوم الجمع} وهو يوم القيامة يجمع الله الأولين والاَخرين في صعيد واحد وقوله تعالى: {لا ريب فيه} أي لا شك في وقوعه وأنه كائن لا محالة, وقوله جل وعلا: {فريق في الجنة وفريق في السعير} كقوله تعالى: {يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن} أي يغبن أهل الجنة أهل النار, وكقوله عز وجل: {إن في ذلك لاَية لمن خاف عذاب الاَخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود * وما نؤخره إلا لأجل معدود * يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد} قال الإمام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا ليث حدثني أبو قبيل المعافري عن شفي الأصبحي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: «أتدرون ما هذان الكتابان ؟» قلنا لا إلا أن تخبرنا يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم للذي في يمينه: «هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ـ ثم أجمل على آخرهم ـ لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً ـ ثم قال صلى الله عليه وسلم للذي في يساره: هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم)أبداً» فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأي شيء نعمل إن كان هذا الأمر قد فرغ منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل, وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل» ثم قال صلى الله عليه وسلم بيده فقبضها ثم قال «فرغ ربكم عز وجل من العباد ـ ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال فريق في الجنة ـ ونبذ باليسرى وقال ـ فريق في السعير» وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعاً عن قتيبة عن الليث بن سعد وبكر بن مضر كلاهما عن أبي قبيل عن شفي بن مانع الأصبحي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما به, وقال الترمذي حسن صحيح غريب وساقه البغوي في تفسيره من طريق بشر بن بكر عن سعيد بن عثمان عن أبي الزاهرية عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بنحوه وعنده زيادات منها ـ ثم قال: فريق في الجنة وفريق في السعير عدل من الله عز وجل ـ ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عن الليث به ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن أبي قبيل عن شفي عن رجل من الصحابة رضي الله عنهم فذكره.
ثم روي عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث وحيوة بن شريح عن يحيى بن أبي أسيد أن أبا فراس حدثه أنه سمع عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: إن الله تعالى يقول: إن الله تعالى لما خلق آدم نفضه نفض المزود وأخرج منه كل ذريته فخرج أمثال النغف فقبضهم قبضتين ثم قال شقي وسعيد ثم ألقاهما ثم قبضهما فقال فريق في الجنة وفريق في السعير وهذا الموقوف أشبه بالصواب والله سبحانه وتعالى أعلم. وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد يعني ابن سلمة أخبرنا الحريري عن أبي نضرة قال: إن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له أبو عبد الله دخل عليه أصحابه يعني يزورونه فوجدوه يبكي, فقالوا له ما يبكيك ؟ ألم يقل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ من شاربك ثم أفره حتى تلقاني, قال بلى ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى قبض بيمينه قبضة وأخرى باليد الأخرى قال هذه لهذه وهذه لهذه ولا أبالي» فلا أدري في أي القبضتين أنا وأحاديث القدر في الصحاح والسنن والمسانيد كثيرة جداً منها حديث علي وابن مسعود وعائشة وجماعة جمة رضي الله عنهم أجمعين. وقوله تبارك وتعالى: {ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة} أي إما على الهداية أو على الضلالة ولكنه تعالى فاوت بينهم فهدى من يشاء إلى الحق وأضل من يشاء عنه وله الحكمة والحجة البالغة ولهذا قال عز وجل: {ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير}.
وقال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارس عن أبي سويد أنه حدثه عن ابن حجيرة أنه بلغه أن موسى عليه الصلاة والسلام قال: يا رب خلقك الذين خلقتهم جعلت منهم فريقاً في الجنة وفريقاً في النار لو ما أدخلتهم كلهم الجنة فقال يا موسى ارفع درعك فرفع قال قد رفعت قال ارفع فرفع فلم يترك شيئاً قال يا رب قد رفعت قال ارفع قال قد رفعت إلا ما لا خير فيه قال كذلك أدخل خلقي كلهم الجنة إلا ما لا خير فيه.