تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 495 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 495

495 : تفسير الصفحة رقم 495 من القرآن الكريم

** إِنّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنّمَ خَالِدُونَ * لاَ يُفَتّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـَكِن كَانُواْ هُمُ الظّالِمِينَ * وَنَادَوْاْ يَمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبّكَ قَالَ إِنّكُمْ مّاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقّ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوَاْ أَمْراً فَإِنّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنّا لاَ نَسْمَعُ سِرّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىَ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ
لما ذكر تعالى حال السعداء ثنى بذكر الأشقياء فقال: {إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون * لا يفتر عنهم} أي ساعة واحدة {وهم فيه مبسلون} أي آيسون من كل خير. {وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} أي بأعمالهم السيئة بعد قيام الحجة عليهم. وإرسال الرسل إليهم, فكذبوا وعصوا فجوزوا بذلك جزاء وفاقاً وما ربك بظلام للعبيد. {ونادوا يا مالك} وهو خازن النار. قال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك} أي يقبض أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه فإنهم كما قال تعالى: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابه} وقال عز وجل: {ويتجنبها الأشقى * الذي يصلى النار الكبرى * ثم لا يموت فيها ولا يحي} فلما سألوا أن يموتوا أجابهم مالك {قال إنكم ماكثون} قال ابن عباس: مكث ألف سنة ثم قال: إنكم ماكثون رواه ابن أبي حاتم أي لا خروج لكم منها ولا محيد لكم عنها ثم ذكر سبب شقوتهم, وهو مخالفتهم للحق ومعاندتهم له فقال: {لقد جئناكم بالحق} أي بيناه لكم ووضحناه وفسرناه {ولكن أكثركم للحق كارهون} أي ولكن كانت سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه, وإنما تنقاد للباطل وتعظمه, وتصد عن الحق وتأباه وتبغض أهله, فعودوا على أنفسكم بالملامة. واندموا حيث لا تنفعكم الندامة, ثم قال تبارك وتعالى: {أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون} قال مجاهد: أرادوا كيد شر, فكدناهم وهذا الذي قاله مجاهد كما قال تعالى: {ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون} وذلك لأن المشركين كانوا يتحيلون في رد الحق بالباطل بحيل ومكر يسلكونه, فكادهم الله تعالى ورد وبال ذلك عليهم, ولهذا قال: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم} أي سرهم وعلانيتهم {بلى ورسلنا لديهم يكتبون} أي نحن نعلم ما هم عليه والملائكة أيضاً يكتبون أعمالهم صغيرها وكبيرها.

** قُلْ إِن كَانَ لِلرّحْمَـَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوّلُ الْعَابِدِينَ * سُبْحَانَ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتّىَ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الّذِي يُوعَدُونَ * وَهُوَ الّذِي فِي السّمآءِ إِلَـَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَـَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الّذِي لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلاَ يَمْلِكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشّفَاعَةَ إِلاّ مَن شَهِدَ بِالْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنّ اللّهُ فَأَنّىَ يُؤْفَكُونَ * وَقِيلِهِ يَرَبّ إِنّ هَـَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاّ يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
يقول تعالى: {قل} يا محمد {إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} أي لو فرض هذا لعبدته على ذلك, لأني عبد من عبيده مطيع لجميع ما يأمرني به ليس عندي استكبار ولا إباء عن عبادته, فلو فرض هذا لكان هذا, ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضاً كما قال عز وجل: {لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هوالله الواحد القهار} وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {فأنا أول العابدين} أي الاَنفين, ومنهم سفيان الثوري والبخاري, حكاه فقال ويقال أول العابدين الجاحدين من عَبِد يعْبَد, وذكر ابن جرير لهذا القول من الشواهد ما رواه عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب, حدثني ابن أبي ذئب عن أبي قسيط عن بعجة بن زيد الجهني أن امرأة منهم دخلت على زوجها وهو رجل منهم أيضاً, فولدت له في ستة أشهر فذكر ذلك زوجها لعثمان بن عفان رضي الله عنه, فأمر بها أن ترجم, فدخل عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: إن الله تعالى يقول في كتابه {وحمله وفصاله ثلاثون شهر} وقال عز وجل: {وفصاله في عامين} قال: فو الله ما عبد عثمان رضي الله عنه أن بعث إليها ترد, قال يونس: قال ابن وهب: عبد استنكف. وقال الشاعر:
ة متى ما يشأ ذو الود يصرم خليلهويعبد عليه لا محالة ظالما
وهذا القول فيه نظر لأنه كيف يلتئم مع الشرط فيكون تقديره إن كان هذا فأنا ممتنع منه ؟ هذا فيه نظر فليتأمل اللهم إلا أن يقال: أن إنْ ليست شرطاً وإنما هي نافية, كما قال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {قل إن كان للرحمن ولد} يقول: لم يكن للرحمن ولد, فأنا أول الشاهدين. وقال قتادة هي كلمة من كلام العرب {إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} أي إن ذلك لم يكن فلا ينبغي, وقال أبو صخر {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} أي فأنا أول من عبده بأن لا ولد له, وأول من وحده, وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وقال مجاهد {فأنا أول العابدين} أي أول من عبده ووحده وكذبكم, وقال البخاري {فأنا أول العابدين} الاَنفين وهما لغتان رجل عابد وعبد, والأول أقرب على أنه شرط وجزاء ولكن هو ممتنع, وقال السدي {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} يقول : لو كان له ولد كنت أول من عبده بأن له ولداً ولكن لا ولد له, وهو اختيار ابن جرير ورد قول من زعم أن إنْ نافية. ولهذا قال تعالى: {سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون} أي تعالى وتقدس وتنزه خالق الأشياء عن أن يكون له ولد فإنه فرد أحد صمد, لا نظير له ولا كفء له فلا ولد له.
وقوله تعالى: {فذرهم يخوضو} أي في جهلهم وضلالهم {ويلعبو} في دنياهم {حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون} وهو يوم القيامة أي فسوف يعلمون كيف يكون مصيرهم ومآلهم وحالهم في ذلك اليوم قوله تبارك وتعالى: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} أي هو إله من في السماء وإله من في الأرض يعبده أهلها وكلهم خاضعون له أذلاء بين يديه {وهو الحكيم العليم} وهذه الاَية كقوله سبحانه وتعالى: {وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون} أي هو المدعو الله في السموات والأرض {وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهم} أي هو خالقها ومالكها, والمتصرف فيها بلا مدافعة ولا ممانعة, فسبحانه وتعالى عن الولد وتبارك, أي استقر له السلامة من العيوب والنقائص, لأنه الرب العلي العظيم المالك للأشياء الذي بيده أزمة الأمور نقضاً وإبراماً. {وعنده علم الساعة} أي لا يجليها لوقتها إلا هو {وإليه ترجعون} أي فيجازي كلاً بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر. ثم قال تعالى: {ولا يملك الذين يدعون من دونه} أي من الأصنام والأوثان {الشفاعة} أي لا يقدرون على الشفاعة لهم {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} هذا استثناء منقطع. أي لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم, فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له. ثم قال عز وجل: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون} أي ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره {من خلقهم ليقولن الله} أي هم يعترفون أنه الخالق للأشياء جميعها وحده لا شريك له في ذلك, ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك شيئاً ولا يقدر على شيء, فهم في ذلك في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقل. ولهذا قال تعالى: {فأنى يؤفكون}.
وقوله جل وعلا: {وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون} أي وقال محمد صلى الله عليه وسلم, قيله أي شكا إلى ربه شكواه من قومه الذين كذبوه فقال يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون, كما أخبر تعالى في الاَية الأخرى: {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجور} وهذا الذي قلناه هو قول ابن مسعود رضي الله عنه ومجاهد وقتادة, وعليه فسر ابن جرير, قال البخاري: وقرأ عبد الله يعني ابن مسعود رضي الله عنه {وقال الرسول يا رب} وقال مجاهد في قوله: {وقيله يا رب إن هؤلاء لا يؤمنون} قال يؤثر الله عز وجل قول محمد صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: هو قول نبيكم صلى الله عليه وسلم يشكو قومه إلى ربه عز وجل. ثم حكى ابن جرير في قوله تعالى: {وقيله يا رب} قراءتين إحداهما النصب, ولها توجيهان: أحدهما أنه معطوف على قوله تبارك وتعالى: {نسمع سرهم ونجواهم} والثاني أن يقدر فعل وقال قيله, والثانية الخفض وقيله عطفاً على قوله: {وعنده علم الساعة} وتقديره وعلم قيله. وقوله تعالى: {فاصفح عنهم} أي المشركين {وقل سلام} أي لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السيء, ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلاً وقولاً {فسوف يعلمون} هذا تهديد من الله تعالى لهم, ولهذا أحلّ بهم بأسه الذي لا يرد وأعلى دينه وكلمته, وشرع بعد ذلك الجهاد والجلاد حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً, وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب والله أعلم. آخر تفسير سورة الزخرف.