تفسير الطبري تفسير الصفحة 495 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 495
496
494
 الآية : 74-76
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنّمَ خَالِدُونَ * لاَ يُفَتّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـَكِن كَانُواْ هُمُ الظّالِمِينَ }.
يقول تعالى ذكره إنّ المُجْرِمِينَ وهم الذين اجترموا في الدنيا الكفر بالله, فاجترموا به في الاَخرة فِي عَذَابِ جَهَنّمَ خالِدُونَ يقول: هم فيه ماكثون, لا يُفتّر عنهم, يقول: لا يخفف عنهم العذاب وأصل الفتور: الضعف وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ يقول: وهم في عذاب جهنم مبلسون, والهاء في فيه من ذكر العذاب. ويُذكر أن ذلك في قراءة عبدالله: «وَهُمْ فِيها مُبْلِسُونَ» والمعنى: وهم في جهنم مبلسون, والمبلس في هذا الموضع: هو الاَيس من النجاة الذي قد قنط فاستسلم للعذاب والبلاء. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23958ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ: أي مستسلمون.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قوله: وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ قال: آيسون. وقال آخرون بما:
23959ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَهُمْ فِيهِ مُبْلسونَ متغير حالهم.
وقد بيّنا فيما مضى معنى الإبلاس بشواهده, وذكر المختلفين فيه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلَكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ يقول تعالى ذكره: وما ظلمنا هؤلاء المجرمين بفعلنا بهم ما أخبرناكم أيها الناس أنا فعلنا بهم من التعذيب بعذاب جهنم وَلَكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ بعبادتهم في الدنيا غير من كان عليهم عبادته, وكفرهم بالله, وجحودهم توحيده.
الآية : 77-78
القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَادَوْاْ يَمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبّكَ قَالَ إِنّكُمْ مّاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقّ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ونادى هؤلاء المجرمون بعد ما أدخلهم الله جهنم, فنالهم فيها من البلاء ما نالهم, مالكا خازن جهنم يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبّكَ قال: ليمتنا ربك, فيفرغ من إماتتنا, فذكر أن مالكا لا يجيبهم في وقت قيلهم له ذلك, ويدعهم ألف عام بعد ذلك, ثم يجيبهم, فيقول لهم: إنّكُمْ ماكِثُونَ. ذكر من قال ذلك: 23960ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن عطاء بن السائب, عن أبي الحسن, عن ابن عباس وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبّكَ, فأجابهم بعد ألف سنة إنّكُمْ ماكِثونَ.
23961ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء بن السائب, عن رجل من جيرانه يقال له الحسن, عن نوف في قوله: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبّكَ قال: يتركهم مئة سنة مما تعدّون, ثم يناديهم فيقول: يا أهل النار إنكم ماكثون.
23962ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا ابن أبي عديّ, عن سعيد, عن قتادة, عن عبد الله بن عمرو, قال: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْض عَلَيْنَا رَبّكَ قال: فخلى عنهم أربعين عاما لا يجيبهم, ثم أجابهم: إنّكمْ ماكِثُونَ: قالُوا رَبّنا أخْرِجْنا مِنْها فإنْ عُدْنا فإنّا ظالِمُونَ فخلى عنهم مثلي الدنيا, ثم أجابهم: اخْسَئُوا فِيها وَلا تُكَلّمُونِ قال: فوالله ما نبس القوم بعد الكلمة, إن كان إلا الزفيرُ والشهيق.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن أبي أيوب الأزدي, عن عبد الله بن عمرو, قال: إن أهل جهنم يدعون مالكا أربعين عاما فلا يجيبهم, ثم يقول: إنّكُمْ ماكِثُونَ, ثم ينادون ربهم رَبّنا أخْرِجْنا مِنْها فإنْ عُدْنا فإنّا ظالِمُونَ فيدعهم أو يخلي عنهم مثل الدنيا, ثم يردّ عليهم اخْسَئُوا فِيها وَلا تُكَلّمُون قال: فما نبس القوم بعد ذلك بكلمة إن كان إلا الزفيرُ والشهيق في نار جهنم.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو, عن عطاء, عن الحسن, عن نوف وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبّكَ قال: يتركهم مئة سنة مما تعدّون, ثم ناداهم فاستجابوا له, فقال: إنكم ماكثون.
23963ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط عن السديّ, في قوله: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبّكَ قال: مالك خازن النار, قال: فمكثوا ألف سنة مما تعدّون, قال: فأجابهم بعد ألف عام: إنكم ماكثون.
23964ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله تعالى ذكره: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبّكَ قال: يميتنا, القضاء ههنا الموت, فأجابهم إِنّكُمْ مَاكِثُونَ.
وقوله: لَقَدْ جِئْناكُمْ بالحَقّ يقول: لقد أرسلنا إليكم يا معشر قريش رسولنا محمدا بالحق. كما:
23965ـ حدثني محمد, قال: حدثنا أحمد, حدثنا أسباط, عن السديّ, لَقَدْ جِئْناكُمْ بالْحَقّ, قال: الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وَلَكِنّ أكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كارِهُونَ يقول تعالى ذكره: ولكن أكثرهم لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الحقّ كارهون.
الآية : 79-80
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوَاْ أَمْراً فَإِنّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنّا لاَ نَسْمَعُ سِرّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىَ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ }.
يقول تعالى ذكره: أم أبرم هؤلاء المشركون من قريش أمرا فأحكموه, يكيدون به الحقّ الذي جئناهم به, فإنا محكمون لهم ما يخزيهم, ويذلهم من النكال. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23966ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: أمْ أبْرَمُوا أمْرا فإنّا مُبْرِمُونَ قال: مجمعون: إن كادوا شرّا كدنا مثله.
23967ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: أمْ أَبْرَمُوا أمْرا فإنّا مُبْرِمُونَ قال: أم أجمعوا أمرا فإنا مجمعون.
23968ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: أمْ أَبْرَمُوا أمْرا فإنّا مُبْرِمُونَ قال: أم أحكموا أمرا فإنا محكمون لأمرنا.
وقوله: أمْ يَحْسَبُونَ أنّا لا نَسْمَعُ سِرّهُمْ وَنجْوَاهُمْ يقول: أم يظنّ هؤلاء المشركون بالله أنا لا نسمع ما أخفوا عن الناس من منطقهم, وتشاوروا بينهم وتناجوا به دون غيرهم, فلا نعاقبهم عليه لخفائه علينا.
وقوله: بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ يقول تعالى ذكره: بل نحن نعلم ما تناجوا به بينهم, وأخفوه عن الناس من سرّ كلامهم, وحفظتنا لديهم, يعني عندهم يكتبون ما نطقوا به من منطق, وتكلموا به من كلامهم.
وذُكر أن هذه الاَية نزلت في نفر ثلاثة تدارأُوا في سماع الله تبارك وتعالى كلام عباده. ذكر من قال ذلك:
23969ـ حدثني عمرو بن سعيد بن يسار القرشيّ, قال: حدثنا أبو قتيبة, قال: حدثنا عاصم بن محمد العمريّ, عن محمد بن كعب القرظي, قال: بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها, قرشيان وثقفيّ, أو ثقفيان وقرشيّ, فقال واحد من الثلاثة: أترون الله يسمع كلامنا؟ فقال الأوّل: إذا جهرتم سمع, وإذا أسررتم لم يسمع, قال الثاني: إن كان يسمع إذا أعلنتم, فإنه يسمع إذا أسررتم, قال: فنزلت أمْ يَحْسَبُونَ أنّا لا نَسْمَعُ سِرّهُمْ وَنجْوَاهُمْ, بَلى وَرسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ. وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23970ـ حدثني محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ قال: الحفظَة.
23971ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد. عن قتادة بلى وَرُسُلنا لَدَيهِمْ يَكْتُبُونَ: أي عندهم.
الآية : 81-82
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ لِلرّحْمَـَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوّلُ الْعَابِدِينَ * سُبْحَانَ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ }.
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: قُلْ إنْ كانّ للرّحْمَنِ وَلَدٌ فَأنا أوّلُ العابِدِينَ فقال بعضهم: في معنى ذلك: قل يا محمد إن كان للرحمن ولد في قولكم وزعمكم أيها المشركون, فأنا أوّل المؤمنين بالله في تكذيبكم, والجاحدين ما قلتم من أن له ولدا. ذكر من قال ذلك:
23972ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قُلْ إنْ كانَ للرّحمَنِ وَلَدٌ كما تقولون فَأنا أوّلُ العابِدِينَ المؤمنين بالله, فقولوا ما شئتم.
23973ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: فأنا أوّلُ العابِدِينَ قال: قل إن كان لله ولد في قولكم, فأنا أوّل من عبد الله ووحده وكذّبكم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: قل ما كان للرحمن ولد, فأنا أوّل العابدين له بذلك. ذكر من قال ذلك:
23974ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: قُلْ إنْ كانَ للرّحْمَن وَلَدٌ فَأنا أوّلُ العابِدِينَ يقول: لم يكن للرحمن ولد فأنا أوّل الشاهدين.
وقال آخرون: بل معنى ذلك نفي, ومعنى إن الجحد, وتأويل ذلك ما كان ذلك, ولا ينبغي أن يكون. ذكر من قال ذلك:
23975ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: قُلْ إنْ كانَ للرّحْمَنِ وَلَدٌ فَأنا أوّلُ العابِدِينَ قال قتادة: وهذه كلمة من كلام العرب إنْ كان للرّحْمن وَلَدٌ: أي إن ذلك لم يكن, ولا ينبغي.
23976ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: قُلْ إنْ كانَ للرّحْمَنِ وَلَدٌ فَأنا أوّلُ العابِدِينَ قال: هذا الإنكاف ما كان للرحمن ولد, نكف الله أن يكون له ولد, وإن مثل «ما» إنما هي: ما كان للرحمن ولد, ليس للرحمن ولد, مثل قوله: وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ إنما هي: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال, فالذي أنزل الله من كتابه وقضاه من قضائه أثبت من الجبال, و«إن» هي «ما» إن كان ما كان تقول العرب: إن كان, وما كان الذي تقول. وفي قوله: فَأنا أوّلُ العابِدِينَ أوّل من يعبد الله بالإيمان والتصديق أنه ليس للرحمن ولد على هذا أعبد الله.
23977ـ حدثني ابن عبد الرحيم البرقي, قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة, قال: سألت ابن محمد, عن قول الله: إنْ كانَ للرّحْمَنِ وَلَدٌ قال: ما كان.
23978ـ حدثني ابن عبد الرحيم البرقي, قال: حدثنا عمرو, قال: سألت زيد بن أسلم, عن قول الله: قُلْ إنْ كانَ للرّحْمَنِ وَلَدٌ قال: هذا قول العرب معروف, إن كان: ما كان, إن كان هذا الأمر قط, ثم قال: وقوله: وإن كان: ما كان.
وقال آخرون: معنى «إن» في هذا الموضع معنى المجازاة, قالوا: وتأويل الكلام: لو كان للرحمن ولد, كنت أوّل من عبده بذلك. ذكر من قال ذلك:
23979ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ قُلْ إنْ كانَ للرّحْمَنِ وَلَدٌ فَأنا أوّلُ العابِدِينَ قال: لو كان له ولد كنت أوّل من عبده بأن له ولدا, ولكن لا ولد له.
وقال آخرون: معنى ذلك: قل إن كان للرحمن ولد, فأنا أوّل الاَنفين ذلك, ووجهوا معنى العابدين إلى المنكرين الاَبين, من قول العرب: قد عبِد فلان من هذا الأمر إذا أنِف منه وغضب وأباه, فهو يعبَد عَبدا, كما قال الشاعر:
ألا هَوِيَتْ أُمّ الوَلِيدِ وأصْبَحَتْلِمَا أبْصَرَتْ فِي الرأس مِنّي تَعَبّدُ
وكما قال الاَخر:
مَتى ما يَشأْ ذُو الوُدّ يَصْرِمْ خَلِيلَهُوَيَعْبَدْ عَلَيْهِ لا مَحَالةَ ظالِمَا
23980ـ حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال ثني: ابن أبي ذئب, عن أبي قسيط, عن بعجة بن زيد الجهني, أن امرأة منهم دخلت على زوجها, وهو رجل منهم أيضا, فولدت له في ستة أشهر, فذكر ذلك لعثمان بن عفان رضي الله عنه, فأمر بها أن تُرجم, فدخل عليه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه, فقال: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرا. وقال: وَفِصَالُهُ فِي عامَيْنِ قال: فوالله ما عبدِ عثمان أن بعث إليها تردّ. قال يونس, قال ابن وهب: عبد: استنكف.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: معنى: إنْ الشرط الذي يقتضي الجزاء على ما ذكرناه عن السديّ, وذلك أن «إن» لا تعدو في هذا الموضع أحد معنيين: إما أن يكون الحرف الذي هو بمعنى الشرط الذي يطلب الجزاء, أو تكون بمعنى الجحد, وهب إذا وجهت إلى الجحد لم يكن للكلام كبير معنى, لأنه يصير بمعنى: قل ما كان للرحمن ولد, وإذا صار بذلك المعنى أوهم أهل الجهل من أهل الشرك بالله أنه إنما نفي بذلك عن الله عزّ وجلّ أن يكون له ولد قبل بعض الأوقات, ثم أحدث له الولد بعد أن لم يكن, مع أنه لو كان ذلك معناه لقدر الذين أمر الله نبيّه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: ما كان للرحمن ولد, فأنا أوّل العابدين أن يقولوا له صدقت, وهو كما قلت, ونحن لم نزعم أنه لم يزل له ولد. وإنما قلنا: لم يكن له ولد, ثم خلق الجنّ فصاهرهم, فحدث له منهم ولد, كما أخبر الله عنهم أنهم كانوا يقولونه, ولم يكن الله تعالى ذكره ليحتجّ لنبيه صلى الله عليه وسلم وعلى مكذّبيه من الحجة بما يقدرون على الطعن فيه, وإذ كان في توجيهنا «إن» إلى معنى الجحد ما ذكرنا, فالذي هو أشبه المعنيين بها الشرط. وإذ كان ذلك كذلك, فبينة صحة ما نقول من أن معنى الكلام: قل يا محمد لمشركي قومك الزاعمين أن الملائكة بنات الله: إن كان للرحمن ولد فأنا أوّل عابديه بذلك منكم, ولكنه لا ولد له, فأنا أعبده بأنه لا ولد له, ولا ينبغي أن يكون له.
وإذا وجه الكلام إلى ما قلنا من هذا الوجه لم يكن على وجه الشكّ, ولكن على وجه الإلطاف في الكلام وحُسن الخطاب, كما قال جلّ ثناؤه قُلِ اللّهُ, وأنا أوْ إيّاكُمْ لَعَلى هُدًى أوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
وقد علم أن الحقّ معه, وأن مخالفيه في الضلال المبين.
وقوله: سُبْحانَ رَبّ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ يقول تعالى ذكره تبرئة وتنزيها لمالك السموات والأرض ومالك العرش المحيط بذلك كله, وما في ذلك من خلق مما يصفه به هؤلاء المشركون من الكذب, ويضيفون إليه من الولد وغير ذلك من الأشياء التي لا ينبغي أن تضاف إليه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23981ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: رَبّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ: أي يكذّبون.
الآية : 83-84
القول في تأويل قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتّىَ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الّذِي يُوعَدُونَ * وَهُوَ الّذِي فِي السّمآءِ إِلَـَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَـَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ }.
يقول تعالى ذكره: فذر يا محمد هؤلاء المفترين على الله, الواصفيه بأن له ولدا يخوضوا في باطلهم, ويلعبوا في دنياهم حتى يُلاقوا يَوْمَهُمْ الّذِي يُوعَدُونَ وذلك يوم يصليهم الله بفريتهم عليه جهنم, وهو يوم القيامة. كما:
23982ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ حتى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الّذِي يُوعَدونَ قال: يوم القيامة.
وقوله: وَهُوَ الّذِي فِي السّماءِ إلَهٌ, وفي الأرْضِ إلَه يقول تعالى ذكره: والله الذي له الألوهة في السماء معبود, وفي الأرض معبود كما هو في السماء معبود, لا شيء سواه تصلح عبادته يقول تعالى ذكره: فأفردوا لمن هذه صفته العبادة, ولا تشركوا به شيئا غيره. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23983ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: وَهُوَ الّذِي فِي السّماءِ إلَهٌ وفي الأرْضِ إلَهٌ قال: يُعبد في السماء, ويُعبد في الأرض.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, في قوله: وَهُوَ الّذِي فِي السّماءِ إلَهٌ وفي الأرْضِ إلَهٌ: أي يعبد في السماء وفي الأرض.
وقوله: وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ يقول: وهو الحكيم في تدبير خلقه, وتسخيرهم لما يشاء, العليم بمصالحهم.
الآية : 85
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَبَارَكَ الّذِي لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }.
يقول تعالى ذكره, وتبارك الذي له سلطان السموات السبع والأرض, وما بينهما من الأشياء كلها, جارٍ على جميع ذلك حكمه, ماضٍ فيهم قضاؤه. يقول: فكيف يكون له شريكا من كان في سلطانه وحكمه فيه نافد وَعِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ يقول: وعنده علم الساعة التي تقوم فيها القيامة, ويُحشر فيها الخلق من قبورهم لموقف الحساب.
قوله: وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ يقول: وإليه أيها الناس تردّون من بعد مماتكم, فتصيرون إليه, فيجازي المحسن بإحسانه, والمسيء بإساءته.
الآية : 86
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ يَمْلِكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشّفَاعَةَ إِلاّ مَن شَهِدَ بِالْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: ولا يملك عيسى وعزير والملائكة الذين يعبدهم هؤلاء المشركون بالساعة, الشفاعة عند الله لأحد, إلا من شهد بالحقّ, فوحد الله وأطاعه, بتوحيد علم منه وصحة بما جاءت به رسله. ذكر من قال ذلك:
23984ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: وَلا يَمْلِكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونه الشّفاعَةَ قال: عيسى, وعُزير, والملائكة.
قوله: إلاّ مَنْ شَهِدَ بالحَقّ قال: كلمة الإخلاص, وهم يعلمون أن الله حقّ, وعيسى وعُزير والملائكة يقول: لا يشفع عيسى وعُزير والملائكة إلاّ من شهد بالحقّ, وهو يعلم الحق.
وقال آخرون: عني بذلك: ولا تملك الاَلهة التي يدعوها المشركون ويعبدونها من دون الله الشفاعة إلاّ عيسى وعُزير وذووهما, والملائكة الذين شهدوا بالحقّ, فأقرّوا به وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به. ذكر من قال ذلك:
23985ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَلا يَمْلِكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دونِهِ الشّفاعَةَ إلاّ مَنْ شَهِدَ بالحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ: الملائكة وعيسى وعُزير, قد عُبِدوا من دون الله ولهم شفاعة عند الله ومنزلة.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة إلاّ مَنْ شَهِدَ بالحَقّ قال: الملائكة وعيسى ابن مريم وعُزير, فإن لهم عند الله شهادة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه لا يملك الذين يعبدهم المشركون من دون الله الشفاعة عنده لأحد, إلاّ من شهد بالحقّ, وشهادته بالحقّ: هو إقراره بتوحيد الله, يعني بذلك: إلاّ من آمن بالله, وهم يعلمون حقيقة توحيده, ولم يخصص بأن الذي لا يملك ملك الشفاعة منهم بعض من كان يعبد من دون الله, فذلك على جميع من كان تعبد قريش من دون الله يوم نزلت هذه الاَية وغيرهم, وقد كان فيهم من يعبد من دون الله الاَلهة, وكان فيهم من يعبد من دونه الملائكة وغيرهم, فجميع أولئك داخلون في قوله: ولا يملك الذين يدعو قريش وسائر العرب من دون الله الشفاعة عند الله. ثم استثنى جلّ ثناؤه بقوله: إلاّ مَنْ شَهِدَ بالحَقّ وَهُم يَعْلَمُونَ وهم الذين يشهدون شهادة الحقّ فيوحدون الله, ويخلصون له الوحدانية, على علم منهم ويقين بذلك, أنهم يملكون الشفاعة عنده بإذنه لهم بها, كما قال جلّ ثناؤه: وَلا يَشْفَعُونَ إلا لِمَن ارْتَضَى فأثبت جلّ ثناؤه للملائكة وعيسى وعُزير ملكهم من الشفاعة ما نفاه عن الاَلهة والأوثان باستثنائه الذي استثناه.
الآية : 87-88
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنّ اللّهُ فَأَنّىَ يُؤْفَكُونَ * وَقِيلِهِ يَرَبّ إِنّ هَـَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاّ يُؤْمِنُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله من قومك: من خلقهم؟ ليقولنّ: اللّهُ خلقنا فَأنّى يُؤْفَكُونَ فأيّ وجه يصرفون عن عبادة الذي خلقهم, ويحرمون إصابة الحقّ في عبادته.
وقوله: وَقِيِله: يا رَبّ إن هَؤُلاءِ قَوْمٌ لاّ يُؤمِنُونَ اختلفت القرّاء في قراءة قوله: وَقِيلِهِ فقرأته عامة قرّاء المدينة ومكة والبصرة «وَقِيلَهُ» بالنصب. وإذا قرىء ذلك كذلك, كان له وجهان في التأويل: أحدهما العطف على قوله: أمْ يَحْسَبُونَ أنّا لا نَسْمَعُ سِرّهُمْ ونَجْوَاهُمْ, ونسمع قيله يا ربّ. والثاني: أن يضمر له ناصب, فيكون معناه حينئذٍ: وقال قوله: يا رَبّ إنّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يَؤْمِنُونَ وشكا محمد شكواه إلى ربه. وقرأته عامة قرّاء الكوفة وَقِيلِهِ بالخفض على معنى: وعنده علم الساعة, وعلم قيله.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار صحيحتا المعنى فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. فتأويل الكلام إذن: وقال محمد قيله شاكيا إلى ربه تبارك وتعالى قومه الذين كذّبوه, وما يلقى منهم: يا ربّ إن هؤلاء الذين أمرتني بإنذارهم وأرسلتني إليهم لدعائهم إليك, قوم لا يؤمنون. كما:
23986ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: وَقِيلِهِ يا رَبّ إنّ هَؤُلاء قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ قال: فأبرّ الله عزّ وجلّ قول محمد صلى الله عليه وسلم.
23987ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَقِيلِهِ يا رَبّ إنّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ قال: هذا قول نبيكم عليه الصلاة والسلام يشكو قومه إلى ربه.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وَقِيلِهِ يا رَبّ قال: هو قول النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ.
الآية : 89
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, جوابا له عن دعائه إياه إذ قال: «يا ربّ إن هؤلاء قوم لا يؤمنون» فاصْفَحْ عَنْهُمْ يا محمد, وأعرض عن أذاهم وَقُلْ لهم سَلامٌ عليكم ورفع سلام بضمير عليكم أو لكم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة «فَسَوْفَ تَعْلَمونَ» بالتاء على وجه الخطاب, بمعنى: أمر الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك للمشركين, مع قوله: سَلامٌ, وقرأته عامة قرّاء الكوفة وبعض قرّاء مكة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ بالياء على وجه الخبر, وأنه وعيد من الله للمشركين, فتأويله على هذه القراءة: فاصْفَحْ عَنْهُمْ يا محمد وقُلْ سَلامٌ. ثم ابتدأ تعالى ذكره الوعيدَ لهم, فقال فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ما يلقون من البلاء والنكال والعذاب على كفرهم, ثم نسخ الله جلّ ثناؤه هذه الاَية, وأمر نبيّه صلى الله عليه وسلم بقتالهم. كما:
23988ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة فاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ قال: اصفح عنهم, ثم أمره بقتالهم.
23989ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال الله تبارك وتعالى يعزّي نبيه صلى الله عليه وسلم فاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.

نهاية تفسير الإمام الطبري لسورة الزخرف