سورة الأحقاف | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 506 من المصحف
** وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قَالُوَاْ أَنصِتُواْ فَلَمّا قُضِيَ وَلّوْاْ إِلَىَ قَوْمِهِم مّنذِرِينَ * قَالُواْ يَقَوْمَنَآ إِنّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىَ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيَ إِلَى الْحَقّ وَإِلَىَ طَرِيقٍ مّسْتَقِيمٍ * يَقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللّهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لاّ يُجِبْ دَاعِيَ اللّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضَ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَـَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان, حدثنا عمرو, سمعت عكرمة عن الزبير, {وإِذ صرفنا إِليك نفراً من الجن يستمعون القرآن} قال: بنخلة, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الاَخرة {كادوا يكونون عليه لبد} قال سفيان: ألبد بعضهم على بعض كاللبد بعضه على بعض, تفرد به أحمد, وسيأتي من رواية ابن جرير عن عكرمة, عن ابن عباس أنهم سبعة من جن نصيبين. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا أبو عوانة (ح) وقال الإمام الشهير الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد عبدان, أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار, حدثنا إِسماعيل القاضي أخبرنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم, انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء, وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إِلى قومهم فقالوا مالكم, فقالوا حيل بيننا وبين خبر السماء, فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء.
فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامداً إِلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر, فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء, فهناك حين رجعوا إِلى قومهم {قالوا إِنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إِلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحد} وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم {قل أوحي إِلي أنه استمع نفر من الجن} وإِنما أوحي إليه قول الجن رواه البخاري عن مسدد بنحوه, وأخرجه مسلم عن شيبان بن فروخ عن أبي عوانة به, ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من حديث أبي عوانة, وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو أحمد, حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الجن يستمعون الوحي فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشراً, فيكون ما سمعوا حقاً وما زادوا باطلاً, وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك, فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب, فشكوا ذلك إلى إبليس فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث, فبث جنوده فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بين جبلي نخلة, فأتوه فأخبروه فقال: هذا الحديث الذي حدث في الأرض, ورواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما من حديث إسرائيل به, وقال الترمذي: حسن صحيح, وهكذا رواه ايوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما, وكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً بمثل هذا السياق بطوله, وهكذا قال الحسن البصري إنه صلى الله عليه وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم, وذكر محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن محمد بن كعب القرظي قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ودعائه إياهم إلى الله عز وجل وإبائهم عليه, فذكر القصة بطولها وأورد ذلك الدعاء الحسن «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين وأنت رب المستضعفين, وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى صديق قريب ملكته أمري, إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي, أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والاَخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك, ولك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك».
قال: فلما انصرف عنهم بات بنخلة فقرأ تلك الليلة من القرآن فاستمعه الجن من أهل نصيبين, وهذا صحيح, ولكن قوله إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر, فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء كما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهماالمذكور, وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان بعد موت عمه, وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره, والله أعلم, وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو أحمد الزبيري, حدثنا سفيان عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن النخلة {فلما حضروه قالوا أَنصتو} قال صه, وكانوا تسعة وأحدهم زوبعة, فأنزل الله عز وجل: {وإذْ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ـ إلى ـ ضلال مبين} فهذا مع الأول من رواية ابن عباس رضي الله عنهما يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة, وإنما استمعوا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم, ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالاً قوماً بعد قوم وفوجاً بعد فوج, كما ستأتي بذلك الأخبار في موضعها والاَثار مما سنوردها إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
فأما ما رواه البخاري ومسلم جميعاً عن أبي قدامة عبيد الله بن سعيد السرخسي, عن أبي أسامة حماد بن أسامة عن مسعر بن كدام, عن معن بن عبد الرحمن, قال: سمعت أبي يقول: سألت مسروقاً من آذن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن ؟ فقال: حدثني أبوك يعني ابن مسعود رضي الله عنه أنه آذنته بهم شجرة, فيحتمل أن يكون هذا في المرة الأولى ويكون إثباتاً مقدماً على نفي ابن عباس رضي الله عنهما, ويحتمل أن يكون في المرة الأولى, ولكن لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم الشجرة أي أعلمته باجتماعهم, والله أعلم, ويحتمل أن يكون هذا في بعض المرات المتأخرات, والله أعلم.
قال الحافظ البيهقي: وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعلمت حاله, وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم, ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عز وجل كما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(ذكر الروايات عنه بذلك)
قال الإمام أحمد: حدثنا إِسماعيل بن إبراهيم, حدثنا داود عن الشعبي وابن أبي زائدة, أخبرنا داود عن الشعبي عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد ؟ فقال: ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة فقلنا اغتيل ؟ استطير ؟ ما فعل ؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم, فلما كان في وجه الصبح ـ أو قال ـ في السحر إذا نحن به يجيء من قبل حراء, فقلنا: يا رسول الله, فذكروا له الذي كانوا فيه فقال: «إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم» قال: فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم قال: قال الشعبي: سألوه الزاد, قال عامر: سألوه بمكة وكانوا من جن الجزيرة فقال: «كل عظم ذكر اسم الله عليه أن يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً, وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم ـ قال ـ فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن» وهكذا رواه مسلم في صحيحه عن علي بن حجر عن إسماعيل بن علية به نحوه.
وقال مسلم أيضاً: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا داود وهو ابن أبي هند عن عامر قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود رضي الله عنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود رضي الله عنه فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال: لا ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه, فالتمسناه في الأودية والشعاب فقيل استطير ؟ اغتيل ؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم, فلما أصبحنا إذ هو جاء من قبل حراء, قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك, فبتنا بشر ليلة بات بها قوم, فقال: «أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن». قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم, وسألوه الزاد فقال: «كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر مايكون لحماً, وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم».
(طريق أخرى) عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال أبو جعفر بن جرير: حدثني أحمد بن عبد الرحمن, حدثني عمي, حدثني يونس عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله قال: إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بت الليلة أقرأ على الجن واقفاً بالحجون».
(طريق أخرى) فيها أنه كان معه ليلة الجن. قال ابن جرير رحمه الله: حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب, حدثنا عمي عبد الله بن وهب, أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي عثمان بن سنة الخزاعي, وكان من أهل الشام قال: إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو بمكة: «من أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة فليفعل» فلم يحضر منهم أحد غيري, قال: فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خطّ لي برجله خطاً ثم أمرني أن أجلس فيه ثم انطلق حتى قام, فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته, ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب, ذاهبين حتى بقي منهم رهط, ففرغ رسول الله, فأعطاهم عظماً وروثاً, ثم نهى أن يستطيب أحد بروث أو عظم. ورواه ابن جرير عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن أبي زرعة وهب بن راشد عن يونس بن يزيد الأيلي به.
ورواه البيهقي في الدلائل من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث عن يونس به, وقد روى إسحاق بن راهويه عن جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه, فذكر نحو ما تقدم ورواه الحافظ أبو نعيم من طريق موسى بن عبيدة عن سعيد بن الحارث عن أبي المعلى عن ابن مسعود رضي الله عنه, فذكر نحوه أيضاً.
(طريق أخرى) قال أبو نعيم: حدثنا أبو مالك, حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثني أبي قال: حدثنا عفان وعكرمة قالا: حدثنا معتمر قال: قال أبي: حدثني أبو تميمة عن عمرو, ولعله قد يكون قال البكالي يحدثه عمرو عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقنا حتى أتينا مكان كذا وكذا, فخط لي خطاً فقال: «كن بين ظهر هذه لا تخرج منها فإنك إن خرجت هلكت» فذكر الحديث بطوله وفيه غرابة شديدة.
(طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى, حدثنا ابن ثور عن معمر عن يحيى بن أبي كثير, عن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي أنه قال لابن مسعود رضي الله عنه: حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن. قال: أجل, قال: فكيف كان ؟ فذكر الحديث وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خط عليه خطاً وقال: «لا تبرح منها» فذكر مثل العجاجة السوداء فغشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذعر ثلاث مرات حتى كان قريباً من الصبح أتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أنمت ؟» فقلت: لا والله, ولقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول «اجلسوا» فقال صلى الله عليه وسلم: «لو خرجت لم آمن أن يتخطفك بعضهم» ثم قال صلى الله عليه وسلم «هل رأيت شيئاً ؟» قلت: نعم رأيت رجالاً سوداً مستشعرين ثياباً بيضاً قال صلى الله عليه وسلم: «أولئك جن نصيبين سألوني المتاع ـ والمتاع الزاد ـ فمتعتهم بكل عظم حائل أو بعرة أو روثة فقلت يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل. ولا روثاً إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت, فلا يستنقين أحد منكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة».
(طريق أخرى) قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الرحمن السملي وأبو نصر بن قتادة قال أخبرنا أبو محمد بن يحيى بن منصور القاضي, حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي, حدثنا روح بن صلاح, حدثنا موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن نفراً من الجن خمسة عشر بني إخوة وبني عم يأتوني الليلة أقرأ عليهم القرآن» فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد فخط لي خطاً وأجلسني فيه وقال لي «لاتخرج من هذا» فبت فيه حتى أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع السحر في يده عظم حائل وروثة وحمة فقال: «إذا ذهبت إلى الخلاء فلا تستنج بشيء من هؤلاء» قال: فلما أصبحت قلت لأعلمن حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذهبت فرأيت موضع مبرك ستين بعيراً.
(طريق أخرى) قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ, أخبرنا أبو العباس الأصم, حدثنا العباس بن محمد الدوري, حدثنا عثمان بن عمر عن الشمر بن الريان عن أبي الجوزاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: انطلقت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون, فخط لي خطاً ثم تقدم إليهم, فازدحموا عليه فقال سيد لهم يقال له وردان: أنا أرحلهم عنك. فقال: إني لن يجيرني من الله أحد.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا سفيان بن أبي فزارة العبسي, حدثنا أبو زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما كانت ليلة الجن قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «أمعك ماء ؟» قلت: ليس معي ماء ولكن معي إِداوة فيها نبيذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تمرة طيبة وماء طهور» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث زيد به.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق, أخبرنا ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم قال: إنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله أمعك ماء ؟» قال: معي نبيذ في إداوة. قال صلى الله عليه وسلم: «اصبب عليّ» فتوضأ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ياعبد الله شراب وطهور» تفرد به أحمد من هذا الوجه, وقد أورده الدارقطني من طريق آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرني أبي عن ميناء عن عبد الله رضي الله عنه قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن, فلما انصرف تنفس فقلت: ما شأنك ؟ قال: «نعيت إلي نفسي ياابن مسعود» هكذا رأيته في المسند مختصراً, وقد رواه الحافظ أبو نعيم في كتابه دلائل النبوة فقال: حدثنا سليمان بن أحمد بن أيوب, حدثنا إسحاق بن إبراهيم, وحدثنا أبو بكر بن مالك حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الرزاق عن أبيه عن ميناء عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعيت إلي نفسي ياابن مسعود» قلت: استخلف. قال: «من ؟» قلت: أبا بكر. قال: فسكت ثم مضى ساعة فتنفس فقلت: ما شأنك بأبي أنت وأمي يا رسول الله ؟ قال: «نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود» قلت: استخلف. قال: «من ؟» قلت: عمر. فسكت ساعة ثم مضى ثم تنفس فقلت ؟ ما شأنك ؟ قال: «نعيت إلي نفسي» قلت: فاستخلف قال صلى الله عليه وسلم «من ؟» قلت: علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال صلى الله عليه وسلم: «أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلن الجنة أجمعين أكتعين» وهو حديث غريب جداً وأحرى به أن لا يكون محفوظاً, وبتقدير صحته فالظاهر أن هذا بعد وفودهم إليه بالمدينة على ما سنورده إن شاء الله تعالى, فإن في ذلك الوقت كان في آخر الأمر لما فتحت مكة ودخل الناس والجان أيضاً في دين الله أفواجاً نزلت سورة {إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواب} وهي السورة التي نعيت نفسه الكريمة فيها إليه كما نص على ذلك ابن عباس رضي الله عنهما, ووافقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عليه, وقد ورد في ذلك حديث سنورده إن شاء الله تعالى عند تفسيرها, والله أعلم وقد رواه أبو نعيم أيضاً عن الطبري عن محمد بن عبد الله الحضرمي عن علي بن الحسين بن أبي بردة, عن يحيى بن سعيد الأسلمي, عن حرب بن صبيح عن سعيد بن سلمة عن أبي مرة الصنعاني, عن أبي عبد الله الجدلي عن ابن مسعود رضي الله عنه فذكره وذكر فيه قصة الاستخلاف, وهذا إسناد غريب وسياق عجيب.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد, حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط حوله, فكان أحدهم مثل سواد النخل وقال: «لا تبرح مكانك فأقرئهم كتاب الله» فلما رأى المرعى قال: كأنهم هؤلاء وقال النبي صلى الله عليه وسلم «أمعك ماء ؟» قلت: لا. قال: «أمعك نبيذ ؟» قلت: نعم فتوضأ به.
(طريق أخرى مرسلة) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الظهراني, أخبرنا حفص بن عمر العدني, حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة في قوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن} قال هم اثنا عشر ألفاً جاؤوا من جزيرة الموصل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود رضي الله عنه: «أنظرني حتى آتيك» وخط عليه خطاً وقال «لا تبرح حتى آتيك» فلما خشيهم ابن مسعود رضي الله عنه كاد أن يذهب, فذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبرح, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لو ذهبت ما التقينا إلى يوم القيامة».
(طريق أخرى مرسلة أيضاً): قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن} قال: ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى وأن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني أمرت أن أقرأ على الجن فأيكم يتبعني ؟» فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا ثم استتبعهم الثالثة فقال رجل: يا رسول الله إن ذاك لذو ندبة, فأتبعه ابن مسعود رضي الله عنه أخو هذيل, قال فدخل النبي صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له شعب الحجون وخط عليه, وخط على ابن مسعود رضي الله عنه خطاً ليثبته بذلك, قال: فجعلت أهال وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم تلا القرآن فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله ما اللغط الذي سمعت ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «اختصموا في قتيل فقضي بينهم بالحق» رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
فهذه الطرق كلها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجن قصداً فتلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عز وجل وشرع الله تعالى لهم على لسانه ماهم محتاجون إليه في ذلك الوقت وقد يحتمل أن أول مرة سمعوه يقرأ القرآن لم يشعر بهم, كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. ثم بعد ذلك وفدوا إليه كما رواه ابن مسعود رضي الله عنه, وأما ابن مسعود رضي الله عنه فإنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حال مخاطبته للجن ودعائه إياهم, وإنما كان بعيداً منه ولم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد سواه ومع هذا لم يشهد حال المخاطبة, هذه طريقة البيهقي, وقد يحتمل أن يكون أول مرة خرج إليهم لم يكن معه صلى الله عليه وسلم ابن مسعود رضي الله عنه ولا غيره, كما هو ظاهر سياق الرواية الأولى من طريق الإِمام أحمد, وهي عند مسلم, ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى, والله أعلم, كما روى ابن أبي حاتم في تفسير «قل أوحي إِلي» من حديث ابن جريج قال: قال عبد العزيز بن عمر: أما الجن الذي لقوه بنخلة فجن نينوى, وأما الجن الذين لقوه بمكة فجن نصيبين, وتأوله البيهقي على أنه يقول فبتنا بشر ليلة بات بها قوم على غير ابن مسعود رضي الله عنه ممن لم يعلم بخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الجن, وهو محتمل على بعد, والله أعلم.
وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي,: أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الله الأديب, حدثنا أبو بكر الإسماعيلي, أخبرنا الحسن بن سفيان, حدثنا سويد بن سعيد, حدثنا عمرو بن يحيى عن جده سعيد بن عمرو قال: كان أبو هريرة رضي الله عنه يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأداوة لوضوئه وحاجته, فأدركه يوماً فقال «من هذا ؟» قال: أنا أبو هريرة. قال صلى الله عليه وسلم: «ائتني بأحجار أستنج بها ولا تأتني بعظم ولا روثة فأتيته بأحجار في ثوبي فوضعتها إلى جنبه حتى إذا فرغ وقام اتبعته فقلت: يا رسول الله ما بال العظم والروثة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أتاني وفد جن نصيبين فسألوني الزاد فدعوت الله تعالى لهم أن لا يمروا بروثة ولا عظم إلا وجدوه طعاماً» أخرجه البخاري في صحيحه عن موسى بن إسماعيل عن عمرو بن يحيى بإسناده قريباً منه, فهذا يدل على ما تقدم على أنهم وفدوا عليه بعد ذلك وسنذكر إن شاء الله تعالى ما يدل على تكرار ذلك.
وقد روى ابن عباس غير ما روى عنه أولاً من وجه جديد, فقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا عبد الحميد الحماني, حدثنا النضر بن عربي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن} الاَية. قال: كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين, فجعلهم رسول الله رسلاً إلى قومهم. فهذا يدل على أنه روى القصتين. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا سويد بن عبد العزيز, حدثنا رجل سماه عن ابن جريج عن مجاهد {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن} الاَية, قال كانوا سبعة نفر ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين, وكانت أسماؤهم حيي وحسي ومنسى وساصر وناصر والاردوبيان والأحتم, وذكر أبو حمزة الثمالي أن هذا الحي من الجن كان يقال له بنو الشيصان وكانوا أكثر الجن عدداً وأشرفهم نسباً, وهم كانوا عامة جنود إبليس.
وقال سفيان الثوري عن عاصم عن ذر عن بن مسعود رضي الله عنه كانوا تسعة أحدهم زوبعة, أتوه من أصل نخلة, وتقدم عنهم أنهم كانوا خمسة عشر, وفي رواية أنهم كانوا على ستين راحلة, وتقدم عنه أن اسم سيدهم وردان, وقيل: كانوا ثلثمائة, وتقدم عن عكرمة على أنهم كانوا اثني عشر ألفاً, فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرار وفادتهم عليه صلى الله عليه وسلم, ومما يدل على ذلك ما قاله البخاري في صحيحه: حدثنا يحيى بن سليمان حدثني ابن وهب, حدثني عمر هو ابن محمد قال: إن سالماً حدثه عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: ما سمعت عمر رضي الله عنه يقول لشيء قط إني لأظنه هكذا إلا كان كما يظن بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس إذ مر به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني أو أن هذا على دينه في الجاهلية أو لقد كان كاهنهم, علي بالرجل, فدعي له, فقال له ذلك فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني قال: كنت كاهنهم في الجاهلية قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك, قال: بينما أنا يوماً في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع فقالت:
ألم تر الجن وإِبلاسهاويأسها من بعد إنكاسها
ولحوقها بالقلاص وأحلاسها
قال عمر رضي الله عنه: صدق بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه يقول: ياجليح, أمر نجيج رجل فصيح, يقول لا إله إلا الله قال: فوثب القوم فقلت: لا أبرح حتى أعلم ماوراء هذا, ثم نادى ياجليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله, فقمت فما نشبنا أن قيل هذا نبي. هذا سياق البخاري, وقد رواه البيهقي من حديث ابن وهب بنحوه, ثم قال وظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر رضي الله عنه بنفسه سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح, وكذلك هو صريح في رواية ضعيفة عن عمر رضي الله عنه, وسائر الروايات تدل على أن هذا الكاهن هو الذي أخبر بذلك عن رؤيته وسماعه, والله أعلم, وهذا الذي قاله البيهقي هو المتجه وهذا الرجل هو سواد بن قارب, وقد ذكرت هذا مستقصى في سيرة عمر رضي الله عنه فمن أراده فليأخذه من ثم, ولله الحمد والمنة.) وقال البيهقي: حديث سواد بن قارب, ويشبه أن يكون هذا هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح, أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المفسر من أصل سماعه, أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصبهاني قراءة عليه, حدثنا أبو جعفر أحمد بن موسى الحمار الكوفي بالكوفة, حدثنا زياد بن يزيد بن بادويه, حدثنا أبو بكر القصري حدثنا محمد بن النواس الكوفي, حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: أيها الناس أفيكم سواد بن قارب ؟ قال: فلم يجبه أحد تلك السنة. فلما كانت السنة المقبلة قال: أيها الناس أفيكم سواد بن قارب ؟ قال: فقلت يا أمير المؤمنين وما سواد بن قارب ؟ قال فقال له عمر رضي الله عنه: إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئاً عجيباً, قال فبينما نحن كذلك إذ طلع سواد بن قارب قال: فقال له عمر رضي الله عنه: يا سواد حدثنا ببدء إسلامك كيف كان ؟ قال سواد رضي الله عنه: فإني كنت نازلاً بالهند وكان لي رئي من الجن, قال فبينما أنا ذات ليلة نائم إذ جاءني في منامي ذلك, قال قم فافهم واعقل إن كنت تعقل, قد بعث رسول من لؤي بن غالب ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتحساسهاوشدها العيس بأحلاسهاتهوي إلى مكة تبغي الهدىما خير الجن كأنجاسهافانهض إلى الصفوة من هاشمواسم بعينيك إلى راسها
قال: ثم أنبهني فأفزعني وقال يا سواد بن قارب, إن الله عز وجل بعث نبياً فانهض إليه تهتد وترشد, فلما كان من الليلة الثانية أتاني فأنبهني ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتطلابهاوشدها العيس بأقتابهاتهوي إلى مكة تبغي الهدىليس قداماها كأذنابهافانهض إلى الصفوة من هاشمواسم بعينيك إلى قابها
فلما كان في الليلة الثالثة أتاني فأنبهني ثم قال:
عجبت للجن وتخبارهاوشدها العيس بأكوارهاتهوي إلى مكة تبغي الهدىليس ذوو الشر كأخيارهافانهض إلى الصفوة من هاشمما مؤمنو الجن ككفارها
قال: فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله, قال فانطلقت إلى رحلي فشددته على راحلتي فما حللت تسعة ولا عقدت أخرى حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو بالمدينة يعني مكة, والناس عليه كعرف الفرس, فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مرحباً بك يا سواد بن قارب قد علمنا ما جاء بك» قال: قلت يا رسول الله قد قلت شعراً فاسمعه مني قال صلى الله عليه وسلم: «قل يا سواد» فقلت:
أتاني رئي بعد ليل وهجعةولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة:أتاك رسول من لؤي بن غالب
فشمرت عن ساقي الإزار ووسطتبي الدعلب الوجناء بين السباسب
فأشهد أن الله لا رب غيرهوأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين شفاعةإلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير مرسلوإن كان فيما جاء شيب الذوائب
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعةسواك بمغن عن سواد بن قارب
قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال لي: «أفلحت يا سواد» فقال عمر رضي الله عنه: هل يأتيك رئيك الاَن ؟ فقال: منذ قرأت القرآن لم يأتني ونعم العوض كتاب الله عز وجل من الجن. ثم أسنده البهيقي من وجهين آخرين. ومما يدل على وفادتهم إليه صلى الله عليه وسلم بعدما هاجر إلى المدينة الحديث الذي رواه الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة, حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن عبدة المصيصي, حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن أسلم أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني من حدثه عمرو بن غيلان الثقفي قال: أتيت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقلت له: حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن. قال: أجل, قلت: حدثني كيف كان شأنه! فقال إن أهل الصفة أخذ كل رجل منهم رجل يعشيه, وتركت فلم يأخذني أحد منهم, فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من هذا ؟» فقلت: أنا ابن مسعود, فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أخذك أحد يعشيك ؟» فقلت: لا , قال صلى الله عليه وسلم: «فانطلق لعلي أجد لك شيئاً».
قال: فانطلقنا حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة أم سلمة رضي الله عنها, فتركني قائماً ودخل إلى أهله ثم خرجت الجارية فقالت: يا ابن مسعود, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجد لك عشاء فارجع إلى مضجعك, قال فرجعت إلى المسجد فجمعت حصباء المسجد فتوسدته والتففت بثوبي, فلم ألبث إلا قليلاً حتى جاءت الجارية فقالت: أجب رسول الله. فاتبعتها وأنا أرجو العشاء حتى إذا بلغت مقامي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عسيب من نخل فعرض به على صدري فقال صلى الله عليه وسلم: «انطلق أنت معي حيث انطلقت» قلت: ما شاء الله فأعادها علي ثلاث مرات. كل ذلك أقول ما شاء الله فانطلق, وانطلقت معه حتى أتينا بقيع الغرقد فخط صلى الله عليه وسلم بعصاه خطاً ثم قال: «اجلس فيها ولا تبرح حتى آتيك» ثم انطلق يمشي وأنا أنظر إليه خلال النخل, حتى إذا كان من حيث لا أراه ثارت قبله العجاجة السوداء ففرقت فقلت: ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أظن أن هوازن مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه, فأسعى إلى البيوت فأستغيث الناس, فذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن لا أبرح مكاني الذي أنا فيه, فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرعهم بعصاه ويقول: «اجلسوا» فجلسوا حتى كاد ينشق عمود الصبح ثم ثاروا وذهبوا, فأتاني رسول الله فقال: «أنمت بعدي ؟» فقلت: لا ولقد فزعت الفزعة الأولى حتى رأيت أن آتي البيوت, فأستغيث الناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك, وكنت أظنها هوازن مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه, فقال «لو أنك خرجت من هذه الحلقة ما أمنت عليك أن يختطفك بعضهم, فهل رأيت من شيء منهم ؟».
فقلت: رأيت رجالاً سوداً مستشعرين بثياب بيض, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولئك وفد جن نصيبين أتوني فسألوني الزاد والمتاع فمتعتهم بكل عظم حائل أو روثة أو بعرة» قلت: فما يغني عنهم ذلك ؟ قال صلى الله عليه وسلم «إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أكل, ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها الذي كان فيها يوم أكلت فلا يستنق أحد منكم بعظم ولا بعرة» وهذا إسناد غريب جداً ولكن فيه رجل مبهم لم يسم, والله تعالى أعلم. وقد روى الحافظ أبو نعيم من حديث بقية بن الوليد: حدثني نمير بن زيد القنبر. حدثنا أبي, حدثنا قحافة بن ربيعة, حدثني الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في مسجد المدينة فلما انصرف قال: «أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة ؟» فأسكت القوم ثلاثاً, فمر بي فأخذ بيدي فجعلت أمشي معه حتى حبست عنا جبال المدينة كلها, وأفضينا إلى أرض براز فإذا برجال طوال كأنهم الرماح مستشعرين بثيابهم من بين أرجلهم, فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة ثم ذكر نحو حديث ابن مسعود المتقدم, وهذا حديث غريب, والله أعلم.
ومما يتعلق بوفود الجن ما رواه الحافظ أبو نعيم: حدثنا أبو محمد بن حبان, حدثنا أبو الطيب أحمد بن روح, حدثنا يعقوب الدورقي, حدثنا الوليد بن بكير التيمي, حدثنا حصين بن عمر, أخبرني عبيد المكتب عن إبراهيم قال: خرج نفر من أصحاب عبد الله يريدون الحج حتى إذا كانوا في بعض الطريق إذا هم بحية تنثني على الطريق أبيض, ينفح منه ريح المسك فقلت لصحابي: امضوا فلست ببارح حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمر هذه الحية. قال: فما لبثت أن ماتت فعمدت إلى خرقة بيضاء فلففتها فيها ثم نحيتها عن الطريق, فدفنتها وأدركت أصحابي في المتعشى. قال: فوالله إنا لقعود إذ أقبل أربع نسوة من قبل المغرب فقالت واحدة منهن: أيكم دفن عمراً. قلنا: ومن عمرو, قالت: أيكم دفن الحية ؟ قال فقلت: أنا. قالت: أما والله لقد دفنت صواماً قواماً, يأمر بما أنزل الله تعالى, ولقد آمن بنبيكم وسمع صفته من السماء قبل أن يبعث بأربعمائة عام. قال الرجل: فحمدنا الله تعالى ثم قضينا حجتنا ثم مررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة, فأنبأته بأمر الحية فقال: صدقت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لقد آمن بي قبل أن أبعث بأربعمائة سنة» وهذا حديث غريب جداً, والله أعلم.
قال أبو نعيم, وقد روى الثوري عن أبي إسحاق عن الشعبي عن رجل من ثقيف بنحوه, وروى عبد الله بن أحمد والظهراني عن صفوان بن المعطل: هو الذي نزل ودفن تلك الحية من بين الصحابة وأنهم قالوا إنه آخر التسعة موتاً الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمعون القرآن, وروى أبو نعيم من حديث الليث بن سعد عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عمه, عن معاذ بن عبيد الله بن معمر قال: كنت جالساً عند عثمان بن عفان رضي الله عنه, فجاء رجل فقال: يا أمير المؤمنين إني كنت بفلاة من الأرض, فذكر أنه رأى ثعبانين اقتتلا ثم قتل أحدهما الاخر, قال: فذهبت إلى المعترك فوجدت حيات كثيرة مقتولة, وإذ ينفح من بعضها ريح المسك, فجعلت أشمها واحدة واحدة حتى وجدت ذلك من حية صفراء رقيقة, فلففتها في عمامتي ودفنتها, فبينا أنا أمشي إذ ناداني مناد: يا عبد الله لقد هديت, هذان حيان من الجن بنو شعيبان وبنو قيس التقوا فكان من القتلى ما رأيت, واستشهد الذي دفنته وكان من الذين سمعوا الوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقال عثمان لذلك الرجل إن كنت صادقاً فقد رأيت عجباً, وإن كنت كاذباً فعليك كذبك. وقوله تبارك وتعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن} أي طائفة من الجن {يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتو} أي استمعوا وهذا أدب منهم.
وقد قال الحافظ البيهقي: حدثنا الإمام أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان, أخبرنا أبو الحسن محمد بن عبد الله الدقاق, حدثنا محمد بن إبراهيم البوشنجي, حدثنا هشام بن عمار الدمشقي, حدثنا الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال: ما لي أراكم سكوتاً ؟ للجن كانوا أحسن منكم رداً, ما قرأت عليهم هذه الاَية من مرة {فبأي آلاء ربكما تكذبان} إلا قالوا: ولا بشيء من آلائك ونعمك ربنا نكذب فلك الحمد». ورواه الترمذي في التفسير عن أبي مسلم عبد الرحمن بن واقد عن الوليد بن مسلم به قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه, فقرأ عليهم سورة الرحمن فذكره ثم قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد عن زهير بن محمد به مثله. وقوله عز وجل: {فلما قضي} أي فرغ كقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة} {فقضاهن سبع سموات في يومين} {فإذا قضيتم مناسككم} {ولوا إلى قومهم منذرين} أي رجعوا إلى قومهم فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله جل وعلا: {ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} وقد استدل بهذه الاَية على أنه في الجن نذر وليس فيهم رسل, ولا شك أن الجن لم يبعث الله منهم رسولاً لقوله تعالى: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى}. وقال عز وجل: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق}. وقال عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام {وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} فكل نبي بعثه الله تعالى بعد إبراهيم فمن ذريته وسلالته.
فأما قوله تبارك وتعالى في الأنعام: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} فالمراد هنا مجموع الجنسين فيصدق على أحدهما وهو الإنس كقوله: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} أي أحدهما ثم إنه تعالى فسر إنذار الجن لقومهم فقال مخبراً عنهم: {قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى} ولم يذكروا عيسى لأن عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم, وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة فالعمدة هو التوراة, فلهذا قالوا أنزل من بعد موسى, وهكذا قال ورقة بن نوفل حين أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بقصة نزول جبريل عليه الصلاة والسلام أول مرة فقال: بخ بخ! هذا الناموس الذي كان يأتي موسى يا ليتني أكون فيه جذعاً. {مصدقاً لما بين يديه} أي في الكتب المنزلة على الأنبياء قبله, وقوله: {يهدي إلى الحق} أي في الاعتقاد والإخبار {وإلى طريق مستقيم} في الأعمال فإن القرآن مشتمل على شيئين خبر وطلب, فخبره صدق وطلبه عدل, كما قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدل}.
وقال سبحانه وتعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق} فالهدى هو العلم النافع, ودين الحق هو العمل الصالح, وهكذا قالت الجن {يهدي إلى الحق} في الاعتقادات {وإلى طريق مستقيم} أي في العمليات {يا قومنا أجيبوا داعي الله} فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الجن والإنس, حيث دعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وتكليفهم ووعيدهم وهي سورة الرحمن ولهذا قال: {أجيبوا داعي الله وآمنوا به} وقوله تعالى: {يغفر لكم من ذنوبكم} قيل إن من ههنا زائدة وفيه نظر لأن زيادتها في الإثبات قليل, وقيل إنها على بابها للتبعيض {ويجركم من عذاب أليم} أي ويقيكم من عذابه الأليم, وقد استدل بهذه الاَية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة, وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة, ولهذا قالوا هذا في هذا المقام وهو مقام تبجح ومبالغة, فلو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا لأوشك أن يذكروه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثت عن جرير عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا يدخل مؤمنو الجن الجنة لأنهم من ذرية إبليس, ولا تدخل ذرية إبليس الجنة, والحق أن مؤمنيهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة كما هو مذهب جماعة من السلف, وقد استدل بعضهم لهذا بقوله عز وجل: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} وفي هذا الاستدلال نظر, وأحسن منه قوله جل وعلا: {ولمن خاف مقام ربه جنتان * فبأي آلاء ربكما تكذبان} فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة, وقد قابلت الجن هذه الاَية بالشكر القولي أبلغ من الإنس فقالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد, فلم يكن تعالى ليمتن عليهم جزاء لا يحصل لهم, وأيضاً فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار وهو مقام عدل فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة وهو مقام فضل بطريق الأولى والأحرى. ومما يدل أيضاً على ذلك قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزل} وما أشبه ذلك من الاَيات.
وقد أفردت هذه المسألة في جزء على حدة ولله الحمد والمنة, وهذه الجنة لا يزال فيها فضل ينشىء الله تعالى لها خلقاً أفلا يسكنها من آمن به وعمل صالحاً, وما ذكروه ههنا من الجزاء على الإيمان من تكفير الذنوب والإجارة من العذاب الأليم هو يستلزم دخول الجنة, لأنه ليس في الاَخرة إلا الجنة والنار, فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة, ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن الشرع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة, وإن أجيروا من النار, ولو صح لقلنا به, والله أعلم. وهذا نوح عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: {يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى} ولا خلاف أن مؤمني قومه في الجنة فكذلك هؤلاء. وقد حكي فيهم أقوال غريبة. فعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنهم لا يدخلون بحبوحة الجنة, وإنما يكونون في ربضها وحولها وفي أرجائها, ومن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم ولا يرون بني آدم بعكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا. ومن الناس من قال: لا يأكلون في الجنة ولا يشربون وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس عوضاً عن الطعام والشراب كالملائكة لأنهم من جنسهم, وكل هذه الأقوال فيها نظر ولا دليل عليها, ثم قال مخبراً عنهم {ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض} أي بل قدرة الله شاملة له ومحيطة به {وليس من دونه أولياء} أي لا يجيرهم منه أحد {أولئك في ضلال مبين} وهذا مقام تهديد وترهيب فدعوا قومهم بالترغيب والترهيب, ولهذا نجع في كثير منهم وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفوداً كما تقدم بيانه, ولله الحمد والمنة والله أعلم.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 506
506 : تفسير الصفحة رقم 506 من القرآن الكريم** وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قَالُوَاْ أَنصِتُواْ فَلَمّا قُضِيَ وَلّوْاْ إِلَىَ قَوْمِهِم مّنذِرِينَ * قَالُواْ يَقَوْمَنَآ إِنّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىَ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيَ إِلَى الْحَقّ وَإِلَىَ طَرِيقٍ مّسْتَقِيمٍ * يَقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللّهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لاّ يُجِبْ دَاعِيَ اللّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضَ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَـَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان, حدثنا عمرو, سمعت عكرمة عن الزبير, {وإِذ صرفنا إِليك نفراً من الجن يستمعون القرآن} قال: بنخلة, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الاَخرة {كادوا يكونون عليه لبد} قال سفيان: ألبد بعضهم على بعض كاللبد بعضه على بعض, تفرد به أحمد, وسيأتي من رواية ابن جرير عن عكرمة, عن ابن عباس أنهم سبعة من جن نصيبين. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا أبو عوانة (ح) وقال الإمام الشهير الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد عبدان, أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار, حدثنا إِسماعيل القاضي أخبرنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم, انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء, وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إِلى قومهم فقالوا مالكم, فقالوا حيل بيننا وبين خبر السماء, فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء.
فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامداً إِلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر, فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء, فهناك حين رجعوا إِلى قومهم {قالوا إِنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إِلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحد} وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم {قل أوحي إِلي أنه استمع نفر من الجن} وإِنما أوحي إليه قول الجن رواه البخاري عن مسدد بنحوه, وأخرجه مسلم عن شيبان بن فروخ عن أبي عوانة به, ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من حديث أبي عوانة, وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو أحمد, حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الجن يستمعون الوحي فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشراً, فيكون ما سمعوا حقاً وما زادوا باطلاً, وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك, فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب, فشكوا ذلك إلى إبليس فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث, فبث جنوده فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بين جبلي نخلة, فأتوه فأخبروه فقال: هذا الحديث الذي حدث في الأرض, ورواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما من حديث إسرائيل به, وقال الترمذي: حسن صحيح, وهكذا رواه ايوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما, وكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً بمثل هذا السياق بطوله, وهكذا قال الحسن البصري إنه صلى الله عليه وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم, وذكر محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن محمد بن كعب القرظي قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ودعائه إياهم إلى الله عز وجل وإبائهم عليه, فذكر القصة بطولها وأورد ذلك الدعاء الحسن «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين وأنت رب المستضعفين, وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى صديق قريب ملكته أمري, إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي, أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والاَخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك, ولك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك».
قال: فلما انصرف عنهم بات بنخلة فقرأ تلك الليلة من القرآن فاستمعه الجن من أهل نصيبين, وهذا صحيح, ولكن قوله إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر, فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء كما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهماالمذكور, وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان بعد موت عمه, وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره, والله أعلم, وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو أحمد الزبيري, حدثنا سفيان عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن النخلة {فلما حضروه قالوا أَنصتو} قال صه, وكانوا تسعة وأحدهم زوبعة, فأنزل الله عز وجل: {وإذْ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ـ إلى ـ ضلال مبين} فهذا مع الأول من رواية ابن عباس رضي الله عنهما يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة, وإنما استمعوا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم, ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالاً قوماً بعد قوم وفوجاً بعد فوج, كما ستأتي بذلك الأخبار في موضعها والاَثار مما سنوردها إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
فأما ما رواه البخاري ومسلم جميعاً عن أبي قدامة عبيد الله بن سعيد السرخسي, عن أبي أسامة حماد بن أسامة عن مسعر بن كدام, عن معن بن عبد الرحمن, قال: سمعت أبي يقول: سألت مسروقاً من آذن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن ؟ فقال: حدثني أبوك يعني ابن مسعود رضي الله عنه أنه آذنته بهم شجرة, فيحتمل أن يكون هذا في المرة الأولى ويكون إثباتاً مقدماً على نفي ابن عباس رضي الله عنهما, ويحتمل أن يكون في المرة الأولى, ولكن لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم الشجرة أي أعلمته باجتماعهم, والله أعلم, ويحتمل أن يكون هذا في بعض المرات المتأخرات, والله أعلم.
قال الحافظ البيهقي: وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعلمت حاله, وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم, ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عز وجل كما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(ذكر الروايات عنه بذلك)
قال الإمام أحمد: حدثنا إِسماعيل بن إبراهيم, حدثنا داود عن الشعبي وابن أبي زائدة, أخبرنا داود عن الشعبي عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد ؟ فقال: ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة فقلنا اغتيل ؟ استطير ؟ ما فعل ؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم, فلما كان في وجه الصبح ـ أو قال ـ في السحر إذا نحن به يجيء من قبل حراء, فقلنا: يا رسول الله, فذكروا له الذي كانوا فيه فقال: «إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم» قال: فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم قال: قال الشعبي: سألوه الزاد, قال عامر: سألوه بمكة وكانوا من جن الجزيرة فقال: «كل عظم ذكر اسم الله عليه أن يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً, وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم ـ قال ـ فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن» وهكذا رواه مسلم في صحيحه عن علي بن حجر عن إسماعيل بن علية به نحوه.
وقال مسلم أيضاً: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا داود وهو ابن أبي هند عن عامر قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود رضي الله عنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود رضي الله عنه فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال: لا ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه, فالتمسناه في الأودية والشعاب فقيل استطير ؟ اغتيل ؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم, فلما أصبحنا إذ هو جاء من قبل حراء, قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك, فبتنا بشر ليلة بات بها قوم, فقال: «أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن». قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم, وسألوه الزاد فقال: «كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر مايكون لحماً, وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم».
(طريق أخرى) عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال أبو جعفر بن جرير: حدثني أحمد بن عبد الرحمن, حدثني عمي, حدثني يونس عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله قال: إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بت الليلة أقرأ على الجن واقفاً بالحجون».
(طريق أخرى) فيها أنه كان معه ليلة الجن. قال ابن جرير رحمه الله: حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب, حدثنا عمي عبد الله بن وهب, أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي عثمان بن سنة الخزاعي, وكان من أهل الشام قال: إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو بمكة: «من أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة فليفعل» فلم يحضر منهم أحد غيري, قال: فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خطّ لي برجله خطاً ثم أمرني أن أجلس فيه ثم انطلق حتى قام, فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته, ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب, ذاهبين حتى بقي منهم رهط, ففرغ رسول الله, فأعطاهم عظماً وروثاً, ثم نهى أن يستطيب أحد بروث أو عظم. ورواه ابن جرير عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن أبي زرعة وهب بن راشد عن يونس بن يزيد الأيلي به.
ورواه البيهقي في الدلائل من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث عن يونس به, وقد روى إسحاق بن راهويه عن جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه, فذكر نحو ما تقدم ورواه الحافظ أبو نعيم من طريق موسى بن عبيدة عن سعيد بن الحارث عن أبي المعلى عن ابن مسعود رضي الله عنه, فذكر نحوه أيضاً.
(طريق أخرى) قال أبو نعيم: حدثنا أبو مالك, حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثني أبي قال: حدثنا عفان وعكرمة قالا: حدثنا معتمر قال: قال أبي: حدثني أبو تميمة عن عمرو, ولعله قد يكون قال البكالي يحدثه عمرو عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقنا حتى أتينا مكان كذا وكذا, فخط لي خطاً فقال: «كن بين ظهر هذه لا تخرج منها فإنك إن خرجت هلكت» فذكر الحديث بطوله وفيه غرابة شديدة.
(طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى, حدثنا ابن ثور عن معمر عن يحيى بن أبي كثير, عن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي أنه قال لابن مسعود رضي الله عنه: حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن. قال: أجل, قال: فكيف كان ؟ فذكر الحديث وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خط عليه خطاً وقال: «لا تبرح منها» فذكر مثل العجاجة السوداء فغشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذعر ثلاث مرات حتى كان قريباً من الصبح أتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أنمت ؟» فقلت: لا والله, ولقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول «اجلسوا» فقال صلى الله عليه وسلم: «لو خرجت لم آمن أن يتخطفك بعضهم» ثم قال صلى الله عليه وسلم «هل رأيت شيئاً ؟» قلت: نعم رأيت رجالاً سوداً مستشعرين ثياباً بيضاً قال صلى الله عليه وسلم: «أولئك جن نصيبين سألوني المتاع ـ والمتاع الزاد ـ فمتعتهم بكل عظم حائل أو بعرة أو روثة فقلت يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل. ولا روثاً إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت, فلا يستنقين أحد منكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة».
(طريق أخرى) قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الرحمن السملي وأبو نصر بن قتادة قال أخبرنا أبو محمد بن يحيى بن منصور القاضي, حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي, حدثنا روح بن صلاح, حدثنا موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن نفراً من الجن خمسة عشر بني إخوة وبني عم يأتوني الليلة أقرأ عليهم القرآن» فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد فخط لي خطاً وأجلسني فيه وقال لي «لاتخرج من هذا» فبت فيه حتى أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع السحر في يده عظم حائل وروثة وحمة فقال: «إذا ذهبت إلى الخلاء فلا تستنج بشيء من هؤلاء» قال: فلما أصبحت قلت لأعلمن حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذهبت فرأيت موضع مبرك ستين بعيراً.
(طريق أخرى) قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ, أخبرنا أبو العباس الأصم, حدثنا العباس بن محمد الدوري, حدثنا عثمان بن عمر عن الشمر بن الريان عن أبي الجوزاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: انطلقت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون, فخط لي خطاً ثم تقدم إليهم, فازدحموا عليه فقال سيد لهم يقال له وردان: أنا أرحلهم عنك. فقال: إني لن يجيرني من الله أحد.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا سفيان بن أبي فزارة العبسي, حدثنا أبو زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما كانت ليلة الجن قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «أمعك ماء ؟» قلت: ليس معي ماء ولكن معي إِداوة فيها نبيذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تمرة طيبة وماء طهور» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث زيد به.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق, أخبرنا ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم قال: إنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله أمعك ماء ؟» قال: معي نبيذ في إداوة. قال صلى الله عليه وسلم: «اصبب عليّ» فتوضأ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ياعبد الله شراب وطهور» تفرد به أحمد من هذا الوجه, وقد أورده الدارقطني من طريق آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرني أبي عن ميناء عن عبد الله رضي الله عنه قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن, فلما انصرف تنفس فقلت: ما شأنك ؟ قال: «نعيت إلي نفسي ياابن مسعود» هكذا رأيته في المسند مختصراً, وقد رواه الحافظ أبو نعيم في كتابه دلائل النبوة فقال: حدثنا سليمان بن أحمد بن أيوب, حدثنا إسحاق بن إبراهيم, وحدثنا أبو بكر بن مالك حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الرزاق عن أبيه عن ميناء عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعيت إلي نفسي ياابن مسعود» قلت: استخلف. قال: «من ؟» قلت: أبا بكر. قال: فسكت ثم مضى ساعة فتنفس فقلت: ما شأنك بأبي أنت وأمي يا رسول الله ؟ قال: «نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود» قلت: استخلف. قال: «من ؟» قلت: عمر. فسكت ساعة ثم مضى ثم تنفس فقلت ؟ ما شأنك ؟ قال: «نعيت إلي نفسي» قلت: فاستخلف قال صلى الله عليه وسلم «من ؟» قلت: علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال صلى الله عليه وسلم: «أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلن الجنة أجمعين أكتعين» وهو حديث غريب جداً وأحرى به أن لا يكون محفوظاً, وبتقدير صحته فالظاهر أن هذا بعد وفودهم إليه بالمدينة على ما سنورده إن شاء الله تعالى, فإن في ذلك الوقت كان في آخر الأمر لما فتحت مكة ودخل الناس والجان أيضاً في دين الله أفواجاً نزلت سورة {إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواب} وهي السورة التي نعيت نفسه الكريمة فيها إليه كما نص على ذلك ابن عباس رضي الله عنهما, ووافقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عليه, وقد ورد في ذلك حديث سنورده إن شاء الله تعالى عند تفسيرها, والله أعلم وقد رواه أبو نعيم أيضاً عن الطبري عن محمد بن عبد الله الحضرمي عن علي بن الحسين بن أبي بردة, عن يحيى بن سعيد الأسلمي, عن حرب بن صبيح عن سعيد بن سلمة عن أبي مرة الصنعاني, عن أبي عبد الله الجدلي عن ابن مسعود رضي الله عنه فذكره وذكر فيه قصة الاستخلاف, وهذا إسناد غريب وسياق عجيب.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد, حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط حوله, فكان أحدهم مثل سواد النخل وقال: «لا تبرح مكانك فأقرئهم كتاب الله» فلما رأى المرعى قال: كأنهم هؤلاء وقال النبي صلى الله عليه وسلم «أمعك ماء ؟» قلت: لا. قال: «أمعك نبيذ ؟» قلت: نعم فتوضأ به.
(طريق أخرى مرسلة) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الظهراني, أخبرنا حفص بن عمر العدني, حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة في قوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن} قال هم اثنا عشر ألفاً جاؤوا من جزيرة الموصل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود رضي الله عنه: «أنظرني حتى آتيك» وخط عليه خطاً وقال «لا تبرح حتى آتيك» فلما خشيهم ابن مسعود رضي الله عنه كاد أن يذهب, فذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبرح, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لو ذهبت ما التقينا إلى يوم القيامة».
(طريق أخرى مرسلة أيضاً): قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن} قال: ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى وأن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني أمرت أن أقرأ على الجن فأيكم يتبعني ؟» فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا ثم استتبعهم الثالثة فقال رجل: يا رسول الله إن ذاك لذو ندبة, فأتبعه ابن مسعود رضي الله عنه أخو هذيل, قال فدخل النبي صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له شعب الحجون وخط عليه, وخط على ابن مسعود رضي الله عنه خطاً ليثبته بذلك, قال: فجعلت أهال وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم تلا القرآن فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله ما اللغط الذي سمعت ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «اختصموا في قتيل فقضي بينهم بالحق» رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
فهذه الطرق كلها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجن قصداً فتلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عز وجل وشرع الله تعالى لهم على لسانه ماهم محتاجون إليه في ذلك الوقت وقد يحتمل أن أول مرة سمعوه يقرأ القرآن لم يشعر بهم, كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. ثم بعد ذلك وفدوا إليه كما رواه ابن مسعود رضي الله عنه, وأما ابن مسعود رضي الله عنه فإنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حال مخاطبته للجن ودعائه إياهم, وإنما كان بعيداً منه ولم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد سواه ومع هذا لم يشهد حال المخاطبة, هذه طريقة البيهقي, وقد يحتمل أن يكون أول مرة خرج إليهم لم يكن معه صلى الله عليه وسلم ابن مسعود رضي الله عنه ولا غيره, كما هو ظاهر سياق الرواية الأولى من طريق الإِمام أحمد, وهي عند مسلم, ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى, والله أعلم, كما روى ابن أبي حاتم في تفسير «قل أوحي إِلي» من حديث ابن جريج قال: قال عبد العزيز بن عمر: أما الجن الذي لقوه بنخلة فجن نينوى, وأما الجن الذين لقوه بمكة فجن نصيبين, وتأوله البيهقي على أنه يقول فبتنا بشر ليلة بات بها قوم على غير ابن مسعود رضي الله عنه ممن لم يعلم بخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الجن, وهو محتمل على بعد, والله أعلم.
وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي,: أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الله الأديب, حدثنا أبو بكر الإسماعيلي, أخبرنا الحسن بن سفيان, حدثنا سويد بن سعيد, حدثنا عمرو بن يحيى عن جده سعيد بن عمرو قال: كان أبو هريرة رضي الله عنه يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأداوة لوضوئه وحاجته, فأدركه يوماً فقال «من هذا ؟» قال: أنا أبو هريرة. قال صلى الله عليه وسلم: «ائتني بأحجار أستنج بها ولا تأتني بعظم ولا روثة فأتيته بأحجار في ثوبي فوضعتها إلى جنبه حتى إذا فرغ وقام اتبعته فقلت: يا رسول الله ما بال العظم والروثة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أتاني وفد جن نصيبين فسألوني الزاد فدعوت الله تعالى لهم أن لا يمروا بروثة ولا عظم إلا وجدوه طعاماً» أخرجه البخاري في صحيحه عن موسى بن إسماعيل عن عمرو بن يحيى بإسناده قريباً منه, فهذا يدل على ما تقدم على أنهم وفدوا عليه بعد ذلك وسنذكر إن شاء الله تعالى ما يدل على تكرار ذلك.
وقد روى ابن عباس غير ما روى عنه أولاً من وجه جديد, فقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا عبد الحميد الحماني, حدثنا النضر بن عربي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن} الاَية. قال: كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين, فجعلهم رسول الله رسلاً إلى قومهم. فهذا يدل على أنه روى القصتين. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا سويد بن عبد العزيز, حدثنا رجل سماه عن ابن جريج عن مجاهد {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن} الاَية, قال كانوا سبعة نفر ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين, وكانت أسماؤهم حيي وحسي ومنسى وساصر وناصر والاردوبيان والأحتم, وذكر أبو حمزة الثمالي أن هذا الحي من الجن كان يقال له بنو الشيصان وكانوا أكثر الجن عدداً وأشرفهم نسباً, وهم كانوا عامة جنود إبليس.
وقال سفيان الثوري عن عاصم عن ذر عن بن مسعود رضي الله عنه كانوا تسعة أحدهم زوبعة, أتوه من أصل نخلة, وتقدم عنهم أنهم كانوا خمسة عشر, وفي رواية أنهم كانوا على ستين راحلة, وتقدم عنه أن اسم سيدهم وردان, وقيل: كانوا ثلثمائة, وتقدم عن عكرمة على أنهم كانوا اثني عشر ألفاً, فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرار وفادتهم عليه صلى الله عليه وسلم, ومما يدل على ذلك ما قاله البخاري في صحيحه: حدثنا يحيى بن سليمان حدثني ابن وهب, حدثني عمر هو ابن محمد قال: إن سالماً حدثه عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: ما سمعت عمر رضي الله عنه يقول لشيء قط إني لأظنه هكذا إلا كان كما يظن بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس إذ مر به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني أو أن هذا على دينه في الجاهلية أو لقد كان كاهنهم, علي بالرجل, فدعي له, فقال له ذلك فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني قال: كنت كاهنهم في الجاهلية قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك, قال: بينما أنا يوماً في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع فقالت:
ألم تر الجن وإِبلاسهاويأسها من بعد إنكاسها
ولحوقها بالقلاص وأحلاسها
قال عمر رضي الله عنه: صدق بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه يقول: ياجليح, أمر نجيج رجل فصيح, يقول لا إله إلا الله قال: فوثب القوم فقلت: لا أبرح حتى أعلم ماوراء هذا, ثم نادى ياجليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله, فقمت فما نشبنا أن قيل هذا نبي. هذا سياق البخاري, وقد رواه البيهقي من حديث ابن وهب بنحوه, ثم قال وظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر رضي الله عنه بنفسه سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح, وكذلك هو صريح في رواية ضعيفة عن عمر رضي الله عنه, وسائر الروايات تدل على أن هذا الكاهن هو الذي أخبر بذلك عن رؤيته وسماعه, والله أعلم, وهذا الذي قاله البيهقي هو المتجه وهذا الرجل هو سواد بن قارب, وقد ذكرت هذا مستقصى في سيرة عمر رضي الله عنه فمن أراده فليأخذه من ثم, ولله الحمد والمنة.) وقال البيهقي: حديث سواد بن قارب, ويشبه أن يكون هذا هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح, أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المفسر من أصل سماعه, أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصبهاني قراءة عليه, حدثنا أبو جعفر أحمد بن موسى الحمار الكوفي بالكوفة, حدثنا زياد بن يزيد بن بادويه, حدثنا أبو بكر القصري حدثنا محمد بن النواس الكوفي, حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: أيها الناس أفيكم سواد بن قارب ؟ قال: فلم يجبه أحد تلك السنة. فلما كانت السنة المقبلة قال: أيها الناس أفيكم سواد بن قارب ؟ قال: فقلت يا أمير المؤمنين وما سواد بن قارب ؟ قال فقال له عمر رضي الله عنه: إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئاً عجيباً, قال فبينما نحن كذلك إذ طلع سواد بن قارب قال: فقال له عمر رضي الله عنه: يا سواد حدثنا ببدء إسلامك كيف كان ؟ قال سواد رضي الله عنه: فإني كنت نازلاً بالهند وكان لي رئي من الجن, قال فبينما أنا ذات ليلة نائم إذ جاءني في منامي ذلك, قال قم فافهم واعقل إن كنت تعقل, قد بعث رسول من لؤي بن غالب ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتحساسهاوشدها العيس بأحلاسهاتهوي إلى مكة تبغي الهدىما خير الجن كأنجاسهافانهض إلى الصفوة من هاشمواسم بعينيك إلى راسها
قال: ثم أنبهني فأفزعني وقال يا سواد بن قارب, إن الله عز وجل بعث نبياً فانهض إليه تهتد وترشد, فلما كان من الليلة الثانية أتاني فأنبهني ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتطلابهاوشدها العيس بأقتابهاتهوي إلى مكة تبغي الهدىليس قداماها كأذنابهافانهض إلى الصفوة من هاشمواسم بعينيك إلى قابها
فلما كان في الليلة الثالثة أتاني فأنبهني ثم قال:
عجبت للجن وتخبارهاوشدها العيس بأكوارهاتهوي إلى مكة تبغي الهدىليس ذوو الشر كأخيارهافانهض إلى الصفوة من هاشمما مؤمنو الجن ككفارها
قال: فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله, قال فانطلقت إلى رحلي فشددته على راحلتي فما حللت تسعة ولا عقدت أخرى حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو بالمدينة يعني مكة, والناس عليه كعرف الفرس, فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مرحباً بك يا سواد بن قارب قد علمنا ما جاء بك» قال: قلت يا رسول الله قد قلت شعراً فاسمعه مني قال صلى الله عليه وسلم: «قل يا سواد» فقلت:
أتاني رئي بعد ليل وهجعةولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة:أتاك رسول من لؤي بن غالب
فشمرت عن ساقي الإزار ووسطتبي الدعلب الوجناء بين السباسب
فأشهد أن الله لا رب غيرهوأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين شفاعةإلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير مرسلوإن كان فيما جاء شيب الذوائب
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعةسواك بمغن عن سواد بن قارب
قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال لي: «أفلحت يا سواد» فقال عمر رضي الله عنه: هل يأتيك رئيك الاَن ؟ فقال: منذ قرأت القرآن لم يأتني ونعم العوض كتاب الله عز وجل من الجن. ثم أسنده البهيقي من وجهين آخرين. ومما يدل على وفادتهم إليه صلى الله عليه وسلم بعدما هاجر إلى المدينة الحديث الذي رواه الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة, حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن عبدة المصيصي, حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن أسلم أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني من حدثه عمرو بن غيلان الثقفي قال: أتيت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقلت له: حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن. قال: أجل, قلت: حدثني كيف كان شأنه! فقال إن أهل الصفة أخذ كل رجل منهم رجل يعشيه, وتركت فلم يأخذني أحد منهم, فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من هذا ؟» فقلت: أنا ابن مسعود, فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أخذك أحد يعشيك ؟» فقلت: لا , قال صلى الله عليه وسلم: «فانطلق لعلي أجد لك شيئاً».
قال: فانطلقنا حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة أم سلمة رضي الله عنها, فتركني قائماً ودخل إلى أهله ثم خرجت الجارية فقالت: يا ابن مسعود, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجد لك عشاء فارجع إلى مضجعك, قال فرجعت إلى المسجد فجمعت حصباء المسجد فتوسدته والتففت بثوبي, فلم ألبث إلا قليلاً حتى جاءت الجارية فقالت: أجب رسول الله. فاتبعتها وأنا أرجو العشاء حتى إذا بلغت مقامي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عسيب من نخل فعرض به على صدري فقال صلى الله عليه وسلم: «انطلق أنت معي حيث انطلقت» قلت: ما شاء الله فأعادها علي ثلاث مرات. كل ذلك أقول ما شاء الله فانطلق, وانطلقت معه حتى أتينا بقيع الغرقد فخط صلى الله عليه وسلم بعصاه خطاً ثم قال: «اجلس فيها ولا تبرح حتى آتيك» ثم انطلق يمشي وأنا أنظر إليه خلال النخل, حتى إذا كان من حيث لا أراه ثارت قبله العجاجة السوداء ففرقت فقلت: ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أظن أن هوازن مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه, فأسعى إلى البيوت فأستغيث الناس, فذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن لا أبرح مكاني الذي أنا فيه, فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرعهم بعصاه ويقول: «اجلسوا» فجلسوا حتى كاد ينشق عمود الصبح ثم ثاروا وذهبوا, فأتاني رسول الله فقال: «أنمت بعدي ؟» فقلت: لا ولقد فزعت الفزعة الأولى حتى رأيت أن آتي البيوت, فأستغيث الناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك, وكنت أظنها هوازن مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه, فقال «لو أنك خرجت من هذه الحلقة ما أمنت عليك أن يختطفك بعضهم, فهل رأيت من شيء منهم ؟».
فقلت: رأيت رجالاً سوداً مستشعرين بثياب بيض, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولئك وفد جن نصيبين أتوني فسألوني الزاد والمتاع فمتعتهم بكل عظم حائل أو روثة أو بعرة» قلت: فما يغني عنهم ذلك ؟ قال صلى الله عليه وسلم «إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أكل, ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها الذي كان فيها يوم أكلت فلا يستنق أحد منكم بعظم ولا بعرة» وهذا إسناد غريب جداً ولكن فيه رجل مبهم لم يسم, والله تعالى أعلم. وقد روى الحافظ أبو نعيم من حديث بقية بن الوليد: حدثني نمير بن زيد القنبر. حدثنا أبي, حدثنا قحافة بن ربيعة, حدثني الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في مسجد المدينة فلما انصرف قال: «أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة ؟» فأسكت القوم ثلاثاً, فمر بي فأخذ بيدي فجعلت أمشي معه حتى حبست عنا جبال المدينة كلها, وأفضينا إلى أرض براز فإذا برجال طوال كأنهم الرماح مستشعرين بثيابهم من بين أرجلهم, فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة ثم ذكر نحو حديث ابن مسعود المتقدم, وهذا حديث غريب, والله أعلم.
ومما يتعلق بوفود الجن ما رواه الحافظ أبو نعيم: حدثنا أبو محمد بن حبان, حدثنا أبو الطيب أحمد بن روح, حدثنا يعقوب الدورقي, حدثنا الوليد بن بكير التيمي, حدثنا حصين بن عمر, أخبرني عبيد المكتب عن إبراهيم قال: خرج نفر من أصحاب عبد الله يريدون الحج حتى إذا كانوا في بعض الطريق إذا هم بحية تنثني على الطريق أبيض, ينفح منه ريح المسك فقلت لصحابي: امضوا فلست ببارح حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمر هذه الحية. قال: فما لبثت أن ماتت فعمدت إلى خرقة بيضاء فلففتها فيها ثم نحيتها عن الطريق, فدفنتها وأدركت أصحابي في المتعشى. قال: فوالله إنا لقعود إذ أقبل أربع نسوة من قبل المغرب فقالت واحدة منهن: أيكم دفن عمراً. قلنا: ومن عمرو, قالت: أيكم دفن الحية ؟ قال فقلت: أنا. قالت: أما والله لقد دفنت صواماً قواماً, يأمر بما أنزل الله تعالى, ولقد آمن بنبيكم وسمع صفته من السماء قبل أن يبعث بأربعمائة عام. قال الرجل: فحمدنا الله تعالى ثم قضينا حجتنا ثم مررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة, فأنبأته بأمر الحية فقال: صدقت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لقد آمن بي قبل أن أبعث بأربعمائة سنة» وهذا حديث غريب جداً, والله أعلم.
قال أبو نعيم, وقد روى الثوري عن أبي إسحاق عن الشعبي عن رجل من ثقيف بنحوه, وروى عبد الله بن أحمد والظهراني عن صفوان بن المعطل: هو الذي نزل ودفن تلك الحية من بين الصحابة وأنهم قالوا إنه آخر التسعة موتاً الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمعون القرآن, وروى أبو نعيم من حديث الليث بن سعد عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عمه, عن معاذ بن عبيد الله بن معمر قال: كنت جالساً عند عثمان بن عفان رضي الله عنه, فجاء رجل فقال: يا أمير المؤمنين إني كنت بفلاة من الأرض, فذكر أنه رأى ثعبانين اقتتلا ثم قتل أحدهما الاخر, قال: فذهبت إلى المعترك فوجدت حيات كثيرة مقتولة, وإذ ينفح من بعضها ريح المسك, فجعلت أشمها واحدة واحدة حتى وجدت ذلك من حية صفراء رقيقة, فلففتها في عمامتي ودفنتها, فبينا أنا أمشي إذ ناداني مناد: يا عبد الله لقد هديت, هذان حيان من الجن بنو شعيبان وبنو قيس التقوا فكان من القتلى ما رأيت, واستشهد الذي دفنته وكان من الذين سمعوا الوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقال عثمان لذلك الرجل إن كنت صادقاً فقد رأيت عجباً, وإن كنت كاذباً فعليك كذبك. وقوله تبارك وتعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن} أي طائفة من الجن {يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتو} أي استمعوا وهذا أدب منهم.
وقد قال الحافظ البيهقي: حدثنا الإمام أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان, أخبرنا أبو الحسن محمد بن عبد الله الدقاق, حدثنا محمد بن إبراهيم البوشنجي, حدثنا هشام بن عمار الدمشقي, حدثنا الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال: ما لي أراكم سكوتاً ؟ للجن كانوا أحسن منكم رداً, ما قرأت عليهم هذه الاَية من مرة {فبأي آلاء ربكما تكذبان} إلا قالوا: ولا بشيء من آلائك ونعمك ربنا نكذب فلك الحمد». ورواه الترمذي في التفسير عن أبي مسلم عبد الرحمن بن واقد عن الوليد بن مسلم به قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه, فقرأ عليهم سورة الرحمن فذكره ثم قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد عن زهير بن محمد به مثله. وقوله عز وجل: {فلما قضي} أي فرغ كقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة} {فقضاهن سبع سموات في يومين} {فإذا قضيتم مناسككم} {ولوا إلى قومهم منذرين} أي رجعوا إلى قومهم فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله جل وعلا: {ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} وقد استدل بهذه الاَية على أنه في الجن نذر وليس فيهم رسل, ولا شك أن الجن لم يبعث الله منهم رسولاً لقوله تعالى: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى}. وقال عز وجل: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق}. وقال عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام {وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} فكل نبي بعثه الله تعالى بعد إبراهيم فمن ذريته وسلالته.
فأما قوله تبارك وتعالى في الأنعام: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} فالمراد هنا مجموع الجنسين فيصدق على أحدهما وهو الإنس كقوله: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} أي أحدهما ثم إنه تعالى فسر إنذار الجن لقومهم فقال مخبراً عنهم: {قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى} ولم يذكروا عيسى لأن عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم, وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة فالعمدة هو التوراة, فلهذا قالوا أنزل من بعد موسى, وهكذا قال ورقة بن نوفل حين أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بقصة نزول جبريل عليه الصلاة والسلام أول مرة فقال: بخ بخ! هذا الناموس الذي كان يأتي موسى يا ليتني أكون فيه جذعاً. {مصدقاً لما بين يديه} أي في الكتب المنزلة على الأنبياء قبله, وقوله: {يهدي إلى الحق} أي في الاعتقاد والإخبار {وإلى طريق مستقيم} في الأعمال فإن القرآن مشتمل على شيئين خبر وطلب, فخبره صدق وطلبه عدل, كما قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدل}.
وقال سبحانه وتعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق} فالهدى هو العلم النافع, ودين الحق هو العمل الصالح, وهكذا قالت الجن {يهدي إلى الحق} في الاعتقادات {وإلى طريق مستقيم} أي في العمليات {يا قومنا أجيبوا داعي الله} فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الجن والإنس, حيث دعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وتكليفهم ووعيدهم وهي سورة الرحمن ولهذا قال: {أجيبوا داعي الله وآمنوا به} وقوله تعالى: {يغفر لكم من ذنوبكم} قيل إن من ههنا زائدة وفيه نظر لأن زيادتها في الإثبات قليل, وقيل إنها على بابها للتبعيض {ويجركم من عذاب أليم} أي ويقيكم من عذابه الأليم, وقد استدل بهذه الاَية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة, وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة, ولهذا قالوا هذا في هذا المقام وهو مقام تبجح ومبالغة, فلو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا لأوشك أن يذكروه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثت عن جرير عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا يدخل مؤمنو الجن الجنة لأنهم من ذرية إبليس, ولا تدخل ذرية إبليس الجنة, والحق أن مؤمنيهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة كما هو مذهب جماعة من السلف, وقد استدل بعضهم لهذا بقوله عز وجل: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} وفي هذا الاستدلال نظر, وأحسن منه قوله جل وعلا: {ولمن خاف مقام ربه جنتان * فبأي آلاء ربكما تكذبان} فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة, وقد قابلت الجن هذه الاَية بالشكر القولي أبلغ من الإنس فقالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد, فلم يكن تعالى ليمتن عليهم جزاء لا يحصل لهم, وأيضاً فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار وهو مقام عدل فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة وهو مقام فضل بطريق الأولى والأحرى. ومما يدل أيضاً على ذلك قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزل} وما أشبه ذلك من الاَيات.
وقد أفردت هذه المسألة في جزء على حدة ولله الحمد والمنة, وهذه الجنة لا يزال فيها فضل ينشىء الله تعالى لها خلقاً أفلا يسكنها من آمن به وعمل صالحاً, وما ذكروه ههنا من الجزاء على الإيمان من تكفير الذنوب والإجارة من العذاب الأليم هو يستلزم دخول الجنة, لأنه ليس في الاَخرة إلا الجنة والنار, فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة, ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن الشرع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة, وإن أجيروا من النار, ولو صح لقلنا به, والله أعلم. وهذا نوح عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: {يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى} ولا خلاف أن مؤمني قومه في الجنة فكذلك هؤلاء. وقد حكي فيهم أقوال غريبة. فعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنهم لا يدخلون بحبوحة الجنة, وإنما يكونون في ربضها وحولها وفي أرجائها, ومن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم ولا يرون بني آدم بعكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا. ومن الناس من قال: لا يأكلون في الجنة ولا يشربون وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس عوضاً عن الطعام والشراب كالملائكة لأنهم من جنسهم, وكل هذه الأقوال فيها نظر ولا دليل عليها, ثم قال مخبراً عنهم {ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض} أي بل قدرة الله شاملة له ومحيطة به {وليس من دونه أولياء} أي لا يجيرهم منه أحد {أولئك في ضلال مبين} وهذا مقام تهديد وترهيب فدعوا قومهم بالترغيب والترهيب, ولهذا نجع في كثير منهم وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفوداً كما تقدم بيانه, ولله الحمد والمنة والله أعلم.
الصفحة رقم 506 من المصحف تحميل و استماع mp3