تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 515 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 515

515 : تفسير الصفحة رقم 515 من القرآن الكريم

** مّحَمّدٌ رّسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّآءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىَ عَلَىَ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ مِنْهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً
يخبر تعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسوله حقاً بلا شك ولا ريب فقال: {محمد رسول الله} وهذا مبتدأ وخبر, وهو مشتمل على كل وصف جميل, ثم ثنى بالثناء على أصحابه رضي الله عنهم فقال: {والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} كما قال عز وجل: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديداً عنيفاً على الكفار, رحيماً براً بالأخيار, غضوباً عبوساً في وجه الكافر ضحوكاً بشوشاً في وجه أخيه المؤمن كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذي يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد, إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر». وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً». وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه, كلا الحديثين في الصحيح.
وقوله سبحانه وتعالى: {تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوان} وصفهم بكثرة العمل وكثرة الصلاة وهي خير الأعمال, ووصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب, وهو الجنة المشتملة على فضل الله عز وجل وهو سعة الرزق عليهم ورضاه تعالى عنهم, وهو أكبر من الأول كما قال جل وعلا: {ورضوان من الله أكبر} وقوله جل جلاله: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: سيماهم في وجوههم يعني السمت الحسن. وقال مجاهد وغير واحد: يعني الخشوع والتواضع. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا حسين الجعفي عن زائدة عن منصور عن مجاهد {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} قال: الخشوع. قلت: ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه, فقال: ربما كان بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون. وقال السدي: الصلاة تحسن وجوههم, وقال بعض السلف: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار, وقد أسنده ابن ماجه في سننه عن إسماعيل بن محمد الطلحي عن ثابت بن موسى عن شريك, عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» والصحيح أنه موقوف. وقال بعضهم: إن للحسنة نوراً في القلب وضياء في الوجه وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الناس.
وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه, والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه, فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله تعالى أصلح الله عز وجل ظاهره للناس, كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: من أصلح سريرته أصلح الله تعالى علانيته. وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمود بن محمد المروزي, حدثنا حامد بن آدم المروزي, حدثنا الفضل بن موسى عن محمد بن عبيد الله العرزمي عن سلمة بن كهيل, عن جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها, إن خيراً فخير وإن شراً فشر» العرزمي متروك. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائناً ما كان».
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا زهير, حدثنا قابوس بن أبي ظبيان أن أباه حدثه عن ابن عباس رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة» ورواه أبو داود عن عبد الله بن محمد النفيلي عن زهير به, فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم. وقال مالك رضي الله عنه: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا, وصدقوا في ذلك فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة, وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة, ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا: {ذلك مثلهم في التوراة} ثم قال {و مثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه} أي فراخه {فآزره} أي شده {فاستغلظ} أي شب وطال {فاستوى على سوقه يعجب الزراع} أي فكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع {ليغيظ بهم الكفار}.
ومن هذه الاَية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه, في رواية عنه, بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم قال: لأنهم يغيظونهم ومن غاظ الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الاَية, ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك, والأحاديث في فضل الصحابة رضي الله عنهم والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة, ويكفيهم ثناء الله عليهم ورضاه عنهم: ثم قال تبارك وتعالى: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم} من هذه لبيان الجنس {مغفرة} أي لذنوبهم {وأجراً عظيم} أي ثواباً جزيلاً ورزقاً كريماً. ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل, وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهو في حكمهم, ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة, رضي الله عنهم وأرضاهم وجعل جنات الفردوس مأواهم, وقد فعل. قال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه». آخر تفسير سورة الفتح ولله الحمد والمنة.

سورة الحجرات
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوَاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ * إِنّ الّذِينَ يَغُضّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتّقْوَىَ لَهُم مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
هذه آيات أدب الله تعالى بها عباده المؤمنين, فيما يعاملون به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام, فقال تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} أي لا تسارعوا في الأشياء بين يديه أي قبله, بل كونوا تبعاً له في جميع الأمور حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ رضي الله عنه حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن: «بمَ تحكم ؟» قال: بكتاب الله تعالى, قال صلى الله عليه وسلم: «فإن لم تجد ؟» قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال صلى الله عليه وسلم: «فإن لم تجد ؟» قال رضي الله عنه: أجتهد رأيي, فضرب في صدره وقال «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم». وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة, ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما «لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة, وقال العوفي عنه: نهى أن يتكلموا بين يدي كلامه, وقال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه, وقال الضحاك: لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم, وقالسفيان الثوري {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} بقول ولا فعل, وقال الحسن البصري {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} قال: لا تدعوا قبل الإمام, وقال قتادة: ذكر لنا أن ناساً كانوا يقولون لو أنزل في كذا وكذا, لو صنع كذا, فكره الله تعالى ذلك وتقدم فيه {واتقوا الله} أي فيما أمركم به {إن الله سميع} أي لأقوالكم {عليم} بنياتكم.
وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} هذا أدب ثان أدب الله تعالى به المؤمنين أن لا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته, وقد روي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال البخاري: حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي, حدثنا نافع بن عمر عن أبي مليكة, قال: كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما, رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم, فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس رضي الله عنه أخي بني مجاشع, وأشار الاَخر برجل آخر, قال نافع: لا أحفظ اسمه, فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما, ما أردت إلا خلافي, قال: ما أردت خلافك, فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} قال ابن الزبير رضي الله عنهما فما كان عمر رضي الله عنه يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الاَية حتى يستفهمه, ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر رضي الله عنه. انفرد به دون مسلم.
ثم قال البخاري: حدثنا حسن بن محمد, حدثنا حجاج عن ابن جريج, حدثني ابن أبي ملكية أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه: أمر القعقاع بن معبد, وقال عمر رضي الله عنه: بل أمر الأقرع بن حابس, فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أردت إلا خلافي, فقال عمر رضي الله عنه: ما أردت خلافك, فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت في ذلك {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} حتى انقضت الاَية {ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم} الاَية. وهكذا رواه ههنا منفرداً به أيضاً وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا الفضل بن سهل, حدثنا إسحاق بن منصور, حدثنا حصين بن عمر عن مخارق عن طارق بن شهاب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاَية {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} قلت: يا رسول الله والله لا أكلمك إلا كأخي السرار. حصين بن عمر, هذا وإن كان ضعيفاً لكن قد رويناه من حديث عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة رضي الله عنهما بنحو ذلك, والله أعلم. وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا أزهر بن سعد, أخبرنا ابن عون, أنبأني موسى بن أنس عن أنس بن مالك رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس رضي الله عنه فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه, فأتاه فوجده في بيته منكساً رأسه فقال له: ما شأنك ؟ فقال: شر كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله فهو من أهل النار, فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا, قال موسى: فرجع إليه المرة الاَخرة ببشارة عظيمة فقال: «اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكن من أهل الجنة» تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم, حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاَية {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ـ إلى قوله ـ وأنتم لا تشعرون} وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنا من أهل النار حبط عملي وجلس في أهله حزيناً ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك ؟ قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم وأجهر له بالقول حبط عملي أنا من أهل النار, فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا , بل هو من أهل الجنة» قال أنس رضي الله عنه: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة, فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف فجاء ثابت بن قيس بن شماس, وقد تحنط ولبس كفنه فقال: بئسما تعودون أقرانكم فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه.
وقال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا الحسن بن موسى, حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاَية {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} إلى آخر الاَية, جلس ثابت رضي الله عنه في بيته قال: أنا من أهل النار, واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ: «يا أبا عمرو ما شأن ثابت أَشتكى ؟» فقال سعد رضي الله عنه: إنه لجاري وما علمت له بشكوى. قال: فأتاه سعد رضي الله عنه فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ثابت رضي الله عنه: أنزلت هذه الاَية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا من أهل النار, فذكر ذلك سعد رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل هو من أهل الجنة» ثم رواه مسلم عن أحمد بن سعيد الدرامي عن حيان بن هلال عن سليمان بن المغيرة به, قال ولم يذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه, وعن قطن بن بشير عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس رضي الله عنه بنحوه, وقال ليس فيه ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه. حدثني هدبة بن عبد الأعلى الأسدي, حدثنا المعتمر بن سليمان, سمعت أبي يذكر عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاَية فاقتص الحديث ولم يذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه وزاد: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة. فهذه الطرق الثلاث معللة لرواية حماد بن سلمة فيما تفرد به من ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه, والصحيح أن حال نزول هذه الاَية لم يكن سعد بن معاذ رضي الله عنه موجوداً, لأنه كان قد مات بعد بني قريظة بأيام قلائل سنة خمس, وهذه الاَيات نزلت في وفد بني تميم, والوفود إنما تواتروا في سنة تسع من الهجرة, والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا زيد بن الحباب, حدثنا أبو ثابت بن ثابت بن قيس بن شماس, حدثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاَية {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول} قال: قعد ثابت بن قيس رضي الله عنه في الطريق يبكي, قال: فمر به عاصم بن عدي من بني العجلان فقال: ما يبكيك يا ثابت ؟ قال: هذه الاَية أتخوف أن تكون نزلت فيّ وأنا صيت رفيع الصوت. قال: فمضى عاصم بن عدي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال: وغلبه البكاء فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أبي ابن سلول, فقال لها: إذا دخلت بيت فرسي فشدي على الضبة بمسمار, فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه وقال: لا أخرج حتى يتوفاني الله تعالى, أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال وأتى عاصم رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره فقال: «اذهب فادعه لي» فجاء عاصم رضي الله عنه إلى المكان فلم يجده, فجاء إلى أهله, فوجده في بيت الفرس فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك, فقال: اكسر الضبة, قال: فخرجا فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا ثابت ؟» فقال رضي الله عنه: أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الاَية نزلت فيّ {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة ؟» فقال: رضيت ببشرى الله تعالى ورسوله , ولا أرفع صوتي أبداًعلى صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وأنزل الله تعالى: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أُولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} الاَية: وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين كذلك, فقد نهى الله عز وجل عن رفع الأصوات بحضرة رسول الله, وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما, فجاء فقال: أتدريان أين أنتما ؟ ثم قال: من أين أنتما ؟ قالا: من أهل الطائف, فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً. وقال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته عليه الصلاة والسلام, لأنه محترم حياً وفي قبره صلى الله عليه وسلم دائماً, ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه, بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم, ولهذا قال تبارك وتعالى: {ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض} كما قال تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعض}.
وقوله عز وجل: {أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده, خشية أن يغضب من ذلك فيغضب الله تعالى لغضبه, فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري كما جاء في الصحيح: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالاً يكتب له بها الجنة, وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض» ثم ندب الله تعالى إلى خفض الصوت عنده وحث على ذلك, وأرشد إليه, ورغب فيه فقال: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} أي أخلصها لها وجعلها أهلاً ومحلاً {لهم مغفرة وأجر عظيم} وقد قال الإمام أحمد في كتاب الزهد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن منصور عن مجاهد قال: كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين, رجل لا يشتهي المعصية, ولا يعمل بها أفضل, أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها فكتب عمر رضي الله عنه: إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها {أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم}.

** إَنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنّهُمْ صَبَرُواْ حَتّىَ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ
ثم إنه تبارك وتعالى ذم الذين ينادونه من وراء الحجرات وهي بيوت نسائه, كما يصنع أجلاف الأعراب فقال: {أكثرهم لا يعقلون} ثم أرشد تعالى إلى الأدب في ذلك فقال عز وجل: {ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم} أي لكان لهم في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والاَخرة. ثم قال جل ثناؤه داعياً لهم إلى التوبة والإنابة {والله غفور رحيم} وقد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي رضي الله عنه فيما أورده غير واحد. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا وهيب, حدثنا موسى بن عقبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس رضي الله عنه, أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فقال: يا محمد يا محمد, وفي رواية: يا رسول الله, فلم يجبه فقال: يا رسول الله إن حمدي لزين, وإن ذمي لشين, فقال صلى الله عليه وسلم: «ذاك الله عز وجل» وقال ابن جرير: حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي, حدثنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد, عن أبي إسحاق عن البراء في قوله تبارك وتعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات} قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد, إن حمدي زين وذمي شين, فقال صلى الله عليه وسلم: «ذاك الله عز وجل» وهكذا ذكره الحسن البصري وقتادة مرسلاً.
وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة قال: كان بشر بن غالب ولبيد بن عطارد أو بشر بن عطارد ولبيد بن غالب, وهما عند الحجاج جالسان, فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد: نزلت في قومك بني تميم {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات} قال: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير, فقال: أما إنه لو علم بآخر الاَية أجابه {يمنون عليك أن أسلمو} قالوا: أسلمنا ولم يقاتلك بنو أسد, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عمرو بن علي الباهلي. حدثنا المعتمر بن سليمان قال: سمعت داود الطفاوي يحدث عن أبي مسلم البجلي عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: اجتمع أناس من العرب فقالوا: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يك نبياً فنحن أسعد الناس به, وإن يك ملكاً نعش بجناحه. قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قالوا فجاؤوا إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه وهو في حجرته: يا محمد يا محمد, فأنزل الله تعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني, فمدها فجعل يقول «لقد صدق الله تعالى قولك يا زيد, لقد صدق الله قولك يا زيد» ورواه ابن جرير عن الحسن بن عرفة, عن المعتمر بن سليمان به.