تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 520 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 520

520 : تفسير الصفحة رقم 520 من القرآن الكريم

** وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقّبُواْ فِي الْبِلاَدِ هَلْ مِن مّحِيصٍ * إِنّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىَ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ وَمَا مَسّنَا مِن لّغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَارَ السّجُودِ
يقول تعالى: وكم أهلكنا قبل هؤلاء المكذبين {من قرن هم أشد منهم بطش} أي كانوا أكثر منهم وأشد قوة وأثاروا الأرض وعمروهاأكثر مما عمروها ولهذا قال تعالى ههنا: {فنقبوا في البلاد هل من محيص} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أثروا فيها. وقال مجاهد {فنقبوا في البلاد} ضربوا في الأرض وقال قتادة: فساروا في البلاد أي ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب أكثر مما طفتم بها, ويقال لمن طوف في البلاد نقب فيها, قال امرؤ القيس:
لقد نقبت في الاَفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب
وقوله تعالى: {هل من محيص} أي هل من مفر كان لهم من قضاء الله وقدره وهل نفعهم ما جمعوه ورد عنهم عذاب الله إذ جاءهم لما كذبوا الرسل فأنتم أيضاً لا مفر لكم ولا محيد ولا مناص ولا محيص. وقوله عز وجل: {إن في ذلك لذكرى} أي لعبرة {لمن كان له قلب} أي لب يعي به وقال مجاهد: عقل {أو ألقى السمع وهو شهيد} أي استمع الكلام فوعاه وتعقله بعقله وتفهمه بلبه, وقال مجاهد: {أو ألقى السمع} يعني لا يحدث نفسه في هذا بقلب, وقال الضحاك: العرب تقول ألقى فلان سمعه إذا استمع بأذنيه, وهو شاهد بقلب غير غائب, وهكذا قال الثوري وغير واحد. وقوله سبحانه وتعالى: {ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} فيه تقرير للمعاد لأن من قدر على خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن قادر على أن يحيي الموتى بطريق الأولى والأحرى, وقال قتادة: قالت اليهود ـ عليهم لعائن الله ـ خلق الله السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت, وهم يسمونه يوم الراحة فأنزل الله تعالى تكذيبهم فيما قالوه وتأولوه {وما مسنا من لغوب} أي من إعياء ولا تعب ولا نصب, كما قال تبارك وتعالى في الاَية الأخرى: {أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بل إنه على كل شيء قدير} وكما قال عز وجل: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} وقال تعالى: {أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها ؟}.
وقوله عز وجل: {فاصبر على ما يقولون} يعني المكذبين اصبر عليهم واهجرهم هجراً جميلاً {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} وكانت الصلاة المفروضة قبل الإسراء ثنتين قبل طلوع الشمس في وقت الفجر وقبل الغروب في وقت العصر, وقيام الليل كان واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أمته حولاً ثم نسخ في حق الأمة وجوبه ثم بعد ذلك نسخ الله تعالى ذلك كله ليلة الإسراء بخمس صلوات, ولكن منهن صلاة الصبح والعصر فهما قبل طلوع الشمس وقبل الغروب. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: «أما إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر لا تضامون فيه, فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} ورواه البخاري ومسلم وبقية الجماعة من حديث إسماعيل به.
وقوله تعالى: {ومن الليل فسبحه} أي فصل له كقوله: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمود} {وأدبار السجود} قال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: هو التسبيح بعد الصلاة. ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: جاء فقراء المهاجرين فقالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك ؟» قالوا: يصلون كما نصلي, ويصومون كما نصوم, ويتصدقون ولا نتصدق, ويعتقون ولا نعتق. قال صلى الله عليه وسلم: «أفلا أعلمكم شيئاً إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم ؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين» قال: فقالوا يا رسول الله سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله. فقال صلى الله عليه وسلم: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» والقول الثاني أن المراد بقوله تعالى: {وأدبار السجود} هما الركعتان بعد المغرب وروي ذلك عن عمر وعلي وابنه الحسن وابن عباس وأبي هريرة وأبي أمامة رضي الله عنهم وبه يقول مجاهد وعكرمة والشعبي والنخعي والحسن وقتادة وغيرهم.
قال الإمام أحمد حدثنا وكيع وعبد الرحمن عن سفيان عن أبي إسحاق, عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على أثر كل صلاة مكتوبة ركعتين إلا الفجر والعصر, وقال عبد الرحمن دبر كل صلاة. ورواه أبو داود والنسائي من حديث سفيان الثوري به, زاد النسائي ومطرف عن أبي إسحاق به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني, حدثنا ابن فضيل عن رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فصلى ركعتين خفيفتين اللتين قبل الفجر, ثم خرج إلى الصلاة فقال يا ابن عباس «ركعتين قبل صلاة الفجر إدبار النجوم, وركعتين بعد المغرب إدبار السجود» ورواه الترمذي عن أبي هشام الرفاعي عن محمد بن فضيل به. وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وحديث ابن عباس رضي الله عنهما, وأنه بات في بيت خالته ميمونة رضي الله عنها, وصلى تلك الليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة ثابت في الصحيحين وغيرهما. فأما هذه الزيادة فغريبة لا تعرف إلا من هذا الوجه ورشدين بن كريب ضعيف, ولعله من كلام ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً عليه, والله أعلم.

** وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصّيْحَةَ بِالْحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقّقُ الأرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ فَذَكّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ
يقول تعالى: {واستمع} يا محمد {يوم يناد المناد من مكان قريب} قال قتادة: قال كعب الأحبار يأمر الله تعالى ملكاً أن ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة, إن الله تعالى يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء {يوم يسمعون الصيحة بالحق} يعني النفخة في الصور التي تأتي بالحق الذي كان أكثرهم فيه يمترون {ذلك يوم الخروج} أي من الأجداث {إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير} أي هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وإليه مصير الخلائق كلهم, فيجازي كلاّ بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر. وقوله تعالى: {يوم تشقق الأرض عنهم سراع} وذلك أن الله عز وجل ينزل مطراً من السماء ينبت به أجساد الخلائق كلها في قبورها, كما ينبت الحب في الثرى بالماء, فإذا تكاملت الأجساد أمر الله تعالى إسرافيل فينفخ في الصور وقد أودعت الأرواح في ثقب في الصور فإذا نفخ إسرافيل فيه خرجت الأرواح تتوهج بين السماء والأرض, فيقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره فترجع كل روح إلى جسدها, فتدب فيه كما يدب السم في اللديغ وتنشق الأرض عنهم فيقومون إلى موقف الحساب سراعاً مبادرين إلى أمر الله عز وجل {مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر} وقال تعالى: {يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليل} وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من تنشق عنه الأرض», وقوله عز وجل: {ذلك حشر علينا يسير} أي تلك إعادة سهلة علينا, يسيرة لدينا كما قال جل جلاله: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر}.
وقال سبحانه وتعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير} وقوله جل وعلا: {نحن أعلم بما يقولون} أي نحن علمنا محيط بما يقول لك المشركون من التكذيب فلا يهولنك ذلك كقوله: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}. وقوله تبارك وتعالى: {وما أنت عليهم بجبار} أي ولست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى, وليس ذلك مماكلفت به. وقال مجاهد وقتادة والضحاك {وما أنت عليهم بجبار} أي لا تتجبر عليهم, والقول الأول أولى, ولو أراد ما قالوه لقال: ولا تكن جباراً عليهم, وإنما قال: {وما أنت عليهم بجبار} بمعنى وما أنت بمجبرهم على الإيمان إنما أنت مبلغ, وقال الفراء: سمعت العرب تقول جبر فلان فلاناً على كذا أجبره, ثم قال عز وجل: {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} أي بلغ أنت رسالة ربك فإنمايتذكر من يخاف الله ووعيده ويرجو وعده, كقوله تعالى: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} وقوله جل جلاله: {فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر} {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} ولهذا قال تعالى ههنا: {وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} كان قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعودك يابار يارحيم.
آخر تفسير سورة ق والحمد لله وحده وحسبنا الله ونعم الوكيل.

سورة الذاريات
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
** وَالذّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً * فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً * فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً * إِنّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنّ الدّينَ لَوَاقِعٌ * وَالسّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ * قُتِلَ الْخَرّاصُونَ * الّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلُونَ أَيّانَ يَوْمُ الدّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَـَذَا الّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ
قال شعبة بن الحجاج عن سماك عن خالد بن عرعرة أنه سمع علياً رضي الله عنه, وشعبة أيضاً عن القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل أنه سمع علياً رضي الله عنه, وثبت أيضاً من غير وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه, أنه صعد منبر الكوفة فقال: لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى, ولا عن سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنبأتكم بذلك, فقام إليه ابن الكواء, فقال: يا أمير المؤمنين ما معنى قوله تعالى: {والذاريات ذرو} قال علي رضي الله عنه, الريح, قال: {فالحاملات وقر} قال رضي الله عنه: السحاب, قال: {فالجاريات يسر} قال رضي الله عنه: السفن, قال: {فالمقسمات أمر} قال رضي الله عنه الملائكة.
وقد روي في ذلك حديث مرفوع, فقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن هانىء, حدثنا سعيد بن سلام العطار, حدثنا أبو بكر بن أبي سبرة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب, قال: جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين, فأخبرني عن الذاريات ذرواً, فقال رضي الله عنه: هي الرياح, ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ماقلته. قال: فأخبرني عن المقسمات أمراً, قال رضي الله عنه هي الملائكة, ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ماقلته, قال: فأخبرني عن الجاريات يسراً, قال رضي الله عنه: هي السفن, ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ماقلته. ثم أمر بضربه فضرب مائة وجعل في بيت, فلما برأ دعا به فضربه مائة أخرى وحمله على قتب وكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: امنع الناس من مجالسته, فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى رضي الله عنه, فحلف بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئاً, فكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه, فكتب عمر: ما إخاله إلا قد صدق فخل بينه وبين مجالسة الناس. قال أبو بكر البزار: فأبو بكر بن أبي سبرة لين, وسعيد بن سلام ليس من أصحاب الحديث. قلت: فهذا الحديث ضعيف رفعه وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر رضي الله عنه, فإن قصة صبيغ بن عسل مشهورة مع عمر رضي الله عنه, وإنما ضربه لأنه ظهر له من أمره فيما يسأل تعنتاً وعناداً, والله أعلم. وقد ذكر الحافظ ابن عساكر هذه القصة في ترجمة صبيغ مطولة, وهكذا فسرها ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم, ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد, ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك, وقد قيل إن المراد بالذاريات الريح كما تقدم,وبالحاملات وقراً السحاب كما تقدم, لأنها تحمل الماء كما قال زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت نفسي لمن أسلمتله المزن تحمل عذباً زلالا
فأما الجاريات يسراً فالمشهور عن الجمهور كما تقدم أنها السفن, تجري ميسرة في الماء جرياً سهلاً, وقال بعضهم: هي النجوم تجري يسراً في أفلاكها ليكون ذلك ترقياً من الأدنى إلى الأعلى إلى ما هو أعلى منه, فالرياح فوقها السحاب, والنجوم فوق كذلك, والمقسمات أمراً الملائكة فوق ذلك تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية, وهذا قسم من الله عز وجل على وقوع المعاد, ولهذا قال تعالى: {إنما توعدون لصادق} أي لخبر صدق {وإن الدين} وهو الحساب {لواقع} أي لكائن لا محالة.
ثم قال تعالى: {والسماء ذات الحبك} قال ابن عباس رضي الله عنهما: ذات الجمال والبهاء والحسن والاستواء, وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو مالك وأبو صالح والسدي وقتادة وعطية العوفي والربيع بن أنس وغيرهم. وقال الضحاك والمنهال بن عمرو وغيرهما مثل تجعد الماء والرمل والزرع, إذا ضربته الريح فينسج بعضه بعضاً طرائق طرائق, فذلك الحبك. قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية, حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن من ورائكم الكذاب المضل, وإن رأسه من ورائه حبك حبك» يعني بالحبك الجعودة: وعن أبي صالح: ذات الحبك الشدة وقال خصيف: ذات الحبك ذات الصفاقة. وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: ذات الحبك حبكت بالنجوم, وقال قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن عمرو البكالي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما {والسماء ذات الحبك} يعني السماء السابعة, وكأنه والله أعلم أراد بذلك السماء التي فيها الكواكب الثابتة, وهي عند كثير من علماء الهيئة في الفلك الثامن الذي فوق السابع, والله أعلم.
وكل هذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد وهو الحسن والبهاء كما قال ابن عباس رضي الله عنهما, فإنها من حسنها مرتفعة شفافة صفيقة شديدة البناء متسعة الأرجاء أنيقة البهاء, مكللة بالنجوم الثوابت والسيارات موشحة بالشمس والقمر والكواكب الزهرات وقوله تعالى: {إنكم لفي قول مختلف} أي إنكم أيها المشركون المكذبون للرسل لفي قول مختلف مضطرب لا يلتئم ولا يجتمع, وقال قتادة: إنكم لفي قول مختلف ما بين مصدق بالقرآن ومكذب به. {يؤفك عنك من أفك} أي إنما يروج على من هو ضال في نفسه, لأنه قول باطل إنما ينقاد له ويضل بسببه, ويؤفك عنه من هو مأفوك ضال غمر لافهم له كما قال تعالى: {فإنكم وما تعبدون ماأنتم عليه بفاتنين * إلا من هو صال الجحيم} قال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي {يؤفك عنه من أفك} يضل عنه من ضل. وقال مجاهد {يؤفك عنه من أفك} يؤفن عنه من أفن, وقال الحسن البصري: يصرف عن هذا القرآن من كذب به. وقوله تعالى: {قتل الخراصون} قال مجاهد: الكذابون, قال: وهي مثل التي في عبس {قتل الإنسان ماأكفره} والخراصون الذين يقولون لا نبعث ولا يوقنون. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {قتل الخراصون} أي لعن المرتابون. وهكذا كان معاذ رضي الله عنه يقول في خطبته. هلك المرتابون. وقال قتادة: الخراصون أهل الغرة والظنون. وقوله تبارك وتعالى: {الذين هم في غمرة ساهون} قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد في الكفر والشك غافلون لاهون {يسألون أيان يوم الدين} وإنما يقولون هذا تكذيباً وعناداً وشكاً واستبعاداً, قال الله تعالى: {يوم هم على النار يفتنون} قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد يفتنون يعذبون. قال مجاهد كما يفتن الذهب على النار, وقال جماعة آخرون كمجاهد أيضاً وعكرمة وإبراهيم النخعي وزيد بن أسلم وسفيان الثوري: يفتنون يحرقون {ذوقوا فتنتكم} قال مجاهد: حريقكم, وقال غيره: عذابكم {هذا الذي كنتم به تستعجلون} أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً وتحقيراً وتصغيراً, والله أعلم.