تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 538 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 538

538 : تفسير الصفحة رقم 538 من القرآن الكريم

** هُوَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لّهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ * يُولِجُ الْلّيْلَ فِي النّهَارِ وَيُولِجُ النّهَارَ فِي الْلّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ
يخبر تعالى عن خلقه السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام, ثم أخبر تعالى باستوائه على العرش بعد خلقهن, وقد تقدم الكلام على هذه الاَية وأشباهها في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته ههنا. وقوله تعالى: {يعلم ما يلج في الأرض} أي يعلم عدد ما يدخل فيها من حب وقطر {وما يخرج منه} من نبات وزرع وثمار)كما قال تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} وقوله تعالى: {وما ينزل من السماء} أي من الأمطار. والثلوج والبرد والأقدار. والأحكام مع الملائكة الكرام. وقد تقدم في سورة البقرة أنه ما ينزل من قطرة من السماء إلا ومعها ملك يقررها في المكان الذي يأمر لله به حيث يشاء الله تعالى. وقوله تعالى, {وما يعرج فيه} أي من الملائكة والأعمال كما جاء في الصحيح «يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل». وقوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير} أي رقيب عليكم شهيد على أعمالكم حيث كنتم وأين كنتم براً أو بحراً, في ليل أو نهار في البيوت أو القفار, الجميع في علمه على السواء وتحت بصره وسمعه فيسمع كلامكم ويرى مكانكم, ويعلم سركم ونجواكم كما قال تعالى: {ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور}.
وقال تعالى: {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار} فلا إله غيره ولا رب سواه, وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لما سأله عن الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وروى الحافظ أبو بكر الإسماعيلي من حديث نصر بن خزيمة بن جنادة بن محفوظ بن علقمة: حدثني أبي عن نصر بن علقمة عن أخيه عن عبد الرحمن بن عائذ قال: قال عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال زودني حكمة أعيش بها فقال: «استح الله كما تستحي رجلاً من صالحي عشيرتك لا يفارقك» هذا حديث غريب, وروى أبو نعيم من حديث عبد الله بن علوية العامري مرفوعاً «ثلاث من فعلهن فقد طعم الإيمان إن عبد الله وحده وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه في كل عام, ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا الشّرط اللئيمة ولا المريضة, ولكن من أوسط أموالكم وزكى نفسه» وقال رجل: يا رسول الله ما تزكية المرء نفسه ؟ فقال: «يعلم أن الله معه حيث كان». وقال نعيم بن حماد رحمه الله: حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي عن محمد بن مهاجر عن عروة بن رويم, عن عبد الرحمن بن غنم عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت» غريب, وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى ينشد هذين البيتين:
إذا ما خلوت الدهر يوماًفلا تقلخلوت ولكن قل علي رقيبولا تحسبن الله يغفل ساعةولا أن ما تخفي عليه يغيب
وقوله تعالى: {له ملك السموات والأرض وإلى الله ترجع الأمور} أي هو المالك للدنيا والاَخرة كما قال تعالى: {وإن لنا للاَخرة والأولى} وهو المحمود على ذلك كما قال تعالى: {وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والاَخرة} وقال تعالى: {الحمد لله له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الاَخرة وهو الحكيم الخبير}, فجميع ما في السموات والأرض ملك له, وأهلهما عبيد أرقاء أذلاء بين يديه كما قال تعالى: {إن كل من في السموات والأرض إلا آت الرحمن عبداً لقد أحصاهم وعدهم عداً وكلهم آتيه يوم القيامة فرد} ولهذا قال: {وإلى الله ترجع الأمور} أي إليه المرجع يوم القيامة فيحكم في خلقه بما يشاء وهو العادل الذي لا يجور ولا يظلم مثقال ذرة بل إن يكن عمل أحدهم حسنة واحدة يضاعفها إلى عشرة أمثالها {ويؤت من لدنه أجراً عظيم} وكما قال تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} وقوله تعالى: {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل} أي هو المتصرف في الخلق يقلب الليل والنهار ويقدرهما بحكمته كما يشاء, فتارة يطول الليل ويقصر النهار وتارة بالعكس, وتارة يتركهما معتدلين, وتارة يكون الفصل شتاءً ثم ربيعاً ثم قيظاً ثم خريفاً, وكل ذلك بحكمته وتقديره لما يريده بخلقه {وهو عليم بذات الصدور} أي يعلم السرائر وإن دقت وإن خفيت.

** آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمّا جَعَلَكُم مّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مّؤْمِنِينَ * هُوَ الّذِي يُنَزّلُ عَلَىَ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ لّيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَإِنّ اللّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ * وَمَا لَكُمْ أَلاّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَـَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَىَ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * مّن ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ
أمر تبارك وتعالى بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل, والدوام والثبات على ذلك والاستمرار, وحث على الإنفاق مما جعلكم مستخلفين فيه أي مما هو معكم على سبيل العارية, فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم, فأرشد الله تعالى إلى استعمال ما استخلفتم فيه من المال في طاعته, فإن تفعلوا وإلا حاسبكم عليه وعاقبكم لترككم الواجبات فيه, وقوله تعالى: {مما جعلكم مستخلفين فيه} فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفاً عنك, فلعل وارثك أن يطيع الله فيه فيكون أسعد بما أنعم الله به عليك منك, أو يعصي الله فيه فتكون قد سعيت في معاونته على الإثم والعدوان. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة, سمعت قتادة يحدث عن مطرف يعني ابن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: «ألهاكم التكاثر, يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ماأكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ؟» ورواه مسلم من حديث شعبة به وزاد: «وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس».
وقوله تعالى: {فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير} ترغيب في الإيمان والإنفاق في الطاعة ثم قال تعالى: {ومالكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم ؟} أي وأي شيء يمنعكم من الإيمان والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به, وقد روينا في الحديث من طرق في أوائل شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: «أي المؤمنين أعجب إليكم إيماناً ؟ قالوا: الملائكة. قال: وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم ؟ قالوا: فالأنبياء. قال: ومالهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟ قالوا: فنحن. قال: ومالكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟ ولكن أعجب المؤمنين إيماناً قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بما فيها» وقد ذكرنا طرفاً من هذه الرواية في أول سورة البقرة عند قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب}.
وقوله تعالى: {وقد أخذ ميثاقكم} كما قال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعن} ويعني بذلك بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم, وزعم ابن جرير أن المراد بذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم وهو مذهب مجاهد فالله أعلم. وقوله تعالى: {هو الذي ينزل على عبده آيات بينات} أي حججاً واضحات ودلائل باهرات وبراهين قاطعات {ليخرجكم من الظلمات إلى النور} أي من ظلمات الجهل والكفر والاَراء المتضادة إلى نور الهدى واليقين والإيمان {وإن الله بكم لرؤوف رحيم} أي في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهداية الناس وإزاحة العلل وإزالة الشبه, ولما أمرهم أولاً بالإيمان والإنفاق ثم حثهم على الإيمان وبين أنه قد أزال عنهم موانعه حثهم أيضاً على الإنفاق فقال: {ومالكم ألا تنفقوا في سبيل الله و لله ميراث السموات والأرض ؟} أي أنفقوا ولا تخشوا فقراً وإقلالاً فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السموات والأرض وبيده مقاليدهما وعنده خزائنهما, وهو مالك العرش بما حوى, وهو القائل {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين}.
وقال: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} فمن توكل على الله أنفق ولم يخش من ذي العرش إقلالاً, وعلم أن الله سيخلفه عليه, وقوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} أي لا يستوي هذا ومن لم يفعل كفعله, وذلك أن قبل فتح مكة كان الحال شديداً فلم يكن يؤمن حينئذ إلا الصديقون, وأما بعد الفتح فإنه ظهر الإسلام ظهوراً عظيماً ودخل الناس في دين الله أفواجاً. ولهذا قال تعالى: {أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى} والجمهور على أن المراد بالفتح ههنا فتح مكة, وعن الشعبي وغيره أن المراد بالفتح ههنا صلح الحديبية, وقد يستدل لهذا القول بما قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك, حدثنا زهير, حدثنا حميد الطويل عن أنس قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام, فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها, فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «دعوا لي أصحابي, فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم» ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد المواجه بهذا الخطاب كان بين صلح الحديبية وفتح مكة, وكانت هذه المشاجرة بينهما في بني جذيمة الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بعد الفتح, فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا, فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا, فأمر خالد بقتلهم وقتل من أسر منهم, فخالفه عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر وغيرهما, فاختصم خالد وعبد الرحمن بسبب ذلك, والذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه».
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث ابن وهب, أخبرنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية, حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم» فقلنا من هم يارسول الله أقريش ؟ قال: «لا ولكن أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً» فقلنا: أهم خير منا يارسول الله ؟ قال: «لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير} وهذا الحديث غريب بهذا السياق والذي في الصحيحين من رواية جماعة عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد ذكر الخوارج: «تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية». الحديث, ولكن روى ابن جرير هذا الحديث من وجه آخر فقال: حدثني ابن البرقي حدثني ابن أبي مريم, أخبرنا محمد بن جعفر, أخبرني زيد بن أسلم عن أبي سعيد التمار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم» قلنا: من هم يا رسول الله ؟ قريش ؟ قال: «لا ولكن أهل اليمن لأنهم أرق أفئدة وألين قلوباً» وأشار بيده إلى اليمن فقال: «هم أهل اليمن ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية» فقلنا: يارسول الله هم خير منا ؟ قال: «والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدى مد أحدكم ولانصيفه» ثم جمع أصابعه ومد خنصره وقال: «ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير}». فهذا السياق ليس فيه ذكر الحديبية, فإن كان ذلك محفوظاً كما تقدم فيحتمل أنه أنزل قبل الفتح إخباراً عما بعده كما في قوله تعالى في سورة المزمل وهي مكية من أوائل ما نزل {وآخرون يقاتلون في سبيل الله} الاَية. فهي بشارة بما يستقبل وهكذا هذه والله أعلم.
وقوله تعالى: {وكلاً وعد الله الحسنى} يعني المنفقين قبل الفتح وبعده, كلهم لهم ثواب على ما عملوا, وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء كما قال تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيم} وهكذا الحديث الذي في الصحيح «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف, وفي كل خير» وإنما نبه بهذا لئلا يهدر جانب الاَخر بمدح الأول دون الاَخر, فيتوهم متوهم ذمه, فلهذا عطف بمدح الاَخر والثناء عليه مع تفضيل الأول عليه, ولهذا قال تعالى: {والله بما تعملون خبير} أي فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن فعل ذلك بعد ذلك وما ذاك إلا لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق, وفي الحديث «سبق درهم مائة ألف» ولا شك عند أهل الإيمان أن الصديق أبا بكر رضي الله عنه له الحظ الأوفر من هذه الاَية, فإنه سيد من عمل بها من سائر أمم الأنبياء, فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله عز وجل, ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها.
وقد قال أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي عند تفسير هذه الاَية: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي, أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد, أخبرنا أحمد بن إسحاق بن أيوب, أخبرنا محمد بن يونس, حدثنا العلاء بن عمرو الشيباني, حدثنا أبو إسحاق الفزاري, حدثنا سفيان بن سعيد عن آدم بن علي عن ابن عمرو قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال, فنزل جبريل فقال: مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال ؟ فقال: «أنفق ماله علي قبل الفتح» قال: فإن الله يقول: اقرأ عليه السلام وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر إن الله يقرأ عليك السلام ويقول لك: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟» فقال أبو بكر رضي الله عنه: أسخط على ربي عز وجل ؟ إني عن ربي راض. هذا الحديث ضعيف الإسناد من هذا الوجه والله أعلم. وقوله تعالى: «من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسن} قال عمر بن الخطاب: هو الإنفاق في سبيل الله, وقيل: هو النفقة على العيال, والصحيح أنه أعم من ذلك, فكل من أنفق في سبيل الله بنية خالصة, وعزيمة صادقة دخل في عموم هذه الاَية, ولهذا قال تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسن} كما قال في الاَية الأخرى: {أضعافاً كثيرة وله أجر كريم} أي جزاء جميل ورزق باهر, وهو الجنة يوم القيامة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة, حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الاَية {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له} قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله, وإن الله ليريد منا القرض ؟ قال: «نعم ياأبا الدحداح» قال: أرني يدك يارسول الله. قال: فناوله يده. قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي, وله حائط فيه ستمائة نخلة, وأم الدحداح فيه وعيالها. قال: فجاء أبو الدحداح فناداها ياأم الدحداح. قالت: لبيك, قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل, وفي رواية أنها قالت له: ربح بيعك يا أبا الدحداح. ونقلت منه متاعها وصبيانها وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح» وفي لفظ «رب نخلة مدلاة عروقها در وياقوت لأبي الدحداح في الجنة».