تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 538 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 538

537

4- "هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام" هذا بيان لبعض ملكه للسموات والأرض. وقد تقدم تفسيره في سورة الأعراف وفي غيرها مستوفى "يعلم ما يلج في الأرض" أي يدخل فيها من مطر وغيره "وما يخرج منها" من نبات وغيره "وما ينزل من السماء" من مطر وغيره "وما يعرج فيها" أي يصعد إليها من الملائكة وأعمال العباد، وقد تقدم تفسير هذا في سورة سبأ " وهو معكم أين ما كنتم " أي بقدرته وسلطانه وعلمه، وهذا تمثيل للإحاطة بما يصدر منهم أينما داروا في الأرض من بر وبحر "والله بما تعملون بصير" لا يخفى عليه من أعمالكم شيء.
5- "له ملك السموات والأرض" هذا التكرير للتأكيد "وإلى الله ترجع الأمور" لا إلى غيره. قرأ الجمهور "ترجع" مبيناً للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر على البناء للفاعل.
6- "يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل" قد تقدم تفسير هذا في سورة آل عمران، وفي مواضع "وهو عليم بذات الصدور" أي بضمائر الصدور ومكنوناتها، لا يخفى عليه من ذلك خافية. وقد أخرج ابن أبي شيبة ومسلم والترمذي والبيهقي عن أبي هريرة قال: جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً، فقال: "قوله: اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، وربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر". وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة من وجه آخر مرفوعاً مثل هذا في الأربعة الأسماء المذكورة وتفسيرها. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا: هذا الله كان قبل كل شيء، فماذا كان قبل الله؟ فإن قالوا لكم ذلك فقولوا: هو الأول قبل كل شيء، والآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فوق كل شيء، وهو الباطن دون كل شيء، وهو بكل شيء عليم". وأخرج أبو داود عن أبي زميل قال: سألت ابن عباس فقلت: ما شيء أجده في صدري، قال ما هو؟ قلت: والله لا أتكلم به، قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قال وضحك، قال: ما نجا من ذلك أحد، قال حتى أنزل الله " فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك " الآية قال: وقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئاً فقل: هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابي عباس في قوله: " وهو معكم أين ما كنتم " قال: عالم بكم أينما كنتم.
7- قوله " آمنوا بالله ورسوله " أي صدقوا بالتوحيد وبصحة الرسالة ، وهذا خطاب لكفار العرب ، ويجوز أن يكون خطابا للجميع ، ويكون المراد بالأمر بالإيمان في حق المسلمين الاستمرار عليه ، أو الازدياد منه ، ثم لما أمرهم بالإيمان أمرهم بالإنفاق في سبيل الله فقال : " وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " أي جعلكم خلفاء في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة ، فإن المال مال الله والعباد خلفاء الله في أمواله فعليهم أن يصرفوها فيما يرضيه وقيل جعلكم خلفاء من كان قبلكم ممن ترثونه ، وسينتقل إلى غيركم ممن يرثكم فلا تبخلوا به . كذا قال الحسن وغيره ، وفيه الترغيب إلى الإنفاق في سبيل الخير قبل أن ينتقل عنهم ويصير إلى غيرهم ، والظاهر أن معنى الآية الترغيب في الإنفاق في الخير ، وما يرضاه الله على العموم ، وقيل هو خاص بالزكاة المفروضة ، ولا وجه لهذا الخصوص ، ثم ذكر سبحانه ثواب من أنفق في سبيل الله فقال : " فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير " أي الذين جمعوا بين الإيمان بالله ورسوله ، وبين الإنفاق في سبيل الله لهم أجر كبير ، وهو الجنة .
8- "وما لكم لا تؤمنون بالله" هذا الاستفهام للتوبيخ والتقريع: أي أي عذر لكم، وأي مانع من الإيمان. وقد أزيحت عنكم العلل، وما مبتدأ ولكم خبره ولا تؤمنون في محل نصب على الحال من الضمير في لكم، والعامل ما فيه من معنى الاستقرار، وقيل المعنى: أي شيء لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا؟ وجملة "والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم" في محل نصب على الحال من ضمير لا تؤمنون على التداخل، ولتؤمنوا متعلق بيدعوكم: أي يدعوكم للإيمان، والمعنى: أي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه؟ وجملة "وقد أخذ ميثاقكم" في محل نصب على الحال من فاعل يدعوكم على التداخل أيضاً: أي والحال أن قد أخذ الله ميثاقكم حين أخبرجكم من ظهر أبيكم آدم، أو بما نصب لكم من الأدلة الدالة على التوحيد ووجوب الإيمان. قرأ الجمهور "وقد أخذ" مبنياً للفاعل، وهو الله سبحانه لتقدم ذكره. وقرأ أبو عمرو على البناء للمفعول "إن كنتم مؤمنين" بما أخذ عليكم من الميثاق، أو بالحجج والدلائل، أو إن كنتم مؤمنين بسبب من الأسباب فهذا من أعظم أسبابه وأوضح موجباته.
9- "هو الذي ينزل على عبده آيات بينات" أي واضحات ظاهرات، وهي الآية القرآنية، وقيل المعجزات والقرآن أعظمها "ليخرجكم من الظلمات إلى النور" أي ليخرجكم الله بتلك الآيات من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان، أو ليخرجكم الرسول بتلك الآيات، أو بالدعوة "وإن الله بكم لرؤوف رحيم" أي لكثير الرأفة والرحمة بليغهما حيث أنزل كتبه وبعث رسله لهداية عباده فلا رأفة ولا رحمة أبلغ من هذه.
والاستفهام في قوله:10- " وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله " للتقريع والتوبيخ، والكلام في إعراب هذا كالكلام في إعراب قوله: "وما لكم لا تؤمنون بالله" وفي هذه الآية دليل على أن الإنفاق المأمور به في قوله: "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" هو الإنفاق في سبيل الله كما بينا ذلك، والمعنى: أي عذر لكم وأي شيء يمنعكم من ذلك، والأصل في أن لا تنفقوا، وقيل إن أن زائدة، وجملة "ولله ميراث السموات والأرض" في محل نصب على الحال من فاعل ألا تنفقوا أو من مفعوله، والمعنى: أي شيء يمنعكم من الإنفاق في ذلك الوجه والحال أن كل ما في السموات والأرض راجع إلى الله سبحانه بانقراض العالم كرجوع الميراث إلى الوارث، ولا يبقى لهم منه شيء، وهذا أدخل في التوبيخ وأكمل في التقريع، فإن كون تلك الأموال تخرج عن أهلها وتصير لله سبحانه ولا يبقى أحد من مالكيها أقوى في إيجاب الإنفاق عليهم من كونها لله في الحقيقة، وهم خلفاؤه في التصرف فيها.ثم بين سبحانه فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله فقال: "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح" قيل المراد بالفتح فتح مكة. وبه قال أكثر المفسرين. وقال الشعبي والزهري: فتح الحديبية. قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك، وكذا قال مقاتل وغيره، وفي الكلام حذف، والتقدير: لا يستوي من أنفق من قبل الفتح "وقاتل" ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فحذف لظهوره ولدلالة ما سيأتي عليه، وإنما كانت النفقة والقتال قبل الفتح أفضل من النفقة والقتال بعد الفتح، لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر وهم أقل وأضعف، وتقديم الإنفاق على القتال للإيذان بفضيلة الإنفاق لما كانوا عليه من الحاجة، فإنهم كانوا يجودون بأنفسهم ولا يجدون ما يجودون به من الأموال. والجود بالنفس أقصى غاية الجود والإشارة بقوله: "أولئك" إلى من باعتبار معناها، وهو مبتدأ وخبره "أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا" أي أرفع منزلة وأعلى رتبة من الذين أنفقوا أموالهم في سبيل الله من بعد الفتح وقاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عطاء: درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها. قال الزجاج: لأن المتقدمين نالهم من المشقة أكثر مما نال من بعدهم. وكانت بصائرهم أيضاً أنفذ. وقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى هذه الفضيلة بقوله فيما صح عنه "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" وهذا خطاب منه صلى الله عليه وسلم للمتأخرين وصحبه كما يرشد إلى ذلك السبب الذي ورد فيه هذا الحديث "وكلا وعد الله الحسنى" أي وكل واحد من الفريقين وعد الله المثوبة الحسنى، وهي الجنة مع تفاوت درجاتهم فيها. قرأ الجمهور "وكلاً" بالنصب على أنه مفعول به للفعل المتأخر. وقرأ ابن عامر بالرفع على الابتداء، والجملة بعده خبره والعائد محذوف، أو على أنه خبر محذوف، ومثل هذا قول الشاعر: قد أصبحت أم الخيار تدعي علي ذنبا كله لم أصنع "والله بما تعملون خبير" لا يخفى عليه من ذلك شيء.
ثم رغب سبحانه في الصدقة فقال: 11- "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً" أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الل، فإنه كمن يقرضه، والعرب تقول لكل من فعل فعلاً حسناً قد أقرض، ومنه قول الشاعر: إذا جوزيت قرضاً فأجزه إنما يجزي الفتى ليس الجمل قال الكلبي "قرضاً" أي صدقة "حسناً" أي محتسباً من قلبه بلا من ولا أذى. قال مقاتل: حسناً طيبة به نفسه، وقد تقدم تفسير الآية في سورة البقرة "فيضاعفه له" قرأ ابن عامر وابن كثير فيضعفه بإسقاط الألف إلا أن ابن عامر ويعقوب نصبوا الفاء. وقرأ نافع وأهل الكوفة والبصرة فيضاعفه بالألف وتخفيف العين إلا أن عاصماً نصب الفاء ورفع الباقون. قال ابن عطية: الرفع على العطف على يقرض، أو الاستئناف والنصب لكون الفاء في جواب الاستفهام. وضعف النصب أبو علي الفارسي قال لأن السؤال لم يقع عن القرض، وإنما وقع عن فاعل القرض، وإنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه، لكن هذه الفرقة حملت ذلك على المعنى، كأن قوله: "من ذا الذي يقرض الله" بمنزلة قوله أيقرض الله أحد "وله أجر كريم" وهو الجنة، والمضاعفة هنا هي كون الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف على اختلاف الأحوال والأشخاص والأوقات. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال "خرجنا مع رسول الله عام الحديبية حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يأتي قوم [تحرقون] أعمالكم مع أعمالهم، قلنا من هم يا رسول الله؟ أقريش؟ قال: لا، ولكنهم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا فقلنا: أهم خير منا يا رسول الله؟ قال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه، إلا أن هذا فصل ما بيننا وبين الناس "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل" الآية" وهذا الحديث قال ابن كثير: هو غريب بهذا الإسناد، وقد رواه ابن جرير ولم يذكر فيه الحديبية. وأخرج أحمد عن أنس قال: "كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها؟ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهباً ما بلغتم أعمالهم" والذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك أحدهم ولا نصيفه" لفظ "ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" وأخرج هذا الحديث البخاري ومسلم وغيرهما عن حديث أبي سعيد الخدري. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال: لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره.