تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 558 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 558

558 : تفسير الصفحة رقم 558 من القرآن الكريم

سورة الطلاق
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** يَأيّهَا النّبِيّ إِذَا طَلّقْتُمُ النّسَآءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ وَأَحْصُواْ الْعِدّةَ وَاتّقُواْ اللّهَ رَبّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنّ مِن بُيُوتِهِنّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يَتَعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً
خوطب النبي صلى الله عليه وسلم أولاً تشريفاً وتكريماً ثم خاطب الأمة تبعاً فقال تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن ثواب بن سعيد الهباري, حدثنا أسباط بن محمد عن سعيد عن قتادة عن أنس قال طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة فأتت أهلها فأنزل الله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} فقيل له: راجعها فإنها صوامة قوامة وهي من أزواجك ونسائك في الجنة, ورواه ابن جرير عن ابن بشار عن عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة فذكره مرسلاً, وقد ورد من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير, حدثنا الليث, حدثني عقيل عن ابن شهاب أخبرني سالم أن عبد الله بن عمر أخبره أنه طلق امرأة له وهي حائض فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر, فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً قبل أن يمسها, فتلك العدة التي أمر بها الله عز وجل» هكذا رواه البخاري ههنا وقد رواه في مواضع من كتابه ومسلم ولفظه «فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء» ورواه أصحاب الكتب والمسانيد من طرق متعددة وألفاظ كثيرة, وموضع استقصائها كتب الأحكام, وأمس لفظ يورد ههنا ما رواه مسلم في صحيحه من طريق ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عزة يسأل ابن عمر وأبو الزبير يسمع: كيف ترى في الرجل طلق امرأته حائضاً ؟ فقال: طلق ابن عمر امرأته حائضاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليراجعها ـ فردها وقال ـ إذا طهرت فليطلق أو يمسك».
قال ابن عمر: وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} وقال الأعمش عن مالك بن الحارث عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله في قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} قال: الطهر من غير جماع, وروي عن ابن عمر وعطاء ومجاهد والحسن وابن سيرين وقتادة, وميمون بن مهران ومقاتل بن حيان مثل ذلك, وهو رواية عن عكرمة, والضحاك, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} قال: لا يطلقها وهي حائض ولا في طهر قد جامعها فيه, ولكن يتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلقها تطليقة. وقال عكرمة {فطلقوهن لعدتهن} العدة الطهر والقرء الحيضة أن يطلقها حبلى مستبيناً حملها ولا يطلقها, وقد طاف عليها ولا يدري حبلى هي أم لا. ومن ههنا أخذ الفقهاء أحكام الطلاق وقسموه إلى طلاق سنة وطلاق بدعة, فطلاق السنة أن يطلقها طاهرة من غير جماع, او حاملاً قد استبان حملها, والبدعة هو أن يطلقها في حال الحيض, أو في طهر قد جامعها فيه ولا يدري أحملت أم لا, وطلاق ثالث لا سنة فيه ولا بدعة وهو طلاق الصغيرة والاَيسة وغير المدخول بها, وتحرير الكلام في ذلك وما يتعلق به مستقصى في كتب الفروع والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله تعالى: {وأحصوا العدة} أي احفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها, لئلا تطول العدة على المرأة فتمنع من الأزواج {واتقوا الله ربكم} أي في ذلك. وقوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن} أي في مدة العدة لها حق السكنى على الزوج ما دامت معتدة منه فليس للرجل أن يخرجها ولا يجوز لها أيضاً الخروج لأنها معتقلة لحق الزوج أيضاً. وقوله تعالى: {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} أي لا يخرجن من بيوتهن إلا أن ترتكب المرأة فاحشة مبينة فتخرج من المنزل, والفاحشة المبينة تشمل الزنا كما قاله ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي, والحسن وابن سيرين ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو قلابة, وأبو صالح والضحاك وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والسدي وسعيد بن أبي هلال وغيرهم, وتشمل ما إذا نشزت المرأة أو بذت على أهل الرجل وآذتهم في الكلام والفعال كما قاله أبي بن كعب وابن عباس وعكرمة وغيرهم. وقوله تعالى: {وتلك حدود الله} أي شرائعه ومحارمه {ومن يتعد حدود الله} أي يخرج عنها ويتجاوزها إلى غيرها ولا يأتمر بها {فقد ظلم نفسه} أي بفعل ذلك.
وقوله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمر} أي إنما أبقينا المطلقة في منزل الزوج في مدة العدة لعل الزوج يندم على طلاقها ويخلق الله تعالى في قلبه رجعتها, فيكون ذلك أيسر وأسهل, قال الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن فاطمة بنت قيس في قوله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمر} قالت: هي الرجعة, وكذا قال الشعبي وعطاء وقتادة والضحاك ومقاتل بن حيان والثوري, ومن ههنا ذهب من ذهب من السلف ومن تابعهم كالإمام أحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى, إلى أنه لا تجب السكنى للمبتوتة أي المقطوعة وكذا المتوفى عنها زوجها, واعتمدوا أيضاً على حديث فاطمة بنت قيس الفهرية حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص آخر ثلاث تطليقات وكان غائباً عنها باليمن, فأرسل إليها بذلك فأرسل إليها وكيله بشعير يعني نفقة فتسخطته فقال: والله ليس لك علينا نفقة, فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ليس لك عليه نفقة» ولمسلم «ولا سكنى» وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال: «تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك» الحديث.
وقد رواه الإمام أحمد من طريق أخرى بلفظ آخر فقال: حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا مجالد, حدثنا عامر قال: قدمت المدينة فأتيت فاطمة بنت قيس فحدثتني أن زوجها طلقها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية قالت: فقال لي أخوه: اخرجي من الدار, فقلت: إن لي نفقة وسكنى حتى يحل الأجل, قال: لا, قالت: فأتيت رسول الله فقلت: إن فلاناً طلقني وإن أخاه أخرجني ومنعني السكنى والنفقة, فقال له: «مالك ولابنة آل قيس ؟» قال: يا رسول الله إن أخي طلقها ثلاثاً جميعاً, قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظري يا بنت آل قيس إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كانت له عليها رجعة, فإذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى اخرجي فانزلي على فلانة» ثم قال إنه يتحدث إليها «انزلي على ابن أم مكتوم فإنه أعمى لا يراك» وذكر تمام الحديث.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عبد الله البزار التستري, حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصواف, حدثنا بكر بن بكار, حدثنا سعيد بن يزيد البجلي, حدثنا عامر الشعبي أنه دخل على فاطمة بنت قيس, أخت الضحاك بن قيس القرشي, وزوجها أبو عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي فقالت: إن أبا عمرو بن حفص أرسل إلي وهو منطلق في جيش إلى اليمن بطلاقي, فسألت أولياءه النفقة علي والسكنى فقالوا ما أرسل إلينا في ذلك شيئاً ولا أوصانا به, فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن أبا عمرو بن حفص أرسل إلي بطلاقي, فسألت أولياء السكنى والنفقة علي فقال أولياؤه لم يرسل إلينا في ذلك بشيء, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما السكنى والنفقة للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة فإذا كانت لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره فلا نفقة لها ولا سكنى» وكذا رواه النسائي عن أحمد بن يحيى الصوفي عن أبي نعيم الفضل بن دكين عن سعيد بن يزيد وهو الأحمسي البجلي الكوفي, قال أبو حاتم الرازي: وهو شيخ يروى عنه.

** فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشّهَادَةَ لِلّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَمَن يَتّقِ اللّهَ يَجْعَل لّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنّ اللّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلّ شَيْءٍ قَدْراً
يقول تعالى: فإذا بلغت المعتدات أجلهن أي شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك, ولكن لم تفرغ العدة بالكلية, فحينئذ إما أن يعزم الزوج على إمساكها وهو رجعتها إلى عصمة نكاحه والاستمرار بها على ما كانت عليه عنده {بمعروف} أي محسناً إليها في صحبتها, وإما أن يعزم على مفارقتها بمعروف أي من غير مقابحة ولا مشاتمة ولا تعنيف بل يطلقها على وجه جميل وسبيل حسن.
وقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} أي على الرجعة إذا عزمتم عليها, كما رواه أبو داود وابن ماجه عن عمران بن حصين أنه سئل عن الرجل يطلق المرأة ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها, فقال: طلقت لغير سنة ورجعت لغير سنة وأشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد, وقال ابن جريج كان عطاء يقول: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} قال لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل, كما قال الله عز وجل إلا أن يكون من عذر. وقوله تعالى: {ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الاَخر} أي هذا الذي أمرناكم به من الإشهاد وإقامة الشهادة إنما يأتمر به من يؤمن بالله واليوم الاَخر, وأنه شرع هذا ومن يخاف عقاب الله في الدار الاَخرة, ومن ههنا ذهب الشافعي في أحد قوليه إلى وجوب الإشهاد في الرجعة كما يجب عنده في ابتداء النكاح, وقد قال بهذا طائفة من العلماء ومن قال بهذا يقول: إن الرجعة لا تصح إلا بالقول ليقع الإشهاد عليها.
وقوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} أي ومن يتق الله فيما أمره به وترك ما نهاه عنه يجعل له من أمره مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب أي من جهة لا تخطر بباله. قال الإمام أحمد: حدثنايزيد أنبأنا كهمس بن الحسن, حدثنا أبو السليل عن أبي ذر قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو علي هذه الاَية {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} حتى فرغ من الاَية ثم قال: «يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها كفتهم» وقال فجعل يتلوها ويرددها علي حتى نعست, ثم قال: «يا أبا ذر كيف تصنع إذا خرجت من المدينة ؟» قلت إلى السعة والدعة أنطلق فأكون حمامة من حمام مكة قال: «كيف تصنع إذا أخرجت من مكة ؟» قلت إلى السعة والدعة إلى الشام والأرض المقدسة, قال «وكيف تصنع إذا أخرجت من الشام ؟» قلت: إذاً والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي, قال: «أو خير من ذلك» قلت: أو خير من ذلك ؟ قال: «تسمع وتطيع وإن كان عبداً حبشياً».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي, حدثنا يعلى بن عبيد, حدثنا زكريا عن عامر عن شتير بن شكل قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: إن أجمع آية في القرآن {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} وإن أكبر آية في القرآن فرجاً: {ومن يتق الله يجعل له مخرج} وفي المسند. حدثني مهدي بن جعفر, حدثنا الوليد بن مسلم عن الحكم بن مصعب عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس, عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب». وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {ومن يتق الله يجعل له مخرج} يقول: ينجيه من كل كرب في الدنيا والاَخرة {ويرزقه من حيث لا يحتسب} وقال الربيع بن خيثم {يجعل له مخرج} أي من كل شيء ضاق على الناس, وقال عكرمة من طلق كما أمره الله يجعل له مخرجاً, وكذا روي عن ابن عباس والضحاك, وقال ابن مسعود ومسروق {ومن يتق الله يجعل له مخرج} يعلم أن الله إن شاء أعطى وإن شاء منع {من حيث لا يحتسب} أي من حيث لا يدري. وقال قتادة: {ومن يتق الله يجعل له مخرج} أي من شبهات الأمور والكرب عند الموت {ويرزقه من حيث لا يحتسب} من حيث يرجو ولا يأمل.
وقال السدي: {ومن يتق الله} يطلق للسنة, ويراجع للسنة, وزعم أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له عوف بن مالك الأشجعي كان له ابن, وأن المشركين أسروه فكان فيهم, وكان أبوه يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشكو إليه مكان ابنه وحاله التي هو بها وحاجته, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالصبر ويقول له: «إن الله سيجعل لك فرجاً» فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيراً أن انفلت ابنه من أيدي العدو, فمر بغنم من أغنام العدو فاستاقها فجاء بها إلى أبيه وجاء معه بغنى قد أصابه من المغنم, فنزلت فيه هذه الاَية {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} رواه ابن جرير: وروي أيضاً من طريق سالم بن أبي الجعد مرسلاً نحوه. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا سفيان, عن عبد الله بن عيسى عن عبد الله بن أبي الجعد عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر» ورواه النسائي وابن ماجه من حديث سفيان وهو الثوري به.
وقال محمد بن إسحاق: جاء مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له أسر ابني عوف فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسل إليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أن تكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله» وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القد عنه, فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها وأقبل, فإذا بسرح القوم الذين كانوا قد شدوه فصاح بهم, فاتبع أولها آخرها فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب فقال أبوه: عوف ورب الكعبة, فقالت: أمه: واسوأتاه! وعوف كيف يقدم لما هو فيه من القد, فاستبقا الباب والخادم فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلاً, فقص على أبيه أمره وأمر الإبل فقال أبوه: قفا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله عنها, فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنع بها ما أحببت وما كنت صانعاً بمالك» ونزل: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق, حدثنا إبراهيم بن الأشعث, حدثنا الفضيل بن عياض عن هشام بن الحسن عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب ومن انقطع إلى الدنيا وكله إليها». وقوله تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} قال الإمام أحمد: حدثنا يونس, حدثنا ليث, حدثنا قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني, عن عبد الله بن عباس أنه حدثه أنه ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده تجاهك, وإذا سألت فاسأل الله, وإذا استعنت فاستعن بالله, واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف» وقد رواه الترمذي من حديث الليث بن سعد وابن لهيعة به وقال: حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا بشير بن سلمان عن سيار أبي الحكم عن طارق بن شهاب عن عبد الله هو ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمناً ألا تسهل حاجته, ومن أنزلها بالله تعالى أتاه الله برزق عاجل أو بموت آجل» ثم رواه عن عبد الرزاق عن سفيان عن بشير عن سيار أبي حمزة ثم قال وهو الصواب, وسيار أبو الحكم لم يحدث عن طارق وقوله تعالى: {إن الله بالغ أمره} أي منفذ قضاياه وأحكامه في خلقه بما يريده ويشاؤه {قد جعل الله لكل شيء قدر} كقوله تعالى: {وكل شيء عنده بمقدار}.

** وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدّتُهُنّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاّتِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ وَمَن يَتّقِ اللّهَ يَجْعَل لّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً * ذَلِكَ أَمْرُ اللّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتّقِ اللّهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً
يقول تعالى مبيناً لعدة الاَيسة, وهي التي انقطع عنها المحيض لكبرها, أنها ثلاثة أشهر عوضاً عن الثلاثة القروء في حق من تحيض, كما دلت على ذلك آية البقرة, وكذا الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيض أن عدتهن كعدة الاَيسة ثلاثة أشهر, ولهذا قال تعالى: {واللائي لم يحضن}, وقوله تعالى: {إن ارتبتم} فيه قولان (أحدهما) وهو قول طائفة من السلف كمجاهد والزهري وابن زيد أي إن رأين دماً وشككتم في كونه حيضاً أو استحاضة وارتبتم فيه. (والقول الثاني) إن ارتبتم في حكم عدتهن ولم تعرفوه فهو ثلاثة أشهر, وهذا مروي عن سعيد بن جبير وهو اختيار ابن جرير وهو أظهر في المعنى, واحتج عليه بما رواه عن أبي كريب وأبي السائب قالا: حدثنا ابن إدريس حدثنا مطرف عن عمرو بن سالم قال: قال أبي بن كعب: يا رسول الله إن عدداً من عدد النساء لم تذكر في الكتاب الصغار والكبار وأولات الأحمال, قال: فأنزل الله عز وجل {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن, وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} ورواه ابن أبي حاتم بأبسط من هذا السياق فقال: حدثنا أبي, حدثنا يحيى بن المغيرة حدثنا جرير عن مطرف عن عمر بن سالم عن أبي بن كعب قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن ناساً من أهل المدينة لما أنزلت هذه الاَية التي في البقرة في عدة النساء قالوا: لقد بقي من عدة النساء عدد لم يذكرن في القرآن! الصغار والكبار اللائي قد انقطع منهن الحيض وذوات الحمل قال: فأنزلت التي في النساء القصرى {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن}.
وقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} يقول تعالى: ومن كانت حاملاً فعدتها بوضعه, ولو كان بعد الطلاق أو الموت بفواق ناقة في قول جمهور العلماء من السلف والخلف, كما هو نص هذه الاَية الكريمة وكما وردت به السنة النبوية, وقد روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهم أنهما ذهبا في المتوفى عنها زوجها أنها تعتد بأبعد الأجلين من الوضع والأشهر, عملاً بهذه الاَية والتي في سورة البقرة, قال البخاري: حدثنا سعيد بن حفص, حدثنا شيبان عن يحيى قال: أخبرني أبو سلمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة جالس فقال: أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة, فقال ابن عباس: آخر الأجلين. قلت أنا {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي ـ يعني أبا سلمة ـ فأرسل ابن عباس غلامه كريباً إلى أم سلمة يسألها فقالت: قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة, فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان أبو السنابل فيمن خطبها, هكذا أورد البخاري هذا الحديث ههنا مختصراً, وقد رواه هو ومسلم وأصحاب الكتب مطولاً من وجوه أخر.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حماد بن أسامة أنبأنا هشام عن أبيه عن المسور بن مخرمة أن سبيعة الأسلمية توفي عنها زوجها وهي حامل فلم تمكث إلا ليالي حتى وضعت, فلما تعلت من نفاسها خطبت, فأستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النكاح فأذن لها أن تنكح, فنكحت, ورواه البخاري في صحيحه ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طرق عنها, كما قال مسلم بن الحجاج: حدثني أبو الطاهر أنبأنا ابن وهب, حدثني يونس بن يزيد عن ابن شهاب, حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الأسلمية, فيسألها عن حديثها وعما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استفتته, فكتب عمر بن عبد الله يخبره أن سبيعة أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة, وكان ممن شهد بدراً فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل, فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته, فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب, فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها: مالي أراك: متجملة ؟ لعلك ترجين النكاح إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر.
قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت, فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي, هذا لفظ مسلم ورواه البخاري مختصراً, ثم قال البخاري بعد روايته الحديث الأول عند هذه الاَية, وقال أبو سليمان بن حرب وأبو النعمان: حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد هو ابن سيرين قال: كنت في حلقة فيها عبد الرحمن بن أبي ليلى, وكان أصحابه يعظمونه فذكر آخر الأجلين, فحدثت بحديث سبيعة بنت الحارث عن عبد الله بن عتبة قال: فضمر لي بعض أصحابه . وقال محمد: ففطنت له, فقلت له: إني لجريء أن أكذب على عبد الله وهو في ناحية الكوفة, قال فاستحيا وقال: لكن عمه لم يقل ذلك, فلقيت أبا عطية مالك بن عامر فسألته فذهب يحدثني بحديث سبيعة, فقلت: هل سمعت عن عبد الله فيها شيئاً ؟ فقال: كنا عند عبد الله فقال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة ؟ فنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} ورواه ابن جرير من طريق سفيان بن عيينة وإسماعيل بن علية عن أيوب به مختصراً, ورواه النسائي في التفسير عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد بن الحارث عن ابن عون عن محمد بن سيرين فذكره.
وقال ابن جرير: حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري, حدثنا سعيد بن أبي مريم, حدثنا محمد بن جعفر, حدثني ابن شبرمة الكوفي عن إبراهيم عن علقمة بن قيس أن عبد الله بن مسعود قال: من شاء لاعنته ما نزلت {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها, قال: وإذا وضعت المتوفى عنها زوجها فقد حلت يريد بآية المتوفى عنها زوجها {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشر} وقد رواه النسائي من حديث سعيد بن أبي مريم به. ثم قال ابن جرير: حدثنا أحمد بن منيع, حدثنا محمد بن عبيد, حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: ذكر عند ابن مسعود آخر الأجلين فقال: من شاء قاسمته بالله إن هذه الاَية التي في النساء القصرى نزلت بعد الأربعة الأشهر والعشر ثم قال: أجل الحامل أن تضع ما في بطنها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: بلغ ابن مسعود أن علياً رضي الله عنه يقول آخر الأجلين فقال: من شاء لاعنته إن التي في النساء القصرى نزلت بعد البقرة {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث أبي معاوية عن الأعمش.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني أحمد حدثني محمد بن أبي بكر المقدمي, أنبأنا عبد الوهاب الثقفي, حدثني المثنى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن أبي بن كعب قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} المطلقة ثلاثاً أو المتوفى عنها زوجها, فقال: هي للمطلقة ثلاثاً والمتوفى عنها. هذا حديث غريب جداً بل منكر لأن في إسناده المثنى بن الصباح وهو متروك الحديث بمرة, ولكن رواه ابن أبي حاتم بسند آخر فقال: حدثنا محمد بن داود السمناني, حدثنا عمرو بن خالد يعني الحراني, حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب عن أبي بن كعب أنه لما نزلت هذه الاَية, قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أدري أمشتركة أم مبهمة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أية آية ؟» قال {أجلهن أن يضعن حملهن} المتوفى عنها والمطلقة ؟ قال نعم وكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن موسى بن داود عن ابن لهيعة به. ثم رواه عن أبي كريب أيضاً عن مالك بن إسماعيل عن ابن عيينة عن عبد الكريم بن أبي المخارق أنه حدث عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} قال: «أجل كل حامل أن تضع ما في بطنها» عبد الكريم هذا ضعيف ولم يدرك أبياً. وقوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسر} أي يسهل له أمره وييسره عليه ويجعل له فرجاً قريباً ومخرجاً عاجلاً ثم قال تعالى: {ذلك أمر الله أنزله إليكم} أي حكمه وشرعه أنزله إليكم بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم {ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجر} أي يذهب عنه المحذور ويجزل له الثواب على العمل اليسير.